محمد عبد المجيد
03-03-2008, 09:07 PM
أوسلو في 8 يوليو 2005
في فيلم ( الصعاليك ) الذي أخرجَه داود عبد السيد عام 1984 كان الصعلوكان يعرفان تماما أنهما،أخلاقيا وفكريا وروحيا، من قاع المجتمع، لكن قناعةً مشتركةً جمعتهما وهي أن معاييرَ الحُكم لدىَ كلّ فئات المجتمع يمكن أن تتغير حالما تغيرّ المظهرُ الخارجي ولو ظل الباطنُ مُفرَّغا من كل القيم السامية.
بل إن غالبية أفراد المجتمع يمكن في غفلة من الزمان أن تنحاز للصعلوك، ويتبارى أكبر المحامين للدفاع عنه، ويؤكد الفقراءُ الذين أكل قوتَ أولادهم أنه بنى مسجدا في القرية وحج البيتَ الحرامَ سبع مرات، وأنه يقيم موائدَ الرحمن طوال شهر رمضان المعظم.
في فيلم ( الطوفان ) الذي أخرجه بشير الديك عام 1986 قالت الأم قبل أن يضع لها أولادُها السُمّ في الدواء، وهي تُجَسّد صورةَ مصرَ في هذا العمل المُبدع الحزين، وتُوَجّه حديثَها لزوج ابنتها ممثل الشيطان في المجتمع والذي طلب منها شهادةَ زور ثم يتبرع بعدها للفقراء: حتى الله تعالى تريد أن تقدم له رشوة!
عالم الإنترنت لو خرج مارد مصباح علاء الدين ورآه لخرّ راكعا، وسلّمَ بعجزه أن يأت بمثله أو أقل، ولو بعث اللهُ عالِماً موسوعيا من برزخه وقام بزيارة خاطفة لعالَمِنا، وشاهد الإنترنت لأول مرة فسيسقط مغشيا عليه مع عفريت مصباح علاء الدين.
أتى على الإنسان حينٌ من الدهر كان العالِمُ والمثقفُ والأكاديمي والمتخصص والفقيه والأديب والروائي يقف أيّ منهم أمام مُريديه أو تلاميذه في معادلة عادلة بين التلميذ وأستاذه، وتقوم أحيانا علاقةٌ خاصةٌ ودافئةٌ تمنح التعلمَ روحاً لا تجدها في مكانٍ آخر، أعني لاحقا في هذه الشاشة الصغيرة العجيبة التي تقترب منها أرنبةُ أنفك، وتشاهد عيناك فلاتصدق أذناك ما سمعَتْه، أو يستوعبها عقلُك ولو صَغُرت بجانبه كلُّ محتويات الموسوعة البريطانية!
فقد جاء الإنترنت ليُساوي بين الجميع، العالم والجاهل، المثقف والأمي، المتحضر والمتخلف، النزيه والوضيع، الشريف واللص، ووضَعَهم جميعا في شبكته العنكبوتية التي تربط كلَ سكان الكرة الأرضية وتركهم يتحاورون، ويتبادلون الأفكار، ويتصارعون على ملكية الحق، ويستخرجون من صدورهم أغلالا من الكبت الماضي أو إضاءات مشرقة من نفوس عالية ومتسامحة.
الآن سقطت الحواجز، ولن يرتبك الجاهلُ أمام العالم، بل يستطيع أن ينقل نصّا أو فقرة أو جملة من موضوع آخر، ويلصقها كأحد اللصوص المبتدعين ثم يحاور إن أراد روح آينشتين في النسبية، أو ينتقد هاملت لشكسبير، أو يقلل من شأن قصة الحضارة لول ديورانت، أو يرد من صحيفة صهيونية رخيصة على الدكتور عبد الوهاب المسيري.
ومع ذلك فهذه ليست الكارثة، إنما هي انضمام جماعة الصعاليك إلى الجاهل، وتأييدهم إياه، وتصفيقهم حتى تدمي أيديهم، بل لو اراد أكبر روائي أو فيلسوف أو عالم أو سياسي أن يدخل على أحد المنتديات باسم مستعار ويعرض أفكاره، فإن واحدا من الصعاليك قادر أن يُرْديه أرضاً، ويصارعه جهلاً بعلم، ويأتي له من نفايات الكتابات الأخرى أو عفن الصدأ الفكري المتراكم في نفسه حججا وأدلة وقرائن على غلبة الصعلوك، وسط ضحكات وقهقهات لا تسمعها عبر الشاشة الصغيرة لكنها تخترق قفصك الصدري فتهتز لها نفسك كأن زلزالا مدمرا أيقظك من حُلم أو وَهْمِ قناعاتك بكل ما تعلمته.
