أحمد الظرافي
04-06-2008, 07:03 PM
الغـزو الربوي للعالم الإسلامي
بقلم: أحمد الظرافي
الربـا في مكة قبل الإسلام :
كان الربا في جاهلية العرب منتشراً على نطاق واسع ودون حدود أو قيود وخاصة في مكة قلب بلاد العرب النابض والتي كانت التجارة فيها وقتئذٍ في قمّة الازدهار والرواج نظراً لوقوعها على طريق القوافل التجارية بين جنوب شبه الجزيـرة العربية وبلاد الشام وأيضاً لمكانة مكة الدينية في قلوب العرب. وكانت التجارة بالنسبة لأهل مكة في ذلك الوقت تمثل شريان الحياة وعمود البقاء والاستقرار وذلك لأن بلادهم مكة تقع في وادٍ قاحل غير ذي زرع كما ورد في القرآن الكريم
ومع ازدهار التجارة في مكة والتجرد من القيم الدينية والأخلاقية وجد الربا المناخ الملائم للازدهار والشيوع والانتشار حتى أنه صار مصدرا رئيسياً أخر لثراء المجتمع المكي وإعلاء كلمته في البلاد وأصبح من العادات الراسخة والمتأصلة في المجتمع الجاهلي، وغدا جزءاً لا يتجـزأ من نظام حياتهم وأسلوب معيشتهم الاجتماعيـة والاقتصـادية، ولكنه كان في الوقت نفسه أحد أسباب سخط الناس عليه وعلى من يتعاطاه لأن الربا في مكة كان فاحشاً جداً وكان التجار المقرضون يلحون في زيادته ويتشددون في المطالبة برأس المال ورباه معـاً ولم يمهلوا معسراً ولم يسهلوا في الأداء إلى وقت الميسرة، وكان عدد المرابين في مكة كبيرا جدا ومن ضمنهم أغنى التجار من السادة القرشيين وحلفائهم، كما كان الربا منتشرا أيضا في الطائف ويثرب وفي أماكن أخـرى يعيشون على الربا بطفيلية مربحة دون تعـب وقد وصلت المعاملات الربوية في مكة قبيل البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، وصلت إلى درجة فظيعة من الظلم والاستغلال والشناعة ومن ذلك أن الدائـن كان يحمل امرأة المدين أو ابنته على البغـاء أي يجبرها عليها، وكان هذا عرفا جاريـا في حياتهم وكان يعـرف عندهم بـ" المساعـاة " أي البغـاء لإيفـاء ما على أبي أو زوج هذه المرأة البريئة، من الديـن والذي لم يكن تقريباً هناك سبيل إلى إيفائه، لأنه كان يزداد على الدوام بما كان يُضاف إليه من الربـا الفاحش.
موقف الإسلام الصارم من الربا
وعندما جـاء الإسـلام شن حملـة شعـواء ضـد الربا ومن يتعاملون به حيث أنه لم يكتف بتحريمه تحريما مطلقا والتشديد على ذلك ولم يكتف باعتباره كبيرة من الكبائر وموبقة من الموبقات وإنما قرن ذلك التحريم وتلك الأوصاف بضروب شديدة من التهديـد والزجر والوعيد والتي لم يـرد مثلهـا في كبيرة الزنا ولا في غيرها من الكبائر، قال تعـالى:" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ، أن الذين أمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون، يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا أن كنتم مؤمنين، فأن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وأن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا يظلمون ولا تظلمون، وأن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم أن كنتم تعلمون ).
وجاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى عليه وسلم: ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدَ عند الله من ست وثلاثين زنية )
وقال : ( الربـا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه وأن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه ) رواه الطبرراني في الأوسط من طريق عمرو بن راشد ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا ـ وقد وثقه ابن حبَان على نكارة حديثه هذا
والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة
عصر الاستعمـار الغربي
وقد ظل المسلمون متمسكين بتعاليم الإسلام في هذا المجال قرون طويلة، سلم المجتمع إلإسلامي خلا لها : من آفة الربا إلا ما كان من حوادث فردية وانحرافات جزئية لا يسلم منها مجتمع بشري حتى جاء عصر الاستعمار الغربي وابتليت البلاد الإسلامية بالوقوع تحت نيره فأدخل عليها مفاهيمه ونظمه القانونية والمادية والاقتصادية وكان من هذه النظم نظام البنوك في الحياة الاقتصادية وغدا لها تأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية.
