عزام
03-24-2008, 11:49 AM
موضوع مطروح للنقاش
عزام
حتى لا نخسر الشعب الأميركي
محمد بن مختار الشنقيطي
لا تخلو أعين المتتبعين لأخبار العالم اليوم من صور مروعة، ومشاهد مفزعة. ولنا معاشر العرب والمسلمين النصيب الأوفر والحظ الأكبر من هذه الصور والمشاهد. فمن الإبادة الجماعية في 'سبرنيتشا' في البوسنة منتصف التسعينيات، إلى المذابح الدموية اليومية في فلسطين، إلى استباحة أرض العراقيين وعرضهم، إلى غير ذلك مما تشمئز منه النفوس وتدمى له القلوب.
لكن تعاليم الإسلام وعبرة التاريخ يعلماننا أن الغلبة لا تكتسب بالحقد على الخصم، أو التشفي في الانتقام. وأن عدالة القضية إذا امتزجت بالشجاعة والنبل، هي الطريق الأخصر للغلبة والنصر. أما الحقد فهو سلاح العجزة والضعفاء. وهو غريزة تعمي المحارب، وتسلبه نبل رسالته، ونقاء رايته. فيندفع بدافع الانتقام الأعمى إلى اقتراف أعمال قد تروي غليله، لكنها تسلبه إنسانيته، وتضر قضيته.
أرأيت المجندة الأميركية التي ترفع أصابعها في إشارة النصر على جثة معتقل عراقي عذبته هي وأصحابها حتى الموت؟
أرأيت تلك المجندة الأخرى التي تجر الأسير العراقي برباط كلبها دون أن يرف لها جفن أو تتحرك لها عاطفة؟
أرأيت الجند المبتسمين وهم يحيطون بشيخ أشيب عار، وكلبهم الشرس ينهش لحمه، دون أن يحسوا بأن من يتعاملون معه بشر من لحم ودم؟
تلك أمثلة بليغة على القلوب الجامدة التي تجردت من إنسانيتها، والحقد الأعمى الذي أضر مشروع الاحتلال، وإستراتيجية التدخل، ولم ينفعهما بشيء.
ومن المشاهد التي تركت في نفسي أثرا لا يمَّحي مشهد ذبح الشاب الأميركي الأسير 'نيكولاس بيرغ'، وشخيره المروع والشباب الملثمون يقطعون حلقومه، ثم يرفعون رأسه المفصول عن جسمه أمام الكاميرا مجاهرة ومفاخرة.
لقد ظللت أياما عديدة وأنا أحاول التغلب على هول تلك الصورة، محاولا فهم الدوافع التي جعلت أولئك الشباب يجترحون فعلا كهذا، ويخرجونه في مشهد استعراضي يحير من يحبون المقاومة المشروعة ويحدبون عليها، وينفر من يعادونها ويشككون فيها.
كنت أدرك تماما الشبهات المحيطة بحياة وموت 'نيكولاس بيرغ' فهو شاب يهودي أميركي مغامر، جاء إلى العراق دون غطاء من الجيش الأميركي أو من سلطة الاحتلال، بدوافع غامضة، زادتها المعلومات التي تكشفت بعد موته ريبة واشتباها.
قد تبين أن 'نيكولاس بيرغ' كان في إسرائيل قبيل ذهابه إلى العراق يدرس اللغتين العربية والعبرية، كما تكشف أن شركته التي ادعى تمثيلها في العراق شركة وهمية، فقد صرح مسؤول في ولاية بنسيلفانيا أن لا وجود لتلك الشركة أصلا.
كما أن اعتقال الجيش الأميركي له بسبب 'أعماله المثيرة للريبة' حسب تفسير سلطة الاحتلال، أثارت مزيدا من الشبهات حوله. ولم يكن نعي صحيفة 'الجروسالم بوست' الإسرائيلية له بأعطر الثناء بالذي يعينه أو يعين أسرته في دفع الشبهة عنه.
لكن ما يهمنا هنا ليس تبرئة ذمة نيكولاس بيرغ ولا إدانته، بل النظر إلى عملية ذبحه المروعة في إطار إنساني وسياسي أوسع.