كان لي مقال تحت عنوان ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك ) تمت سرقته ثلاث مرات من ثلاثة أشخاص مختلفين، وأخرجتْ الوقاحةُ لي لسانها، فكتب السارقُ اسمَه على المقال وتلقى الردود دون أن يطرف له جفن.
كتبتُ في أحد المنتديات في واحدة من مداخلاتي لحث العقل على استرجاع مهابته بأن الإمام البخاري قد يُخطيء، وأنه أختار عدة آلاف حديث شريف من مئات الآلاف، فرد عليّ أحدُهم مستخدما المنطقَ الجديدَ المخاصِم للعقل تماما وقال: إنني أشكك في البخاري، وهذا يعني أنني لا أعترف بأصح كتاب بعد كتاب الله العزيز، وبالتالي فأنا أنكر الأحاديث النبوية وهذا يعني أنني أسب النبي، صلوات الله وسلامه عليه!
أنظر إلى هذا التسلل الخارج من أعمق نقطة نتنة في العقل البشري وهي المسؤولة عن التكفير والكراهية وصناعة المفخخات ومحاربة منطق تسلسل الفهم.
ماذا كانت النتيجة؟
تهافت الصعاليك على كبيرهم مهنئين انتصاره على المعادين للدين، وانضمت إدارةُ المنتدى للفكر الفج، ورفض الصعاليك في أوج نشوتهم شروحاتي وتعليقاتي، وفي لمح البصر أو أقل كان تاريخي كله قد تم مسحه، وأختفت بين اقدامهم خمسة وأربعون سنة من القراءة ومحاولات التعلم واصدار مجلة مضى عليها اليوم أكثر من عمر كل منهم وسبعة كتب وإذاعة عربية وخبرات لأكثر من ثلاثة عقود في أوروبا ....
لكنهم أيضا لم يكتفوا بالكذب والبهتان وشهادات الزور واستخدام تعابير سوقية وألفاظ نَحَتَ الصَدأُ فيها أسماءَهم، إنما قرروا عقدَ محاكمة تماما كما يعقد الطاغيةُ محاكمَ التفتيش مستخدِما الدينَ غطاءً فوق دماءٍ سالت على سيف مسرور.
وكانت النتيجةُ محسومةً سلفاً، بل رفض كثيرون منهم قراءةَ كتاباتي ومقالاتي لعلهم يكتشفون إفكَ كبيرهم، فالقراءةُ والمتابعة والأمانة العقلية تتناقض تماما مع فكر الصعاليك، وهم يخشون الدخولَ إلى عالم المعرفة، ويكفي الإتيانُ ببعض النصوص القديمة حتى لو لم يكن بينها وبين الموضوع شعرة ربط واحدة، ويتكالبون عليها كأنها مائدة مفتوحة أمام جوعى أشرفوا على الهلاك، ويستخرجون أحكام الإعدام على القلم.
وفي منتدى آخر يصول ويجول شبيبة جمال مبارك الذين دفع بعشرات منهم إلى النت كخط دفاع أخير عن الاستبداد، وهؤلاء ببغاوات ملقّنَة ومبرّمَجة ومشحونة من قاع المجتمع بأكثر الألفاظ وطرق الحوارات سفالة وبذاءة، هاج كبيرهم بعد نشر وحذف مقالين لي: (حوار بين حمار وزعيم عربي) و (رسالة غاضبة من الرئيس مبارك للمصريين: كرامتكم تحت حذائي)، وهو رجل أمن مدرَب تدريباً خاصا كمبيوتريا في مكاتب أمين لجنة السياسات فقد استنهض الصعاليكَ عندما كتب بأنني سببت وشتمت الشعب المصري.
أنظر مرة أخرى إلى نفس الطرق التي أشار إليها مالك بن نبي في ( الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة)، أي اطلاق الشائعة، ثم يتلقفها آخرون مبرمجون على توزيعها، ثم تراها أعين وتسمع آذان الضعفاء والبسطاء فلا تخرج بعد ذلك ولو أتيت لها بخفافيش الأرض والطبلة الصارخة لجونتر جراس.