وقد حرص الاستعمار الغربي على إنشاء هذه البنوك الربـوية في جميع المستعـمرات: حتى تستطيع أن تشرف على تطبيق النظم الاقتصادية الواردة مع هذا الاستعمار لضمان تصدير المواد الخام إلى البلاد الأجنبية وتسويق منتجاتها في هذه المستعمرات.
فعندما احتلت بريطانيا مصر عام 1882م كانت من أهم سياساتها الاستعمارية في هذا البلد هي التوسع في زراعة القطن المصري (طويل التيلة) وذلك من أجل زيادة الكميات المصدرة منه للمصانع البريطانية ـ وكانت الثورة الصناعية في بريطانيا في ذلك الوقت في أوج ازدهارها ـ ولهذا الغرض فقد نشأت العديد من شركات الاستصلاح الزراعي وكانت مملوكة لمستثمرين أجانب ( يهود أو نصارى )
ومع انتشار شركات استصلاح الأراضي هذه ، نشأت المؤسسات المالية التي تقدم قروض الرهونات الربوية والتي كان الطلب عليها متزايداً في تلك الفترة نتيجة للحاجة إلى تمويل بيع الأراضي المستصلحة والتي كان التوسع فيها سريعاً وكبيراً.
وقد كان اليهود يقفون وراء إنشاء العديد من بنوك الرهونات الربوية في ذلك الوقت ومن أهم البنوك التي لعب اليهود دوراً في إنشائها البنك العقاري المصري الذي تأسس عام 1880م، ( أي قبل احتلال بريطانيا لمصر فعليا إنما كانت مصر قد سقطت قبل ذلك اقتصاديا وماليا وكان أولئك اليهود - وأكثرهم محليين - هم طلائع الاستعمار العسكري المباشر) فقد اشترك في تأسيس هذا البنك ( العقاري) سوارس ورولو وقطاوي وهم من أثرياء اليهـود وكذلك البنك الأهلي المصري والذي تأسس عام 1898م، وقد تم تأسيسه بقيادة سلفاجو وكاسيل ورافائيل سوارس، وظل آل سوارس يتضخمون في أعمال البنوك وشراء الأراضي الزراعية والعقارية فأسس جاك سوارس البنك التجاري المصري بل وتأسس بنك سوارس عام 1936م وكان الأخوة رافائيل وجاك وكارلو من أشهر رجال المال وأخطرهم.( ) وكل هؤلاء اسماء لشخصيات يهودية مصرية برزت بقوة إلى الواجهة المالية مع هيمنة الاستعمار البريطاني على مصر.
وإلى جانب بنوك الرهونات نشأت العديد من البنوك التجارية، والتي كانت تقدم قروضاً للبورجوازية الزراعية ومن أهم هذه البنوك دويتشه أورينت بنك (بنك الشرق الألماني) والذي افتتح فرعاً له في مصر عام 1906م وكأن يعني ذلك ازدياد حدة التنافس الإمبريالي بين بريطانيا وألمانيا داخل السوق العالمية خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الأولى.
وهذا فضلا عن فروع البنوك والبيوت المالية الأجنبية التي أنشئت في الاسكندرية مثل بنك أو بنهايم وغيره والتي كانت تقدم القروض للخديو وللحكومة المصرية، بفوائد باهضة وبضمان أهم مصادر الدخل الرئيسية للدولة المصرية، مثل إيرادات صادرات القطن وإيرادات الجمارك وإيرادات قناة السويس وقد كانت قروض وفوائد هذه البنوك المتراكمة والتي عجزت الحكومة المصرية عن سدادها من العوامل الرئيسية لوصول الانجليز إلى مصر ، وهذه وحدها قصة طويلة تحتاج إلى بحث مستقل.
