من هناك
03-30-2008, 12:15 PM
كوسوفا..
من الإقليم إلى الدولة
وتحديات الإستقلال
**هاني صلاح
مقدمة
بإعلان استقلالها في 17 فبراير 2008م،تكون كوسوفا قد خطت أولى خطواتها نحو بناء دولتها المستقلة،والتي ظلت تناضل من أجلها على مدار 96 عاماً منذ أن احتلت القوات الصربية كوسوفا خلال حروب البلقان في عام 1912م، بيد أن هذه الدولة الوليدة و التي تعد الآن أفقر دولة أوروبية بعد أن كانت بالأمس أفقر إقليم داخل الجمهورية الصربية خلال حقبة الاتحاد اليوغسلافي السابق( 1 )، تقف الآن على أعتاب تحديات هائلة وعقبات جمة ستكون لها كلمة الفصل في تحديد مستقبلها واستقلالها السياسي والاقتصادي.
فكوسوفا قد تعرضت منذ أن قام سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس صربيا بإلغاء ميزة الحكم الذاتي للإقيلم في عام 1989م و التي كان قد حصل عليها في عهد تيتو سنة 1974م إلى خطوات متدرجة من قبل سلطات حكومة بلجراد الصربية، أسفرت في نهاية المطاف عن شلل تام في كافة مناحي الحياة، وتصاعدت هذه الخطوات إلى أن وصلت لحد تنفيذ عمليات إبادة جماعية، وإجراء أكبر حملات تطهير عرقي عرفتها أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من قبل قوات الجيش و الشرطة الصربية، والتي كانت بمثابة الخطوة الأخيرة في البرنامج الصربي لحل مشكلة كوسوفا من وجهة نظر حكومة بلجراد، وتتلخص في تفريغ الإقليم من سكانه الألبان. وهو ما أدى إلى تفجير أول حرب أوروبية أيضاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عبر تدخل الناتو في كوسوفا في 9 يونيو 1999م.
إلا أن الثماني سنوات التالية (الأخيرة) والتي خضعت فيها كوسوفا لإدارة مدنية دولية مؤقتة تابعة للأمم المتحدة بناءاً على القرار الصادر عن مجلس الأمن في 10 يونيو من عام 1999م، كانت بمثابة فترة تأهيلية لإعادة الحياة إلى إقليم كوسوفا مرة أخرى بعد انتهاء الحرب، قبل البدء في مفاوضات دولية لتحديد وضعه القانوني المستقبلي؛ومن ثم بمساعدة الإدارة المدنية و بتمويل من الاتحاد الأوروبي و غيره إعادة بناء مؤسساته الرسمية وإصلاح ـ الحد الأدنى ـ من بنيته التحتية بما يسمح لإعادة الحيوية إلى كافة مرافقه المختلفة. والأهم بالنسبة للمجتمع الدولي تم استثمار هذه الفترة أيضاً في العمل على تقريب وجهات النظر المتباعدة للأطراف الدولية و الإقليمية حول مستقبل الإقليم.
إلا أن الفشل الذريع الذي منيت به كافة المفاوضات التي تمت برعاية الأمم المتحدة ثم الترويكا الدولية (التي تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية و روسيا) على مدار عامين، و الذي اعتبر الجانب الصربي مسئولاً عن هذا الفشل نظراً لتعنته إزاء المقترحات الدولية لتسوية النزاع، مثل أهم العوامل التي أدت إلى تغيير في الموقف الأوروبي السابق إزاء المسألة الكوسوفية والمتمثل في ضرورة تحقيق تسوية نهائية لملف كوسوفا عبر المفاوضات الثنائية والمباشرة بين الطرفين الصربي والألباني، لذلك وبعد أن إلتئم الموقف الأوروبي مع الموقف الأمريكي الداعم لاستقلال كوسوفا، أصبحت الأرضية ممهدة لإعلان الإقليم لإستقلاله، وبدراسة عميقة لموعد إعلان هذا الاستقلال و ترتيباته؛ تم إعطاء الضوء الأخضر من "الحلفاء" الغربيين لحكومة بريشتينا بالانفصال عن صربيا وإعلان الاستقلال من جانب واحد.