كان المقال تخيلا وطنيا عاشقا لبلده عن صورة الشعب في ذهن المستبد والطاغية عندما يقول لهم دون أن يسمعوه: كرامتكم تحت حذائي.
المصادفة الغريبة أن مقالي الأول في هذا الموضوع في طائر الشمال كان عام 1985 تحت عنوان ( كرامتنا يا فخامة الرئيس! )
مَنْ تابَع كتابات الصعاليك يظن أنهم في ساحة الوغى يدافعون عن الوطن باسم الدفاع عن الرئيس مبارك الذي أعاد الكرامة للمصريين وعن سيد القصر الجديد الشاب جمال مبارك أملهم في مستقبل مشرق.
ماذا كانت النتيجة؟
انحازت الإدارة كعادة معظم مشرفي المواقع والمنتديات إلى الاستبداد وأجهزة الأمن وتركت الطغاةَ الصغارَ يتاجرون باسم الوطن، ويدافعون عن حبس شعب بكامله، ويلوثون أقلامهم بمداد من الكذب، لكنهم في النهاية منتصرون، وانسحب الأشرافُ من الساحة، وتم لصقُ كل تهم العمالة والخيانة والقبض بصاحب هذه السطور، فالمحاكمة تجري كنسخة إلكترونية من تحقيق ضابط أمن في قسم شرطة مع متهم بمناهضة الحكم، يهوي خلفه كفٌ غليظ لمخبر جلف.
منذ سنوات وفي فناء الجامعة تقدم طالب فيها من أستاذه الدكتور فرج فودة ( رحمه الله) وخاطبه قالا: أيها الجاهل!
في الماسينجر دخل أحدهم عليّ وقدّم نفسَه بأنه من أحد المنتديات وهو طالب في كلية الطب ولم يبلغ العشرين من عمره وخاطبني قائلا: أيها الجاهل، كيف تنكر أن الحورَ العين لا ينادين على الشهيد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقلن له: أقبل .. أقبل؟ عليك أن تعتذر للمسلمين على هذا الكفر!
أتخيل الإمام محمد عبده الذي قام أزهريون بتكفيره في يوم من الأيام على فكره المستنير وقد عاد إلى دنيانا، وجلس أمام الكمبيوتر، وكتب في مواقع ومنتديات بعض أفكاره، ترى من سيرُدّ عليه؟
إنهم نفس الصعاليك، وأغلب الظن أنهم سينتصرون، وربما يتم طرد الاستاذ الإمام من أكثر المنتديات، وسيصفق مشرفو المنتديات وسط تهليل الغوغاء من عاشقي الكي بورد!
أتخيل أستاذنا نجيب محفوظ وقد أعطاه الله الصحة وأعاده ثلاثين عاما إلى الوراء، وقد فعل نفس الشئ، ونشر مقتطفات من رواياته باسم مستعار.
سيلتف حولها صعاليك من كل مكان، وربما لا يستطيع بعضهم كتابة فقرة واحدة سليمة، وسيستخرجون من أعمال الروائي الكبير أفكارا في الالحاد وتشكيكا في الوطنية وربما يتهمه البعض بأنه لا يصلح لكتابة رواية صغيرة يقرأها أميون.
وسينتصر الصعاليك نصرا صاعقا على ملك الرواية العربية.
يجلس الصعاليكُ أمام النت ساعاتٍ طويلةً يديرون معاركَ دون كيخوت، ويتخفون وراء أسماء ورموز وطنية ودينية، ويتسابقون لادارة الصراع ويعرفون بعضهم ولو كان بين الواحد والآخر نصف قطر الكرة الأرضية، وفي لسان كل منهم قاموس لمصطلحات الابتزاز العاطفي والديني والوطني تم استخراج مفرداته من أقوال ومأثورات وبعض الحِكَم وعناوين إكليشيهات جاهزة وتلك تمثل حقائق منطقية يحارب صاحبنا العالم كله من أجلها، وتصبح جزءا من هويته بديلا عن الاجتهاد والعقل.