والمهم أنه نتيجة لانتشار كل تلك الأنواع المختلفة من البنوك الربوية في مصر في ذلك الوقت، فقد راحت حمى التعامل بالربا تنتشر رويداً رويداً في المجتمع المصري المسلم والمحافـظ : فبدأ بعض المسلمين يتعاملون بالربا لا إقراضاً بل اقتراضاً ( بدعوى أنهم مضطرين وكان هناك بعض النخب التي درست في الخارج لا تألوا جهدا في تشحيم الطريق لدخول الربا الحرام إلى بيوت المصريين) ثم اتسع الأمر وشـاع عمليـاً ، مع بقائه محظوراً قانونـاً ، ثم دخل الإذن به في دائرة التشريع تحت ضغط السلطات الأوربية المحتلة للأقطار الإسلامية وبقيت الشعوب الإسلامية نفسها مدة طويلة متمردة على فكـرة تأسيس مصارف وطنية تكون مهمتها التصرف في جميع المعاملات التي منها القرض بفائدة.
الجدل حول الفائدة المصرفية:
وفي عام 1907م رفضت البنوك الأجنبية العاملة في مصر منح المزيد من القروض للفلاحين المصريين، بعد أن كانت قد عودتهم عليها وأوقعتهم في شباكها وشراكها، وكان ذلك صـدمة كبـرى للمصريين، أثرت في نفسياتهم فضلا عن التأثير على حياتهم الزراعية والاقتصادية. وفي غضون ذلك تعـالت أصوات المفكرين والسياسين المصريين المنادية بأهمية إنشاء بنـوك وطنية لتحل محـل البنوك الأجنبية في تقديم القروض للفلاحين المصـريين، وامتلأت الصحف بالمقالات من هذا القبيل، إلا أن هذه العملية أصطدمت بالأحكام الشرعية، ونتيجة لذلك عُقدت سلسلة من اللقاءات والمناظرات العلمية لبحث هذا الموضوع من الناحيتين الشرعية والاقتصادية وكأن من أهم تلك الملتقيات الملتقى العلمي الذي عُقد في عام 1913م حيث التقت آراء معظم العلمـاء والمفكرين الحاضرين على رفض المشروع من الوجهة الدينية، غير أن فريقاً أيدوا الفكرة معتمدين على نص قرآني في دعوى أن الربا المحظـور في الإسلام بالنص والإجماع إنما هو الربا الذي يصل إلى مثل رأس المال أو يزيد عليه [ آل عمران:130] وأن كل ربح ينقص عن مقدار رأس المال فهو محل بحث واختلاف في نظرهم. وكانت النتيجة أن رجحت كفة الأقلية على الأغلبية وبين عشية وضحاها أصبحت فوائد البنوك مباحة من وجهة نظر هؤلاء. ولم يكن بوسع الفئة الاخرى أن تعمل شيئا لأن مصر كانت لا زالت خاضعـة للإنجليز ، ولم تكن قد استقلت بعد.
وبناء على تلك الفتوى أو الرأي أو المقترح، وبعد مرور سنوات قليلة بدأت طلائع البنوك الوطنية في الظهـور في السوق المالية المصرية، وكان أول بنك وطني مصري يتم إنشاؤه على أساس الفـائـدة على غـرار البنوك الأجنبية الرأسمالية هو " بنك مصر" والذي أسسه محمد طلعت حرب عام 1920م. وقد اختـار طلعت حرب رئيس الطائفة اليهودية يوسف قطـاوي ليكون نائبا لرئيس بنك مصر عام 1920م.() وهذا يعني أن اليهود كانوا ضالعين في تأسيس هذا البنك،وكانت تربط طلعت حـرب صلات وثيقة بالطبقة اليهودية في مصر حيث أنه بعد أن ترك عمله الحكومي عين مديراً ( عضو مجلس الإدارة المنتدب) لشركة كوم امبو. وهي شركة أسسها سوارس والسير ارنست كاسل وهما من الخواجه اليهود، وقد مكنه ذلك المنصب من عقد الصلات بعدد من أقوى العائلات اليهودية في قطاع "المتمصرين" في الطبقة العليا المصرية وكأن من بينهم عائلات سوارس وقطاوي وهراري ورولو وموصيري ولما كانت عائلتا سو ارس وقطاوي تقيمان صلات هامة برأس المال الأوربي فقد تعرف طلعت حرب بشكل أكبر على عمليات الأموال الدولية ومما يتسم بأهمية خاصة ذلك الارتباط بين عائلة سوارس وبين رأس المال اليهودي في ألمانيا وخاصة في دويتشه أورينت بنك.