( 1 ) أسباب الدعم الغربي لاستقلال أحادي الجانب
تعكس التصريحات التي صدرت عن المسئولين الأوروبيين في عدد من العواصم الأوروبية، والتي سعت إلى تهدئة مخاوف البعض عبر تأكيدها بأن دعمها لقرار أحادي الجانب باستقلال الإقليم عن صربيا " تم دراسته بعناية"..وأنه مثل " أفضل الخيارات المتاحة".. باعتبار أنه " ليس هناك حل مثالي للطرفين".. مدى التغيير في موقف الاتحاد الأوروبي؛ بناءاً على المعطيات التي توصل إليها خلال السنوات القليلة الماضية ابتداءاً من تواجد ممثليه بالإقليم، ثم اتصالاته وزيارته المتكررة لكوسوفا عبر مسئوليه، وانتهاءاً بما أسفرت عنه المفاوضات التي تمت بين الجانبين المتنازعين.
لذلك يطرح هذا الموقف الغربي "الجديد والموحد" تساؤلات كثيرة؛ مما لاشك فيه أن إجاباتها تعكس حقيقة ما يجرى هناك في منطقة غرب البلقان، وبالتحديد داخل تركة الاتحاد اليوغسلافي السابق، مع الإشارة إلى أن الغربيين (بروكسل و واشنطن) ظلوا يؤكدون باستمرار خاصة خلال الفترة التي صاحبت إعلان الإقليم لانفصاله عن صربيا؛ بأن استقلال كوسوفا تمثل الخطوة السابعة "والأخيرة" في تفكك الاتحاد اليوغسلافي السابق؛ وفي نفس الوقت خطوة كان لابد منها في إعادة ترتيب خريطة المنطقة، بما لا يتسبب في تفجر نزاعات جديدة في منطقة بات مستقبلها السياسي مرهون فقط بتواجد دولي "أوروبي" عبر بانضمام دولها لمؤسسات حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
ومن بين هذه التساؤلات الهامة.. ماذا بعد خطوة إعلان الاستقلال؟ وكيف ستواجه هذه الدولة الوليدة التحديات والعقبات التي تنتظرها خلال الشهور و السنوات القادمة؟ وما هو الدور الذي سيلعبه حلفائها الغربيين في الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية والذين دعموا استقلالها في المرحلة القادمة لمساعدتها في بناء مؤسساتها و بنيتها الاقتصادية؟
التحرك باتجاه الحسم
بدا واضحاً للمسئولين الأوروبيين بأن الاستقرار في منطقة غرب البلقان بات مهدداً، و أن استمرار الأمور على ما هى عليه دون حسم يمكن أن يؤدي في النهاية إلى اشتعال المنطقة في أي لحظة، بشكل تضيع معه كافة الإنجازات التي بذلت على مدار أكثر من عقد من الزمان لتأمين هذه المنطقة ويلات الحروب العرقية التي اندلعت بين دول الاتحاد اليوغسلافي السابق في التسعينيات من القرن الماضي. ويمكن فهم مسارعة الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية إلى حسم هذا الملف عبر دعم مشروع التسوية المقترح من قبل المبعوث الدولي مارتي اهتساري والذي أوصى بإعطاء الإقليم إستقلالاً مشروطاً وبإشراف دولي-أوروبي، بناءاً على هذه المعطيات:
تجاوب الجانب الكوسوفي مع شروط المجتمع الدولي:
ويرى المسئولون الكوسوفيون بأنهم قد تجاوبوا مع متطلبات المجتمع الدولي وقاموا بتلبية كل ما طلبه منهم، بالإضافة إلى أنهم قدموا الكثير من التنازلات خلال المفاوضات الأخيرة رغبةً منهم في نيل استقلالهم في نهاية المطاف ، وأن الكرة أصبحت الآن في ملعب المجتمع الدولي للتجاوب معهم والرد عليهم سريعاً دون أن يستمر هذا الانتظار طويلا، وبعيداًَ عن استشارة حكومة بلجراد، لأنهم ـ كما صرح هاشيم ثاتشي رئيس الوزراء المنتخب ـ أضحى من المؤكد أنه لو استمرت المفاوضات مع الطرف الصربي لمائة عام فإنها لن تسفر عن شيء جديد.