كل الأنظمة المستبدة والديكتاتوريات وأسياد القصور والطغاة وشيوخ التجمد وأجهزة الأمن وملوك الفتاوى الفضائية وضيوف برامج التخدير الجماعي لهم صعاليكهم على النت، وهم كالجراد يهاجم دون تمييز، وينتقلون من حقل إلى آخر كأنهم غزاة همج تنعشهم راحة الموت.
صعاليك الإنترنيت قساة وغلاظة وأغبياء، لكنهم متماسكون فإذا هاجم أحدهم فكرا مستنيرا أو اجتهادا أو رؤية عصيّة على فهمه، فإن الآخرين يسنّون رماحهم ويدخلون المعركة ولو كان أكثرهم يغرقون في وحل الأمية والجهل والتخلف العقلي.
إنهم يشبهون العبقري الذي صمم اعلانا في قلب القاهرة يقول: الجنين في بطن أُمّه يلفظ اسمَ مبارك!
كتب لي أحدُ الصعاليك قائلا: نحن نعيش في ليبيا أجمل وأبهى وأعظم لحظات التاريخ. إننا في جنة لا يعرف عنها العالم شيئا، ولا نستطيع أن نعيش بدون الأخ القائد!
قالت لي احداهن في الفترة الأولى للدعوة للعصيان المدني: لماذا لا تقوم بزيارة مصر، وتأتي مطار القاهرة الدولي رافعا راية الإسلام، وعندئذ سيلتف حولك المسلمون ونقيم الخلافة في العالم كله؟
منذ خمس عشرة سنة نشر الدكتور سعد الدين ابراهيم مقالا عن زيارته لصديق له ابنة جامعية بدأت في خطوات التخدير الديني إياه، فمازحها الضيف قائلا: ربما تجدين الآن أن لا فائدة من العلم والدراسة؟ قالت بنبرة جدية: نعم، فقد قررت فعلا ترك كلية الهندسة والانضمام لأحبابنا في الله نتدارس الفقه وابن تيمية، فدراسة الهندسة ليست الطريق إلى الجنة!
الإنترنت وهو أعظم وأرقى اختراع أنجبه العقل البشري منذ بدء الخليقة منح الفرصةَ للجميع على قدم المساواة، لكن للأسف الشديد لم يستطع أن يفرق بين الغث والسمين، وبين الشر والخير، وبين الألوان كلها، وفي ملايين من المواقع في العالم تَسَيّد الصعاليكُ ساحةَ العلم والتكنولوجيا وأقاموا امبراطوريات لنفايات الفكر والعفن من الجنس إلى التفاهة، ومن تلميع الديكتاتوريات إلى تأهيل السَجّانين، ومن سرقة المِلْكيات الفكرية إلى صناعة الشباب المفخخ ارهابيا أو المغيّب دينيا أو المخاصم للثقافة أو المنحط أخلاقيا.
غضب مني أحدهم لأنني كتبت بأن الدين حالة من الوعي والتمرد والحرية والاجتهاد العقلي ومقاومة الاستبداد والدفاع عن حقوق الآخرين، وأعتبر كتاباتي خارجة من سَقْطِ الجهل، فالدين هو الاستجابة لعلوم فقهائنا وعلمائنا في القرون الثلاثة الأولى للهجرة.
لو جاء إلى عالمنا غاندي وسقراط وأرسطو وبوذا وابن رشد وديكارت وابن سينا ولينين وأحمد بن حنبل ووليم جيمس والعقاد وجان زيجلر والفارابي وعبد الله القصيمي ونيتشة وابن خلدون وجوستاف لوبون ومالك بن نبي وصمم لهم مايكل أنجلو موقعا على الانترنيت، وافتتحوا فيه منتديات في كل فروع العلم فإن الصعاليكَ قادرون على هزيمتهم جميعا كل في موقعه وتخصصه، بل ربما تقرر إدارات منتديات كثيرة منع هؤلاء من الكتابة لأنها ترى تدني مستوياتهم الفكرية والعلمية والأدبية والثقافية، وسيكتب المشرف على أحد المنتديات أنه ألغى اشتراك هؤلاء الأعضاء لأنهم يخوضون في التفاهة وصغائر الأمور وأن موضوعاتهم وقضاياهم ليست بالمستوى المطلوب!