ومع النجاح الكبير الذي حققه بنك مصر وتنوع نشاطه وانتشار فروعه في فلسطين والحجاز وغيرهما إلا أنه انهـار فجأة وبدون مقدمات عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء ودول المحـور (1939-1945)
ومنذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى اليوم تأسست مئات بل آلاف البنوك الوطنية الربوية سواء المركزية أو التجارية أو المتخصصة وغيرها من البنوك المختلفة الأغراض والأنواع، إلى جانب شركات التأمين المختلفة والتي تقوم معظم معاملاتها على الربا والمقامرة ومن ذلك أيضاً فوائد صندوق البريد والتي بدأ التعامل بها في مصر منذ بداية القرن العشرين فقد أفتى بعض العلماء ومنهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في حينه بإباحة هذه الفوائد. ونتيجة لذلك صار بمقدور مكاتب صندوق توفير البريد التي تديرها الحكومة أن تفتح أبوابها عام 1901م وأن تدفع فوائد على الودائع.
نظام المصارف التقليدية
وهكذا دخل كثير من الناس في دائرة المحظور واصبح الربا على هذا النحو من الانتشار المخيف حتى أنه لم يترك عملا إقتصاديا إلا ودس أنفه فيه - كما قال الشيخ محمد عبد الله الخطيب- بيد أن معاملات البنوك التجارية تمثل الصورة الأكثر ضرراً والأشد خطراً من الربا في الواقع فهي: تقوم على نظام الفوائد الربوية كما تتضمن معظم معاملاتها غرراً ومقامرة وجهالة فعلى سبيل المثال تجمع أموال الناس في صورة ودائع وتعطيهم فائدة ثم تعيد إقراض هذا المال مرة أخرى بسعر فائدة أعلى. فهي على ذلك تأكل الربا وتؤكله فوظيفتها الأساسية هي الاتجار في الديون من خلال عمليتي إقراض واقتراض النقود على أساس الفائدة الربوية.
ويرى بعض الكتاب أن البنوك التجارية الحالية ما هي إلا صـورة متطورة من المرابي القديم الذي كان يقوم بإقراض أمواله مقابل عمولة تمثل نسبة من القرض نفسه وكانت ذات طابع استغلالي فسميت ربا وهي الآن تسمى الفائدة. أي أن الربا والفائدة هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة.
والبنوك التجارية كما تقرض قروضاً تأخذ الشكل العادي المعروف فأنها تعطي قروضاً في أشكال مستحدثة مثل ما يسمى بفتح الاعتماد (غير المستندي ) وخصم الأوراق التجارية والسحب على المكشوف ..الخ فكل هذه المعاملات في جوهرها قروض ربوية.
غير أن علماء المسلمين لم يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء الانتشار الفاحش للمعاملات الربوية وخاصة من خلال البنوك التقليدية فقد بذلت جهود عظيمة لإيجاد البديل الشرعي لهذه البنوك من اجل إنقاذ عامة المسلمين من الربا وتوفير سبيل التعامل الحلال ومن هنا فقد ظهرت المصارف الإسلامية في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي لتؤكد على مرونة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان.
بيد أن المشكلة مع ذلك تزداد استفحالا حتى مع وجود البنوك الإسلامية وانتشارها وذلك لسبب بسيط وهو أنه لا يمكن تطبيق نظام البنوك الإسلامية في ظل هيمنة الانظمة والقوانين العلمانية وفي ظل التبعية السافرة للانظمة الاقتصادية والسياسية وللسوق المالية والعملة الاجنبية.