كان 'نيكولاس بيرغ' –رغم كل ما أحاط بحياته وموته من شبهات- بشرا من لحم ودم، وكان له أب حنون، يكره الحرب ضد العراق وينشط في سبيل وقفها. وقد رفض أبوه أن يساهم في الحملة الإعلامية ضد العرب والمسلمين التي تلت ذبح ابنه، والتي تزعمتها بعض وسائل الإعلام الأميركية، وبعض القادة الأميركيين، وتم فيها وصف العرب والمسلمين لعدة أيام بأنهم 'برابرة' و'متوحشون' و'أعداء للحضارة والإنسانية'. بل إن والد 'بيرغ' وقف في وجه التيار، فأعلن بحق وصدق 'إن بوش ورمسفيلد هما المسؤولان عن مقتل ولدي'. وهو ما يدل على صلابة الوالد المفجوع، وقوة موقفه من العدوان على العراق.
ولم يكن ذبح 'نيكولاس بيرغ' بتلك الطريقة الاستعراضية فاجعة لوالده الشجاع فحسب، بل كان أيضا حماقة سياسية، غطت على جرائم الاحتلال في سجن أبوغريب، وقد كانت الشغل الشاغل للإعلام والرأي العام الأميركي يومها. فوجد أمراء الحرب في واشنطن من يرفع عنهم الحرج، ويخفف عنهم العار، حينما ظهرت صورة 'بيرغ' المسكين وهو يتشحط في دمه، أثناء فضيحة سجن أبوغريب. وسرعان ما التقط أمراء الحرب الصورة بغبطة، وقدموها إلى الرأي العام الساخط قائلين: 'انظروا.. هؤلاء هم نوع البشر الذين نتعامل معهم في العراق.. فنحن لم نفعل لهم في أبوغريب أكثر مما يستحقون'.
فهل يدرك الذين ذبحوا 'نيكولاس بيرغ' أي خدمة جليلة قدموا للاحتلال؟ وهل يدركون أنهم أنقذوا قادة الحرب في واشنطن من فضيحة كادت تهد عروشهم؟! وهل يدركون أنهم قدموا مبررا أخلاقيا لفظائع سجن أبوغريب التي كان من الممكن أن تقضي على مشروع الاحتلال برمته لو تم تقديمها إلى الرأي العام الأميركي غير مشوبة بشائبة ذبح أسير أميركي؟!
لقد لخص الأستاذ فهمي هويدي ببلاغة نقص الخبرة السياسية والإعلامية لدى بعض الجماعات المجاهدة، وذلك في عنوان كتابه 'طالبان.. جند الله في المعركة الخطأ'.
فالشق الأول من عنوان الكتاب 'جند الله' يعترف لطالبان بصدق المشاعر الإيمانية وعمق الحماس الإسلامي، لكن الشق الثاني منه يبين أن ذلك الحماس غير متسلح بسلاح الخبرة بالجبهة وتضاريسها، والمعركة وأبعادها، وأنه حماس يغفل أهمية الكلمة والصورة، وهما اليوم أشد فتكا ومضاء من الطائرات والدبابات.
وما يجعل كتاب الأستاذ فهمي هويدي ذا مصداقية أكثر من غيره، هو أنه صدر قبل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وقبل أن يصبح التهجم على طالبان موضة مبتذلة، يتبناها الجميع بدوافع وغايات شتى.
لقد نجح القس المسيحي الأسود 'مارتن لوثر كينغ' في التأثير على الضمير الأميركي مطلع الستينيات، فقضى على التمييز العنصري في القوانين والإدارة الأميركية دون ثمن يذكر من الدماء والأموال، وذلك بفضل رجاحة عقله، ورحابة خطابه، وقوة حجته. بينما فشل الكاتب المسلم الأسود 'مالكوم أكس' في ذلك، رغم بلاغة لسانه، وحماسه المتأجج.
والسبب هو أن 'كينغ' لم يقدم نضاله من أجل العدل والحرية في شكل صراع بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود. بل قدمه خطابا إنسانيا يهدف إلى تحرير السود، دون انتقام من البيض، وإنصاف المظلومين دون حقد على الظالمين.