ولكن إلى من سينحاز مرتادو المنتديات وأعضاؤها؟
هل يسعفني أحَدٌ بالاجابة؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
في فيلم ( الصعاليك ) الذي أخرجَه داود عبد السيد عام 1984 كان الصعلوكان يعرفان تماما أنهما،أخلاقيا وفكريا وروحيا، من قاع المجتمع، لكن قناعةً مشتركةً جمعتهما وهي أن معاييرَ الحُكم لدىَ كلّ فئات المجتمع يمكن أن تتغير حالما تغيرّ المظهرُ الخارجي ولو ظل الباطنُ مُفرَّغا من كل القيم السامية.
بل إن غالبية أفراد المجتمع يمكن في غفلة من الزمان أن تنحاز للصعلوك، ويتبارى أكبر المحامين للدفاع عنه، ويؤكد الفقراءُ الذين أكل قوتَ أولادهم أنه بنى مسجدا في القرية وحج البيتَ الحرامَ سبع مرات، وأنه يقيم موائدَ الرحمن طوال شهر رمضان المعظم.
في فيلم ( الطوفان ) الذي أخرجه بشير الديك عام 1986 قالت الأم قبل أن يضع لها أولادُها السُمّ في الدواء، وهي تُجَسّد صورةَ مصرَ في هذا العمل المُبدع الحزين، وتُوَجّه حديثَها لزوج ابنتها ممثل الشيطان في المجتمع والذي طلب منها شهادةَ زور ثم يتبرع بعدها للفقراء: حتى الله تعالى تريد أن تقدم له رشوة!
عالم الإنترنت لو خرج مارد مصباح علاء الدين ورآه لخرّ راكعا، وسلّمَ بعجزه أن يأت بمثله أو أقل، ولو بعث اللهُ عالِماً موسوعيا من برزخه وقام بزيارة خاطفة لعالَمِنا، وشاهد الإنترنت لأول مرة فسيسقط مغشيا عليه مع عفريت مصباح علاء الدين.
أتى على الإنسان حينٌ من الدهر كان العالِمُ والمثقفُ والأكاديمي والمتخصص والفقيه والأديب والروائي يقف أيّ منهم أمام مُريديه أو تلاميذه في معادلة عادلة بين التلميذ وأستاذه، وتقوم أحيانا علاقةٌ خاصةٌ ودافئةٌ تمنح التعلمَ روحاً لا تجدها في مكانٍ آخر، أعني لاحقا في هذه الشاشة الصغيرة العجيبة التي تقترب منها أرنبةُ أنفك، وتشاهد عيناك فلاتصدق أذناك ما سمعَتْه، أو يستوعبها عقلُك ولو صَغُرت بجانبه كلُّ محتويات الموسوعة البريطانية!
فقد جاء الإنترنت ليُساوي بين الجميع، العالم والجاهل، المثقف والأمي، المتحضر والمتخلف، النزيه والوضيع، الشريف واللص، ووضَعَهم جميعا في شبكته العنكبوتية التي تربط كلَ سكان الكرة الأرضية وتركهم يتحاورون، ويتبادلون الأفكار، ويتصارعون على ملكية الحق، ويستخرجون من صدورهم أغلالا من الكبت الماضي أو إضاءات مشرقة من نفوس عالية ومتسامحة.
الآن سقطت الحواجز، ولن يرتبك الجاهلُ أمام العالم، بل يستطيع أن ينقل نصّا أو فقرة أو جملة من موضوع آخر، ويلصقها كأحد اللصوص المبتدعين ثم يحاور إن أراد روح آينشتين في النسبية، أو ينتقد هاملت لشكسبير، أو يقلل من شأن قصة الحضارة لول ديورانت، أو يرد من صحيفة صهيونية رخيصة على الدكتور عبد الوهاب المسيري.
ومع ذلك فهذه ليست الكارثة، إنما هي انضمام جماعة الصعاليك إلى الجاهل، وتأييدهم إياه، وتصفيقهم حتى تدمي أيديهم، بل لو اراد أكبر روائي أو فيلسوف أو عالم أو سياسي أن يدخل على أحد المنتديات باسم مستعار ويعرض أفكاره، فإن واحدا من الصعاليك قادر أن يُرْديه أرضاً، ويصارعه جهلاً بعلم، ويأتي له من نفايات الكتابات الأخرى أو عفن الصدأ الفكري المتراكم في نفسه حججا وأدلة وقرائن على غلبة الصعلوك، وسط ضحكات وقهقهات لا تسمعها عبر الشاشة الصغيرة لكنها تخترق قفصك الصدري فتهتز لها نفسك كأن زلزالا مدمرا أيقظك من حُلم أو وَهْمِ قناعاتك بكل ما تعلمته.