بقلم: أحمد الظرافي
الربـا في مكة قبل الإسلام :
كان الربا في جاهلية العرب منتشراً على نطاق واسع ودون حدود أو قيود وخاصة في مكة قلب بلاد العرب النابض والتي كانت التجارة فيها وقتئذٍ في قمّة الازدهار والرواج نظراً لوقوعها على طريق القوافل التجارية بين جنوب شبه الجزيـرة العربية وبلاد الشام وأيضاً لمكانة مكة الدينية في قلوب العرب. وكانت التجارة بالنسبة لأهل مكة في ذلك الوقت تمثل شريان الحياة وعمود البقاء والاستقرار وذلك لأن بلادهم مكة تقع في وادٍ قاحل غير ذي زرع كما ورد في القرآن الكريم
ومع ازدهار التجارة في مكة والتجرد من القيم الدينية والأخلاقية وجد الربا المناخ الملائم للازدهار والشيوع والانتشار حتى أنه صار مصدرا رئيسياً أخر لثراء المجتمع المكي وإعلاء كلمته في البلاد وأصبح من العادات الراسخة والمتأصلة في المجتمع الجاهلي، وغدا جزءاً لا يتجـزأ من نظام حياتهم وأسلوب معيشتهم الاجتماعيـة والاقتصـادية، ولكنه كان في الوقت نفسه أحد أسباب سخط الناس عليه وعلى من يتعاطاه لأن الربا في مكة كان فاحشاً جداً وكان التجار المقرضون يلحون في زيادته ويتشددون في المطالبة برأس المال ورباه معـاً ولم يمهلوا معسراً ولم يسهلوا في الأداء إلى وقت الميسرة، وكان عدد المرابين في مكة كبيرا جدا ومن ضمنهم أغنى التجار من السادة القرشيين وحلفائهم، كما كان الربا منتشرا أيضا في الطائف ويثرب وفي أماكن أخـرى يعيشون على الربا بطفيلية مربحة دون تعـب وقد وصلت المعاملات الربوية في مكة قبيل البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، وصلت إلى درجة فظيعة من الظلم والاستغلال والشناعة ومن ذلك أن الدائـن كان يحمل امرأة المدين أو ابنته على البغـاء أي يجبرها عليها، وكان هذا عرفا جاريـا في حياتهم وكان يعـرف عندهم بـ" المساعـاة " أي البغـاء لإيفـاء ما على أبي أو زوج هذه المرأة البريئة، من الديـن والذي لم يكن تقريباً هناك سبيل إلى إيفائه، لأنه كان يزداد على الدوام بما كان يُضاف إليه من الربـا الفاحش.
موقف الإسلام الصارم من الربا
وعندما جـاء الإسـلام شن حملـة شعـواء ضـد الربا ومن يتعاملون به حيث أنه لم يكتف بتحريمه تحريما مطلقا والتشديد على ذلك ولم يكتف باعتباره كبيرة من الكبائر وموبقة من الموبقات وإنما قرن ذلك التحريم وتلك الأوصاف بضروب شديدة من التهديـد والزجر والوعيد والتي لم يـرد مثلهـا في كبيرة الزنا ولا في غيرها من الكبائر، قال تعـالى:" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ، أن الذين أمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون، يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا أن كنتم مؤمنين، فأن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وأن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا يظلمون ولا تظلمون، وأن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم أن كنتم تعلمون ).
وجاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى عليه وسلم: ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدَ عند الله من ست وثلاثين زنية )
وقال : ( الربـا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه وأن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه ) رواه الطبرراني في الأوسط من طريق عمرو بن راشد ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا ـ وقد وثقه ابن حبَان على نكارة حديثه هذا
والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة
عصر الاستعمـار الغربي
وقد ظل المسلمون متمسكين بتعاليم الإسلام في هذا المجال قرون طويلة، سلم المجتمع إلإسلامي خلا لها : من آفة الربا إلا ما كان من حوادث فردية وانحرافات جزئية لا يسلم منها مجتمع بشري حتى جاء عصر الاستعمار الغربي وابتليت البلاد الإسلامية بالوقوع تحت نيره فأدخل عليها مفاهيمه ونظمه القانونية والمادية والاقتصادية وكان من هذه النظم نظام البنوك في الحياة الاقتصادية وغدا لها تأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية.