ومن أهم مظاهر تجاوب المسئولين الكوسوفين تجاه المجتمع الدولي الآتي:
قيامهم بتطبيق المعايير الدولية الثمانية التي طالبهم بها المجتمع الدولي كشرط مسبق للدخول في مفاوضات الوضع النهائي، حيث كان المعيار الثالث والرابع محور الاهتمام اهتمام المجتمع الدولي نظراً لتعلقهما بالأقلية الصربية حيث يؤكدان على ضرورة ضمان عودة اللاجئين الصرب إلى بيوتهم، ومع تأمين حرية و سلامة حركتهم داخل الإقليم .( 2 )
موافقة الطرف الألباني على المقترح الدولي حول "الوضع النهائي" و التي اشتهرت بـ "حزمة اهتساري" نسبةً لمارتي اهتساري مبعوث الأمين العام للمنظمة الدولية والذي قاد هذه المفاوضات بين الجانبين الصربي و الألباني،( 3 ) وتنازل خلالها الطرف الألباني و قدم بعض التنازلات، حيث أوصت بإعطاء الإقليم لاستقلال مشروط و تحت إشراف دولي (أوروبي)، مع التشديد على عدم اتحادها مع أي دولة مجاورة ( ألبانيا ) أو جزء من دولة ( مقدونيا الغربية / اقليم بريشيفا داخل صربيا).كما حذف الدستور الذي وضع على اساس "حزمة اهتساري" القومية الألبانية والدين الإسلامي عن صفة الدولة الجديدة؛ حيث أكد البند الأول من المادة الثالثة أن المجتمع الكوسوفي مجتمع متعدد الأعراق ( أي دولة متعددة الطوائف و ليست دولة ألبانية تعيش فيها أقليات)، وبينما أكدت المادة الثامنة أنه ليس لكوسوفا دين رسمي إنما يحكمها نظام علماني محايد تجاه الأديان كلها.هذا بالاضافة إلى جعل لغة الأقلية الصربية ( 5% من تعداد السكان) رسمية تتداول في جميع الدوائر الحكومية بالتساوي مع لغة الغالبية الألبانية ( 92% من تعداد السكان) كما نص على هذا البند الأول من المادة الخامسة في الدستور الجديد الذي وضعه وفق ما جاء في مشروع التسوية الشامل المقدم من الرئيس الفنلندي مارتي اهتساري.( 4 )
انضباط الجانب الكوسوفي وتمسكه بضبط النفس، إزاء الاستفزازات الصربية المتكررة من آن لآخر لدفع ألبان كوسوفا للرد و الانتقام بهدف تشويه صورتهم أمام العالم،كما حدث في شهر مارس 2004 من رد فعل عنيف من جانب الألبان تجاه الصرب الذين تسببوا عمداً في غرق إغراق طفيلن من الألبان، وكما حاولت صربيا استفزاز مشاعرهم القومية و الوطنية عبر إرسال أسماء قادة جيش التحرير السابق و الذين انخرطوا في العمل السياسي إلى محكمة لاهاي لمحاكمتهم كمجرمي حرب؛ وطالت هذه المحاكمات رئيس الوزراء الكوسوفي المنتخب حديثا في عان 2006م راموش هايراي والذي قدم نفسه طواعية للمحاكمة "كمجرم حرب" في محكمة العدل الدولية بلاهاي، بعد تقديم استقالته من رئاسة الحكومة وتوجيهه نداء بنفسه عبر التلفزيون الكوسوفي لكافة ألبان الإقليم بضرورة التزام الهدوء، و عدم الاعتراض أو التجمهر حرصاً على صورة كوسوفا حكومة و شعباً أمام المجتمع الدولي؛ وقد حدث هذا في الوقت الذي ما زال فيه كثير من مجرمي الحرب الصرب طلقاء بدون محاكمة، بالرغم من نداءات بروكسل لحكومة بلجراد بتسليمهم للمحاكمة، حيث اتهمت رئيسة المحكمة في لاهاي بلجراد بإخفائهم في أحد الأديرة الأرثوذكسية داخل صربيا و بعدم رغبتها في التعاون مع المحكمة الدولية.
عدم التعجل في أخذ خطوة منفرة دون التنسيق مع حلفائهم الغربيين، خاصةً في كافة الخطوات التمهيدية التي صاحبت إعلان الاستقلال، فقد استفاد ألبان كوسوفا من تجاربهم الماضية و أيقنوا أنه بدون دعم غربي ممثلاً في الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى لمطلبهم في الانفصال عن جمهورية صربيا و تأسيس دولة مستقلة عنها فلن يتاح لهم النجاح، خاصةً أنهم قد جربوا من قبل إعلان استقلالهم في 2 يوليو من عام 1990 و لم يعترف بهم أحد سوى دولة ألبانيا المجاورة .
هذه أمثلة توضح كيف استطاع ألبان كوسوفا عبر تنفيذ التزاماتهم تجاه المجتمع الدولي وبالأخص الغربي أن يحظوا بإحترامه و دعمه لهم في مشروعهم الاستقلالي على عكس الموقف الصربي الذي اعتمد على أن روسيا ستظل تدعمه في مواجهة الغرب.
تصلب الجانب الصربي
اتضح للغرب أن تساهله إزاء تعنت المفاوض الصربي لا يزيد الأخير إلا تشدداً؛ وثبت أن الجانب الصربي يسعى لكسب الوقت في محاولة منه لإبقاء الأمور بالإقليم على ما هى عليه،كما اعتاد الغرب من الجانب الصربي على عدم موافقته على كافة الجهود الدولية و هو ما دفع دائماً و بصفة متكررة إلى التدخل العسكري من قبل الناتو لفرض الأمر الواقع كما حدث في البوسنة 1995م و في كوسوفا بعد فشل محادثات رامبوييه في مارس 1999م و كما حدث الآن بعد فشل المفاوضات التي استمرت لعامين برعاية الأمم المتحدة ؛ أعقبها مفاوضات إستثنائية إضافية برعاية التروكيا الدولية أسفرت جميعها بالفشل الذريع لتحجر الموقف الصربي و عدم مرونته وهو ما دفع لدعم الغرب إعلان للاستقال أحادي الجانب من قبل المسئولين الكوسوفيين. وهو ما اعتبره المسئولين الأمريكيين كنتيجة طبيعية لتضييع صربيا الوقت خلال فترة التفاوض وعدم تجاوبها مع المقترحات الدولية.
تدهور الأوضاع الاقتصادية
في ظل الادارة المدنية المؤقتة التي تدير الإقليم منذ عام 1999م تفاقمت الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير كنتيجة مباشرة لحالة الشلل و الجمود التي أصابت قطاعاته الإقتصادية " الهشة منذ العهد اليوغسلافي" نظراً لعدم مقدرته على جذب الاستثمارات الخارجية أو الحصول على القروض الدولية للنهوض بإقتصاده بسبب تأخير حسم الوضع القانوني الدائم للإقليم، مما أدى إلى إرتفاع نسبة البطالة لأكثر من 40% أي ما تعداده حوالي 335 ألف من العاملين بينما تصل وسط الشباب إلى أكثر من 70% حسب مركز الإحصاء الكوسوفي. ( 5 ) الأمر الذي أكد أن أي تأخير جديد لحسم مستقبل الإقليم ينذر بعواقب وخيمة عليه و على المنطقة بأكملها .
حالة الإحباط التي سادت الإقليم
الذي وصل إليه المسئولون الكوسوفيون و تصرحياتهم المتكررة بأنهم سوف يعلنون الاستقلال من جانب واحد إذا ظل المجتمع الدولي في تسويفه إزاء حسم الوضع المستبقلي للإقليم.هذا في الوقت الذي يشاهدون الجمهوريات الأخرى التي كانت ضمن الاتحاد اليوغسلافي السابق والتي أعلنت استقلالها وانفصالها من طرف واحد تنهض باقتصادياتها وتنضم الواحدة تلو الأخرى إلى الاتحاد الأوروبي والتي كان آخرها جمهورية الجبل الأسود التي انفصلت عن اتحاد صربيا والجبل الأسود في عام 2006م، و لم تبقى هناك قضية عالقة في منطقة غرب البلقان تنتظر الحسم سوى قضيتهم.
صعود القوميين في الجانبين ينذر بالانفجار
يتوحد الموقف الرسمي والشعبي لدى الطرفين المتنازعين الصربي و الألباني تجاه الوضع المستقبلي الدائم والقانوني لكوسوفا، فحكومة بلجراد ترفض الانفصال وتعرض حكم ذاتي موسع، بينما المسئولون في بريشتينا لا يقبلون بغير الاستقلال مع وحدة أراضي كوسوفا، ويبدو أنه لتأخير حسم هذا الملف الشائك طيلة هذه الفترة التي تعدت الثماني سنوات منذ دخول قوات الناتو للإقليم في 9 يونيو 1999م وانسحاب القوات الصربية منه دفع بالقوميين المتشددين في كلا الجانبين إلى اعتلاء غالبية مقاعد البرلمان خلال الانتخابات بصربيا في يناير، وبكوسوفا في نوفمبر من عام 2007م، وأصبح الأمر ينذر بعواقب وخيمة لو كان الوضع قد استمر دون حسم من قبل المجتمع الدولي.
من الإقليم إلى الدولة
وتحديات الإستقلال
**هاني صلاح
مقدمة
بإعلان استقلالها في 17 فبراير 2008م،تكون كوسوفا قد خطت أولى خطواتها نحو بناء دولتها المستقلة،والتي ظلت تناضل من أجلها على مدار 96 عاماً منذ أن احتلت القوات الصربية كوسوفا خلال حروب البلقان في عام 1912م، بيد أن هذه الدولة الوليدة و التي تعد الآن أفقر دولة أوروبية بعد أن كانت بالأمس أفقر إقليم داخل الجمهورية الصربية خلال حقبة الاتحاد اليوغسلافي السابق( 1 )، تقف الآن على أعتاب تحديات هائلة وعقبات جمة ستكون لها كلمة الفصل في تحديد مستقبلها واستقلالها السياسي والاقتصادي.
فكوسوفا قد تعرضت منذ أن قام سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس صربيا بإلغاء ميزة الحكم الذاتي للإقيلم في عام 1989م و التي كان قد حصل عليها في عهد تيتو سنة 1974م إلى خطوات متدرجة من قبل سلطات حكومة بلجراد الصربية، أسفرت في نهاية المطاف عن شلل تام في كافة مناحي الحياة، وتصاعدت هذه الخطوات إلى أن وصلت لحد تنفيذ عمليات إبادة جماعية، وإجراء أكبر حملات تطهير عرقي عرفتها أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من قبل قوات الجيش و الشرطة الصربية، والتي كانت بمثابة الخطوة الأخيرة في البرنامج الصربي لحل مشكلة كوسوفا من وجهة نظر حكومة بلجراد، وتتلخص في تفريغ الإقليم من سكانه الألبان. وهو ما أدى إلى تفجير أول حرب أوروبية أيضاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عبر تدخل الناتو في كوسوفا في 9 يونيو 1999م.
إلا أن الثماني سنوات التالية (الأخيرة) والتي خضعت فيها كوسوفا لإدارة مدنية دولية مؤقتة تابعة للأمم المتحدة بناءاً على القرار الصادر عن مجلس الأمن في 10 يونيو من عام 1999م، كانت بمثابة فترة تأهيلية لإعادة الحياة إلى إقليم كوسوفا مرة أخرى بعد انتهاء الحرب، قبل البدء في مفاوضات دولية لتحديد وضعه القانوني المستقبلي؛ومن ثم بمساعدة الإدارة المدنية و بتمويل من الاتحاد الأوروبي و غيره إعادة بناء مؤسساته الرسمية وإصلاح ـ الحد الأدنى ـ من بنيته التحتية بما يسمح لإعادة الحيوية إلى كافة مرافقه المختلفة. والأهم بالنسبة للمجتمع الدولي تم استثمار هذه الفترة أيضاً في العمل على تقريب وجهات النظر المتباعدة للأطراف الدولية و الإقليمية حول مستقبل الإقليم.
إلا أن الفشل الذريع الذي منيت به كافة المفاوضات التي تمت برعاية الأمم المتحدة ثم الترويكا الدولية (التي تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية و روسيا) على مدار عامين، و الذي اعتبر الجانب الصربي مسئولاً عن هذا الفشل نظراً لتعنته إزاء المقترحات الدولية لتسوية النزاع، مثل أهم العوامل التي أدت إلى تغيير في الموقف الأوروبي السابق إزاء المسألة الكوسوفية والمتمثل في ضرورة تحقيق تسوية نهائية لملف كوسوفا عبر المفاوضات الثنائية والمباشرة بين الطرفين الصربي والألباني، لذلك وبعد أن إلتئم الموقف الأوروبي مع الموقف الأمريكي الداعم لاستقلال كوسوفا، أصبحت الأرضية ممهدة لإعلان الإقليم لإستقلاله، وبدراسة عميقة لموعد إعلان هذا الاستقلال و ترتيباته؛ تم إعطاء الضوء الأخضر من "الحلفاء" الغربيين لحكومة بريشتينا بالانفصال عن صربيا وإعلان الاستقلال من جانب واحد.
( 1 ) أسباب الدعم الغربي لاستقلال أحادي الجانب
تعكس التصريحات التي صدرت عن المسئولين الأوروبيين في عدد من العواصم الأوروبية، والتي سعت إلى تهدئة مخاوف البعض عبر تأكيدها بأن دعمها لقرار أحادي الجانب باستقلال الإقليم عن صربيا " تم دراسته بعناية"..وأنه مثل " أفضل الخيارات المتاحة".. باعتبار أنه " ليس هناك حل مثالي للطرفين".. مدى التغيير في موقف الاتحاد الأوروبي؛ بناءاً على المعطيات التي توصل إليها خلال السنوات القليلة الماضية ابتداءاً من تواجد ممثليه بالإقليم، ثم اتصالاته وزيارته المتكررة لكوسوفا عبر مسئوليه، وانتهاءاً بما أسفرت عنه المفاوضات التي تمت بين الجانبين المتنازعين.
لذلك يطرح هذا الموقف الغربي "الجديد والموحد" تساؤلات كثيرة؛ مما لاشك فيه أن إجاباتها تعكس حقيقة ما يجرى هناك في منطقة غرب البلقان، وبالتحديد داخل تركة الاتحاد اليوغسلافي السابق، مع الإشارة إلى أن الغربيين (بروكسل و واشنطن) ظلوا يؤكدون باستمرار خاصة خلال الفترة التي صاحبت إعلان الإقليم لانفصاله عن صربيا؛ بأن استقلال كوسوفا تمثل الخطوة السابعة "والأخيرة" في تفكك الاتحاد اليوغسلافي السابق؛ وفي نفس الوقت خطوة كان لابد منها في إعادة ترتيب خريطة المنطقة، بما لا يتسبب في تفجر نزاعات جديدة في منطقة بات مستقبلها السياسي مرهون فقط بتواجد دولي "أوروبي" عبر بانضمام دولها لمؤسسات حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
ومن بين هذه التساؤلات الهامة.. ماذا بعد خطوة إعلان الاستقلال؟ وكيف ستواجه هذه الدولة الوليدة التحديات والعقبات التي تنتظرها خلال الشهور و السنوات القادمة؟ وما هو الدور الذي سيلعبه حلفائها الغربيين في الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية والذين دعموا استقلالها في المرحلة القادمة لمساعدتها في بناء مؤسساتها و بنيتها الاقتصادية؟
التحرك باتجاه الحسم
بدا واضحاً للمسئولين الأوروبيين بأن الاستقرار في منطقة غرب البلقان بات مهدداً، و أن استمرار الأمور على ما هى عليه دون حسم يمكن أن يؤدي في النهاية إلى اشتعال المنطقة في أي لحظة، بشكل تضيع معه كافة الإنجازات التي بذلت على مدار أكثر من عقد من الزمان لتأمين هذه المنطقة ويلات الحروب العرقية التي اندلعت بين دول الاتحاد اليوغسلافي السابق في التسعينيات من القرن الماضي. ويمكن فهم مسارعة الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية إلى حسم هذا الملف عبر دعم مشروع التسوية المقترح من قبل المبعوث الدولي مارتي اهتساري والذي أوصى بإعطاء الإقليم إستقلالاً مشروطاً وبإشراف دولي-أوروبي، بناءاً على هذه المعطيات:
تجاوب الجانب الكوسوفي مع شروط المجتمع الدولي:
ويرى المسئولون الكوسوفيون بأنهم قد تجاوبوا مع متطلبات المجتمع الدولي وقاموا بتلبية كل ما طلبه منهم، بالإضافة إلى أنهم قدموا الكثير من التنازلات خلال المفاوضات الأخيرة رغبةً منهم في نيل استقلالهم في نهاية المطاف ، وأن الكرة أصبحت الآن في ملعب المجتمع الدولي للتجاوب معهم والرد عليهم سريعاً دون أن يستمر هذا الانتظار طويلا، وبعيداًَ عن استشارة حكومة بلجراد، لأنهم ـ كما صرح هاشيم ثاتشي رئيس الوزراء المنتخب ـ أضحى من المؤكد أنه لو استمرت المفاوضات مع الطرف الصربي لمائة عام فإنها لن تسفر عن شيء جديد.
ومن أهم مظاهر تجاوب المسئولين الكوسوفين تجاه المجتمع الدولي الآتي:
قيامهم بتطبيق المعايير الدولية الثمانية التي طالبهم بها المجتمع الدولي كشرط مسبق للدخول في مفاوضات الوضع النهائي، حيث كان المعيار الثالث والرابع محور الاهتمام اهتمام المجتمع الدولي نظراً لتعلقهما بالأقلية الصربية حيث يؤكدان على ضرورة ضمان عودة اللاجئين الصرب إلى بيوتهم، ومع تأمين حرية و سلامة حركتهم داخل الإقليم .( 2 )
موافقة الطرف الألباني على المقترح الدولي حول "الوضع النهائي" و التي اشتهرت بـ "حزمة اهتساري" نسبةً لمارتي اهتساري مبعوث الأمين العام للمنظمة الدولية والذي قاد هذه المفاوضات بين الجانبين الصربي و الألباني،( 3 ) وتنازل خلالها الطرف الألباني و قدم بعض التنازلات، حيث أوصت بإعطاء الإقليم لاستقلال مشروط و تحت إشراف دولي (أوروبي)، مع التشديد على عدم اتحادها مع أي دولة مجاورة ( ألبانيا ) أو جزء من دولة ( مقدونيا الغربية / اقليم بريشيفا داخل صربيا).كما حذف الدستور الذي وضع على اساس "حزمة اهتساري" القومية الألبانية والدين الإسلامي عن صفة الدولة الجديدة؛ حيث أكد البند الأول من المادة الثالثة أن المجتمع الكوسوفي مجتمع متعدد الأعراق ( أي دولة متعددة الطوائف و ليست دولة ألبانية تعيش فيها أقليات)، وبينما أكدت المادة الثامنة أنه ليس لكوسوفا دين رسمي إنما يحكمها نظام علماني محايد تجاه الأديان كلها.هذا بالاضافة إلى جعل لغة الأقلية الصربية ( 5% من تعداد السكان) رسمية تتداول في جميع الدوائر الحكومية بالتساوي مع لغة الغالبية الألبانية ( 92% من تعداد السكان) كما نص على هذا البند الأول من المادة الخامسة في الدستور الجديد الذي وضعه وفق ما جاء في مشروع التسوية الشامل المقدم من الرئيس الفنلندي مارتي اهتساري.( 4 )
انضباط الجانب الكوسوفي وتمسكه بضبط النفس، إزاء الاستفزازات الصربية المتكررة من آن لآخر لدفع ألبان كوسوفا للرد و الانتقام بهدف تشويه صورتهم أمام العالم،كما حدث في شهر مارس 2004 من رد فعل عنيف من جانب الألبان تجاه الصرب الذين تسببوا عمداً في غرق إغراق طفيلن من الألبان، وكما حاولت صربيا استفزاز مشاعرهم القومية و الوطنية عبر إرسال أسماء قادة جيش التحرير السابق و الذين انخرطوا في العمل السياسي إلى محكمة لاهاي لمحاكمتهم كمجرمي حرب؛ وطالت هذه المحاكمات رئيس الوزراء الكوسوفي المنتخب حديثا في عان 2006م راموش هايراي والذي قدم نفسه طواعية للمحاكمة "كمجرم حرب" في محكمة العدل الدولية بلاهاي، بعد تقديم استقالته من رئاسة الحكومة وتوجيهه نداء بنفسه عبر التلفزيون الكوسوفي لكافة ألبان الإقليم بضرورة التزام الهدوء، و عدم الاعتراض أو التجمهر حرصاً على صورة كوسوفا حكومة و شعباً أمام المجتمع الدولي؛ وقد حدث هذا في الوقت الذي ما زال فيه كثير من مجرمي الحرب الصرب طلقاء بدون محاكمة، بالرغم من نداءات بروكسل لحكومة بلجراد بتسليمهم للمحاكمة، حيث اتهمت رئيسة المحكمة في لاهاي بلجراد بإخفائهم في أحد الأديرة الأرثوذكسية داخل صربيا و بعدم رغبتها في التعاون مع المحكمة الدولية.
عدم التعجل في أخذ خطوة منفرة دون التنسيق مع حلفائهم الغربيين، خاصةً في كافة الخطوات التمهيدية التي صاحبت إعلان الاستقلال، فقد استفاد ألبان كوسوفا من تجاربهم الماضية و أيقنوا أنه بدون دعم غربي ممثلاً في الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى لمطلبهم في الانفصال عن جمهورية صربيا و تأسيس دولة مستقلة عنها فلن يتاح لهم النجاح، خاصةً أنهم قد جربوا من قبل إعلان استقلالهم في 2 يوليو من عام 1990 و لم يعترف بهم أحد سوى دولة ألبانيا المجاورة .
هذه أمثلة توضح كيف استطاع ألبان كوسوفا عبر تنفيذ التزاماتهم تجاه المجتمع الدولي وبالأخص الغربي أن يحظوا بإحترامه و دعمه لهم في مشروعهم الاستقلالي على عكس الموقف الصربي الذي اعتمد على أن روسيا ستظل تدعمه في مواجهة الغرب.
تصلب الجانب الصربي
اتضح للغرب أن تساهله إزاء تعنت المفاوض الصربي لا يزيد الأخير إلا تشدداً؛ وثبت أن الجانب الصربي يسعى لكسب الوقت في محاولة منه لإبقاء الأمور بالإقليم على ما هى عليه،كما اعتاد الغرب من الجانب الصربي على عدم موافقته على كافة الجهود الدولية و هو ما دفع دائماً و بصفة متكررة إلى التدخل العسكري من قبل الناتو لفرض الأمر الواقع كما حدث في البوسنة 1995م و في كوسوفا بعد فشل محادثات رامبوييه في مارس 1999م و كما حدث الآن بعد فشل المفاوضات التي استمرت لعامين برعاية الأمم المتحدة ؛ أعقبها مفاوضات إستثنائية إضافية برعاية التروكيا الدولية أسفرت جميعها بالفشل الذريع لتحجر الموقف الصربي و عدم مرونته وهو ما دفع لدعم الغرب إعلان للاستقال أحادي الجانب من قبل المسئولين الكوسوفيين. وهو ما اعتبره المسئولين الأمريكيين كنتيجة طبيعية لتضييع صربيا الوقت خلال فترة التفاوض وعدم تجاوبها مع المقترحات الدولية.
تدهور الأوضاع الاقتصادية
في ظل الادارة المدنية المؤقتة التي تدير الإقليم منذ عام 1999م تفاقمت الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير كنتيجة مباشرة لحالة الشلل و الجمود التي أصابت قطاعاته الإقتصادية " الهشة منذ العهد اليوغسلافي" نظراً لعدم مقدرته على جذب الاستثمارات الخارجية أو الحصول على القروض الدولية للنهوض بإقتصاده بسبب تأخير حسم الوضع القانوني الدائم للإقليم، مما أدى إلى إرتفاع نسبة البطالة لأكثر من 40% أي ما تعداده حوالي 335 ألف من العاملين بينما تصل وسط الشباب إلى أكثر من 70% حسب مركز الإحصاء الكوسوفي. ( 5 ) الأمر الذي أكد أن أي تأخير جديد لحسم مستقبل الإقليم ينذر بعواقب وخيمة عليه و على المنطقة بأكملها .
حالة الإحباط التي سادت الإقليم
الذي وصل إليه المسئولون الكوسوفيون و تصرحياتهم المتكررة بأنهم سوف يعلنون الاستقلال من جانب واحد إذا ظل المجتمع الدولي في تسويفه إزاء حسم الوضع المستبقلي للإقليم.هذا في الوقت الذي يشاهدون الجمهوريات الأخرى التي كانت ضمن الاتحاد اليوغسلافي السابق والتي أعلنت استقلالها وانفصالها من طرف واحد تنهض باقتصادياتها وتنضم الواحدة تلو الأخرى إلى الاتحاد الأوروبي والتي كان آخرها جمهورية الجبل الأسود التي انفصلت عن اتحاد صربيا والجبل الأسود في عام 2006م، و لم تبقى هناك قضية عالقة في منطقة غرب البلقان تنتظر الحسم سوى قضيتهم.
صعود القوميين في الجانبين ينذر بالانفجار
يتوحد الموقف الرسمي والشعبي لدى الطرفين المتنازعين الصربي و الألباني تجاه الوضع المستقبلي الدائم والقانوني لكوسوفا، فحكومة بلجراد ترفض الانفصال وتعرض حكم ذاتي موسع، بينما المسئولون في بريشتينا لا يقبلون بغير الاستقلال مع وحدة أراضي كوسوفا، ويبدو أنه لتأخير حسم هذا الملف الشائك طيلة هذه الفترة التي تعدت الثماني سنوات منذ دخول قوات الناتو للإقليم في 9 يونيو 1999م وانسحاب القوات الصربية منه دفع بالقوميين المتشددين في كلا الجانبين إلى اعتلاء غالبية مقاعد البرلمان خلال الانتخابات بصربيا في يناير، وبكوسوفا في نوفمبر من عام 2007م، وأصبح الأمر ينذر بعواقب وخيمة لو كان الوضع قد استمر دون حسم من قبل المجتمع الدولي.