كان لي مقال تحت عنوان ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك ) تمت سرقته ثلاث مرات من ثلاثة أشخاص مختلفين، وأخرجتْ الوقاحةُ لي لسانها، فكتب السارقُ اسمَه على المقال وتلقى الردود دون أن يطرف له جفن.
كتبتُ في أحد المنتديات في واحدة من مداخلاتي لحث العقل على استرجاع مهابته بأن الإمام البخاري قد يُخطيء، وأنه أختار عدة آلاف حديث شريف من مئات الآلاف، فرد عليّ أحدُهم مستخدما المنطقَ الجديدَ المخاصِم للعقل تماما وقال: إنني أشكك في البخاري، وهذا يعني أنني لا أعترف بأصح كتاب بعد كتاب الله العزيز، وبالتالي فأنا أنكر الأحاديث النبوية وهذا يعني أنني أسب النبي، صلوات الله وسلامه عليه!
أنظر إلى هذا التسلل الخارج من أعمق نقطة نتنة في العقل البشري وهي المسؤولة عن التكفير والكراهية وصناعة المفخخات ومحاربة منطق تسلسل الفهم.
ماذا كانت النتيجة؟
تهافت الصعاليك على كبيرهم مهنئين انتصاره على المعادين للدين، وانضمت إدارةُ المنتدى للفكر الفج، ورفض الصعاليك في أوج نشوتهم شروحاتي وتعليقاتي، وفي لمح البصر أو أقل كان تاريخي كله قد تم مسحه، وأختفت بين اقدامهم خمسة وأربعون سنة من القراءة ومحاولات التعلم واصدار مجلة مضى عليها اليوم أكثر من عمر كل منهم وسبعة كتب وإذاعة عربية وخبرات لأكثر من ثلاثة عقود في أوروبا ....
لكنهم أيضا لم يكتفوا بالكذب والبهتان وشهادات الزور واستخدام تعابير سوقية وألفاظ نَحَتَ الصَدأُ فيها أسماءَهم، إنما قرروا عقدَ محاكمة تماما كما يعقد الطاغيةُ محاكمَ التفتيش مستخدِما الدينَ غطاءً فوق دماءٍ سالت على سيف مسرور.
وكانت النتيجةُ محسومةً سلفاً، بل رفض كثيرون منهم قراءةَ كتاباتي ومقالاتي لعلهم يكتشفون إفكَ كبيرهم، فالقراءةُ والمتابعة والأمانة العقلية تتناقض تماما مع فكر الصعاليك، وهم يخشون الدخولَ إلى عالم المعرفة، ويكفي الإتيانُ ببعض النصوص القديمة حتى لو لم يكن بينها وبين الموضوع شعرة ربط واحدة، ويتكالبون عليها كأنها مائدة مفتوحة أمام جوعى أشرفوا على الهلاك، ويستخرجون أحكام الإعدام على القلم.
وفي منتدى آخر يصول ويجول شبيبة جمال مبارك الذين دفع بعشرات منهم إلى النت كخط دفاع أخير عن الاستبداد، وهؤلاء ببغاوات ملقّنَة ومبرّمَجة ومشحونة من قاع المجتمع بأكثر الألفاظ وطرق الحوارات سفالة وبذاءة، هاج كبيرهم بعد نشر وحذف مقالين لي: (حوار بين حمار وزعيم عربي) و (رسالة غاضبة من الرئيس مبارك للمصريين: كرامتكم تحت حذائي)، وهو رجل أمن مدرَب تدريباً خاصا كمبيوتريا في مكاتب أمين لجنة السياسات فقد استنهض الصعاليكَ عندما كتب بأنني سببت وشتمت الشعب المصري.
أنظر مرة أخرى إلى نفس الطرق التي أشار إليها مالك بن نبي في ( الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة)، أي اطلاق الشائعة، ثم يتلقفها آخرون مبرمجون على توزيعها، ثم تراها أعين وتسمع آذان الضعفاء والبسطاء فلا تخرج بعد ذلك ولو أتيت لها بخفافيش الأرض والطبلة الصارخة لجونتر جراس.