وقد حرص الاستعمار الغربي على إنشاء هذه البنوك الربـوية في جميع المستعـمرات: حتى تستطيع أن تشرف على تطبيق النظم الاقتصادية الواردة مع هذا الاستعمار لضمان تصدير المواد الخام إلى البلاد الأجنبية وتسويق منتجاتها في هذه المستعمرات.
فعندما احتلت بريطانيا مصر عام 1882م كانت من أهم سياساتها الاستعمارية في هذا البلد هي التوسع في زراعة القطن المصري (طويل التيلة) وذلك من أجل زيادة الكميات المصدرة منه للمصانع البريطانية ـ وكانت الثورة الصناعية في بريطانيا في ذلك الوقت في أوج ازدهارها ـ ولهذا الغرض فقد نشأت العديد من شركات الاستصلاح الزراعي وكانت مملوكة لمستثمرين أجانب ( يهود أو نصارى )
ومع انتشار شركات استصلاح الأراضي هذه ، نشأت المؤسسات المالية التي تقدم قروض الرهونات الربوية والتي كان الطلب عليها متزايداً في تلك الفترة نتيجة للحاجة إلى تمويل بيع الأراضي المستصلحة والتي كان التوسع فيها سريعاً وكبيراً.
وقد كان اليهود يقفون وراء إنشاء العديد من بنوك الرهونات الربوية في ذلك الوقت ومن أهم البنوك التي لعب اليهود دوراً في إنشائها البنك العقاري المصري الذي تأسس عام 1880م، ( أي قبل احتلال بريطانيا لمصر فعليا إنما كانت مصر قد سقطت قبل ذلك اقتصاديا وماليا وكان أولئك اليهود - وأكثرهم محليين - هم طلائع الاستعمار العسكري المباشر) فقد اشترك في تأسيس هذا البنك ( العقاري) سوارس ورولو وقطاوي وهم من أثرياء اليهـود وكذلك البنك الأهلي المصري والذي تأسس عام 1898م، وقد تم تأسيسه بقيادة سلفاجو وكاسيل ورافائيل سوارس، وظل آل سوارس يتضخمون في أعمال البنوك وشراء الأراضي الزراعية والعقارية فأسس جاك سوارس البنك التجاري المصري بل وتأسس بنك سوارس عام 1936م وكان الأخوة رافائيل وجاك وكارلو من أشهر رجال المال وأخطرهم.( ) وكل هؤلاء اسماء لشخصيات يهودية مصرية برزت بقوة إلى الواجهة المالية مع هيمنة الاستعمار البريطاني على مصر.
وإلى جانب بنوك الرهونات نشأت العديد من البنوك التجارية، والتي كانت تقدم قروضاً للبورجوازية الزراعية ومن أهم هذه البنوك دويتشه أورينت بنك (بنك الشرق الألماني) والذي افتتح فرعاً له في مصر عام 1906م وكأن يعني ذلك ازدياد حدة التنافس الإمبريالي بين بريطانيا وألمانيا داخل السوق العالمية خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الأولى.
وهذا فضلا عن فروع البنوك والبيوت المالية الأجنبية التي أنشئت في الاسكندرية مثل بنك أو بنهايم وغيره والتي كانت تقدم القروض للخديو وللحكومة المصرية، بفوائد باهضة وبضمان أهم مصادر الدخل الرئيسية للدولة المصرية، مثل إيرادات صادرات القطن وإيرادات الجمارك وإيرادات قناة السويس وقد كانت قروض وفوائد هذه البنوك المتراكمة والتي عجزت الحكومة المصرية عن سدادها من العوامل الرئيسية لوصول الانجليز إلى مصر ، وهذه وحدها قصة طويلة تحتاج إلى بحث مستقل.