وفي خطابه 'لدي حلم I have a Dream ' الذي أصبح قطعة أدبية نادرة ووثيقة تاريخية ثمينة، بين 'كينغ' لأتباعه أن سيرهم إلى العدل يجب أن لا يتلطخ بارتكاب أي ظلم 'فلا يجوز أن نطفئ ظمأنا للحرية بتجرع كأس الحقد والكراهية' حسب تعبيره. وسرعان ما التف الشعب الأميركي بيضا وسودا حول القس الأسود، وحملوا رايته، فلم يجد المتشبثون بالقوانين العنصرية بدا من الإذعان لهزة أخلاقية وسياسية مست شغاف القلوب في كل مكان.
أما الكاتب المسلم الأسود 'مالكوم أكس' فقد صاغ خطابه صياغة إقصائية حدية، وقدم جهده لتحرير السود الأميركيين من العنصرية تقديما مبتورا، في شكل صراع أبدي بين البيض والسود لا مجال فيه للصلح، ولا أمل في الحل. ورفض قبول العون من البيض الشرفاء الذين يرفضون التمييز العنصري ضد السود. فانتهى وانتهت معه دعوته دون أن تحقق شيئا.
والعبرة التاريخية من كل ذلك هي أن الخطاب السياسي –حتى في ساعة الحرب– يجب أن يحافظ على مسحة إنسانية، فعدو اليوم صديق الغد، وغاية الحرب تحقيق السلم، وليست غاية السلم الإعداد للحرب، كما يؤمن المتعطشون للدماء. وترك خط الرجعة مفتوحا، وباب الصلح مفتوحا، هو شأن العقلاء دائما، مهما يستعر أوار الحرب وتشتد نارها.
أنا لست من الحالمين الذين يعتبرون المواعظ حول المشاعر الإنسانية والأخوة بين البشر، تكفي وحدها لتغير المعادلات الإستراتيجية، أو تحرير الأوطان، لكني ممن يؤمنون بأن الضمير الإنساني لم يمت، وأن المقاومة المشروعة تحتاج إلى خطاب ناضج أخلاقيا وسياسيا، وصورة مشرقة تجمع بين الشجاعة والنبل، فتؤثر في العدو قبل الصديق، وتحقق أهدافها بأقل خسارة إنسانية.
كما أؤمن بأن خوض حرب ضد سياسات أميركا أو جيشها المحتل، لا تعني خوضها ضد الشعب الأميركي بأسره، وهو شعب يحمل بين جنبيه كل أنواع التناقضات والمواقف المتباينة. بل إن مقاومة السياسات المتحيزة التي ينتهجها القادة الأميركيون هي التي تقتضي مد يد الصلح والمودة إلى الشعب الأميركي. فهو الحليف الأقوى للمقاومين، والأشد تأثيرا على قادته، لو وصلته رسالة المظلومين الذين يعانون من سياسات قادته.
أما ذبح أسير أميركي في مشهد استعراضي، فهو عمل غير إنساني، وتصرف أخرق، ودعوة صريحة للشعب الأميركي للاصطفاف خلف السياسات العدوانية الخرقاء التي ينتهجها قادته.
يذكر المستشرق اليهودي الفرنسي 'مكسيم رودنسون' في كتابه 'جاذبية الإسلام' أن اسم صلاح الدين الأيوبي، أو Saladin كما ينطقه الفرنسيون، أصبح اسما شائعا في أوربا بعيد الحروب الصليبية. وما ذلك إلا لأن صلاح الدين ملَك قلوب الصليبيين، بشجاعته محاربا، وبنبله إنسانا. فهو القائد الذي قارعهم بالسلاح حتى انهزموا، وهو القائد الذي عامل أسراهم بشهامة وكرامة، وسمح لهم بالخروج إلى مأمنهم وأخذ أموالهم معهم، ثم ضمن الأمن والسلم لمن قرر منهم العيش بين المسلمين في فلسطين والشام. وكذلك فليكن المحارب العربي المسلم في كل زمان ومكان.
لقد شدتني المساعي الحميدة التي قامت بها 'هيئة علماء المسلمين في العراق' من أجل إطلاق سراح الرهائن اليابانيين والفرنسيين وغيرهم، وما صاحب ذلك من لمسة إنسانية، كشفت للعالم نبل الشعب العراقي في وقت تدور فيه رحى مذبحة الفلوجة.