كان المقال تخيلا وطنيا عاشقا لبلده عن صورة الشعب في ذهن المستبد والطاغية عندما يقول لهم دون أن يسمعوه: كرامتكم تحت حذائي.
المصادفة الغريبة أن مقالي الأول في هذا الموضوع في طائر الشمال كان عام 1985 تحت عنوان ( كرامتنا يا فخامة الرئيس! )
مَنْ تابَع كتابات الصعاليك يظن أنهم في ساحة الوغى يدافعون عن الوطن باسم الدفاع عن الرئيس مبارك الذي أعاد الكرامة للمصريين وعن سيد القصر الجديد الشاب جمال مبارك أملهم في مستقبل مشرق.
ماذا كانت النتيجة؟
انحازت الإدارة كعادة معظم مشرفي المواقع والمنتديات إلى الاستبداد وأجهزة الأمن وتركت الطغاةَ الصغارَ يتاجرون باسم الوطن، ويدافعون عن حبس شعب بكامله، ويلوثون أقلامهم بمداد من الكذب، لكنهم في النهاية منتصرون، وانسحب الأشرافُ من الساحة، وتم لصقُ كل تهم العمالة والخيانة والقبض بصاحب هذه السطور، فالمحاكمة تجري كنسخة إلكترونية من تحقيق ضابط أمن في قسم شرطة مع متهم بمناهضة الحكم، يهوي خلفه كفٌ غليظ لمخبر جلف.
منذ سنوات وفي فناء الجامعة تقدم طالب فيها من أستاذه الدكتور فرج فودة ( رحمه الله) وخاطبه قالا: أيها الجاهل!
في الماسينجر دخل أحدهم عليّ وقدّم نفسَه بأنه من أحد المنتديات وهو طالب في كلية الطب ولم يبلغ العشرين من عمره وخاطبني قائلا: أيها الجاهل، كيف تنكر أن الحورَ العين لا ينادين على الشهيد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقلن له: أقبل .. أقبل؟ عليك أن تعتذر للمسلمين على هذا الكفر!
أتخيل الإمام محمد عبده الذي قام أزهريون بتكفيره في يوم من الأيام على فكره المستنير وقد عاد إلى دنيانا، وجلس أمام الكمبيوتر، وكتب في مواقع ومنتديات بعض أفكاره، ترى من سيرُدّ عليه؟
إنهم نفس الصعاليك، وأغلب الظن أنهم سينتصرون، وربما يتم طرد الاستاذ الإمام من أكثر المنتديات، وسيصفق مشرفو المنتديات وسط تهليل الغوغاء من عاشقي الكي بورد!
أتخيل أستاذنا نجيب محفوظ وقد أعطاه الله الصحة وأعاده ثلاثين عاما إلى الوراء، وقد فعل نفس الشئ، ونشر مقتطفات من رواياته باسم مستعار.
سيلتف حولها صعاليك من كل مكان، وربما لا يستطيع بعضهم كتابة فقرة واحدة سليمة، وسيستخرجون من أعمال الروائي الكبير أفكارا في الالحاد وتشكيكا في الوطنية وربما يتهمه البعض بأنه لا يصلح لكتابة رواية صغيرة يقرأها أميون.
وسينتصر الصعاليك نصرا صاعقا على ملك الرواية العربية.
يجلس الصعاليكُ أمام النت ساعاتٍ طويلةً يديرون معاركَ دون كيخوت، ويتخفون وراء أسماء ورموز وطنية ودينية، ويتسابقون لادارة الصراع ويعرفون بعضهم ولو كان بين الواحد والآخر نصف قطر الكرة الأرضية، وفي لسان كل منهم قاموس لمصطلحات الابتزاز العاطفي والديني والوطني تم استخراج مفرداته من أقوال ومأثورات وبعض الحِكَم وعناوين إكليشيهات جاهزة وتلك تمثل حقائق منطقية يحارب صاحبنا العالم كله من أجلها، وتصبح جزءا من هويته بديلا عن الاجتهاد والعقل.