والمهم أنه نتيجة لانتشار كل تلك الأنواع المختلفة من البنوك الربوية في مصر في ذلك الوقت، فقد راحت حمى التعامل بالربا تنتشر رويداً رويداً في المجتمع المصري المسلم والمحافـظ : فبدأ بعض المسلمين يتعاملون بالربا لا إقراضاً بل اقتراضاً ( بدعوى أنهم مضطرين وكان هناك بعض النخب التي درست في الخارج لا تألوا جهدا في تشحيم الطريق لدخول الربا الحرام إلى بيوت المصريين) ثم اتسع الأمر وشـاع عمليـاً ، مع بقائه محظوراً قانونـاً ، ثم دخل الإذن به في دائرة التشريع تحت ضغط السلطات الأوربية المحتلة للأقطار الإسلامية وبقيت الشعوب الإسلامية نفسها مدة طويلة متمردة على فكـرة تأسيس مصارف وطنية تكون مهمتها التصرف في جميع المعاملات التي منها القرض بفائدة.
الجدل حول الفائدة المصرفية:
وفي عام 1907م رفضت البنوك الأجنبية العاملة في مصر منح المزيد من القروض للفلاحين المصريين، بعد أن كانت قد عودتهم عليها وأوقعتهم في شباكها وشراكها، وكان ذلك صـدمة كبـرى للمصريين، أثرت في نفسياتهم فضلا عن التأثير على حياتهم الزراعية والاقتصادية. وفي غضون ذلك تعـالت أصوات المفكرين والسياسين المصريين المنادية بأهمية إنشاء بنـوك وطنية لتحل محـل البنوك الأجنبية في تقديم القروض للفلاحين المصـريين، وامتلأت الصحف بالمقالات من هذا القبيل، إلا أن هذه العملية أصطدمت بالأحكام الشرعية، ونتيجة لذلك عُقدت سلسلة من اللقاءات والمناظرات العلمية لبحث هذا الموضوع من الناحيتين الشرعية والاقتصادية وكأن من أهم تلك الملتقيات الملتقى العلمي الذي عُقد في عام 1913م حيث التقت آراء معظم العلمـاء والمفكرين الحاضرين على رفض المشروع من الوجهة الدينية، غير أن فريقاً أيدوا الفكرة معتمدين على نص قرآني في دعوى أن الربا المحظـور في الإسلام بالنص والإجماع إنما هو الربا الذي يصل إلى مثل رأس المال أو يزيد عليه [ آل عمران:130] وأن كل ربح ينقص عن مقدار رأس المال فهو محل بحث واختلاف في نظرهم. وكانت النتيجة أن رجحت كفة الأقلية على الأغلبية وبين عشية وضحاها أصبحت فوائد البنوك مباحة من وجهة نظر هؤلاء. ولم يكن بوسع الفئة الاخرى أن تعمل شيئا لأن مصر كانت لا زالت خاضعـة للإنجليز ، ولم تكن قد استقلت بعد.
وبناء على تلك الفتوى أو الرأي أو المقترح، وبعد مرور سنوات قليلة بدأت طلائع البنوك الوطنية في الظهـور في السوق المالية المصرية، وكان أول بنك وطني مصري يتم إنشاؤه على أساس الفـائـدة على غـرار البنوك الأجنبية الرأسمالية هو " بنك مصر" والذي أسسه محمد طلعت حرب عام 1920م. وقد اختـار طلعت حرب رئيس الطائفة اليهودية يوسف قطـاوي ليكون نائبا لرئيس بنك مصر عام 1920م.() وهذا يعني أن اليهود كانوا ضالعين في تأسيس هذا البنك،وكانت تربط طلعت حـرب صلات وثيقة بالطبقة اليهودية في مصر حيث أنه بعد أن ترك عمله الحكومي عين مديراً ( عضو مجلس الإدارة المنتدب) لشركة كوم امبو. وهي شركة أسسها سوارس والسير ارنست كاسل وهما من الخواجه اليهود، وقد مكنه ذلك المنصب من عقد الصلات بعدد من أقوى العائلات اليهودية في قطاع "المتمصرين" في الطبقة العليا المصرية وكأن من بينهم عائلات سوارس وقطاوي وهراري ورولو وموصيري ولما كانت عائلتا سو ارس وقطاوي تقيمان صلات هامة برأس المال الأوربي فقد تعرف طلعت حرب بشكل أكبر على عمليات الأموال الدولية ومما يتسم بأهمية خاصة ذلك الارتباط بين عائلة سوارس وبين رأس المال اليهودي في ألمانيا وخاصة في دويتشه أورينت بنك.
ومع النجاح الكبير الذي حققه بنك مصر وتنوع نشاطه وانتشار فروعه في فلسطين والحجاز وغيرهما إلا أنه انهـار فجأة وبدون مقدمات عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء ودول المحـور (1939-1945)
ومنذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى اليوم تأسست مئات بل آلاف البنوك الوطنية الربوية سواء المركزية أو التجارية أو المتخصصة وغيرها من البنوك المختلفة الأغراض والأنواع، إلى جانب شركات التأمين المختلفة والتي تقوم معظم معاملاتها على الربا والمقامرة ومن ذلك أيضاً فوائد صندوق البريد والتي بدأ التعامل بها في مصر منذ بداية القرن العشرين فقد أفتى بعض العلماء ومنهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في حينه بإباحة هذه الفوائد. ونتيجة لذلك صار بمقدور مكاتب صندوق توفير البريد التي تديرها الحكومة أن تفتح أبوابها عام 1901م وأن تدفع فوائد على الودائع.
نظام المصارف التقليدية
وهكذا دخل كثير من الناس في دائرة المحظور واصبح الربا على هذا النحو من الانتشار المخيف حتى أنه لم يترك عملا إقتصاديا إلا ودس أنفه فيه - كما قال الشيخ محمد عبد الله الخطيب- بيد أن معاملات البنوك التجارية تمثل الصورة الأكثر ضرراً والأشد خطراً من الربا في الواقع فهي: تقوم على نظام الفوائد الربوية كما تتضمن معظم معاملاتها غرراً ومقامرة وجهالة فعلى سبيل المثال تجمع أموال الناس في صورة ودائع وتعطيهم فائدة ثم تعيد إقراض هذا المال مرة أخرى بسعر فائدة أعلى. فهي على ذلك تأكل الربا وتؤكله فوظيفتها الأساسية هي الاتجار في الديون من خلال عمليتي إقراض واقتراض النقود على أساس الفائدة الربوية.
ويرى بعض الكتاب أن البنوك التجارية الحالية ما هي إلا صـورة متطورة من المرابي القديم الذي كان يقوم بإقراض أمواله مقابل عمولة تمثل نسبة من القرض نفسه وكانت ذات طابع استغلالي فسميت ربا وهي الآن تسمى الفائدة. أي أن الربا والفائدة هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة.
والبنوك التجارية كما تقرض قروضاً تأخذ الشكل العادي المعروف فأنها تعطي قروضاً في أشكال مستحدثة مثل ما يسمى بفتح الاعتماد (غير المستندي ) وخصم الأوراق التجارية والسحب على المكشوف ..الخ فكل هذه المعاملات في جوهرها قروض ربوية.
غير أن علماء المسلمين لم يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء الانتشار الفاحش للمعاملات الربوية وخاصة من خلال البنوك التقليدية فقد بذلت جهود عظيمة لإيجاد البديل الشرعي لهذه البنوك من اجل إنقاذ عامة المسلمين من الربا وتوفير سبيل التعامل الحلال ومن هنا فقد ظهرت المصارف الإسلامية في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي لتؤكد على مرونة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان.
بيد أن المشكلة مع ذلك تزداد استفحالا حتى مع وجود البنوك الإسلامية وانتشارها وذلك لسبب بسيط وهو أنه لا يمكن تطبيق نظام البنوك الإسلامية في ظل هيمنة الانظمة والقوانين العلمانية وفي ظل التبعية السافرة للانظمة الاقتصادية والسياسية وللسوق المالية والعملة الاجنبية.