كما تابعت باعتزاز اعترافات مجندة أميركية من ضمن الجنود الذين أسرهم العراقيون بداية الغزو، وإقرارها على شاشة قناة (سي أن أن) بأن العراقيين عاملوها بكل رقة وعطف، وهي التي جاءت لاكتساح بلدهم واستعباد شعبهم. ثم عبرت المجندة الأميركية عن اشمئزازها من معاملة الأميركيين للمعتقلين العراقيين في سجن أبوغريب.
وأتمنى أن يكشف الذين يقاومون سطوة الاحتلال والعدوان من العرب والمسلمين في كل مكان عن المزيد من رسائل العدل والنبل الإسلامي، وأن يفهموا دلالة الصورة ومغزاها في عالم الإعلام والمعلومات الذي نعيشه اليوم، شعارهم في ذلك: 'والله لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه'.
لقد خسرت الحكومات الأميركية الشعوب العربية والإسلامية، بإصرارها على الوقوف إلى جنب الظالم ومظاهرته، سواء كان ذلك الظالم هو الجندي الإسرائيلي الذي يحتل الأرض، أو القائد العربي الذي يستعبد الشعب. وأخيرا قطعت القيادة الأميركية الحالية شوطا أبعد، فتجاوزت مظاهرة المحتل والمستبد إلى ممارسة الاحتلال والاستبداد بشكل مباشر.
لكن الشعوب العربية والإسلامية ليس من مصلحتها أن تخسر الشعب الأميركي، ولا من الحكمة أن تسعى في ذلك. بل من مصلحتها أن تزاوج مقاومة العدوان، بمد يد البر والقسط إلى الشعب الأميركي، والسعي إلى عزل قيادته غير الحكيمة، داخل بلدها وخارجه، وفرض سياسات العدل والحوار والتعايش عليها.
إن واجبنا هو تغيير أميركا لا تدميرها، ومهمتنا أن نكسب الشعب الأميركي لا أن نغلبه، ومصلحتنا دفع الشعب الأميركي إلى الصلح، لا جره إلى الحرب. وإلا فسنتحول إلى حلفاء لقادته المتعطشين للحروب والغزو، من حيث أردنا أن نكبح جماحهم.
فالحكمةَ الحكمةَ أيها المقاومون الشرفاء.. حتى لا نخسر الشعب الأميركي.. فنحن الخاسرون بخسارته.
عزام
حتى لا نخسر الشعب الأميركي
محمد بن مختار الشنقيطي
لا تخلو أعين المتتبعين لأخبار العالم اليوم من صور مروعة، ومشاهد مفزعة. ولنا معاشر العرب والمسلمين النصيب الأوفر والحظ الأكبر من هذه الصور والمشاهد. فمن الإبادة الجماعية في 'سبرنيتشا' في البوسنة منتصف التسعينيات، إلى المذابح الدموية اليومية في فلسطين، إلى استباحة أرض العراقيين وعرضهم، إلى غير ذلك مما تشمئز منه النفوس وتدمى له القلوب.
لكن تعاليم الإسلام وعبرة التاريخ يعلماننا أن الغلبة لا تكتسب بالحقد على الخصم، أو التشفي في الانتقام. وأن عدالة القضية إذا امتزجت بالشجاعة والنبل، هي الطريق الأخصر للغلبة والنصر. أما الحقد فهو سلاح العجزة والضعفاء. وهو غريزة تعمي المحارب، وتسلبه نبل رسالته، ونقاء رايته. فيندفع بدافع الانتقام الأعمى إلى اقتراف أعمال قد تروي غليله، لكنها تسلبه إنسانيته، وتضر قضيته.
أرأيت المجندة الأميركية التي ترفع أصابعها في إشارة النصر على جثة معتقل عراقي عذبته هي وأصحابها حتى الموت؟
أرأيت تلك المجندة الأخرى التي تجر الأسير العراقي برباط كلبها دون أن يرف لها جفن أو تتحرك لها عاطفة؟
أرأيت الجند المبتسمين وهم يحيطون بشيخ أشيب عار، وكلبهم الشرس ينهش لحمه، دون أن يحسوا بأن من يتعاملون معه بشر من لحم ودم؟
تلك أمثلة بليغة على القلوب الجامدة التي تجردت من إنسانيتها، والحقد الأعمى الذي أضر مشروع الاحتلال، وإستراتيجية التدخل، ولم ينفعهما بشيء.
ومن المشاهد التي تركت في نفسي أثرا لا يمَّحي مشهد ذبح الشاب الأميركي الأسير 'نيكولاس بيرغ'، وشخيره المروع والشباب الملثمون يقطعون حلقومه، ثم يرفعون رأسه المفصول عن جسمه أمام الكاميرا مجاهرة ومفاخرة.
لقد ظللت أياما عديدة وأنا أحاول التغلب على هول تلك الصورة، محاولا فهم الدوافع التي جعلت أولئك الشباب يجترحون فعلا كهذا، ويخرجونه في مشهد استعراضي يحير من يحبون المقاومة المشروعة ويحدبون عليها، وينفر من يعادونها ويشككون فيها.
كنت أدرك تماما الشبهات المحيطة بحياة وموت 'نيكولاس بيرغ' فهو شاب يهودي أميركي مغامر، جاء إلى العراق دون غطاء من الجيش الأميركي أو من سلطة الاحتلال، بدوافع غامضة، زادتها المعلومات التي تكشفت بعد موته ريبة واشتباها.
قد تبين أن 'نيكولاس بيرغ' كان في إسرائيل قبيل ذهابه إلى العراق يدرس اللغتين العربية والعبرية، كما تكشف أن شركته التي ادعى تمثيلها في العراق شركة وهمية، فقد صرح مسؤول في ولاية بنسيلفانيا أن لا وجود لتلك الشركة أصلا.
كما أن اعتقال الجيش الأميركي له بسبب 'أعماله المثيرة للريبة' حسب تفسير سلطة الاحتلال، أثارت مزيدا من الشبهات حوله. ولم يكن نعي صحيفة 'الجروسالم بوست' الإسرائيلية له بأعطر الثناء بالذي يعينه أو يعين أسرته في دفع الشبهة عنه.
لكن ما يهمنا هنا ليس تبرئة ذمة نيكولاس بيرغ ولا إدانته، بل النظر إلى عملية ذبحه المروعة في إطار إنساني وسياسي أوسع.
كان 'نيكولاس بيرغ' –رغم كل ما أحاط بحياته وموته من شبهات- بشرا من لحم ودم، وكان له أب حنون، يكره الحرب ضد العراق وينشط في سبيل وقفها. وقد رفض أبوه أن يساهم في الحملة الإعلامية ضد العرب والمسلمين التي تلت ذبح ابنه، والتي تزعمتها بعض وسائل الإعلام الأميركية، وبعض القادة الأميركيين، وتم فيها وصف العرب والمسلمين لعدة أيام بأنهم 'برابرة' و'متوحشون' و'أعداء للحضارة والإنسانية'. بل إن والد 'بيرغ' وقف في وجه التيار، فأعلن بحق وصدق 'إن بوش ورمسفيلد هما المسؤولان عن مقتل ولدي'. وهو ما يدل على صلابة الوالد المفجوع، وقوة موقفه من العدوان على العراق.
ولم يكن ذبح 'نيكولاس بيرغ' بتلك الطريقة الاستعراضية فاجعة لوالده الشجاع فحسب، بل كان أيضا حماقة سياسية، غطت على جرائم الاحتلال في سجن أبوغريب، وقد كانت الشغل الشاغل للإعلام والرأي العام الأميركي يومها. فوجد أمراء الحرب في واشنطن من يرفع عنهم الحرج، ويخفف عنهم العار، حينما ظهرت صورة 'بيرغ' المسكين وهو يتشحط في دمه، أثناء فضيحة سجن أبوغريب. وسرعان ما التقط أمراء الحرب الصورة بغبطة، وقدموها إلى الرأي العام الساخط قائلين: 'انظروا.. هؤلاء هم نوع البشر الذين نتعامل معهم في العراق.. فنحن لم نفعل لهم في أبوغريب أكثر مما يستحقون'.
فهل يدرك الذين ذبحوا 'نيكولاس بيرغ' أي خدمة جليلة قدموا للاحتلال؟ وهل يدركون أنهم أنقذوا قادة الحرب في واشنطن من فضيحة كادت تهد عروشهم؟! وهل يدركون أنهم قدموا مبررا أخلاقيا لفظائع سجن أبوغريب التي كان من الممكن أن تقضي على مشروع الاحتلال برمته لو تم تقديمها إلى الرأي العام الأميركي غير مشوبة بشائبة ذبح أسير أميركي؟!
لقد لخص الأستاذ فهمي هويدي ببلاغة نقص الخبرة السياسية والإعلامية لدى بعض الجماعات المجاهدة، وذلك في عنوان كتابه 'طالبان.. جند الله في المعركة الخطأ'.
فالشق الأول من عنوان الكتاب 'جند الله' يعترف لطالبان بصدق المشاعر الإيمانية وعمق الحماس الإسلامي، لكن الشق الثاني منه يبين أن ذلك الحماس غير متسلح بسلاح الخبرة بالجبهة وتضاريسها، والمعركة وأبعادها، وأنه حماس يغفل أهمية الكلمة والصورة، وهما اليوم أشد فتكا ومضاء من الطائرات والدبابات.
وما يجعل كتاب الأستاذ فهمي هويدي ذا مصداقية أكثر من غيره، هو أنه صدر قبل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وقبل أن يصبح التهجم على طالبان موضة مبتذلة، يتبناها الجميع بدوافع وغايات شتى.
لقد نجح القس المسيحي الأسود 'مارتن لوثر كينغ' في التأثير على الضمير الأميركي مطلع الستينيات، فقضى على التمييز العنصري في القوانين والإدارة الأميركية دون ثمن يذكر من الدماء والأموال، وذلك بفضل رجاحة عقله، ورحابة خطابه، وقوة حجته. بينما فشل الكاتب المسلم الأسود 'مالكوم أكس' في ذلك، رغم بلاغة لسانه، وحماسه المتأجج.
والسبب هو أن 'كينغ' لم يقدم نضاله من أجل العدل والحرية في شكل صراع بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود. بل قدمه خطابا إنسانيا يهدف إلى تحرير السود، دون انتقام من البيض، وإنصاف المظلومين دون حقد على الظالمين.
وفي خطابه 'لدي حلم I have a Dream ' الذي أصبح قطعة أدبية نادرة ووثيقة تاريخية ثمينة، بين 'كينغ' لأتباعه أن سيرهم إلى العدل يجب أن لا يتلطخ بارتكاب أي ظلم 'فلا يجوز أن نطفئ ظمأنا للحرية بتجرع كأس الحقد والكراهية' حسب تعبيره. وسرعان ما التف الشعب الأميركي بيضا وسودا حول القس الأسود، وحملوا رايته، فلم يجد المتشبثون بالقوانين العنصرية بدا من الإذعان لهزة أخلاقية وسياسية مست شغاف القلوب في كل مكان.
أما الكاتب المسلم الأسود 'مالكوم أكس' فقد صاغ خطابه صياغة إقصائية حدية، وقدم جهده لتحرير السود الأميركيين من العنصرية تقديما مبتورا، في شكل صراع أبدي بين البيض والسود لا مجال فيه للصلح، ولا أمل في الحل. ورفض قبول العون من البيض الشرفاء الذين يرفضون التمييز العنصري ضد السود. فانتهى وانتهت معه دعوته دون أن تحقق شيئا.
والعبرة التاريخية من كل ذلك هي أن الخطاب السياسي –حتى في ساعة الحرب– يجب أن يحافظ على مسحة إنسانية، فعدو اليوم صديق الغد، وغاية الحرب تحقيق السلم، وليست غاية السلم الإعداد للحرب، كما يؤمن المتعطشون للدماء. وترك خط الرجعة مفتوحا، وباب الصلح مفتوحا، هو شأن العقلاء دائما، مهما يستعر أوار الحرب وتشتد نارها.
أنا لست من الحالمين الذين يعتبرون المواعظ حول المشاعر الإنسانية والأخوة بين البشر، تكفي وحدها لتغير المعادلات الإستراتيجية، أو تحرير الأوطان، لكني ممن يؤمنون بأن الضمير الإنساني لم يمت، وأن المقاومة المشروعة تحتاج إلى خطاب ناضج أخلاقيا وسياسيا، وصورة مشرقة تجمع بين الشجاعة والنبل، فتؤثر في العدو قبل الصديق، وتحقق أهدافها بأقل خسارة إنسانية.
كما أؤمن بأن خوض حرب ضد سياسات أميركا أو جيشها المحتل، لا تعني خوضها ضد الشعب الأميركي بأسره، وهو شعب يحمل بين جنبيه كل أنواع التناقضات والمواقف المتباينة. بل إن مقاومة السياسات المتحيزة التي ينتهجها القادة الأميركيون هي التي تقتضي مد يد الصلح والمودة إلى الشعب الأميركي. فهو الحليف الأقوى للمقاومين، والأشد تأثيرا على قادته، لو وصلته رسالة المظلومين الذين يعانون من سياسات قادته.
أما ذبح أسير أميركي في مشهد استعراضي، فهو عمل غير إنساني، وتصرف أخرق، ودعوة صريحة للشعب الأميركي للاصطفاف خلف السياسات العدوانية الخرقاء التي ينتهجها قادته.
يذكر المستشرق اليهودي الفرنسي 'مكسيم رودنسون' في كتابه 'جاذبية الإسلام' أن اسم صلاح الدين الأيوبي، أو Saladin كما ينطقه الفرنسيون، أصبح اسما شائعا في أوربا بعيد الحروب الصليبية. وما ذلك إلا لأن صلاح الدين ملَك قلوب الصليبيين، بشجاعته محاربا، وبنبله إنسانا. فهو القائد الذي قارعهم بالسلاح حتى انهزموا، وهو القائد الذي عامل أسراهم بشهامة وكرامة، وسمح لهم بالخروج إلى مأمنهم وأخذ أموالهم معهم، ثم ضمن الأمن والسلم لمن قرر منهم العيش بين المسلمين في فلسطين والشام. وكذلك فليكن المحارب العربي المسلم في كل زمان ومكان.
لقد شدتني المساعي الحميدة التي قامت بها 'هيئة علماء المسلمين في العراق' من أجل إطلاق سراح الرهائن اليابانيين والفرنسيين وغيرهم، وما صاحب ذلك من لمسة إنسانية، كشفت للعالم نبل الشعب العراقي في وقت تدور فيه رحى مذبحة الفلوجة.
كما تابعت باعتزاز اعترافات مجندة أميركية من ضمن الجنود الذين أسرهم العراقيون بداية الغزو، وإقرارها على شاشة قناة (سي أن أن) بأن العراقيين عاملوها بكل رقة وعطف، وهي التي جاءت لاكتساح بلدهم واستعباد شعبهم. ثم عبرت المجندة الأميركية عن اشمئزازها من معاملة الأميركيين للمعتقلين العراقيين في سجن أبوغريب.
وأتمنى أن يكشف الذين يقاومون سطوة الاحتلال والعدوان من العرب والمسلمين في كل مكان عن المزيد من رسائل العدل والنبل الإسلامي، وأن يفهموا دلالة الصورة ومغزاها في عالم الإعلام والمعلومات الذي نعيشه اليوم، شعارهم في ذلك: 'والله لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه'.
لقد خسرت الحكومات الأميركية الشعوب العربية والإسلامية، بإصرارها على الوقوف إلى جنب الظالم ومظاهرته، سواء كان ذلك الظالم هو الجندي الإسرائيلي الذي يحتل الأرض، أو القائد العربي الذي يستعبد الشعب. وأخيرا قطعت القيادة الأميركية الحالية شوطا أبعد، فتجاوزت مظاهرة المحتل والمستبد إلى ممارسة الاحتلال والاستبداد بشكل مباشر.
لكن الشعوب العربية والإسلامية ليس من مصلحتها أن تخسر الشعب الأميركي، ولا من الحكمة أن تسعى في ذلك. بل من مصلحتها أن تزاوج مقاومة العدوان، بمد يد البر والقسط إلى الشعب الأميركي، والسعي إلى عزل قيادته غير الحكيمة، داخل بلدها وخارجه، وفرض سياسات العدل والحوار والتعايش عليها.
إن واجبنا هو تغيير أميركا لا تدميرها، ومهمتنا أن نكسب الشعب الأميركي لا أن نغلبه، ومصلحتنا دفع الشعب الأميركي إلى الصلح، لا جره إلى الحرب. وإلا فسنتحول إلى حلفاء لقادته المتعطشين للحروب والغزو، من حيث أردنا أن نكبح جماحهم.
فالحكمةَ الحكمةَ أيها المقاومون الشرفاء.. حتى لا نخسر الشعب الأميركي.. فنحن الخاسرون بخسارته.