كل الأنظمة المستبدة والديكتاتوريات وأسياد القصور والطغاة وشيوخ التجمد وأجهزة الأمن وملوك الفتاوى الفضائية وضيوف برامج التخدير الجماعي لهم صعاليكهم على النت، وهم كالجراد يهاجم دون تمييز، وينتقلون من حقل إلى آخر كأنهم غزاة همج تنعشهم راحة الموت.
صعاليك الإنترنيت قساة وغلاظة وأغبياء، لكنهم متماسكون فإذا هاجم أحدهم فكرا مستنيرا أو اجتهادا أو رؤية عصيّة على فهمه، فإن الآخرين يسنّون رماحهم ويدخلون المعركة ولو كان أكثرهم يغرقون في وحل الأمية والجهل والتخلف العقلي.
إنهم يشبهون العبقري الذي صمم اعلانا في قلب القاهرة يقول: الجنين في بطن أُمّه يلفظ اسمَ مبارك!
كتب لي أحدُ الصعاليك قائلا: نحن نعيش في ليبيا أجمل وأبهى وأعظم لحظات التاريخ. إننا في جنة لا يعرف عنها العالم شيئا، ولا نستطيع أن نعيش بدون الأخ القائد!
قالت لي احداهن في الفترة الأولى للدعوة للعصيان المدني: لماذا لا تقوم بزيارة مصر، وتأتي مطار القاهرة الدولي رافعا راية الإسلام، وعندئذ سيلتف حولك المسلمون ونقيم الخلافة في العالم كله؟
منذ خمس عشرة سنة نشر الدكتور سعد الدين ابراهيم مقالا عن زيارته لصديق له ابنة جامعية بدأت في خطوات التخدير الديني إياه، فمازحها الضيف قائلا: ربما تجدين الآن أن لا فائدة من العلم والدراسة؟ قالت بنبرة جدية: نعم، فقد قررت فعلا ترك كلية الهندسة والانضمام لأحبابنا في الله نتدارس الفقه وابن تيمية، فدراسة الهندسة ليست الطريق إلى الجنة!
الإنترنت وهو أعظم وأرقى اختراع أنجبه العقل البشري منذ بدء الخليقة منح الفرصةَ للجميع على قدم المساواة، لكن للأسف الشديد لم يستطع أن يفرق بين الغث والسمين، وبين الشر والخير، وبين الألوان كلها، وفي ملايين من المواقع في العالم تَسَيّد الصعاليكُ ساحةَ العلم والتكنولوجيا وأقاموا امبراطوريات لنفايات الفكر والعفن من الجنس إلى التفاهة، ومن تلميع الديكتاتوريات إلى تأهيل السَجّانين، ومن سرقة المِلْكيات الفكرية إلى صناعة الشباب المفخخ ارهابيا أو المغيّب دينيا أو المخاصم للثقافة أو المنحط أخلاقيا.
غضب مني أحدهم لأنني كتبت بأن الدين حالة من الوعي والتمرد والحرية والاجتهاد العقلي ومقاومة الاستبداد والدفاع عن حقوق الآخرين، وأعتبر كتاباتي خارجة من سَقْطِ الجهل، فالدين هو الاستجابة لعلوم فقهائنا وعلمائنا في القرون الثلاثة الأولى للهجرة.
لو جاء إلى عالمنا غاندي وسقراط وأرسطو وبوذا وابن رشد وديكارت وابن سينا ولينين وأحمد بن حنبل ووليم جيمس والعقاد وجان زيجلر والفارابي وعبد الله القصيمي ونيتشة وابن خلدون وجوستاف لوبون ومالك بن نبي وصمم لهم مايكل أنجلو موقعا على الانترنيت، وافتتحوا فيه منتديات في كل فروع العلم فإن الصعاليكَ قادرون على هزيمتهم جميعا كل في موقعه وتخصصه، بل ربما تقرر إدارات منتديات كثيرة منع هؤلاء من الكتابة لأنها ترى تدني مستوياتهم الفكرية والعلمية والأدبية والثقافية، وسيكتب المشرف على أحد المنتديات أنه ألغى اشتراك هؤلاء الأعضاء لأنهم يخوضون في التفاهة وصغائر الأمور وأن موضوعاتهم وقضاياهم ليست بالمستوى المطلوب!
ولكن إلى من سينحاز مرتادو المنتديات وأعضاؤها؟
هل يسعفني أحَدٌ بالاجابة؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج