عزام
02-24-2008, 12:46 PM
السلام عليكم
مقالة مهمة اظنها لصاحب الظلال
لعلها تجيب على بعض اسئلة الاخ مقاوم عن كيفية التغيير المنشود.
أخ بلال، اقرا ما بالاحمر لأني اعرفك لا تحب المقالات "غير القصيرة جدا". :)
عزام
ضرورة تحديد خصائص التصور الاسلامي
تحديد "خصائص التصور الإسلامى ومقوماته(1)" ... مسألة ضرورية ، لأسباب كثيرة :
ضرورية لأنه لابد للمسلم من تفسير شامل للوجود ، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود.. لابد من تفسير يقرب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التى يتعامل معها ، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق : حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية (وهذه تشتمل على حقيقة الكون .. وحقيقة الحياة ، وحقيقة الإنسان) .. وما بينها جميعا" من تعامل وارتباط .
وضرورية لأنه لابد للمسلم من معرفة حقيقة مركز الإنسان فى هذا الوجود الكونى ، وغاية وجوده الإنسانى .. فمن هذه المعرفة يتبين دور "الإنسان" فى "الكون" وحدود اختصاصاته كذلك ، وحدود علاقته بخالقه وخالق هذا الكون جميعا".
وضرورية لأنه بناء على ذلك التفسير الشامل ، وعلى معرفة حقيقة مركز الإنسان فى الوجود الكونى وغاية وجوده الإنسانى ، يتحدد منهج حياته ، ونوع النظام الذى يحقق هذا المنهج ، فنوع النظام الذى يحكم الحياة الإنسانية رهين بذلك التفسير الشامل ، ولابد من أن ينبثق منه انبثاقا" ذاتيا"
وإلا كان نظاما" مفتعلا" ، قريب الجذور ، سريع الذبول . والفترة التى يقدر له فيها البقاء ، وهى فترة شقاء "للإنسان" ، كما أنها فترة صدام بين هذا النظام وبين الفطرة البشرية ، وحاجات "الإنسان"الحقيقية ! الأمر الذى ينطبق اليوم على جميع الأنظمة فى الأرض كلها - بلا استثناء - وبخاصة فى الأمم التى تسمى "متقدمة(2) !"
وضرورية لأن هذا الدين جاء لينشئ أمة ذات طابع خاص متميز متفرد ، وهى فى الوقت ذاته أمة جاءت لقيادة البشرية ، وتحقيق منهج الله فى الأرض ، وإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من القيادات الضالة ، والمناهج الضالة ، والتصورات الضالة - وهو ما تعانى اليوم مثله مع اختلاف فى الصور والأشكال - وإدراك المسلم لطبيعة التصور الإسلامى ، وخصائصه ومقاومته ، هو الذى يكفل له أن يكون عنصرا" صالحا" فى بناء هذه الأمة ، ذات الطابع الخاص المتفرد المتميز ، وعنصرا" قادرا" على القيادة والإنقاذ ، فالتصور الاعتقادى هو أداة التوجيه الكبرى ، إلى جانب النظام الواقعى الذى ينبثق منه ، ويقوم على أساسه ، ويتناول النشاط الفردى كله ، والنشاط الجماعى كله ، فى شتى حقول النشاط الإنسانى .
***
ولقد كان القرآن الكريم قد قدم للناس هذا التفسير الشامل ، فى الصورة الكاملة ، التى تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية ، وتلبى كل جوانبها ، وتتعامل مع كل مقوماتها .. تتعامل مع "الحس" و "الفكر" و "البديهة" و "البصيرة" .. ومع سائر عناصر الإدراك البشرى ،، والكينونة البشرية بوجه عام - كما تتعامل مع الواقع المادى للإنسان ، هذا الواقع الذى ينشئه وضعه الكونى - فى الأسلوب الذى يخاطب ، ويوحى ، وبوجه كل عناصر هذه الكينونة متجمعة ، فى تناسق ، هو تناسق الفطرة كما خرجت من يد بارئها سبحانه !
وبهذا التصور المستمد مباشرة من القرآن ، تكيفت الجماعة المسلمة الأولى ، تكيفت ذلك التكيف الفريد .. وتسلمت قيادة البشرية ، وقادتها تلك القيادة الفريدة التى لم تعرف لها البشرية من قبل ولا من بعد - نظيرة . وحققت فى حياة البشرية - سواء فى عالم الضمير والشعور ، أو فى عالم الحركة والواقع - ذلك النموذج الفذ الذى لم يعهده التاريخ ، وكان القرآن هو المرجع الأول لتلك الجماعة ، فمنه انبثقت هى ذاتها .. وكانت أعجب ظاهرة فى تاريخ الحياة البشرية : ظاهرة انبثاق أمة من خلال نصوص كتاب ! وبه عاشت . وعليه اعتمدت فى الدرجة الأولى باعتبار أن "السنة" ليست شيئا" آخر سوى الثمرة الكاملة النموذجية للتوجيه القرآنى .. كما لخصتها عائشة - رضى الله عنها -وهى تسأل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتجيب تلك الإجابة الجامعة الصادقة العميقة : "كان خلقه القرآن" .. (خرجه النسائى) .
***
ولكن الناس بعدوا عن القرآن ، وعن أسلوبه الخاص ، وعن الحياة فى ظلاله ، عن ملابسة الأحداث والمقومات التى يشابه جوها الجو الذى تنزل فيه القرآن .. وملابسة هذه الأحداث والمقومات ، وتنسم جوها الواقعى ، هو وحده الذى يجعل هذا القرآن مدركا" وموحيا" كذلك ، فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالى البال من مكان الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقية ، ومن معاناة هذا الأمر العسير الشاق وجرائره وتضحياته وآلامه ، ومعاناة المشاعر المختلفة التى تصاحب تلك المكابدة فى عالم الواقع ، فى مواجهة الجاهلية فى أى زمان !
إن المسألة - فى إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته - ليست هى فهم ألفاظه وعباراته ، ليست هى "تفسير" القرآن - كما اعتدنا أن نقول ! المسألة ليست هذه إنما هى استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب ، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التى صاحبت نزوله، وصحبت حياة الجماعة المسلمة وهى تتلقاه فى خضم المعترك .. معترك الجهاد .. جهاد النفس وجهاد الناس ، جهاد الشهوات وجهات الأعداء . والبذل والتضحية . والخوف والرجاء . والضعف والقوة . والعثرة والنهوض .. جو مكة ، والدعوة الناشئة ، والقلة والضعف ، والغربة بين الناس .. جو الشعب والحصار ، والجوع والخوف ، والاضطهاد والمطاردة والانقطاع إلا عن الله .. ثم جو المدينة : جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم ، بين الكيد والنفاق ، والتنظيم والكفاح .. جو "بدر" و "أحد" و "الخندق" و "الحديبية" وجو " الفتح " و "حنين" و "تبوك" .. جو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ فى ثنايا النشأة وفى خلال التنظيم .
فى هذا الجو الذى تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية .. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحائاتها .. وفى هذا الجو الذى يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب ، ويمنح أسراره ، ويشيع عطره ، ويكون فيه هدى ونور قد كانوا يومئذ يدركون حقيقة قول الله لهم :
"يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" (الحجرات : 17)
وحقيقة قول الله لهم :
"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25)وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (الأنفال : 24 : 26)
وحقيقة قول الله لهم :
"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون" . (آل عمران : 123)
وحقيقة قول الله لهم :
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ"". (آل عمران : 139-143)
وحقيقة قول الله لهم :
"لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ" . (التوبة : 25 - 26 )
وحقيقة قول الله لهم :
"لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" . (آل عمران : 186)
كانوا يدركون حقيقة قول الله لهم فى هذا كله ، لأنه كان يحدثهم عن واقعيات فى حياتهم عاشوها ، وعن ذكريات فى نفوسهم لم تغب معالمها ، وعن ملابسات لم يبعد بها الزمن ، فهى تعيش فى ذات الجيل ..
والذين يعانون اليوم وغدا" مثل هذه الملابسات ، هم الذين يدركون معانى القرآن وإيحاءاته ، وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامى كما جاء بها القرآن ، لأن لها رصيدا" حاضرا" فى مشاعرهم وفى تجاربهم ، يتلقونها به ، ويدركونها على ضوئه .. وهم قليل ..
ومن ثم لم يكن بد - وقد بعد الناس عن القرآن ببعدهم عن الحياة الواقعية فى مثل جوه - أن نقدم لهم حقائق : "التصور الإسلامى" عن الله والكون والحياة والإنسان من خلال النصوص القرآنية ، مصحوبة بالشرح والتوجيه ، والتجميع والتبويب ، لا ليغنى هذا غناء القرآن فى مخاطبة القلوب والعقول ، ولكن ليصل الناس بالقرآن - على قدر الإمكان - وليساعدهم على أن يتذوقوه ، ويلتمسوا فيه بأنفسهم حقائق التصور الإسلامى الكبير !
على أننا نحب أن ننبه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة .. إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي ، مجرد المعرفة الثقافية ... لا نبغى إنشاء فصل فى المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عرف من قبل باسم "الفلسفة الإسلامية" . كلا ! إننا لا نهدف إلى مجرد "المعرفة" الباردة ، التى تتعامل مع الأذهان ، وتحسب فى رصيد "الثقافة" ! إن هذا الهدف فى اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه! إنه هدف تافه رخيص ! إنما نحن نبتغى "الحركة" من وراء "المعرفة" . نبتغى أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة ، لتحقيق مدلولها فى عالم الواقع . نبتغى استجاشة ضمير "الإنسان" لتحقيق غاية وجوده الإنسانى ، كما يرسمها هذا التصور الربانى ، نبتغى أن ترجع البشرية إلى ربها ، وإلى منهجه الذى أراده لها ، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التى تتفق مع الكرامة التى كتبها الله للإنسان ، والتى تحققت فى فترة من فترات التاريخ ، على ضوء هذا التصور ، عندما استحال واقعا" فى الأرض ، يتمثل فى أمة ، تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء .
***
ولقد وقع - فى طور من أطوار التاريخ الإسلامى - أن احتكت الحياة الإسلامية الأصلية ، المنبثقة من التصور الإسلامى الصحيح ، بألوان الحياة الأخرى التى وجدها الإسلام فى البلاد المفتوحة ، وفيما وراءها كذلك ، ثم بالثقافات السائدة فى تلك البلاد .
واشتغل الناس فى الرقعة الإسلامية - وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد ، واستسلموا لموجات الرخاء .. وجدت فى الوقت ذاته من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأى والمذهبية - كان بعضها فى وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين على ومعاوية - اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث الللاهوتية التى تجمعت حول المسيحية ، والتى ترجمت إلى اللغة العربية .. ونشأ عن هذا الاشتغال الذى لا يخلو من طابع الترف العقلى فى عهد العباسيين وفى الأندلس أيضا"، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامى الأصيل ، التصور الذى جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات ، ومن مثل هذه الاتجاهات ، وردها إلى التصور الإسلامى الإيجابى الواقعى ، الذى يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة ، للبناء والتعمير ، والارتفاع والتطهير ، ويصون الطاقة أن تنفق فى الثرثرة كما يصون الإدراك البشرى أن يطوح به فى التيه بلا دليل .
ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لابد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك ، وهذا الانحراف ، بردود إيضاحات وجدل حول ذات الله - سبحانه - وصفاته . وحول القضاء والقدر وحول عمل الإنسان وجزائه ، وحول المعصية والتوبة .. إلى آخر المباحث التى ثار حولها الجدل فى تاريخ الفكر الإسلامى ! ووجدت الفرق المختلفة خوارج وشيعة ومرجئة ، قدرية وجبرية ، سنية ومعتزلة .. إلى آخر هذه الأسماء .
كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية - وبخاصة شروح فلسلفة أرسطو - أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه - وبالمباحث اللاهوتية- "الميتافيزيقية" - وظنوا أن "الفكر الإسلامى" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله ، أو مظاهر أبهته وعظمته ، إلا إذا ارتدى هذا الزى - زى التفلسف والفلسفة - وكانت له فيها مؤلفات ! وكما يفتن منا اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية . فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها . فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية . وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو !
وبدلا" من صياغة "التصور الإسلامى" فى قالب ذاتى مستقل ، وفق طبيعته الكلية ، التى تخاطب الكينونة البشرية جملة ، بكل مقوماتها طاقتها ولا تخاطب "الفكر البشرى" وحده خطابا" باردا" مصبوبا" فى قالب المنطق الذهنى .. بدلا" من هذا فإنهم استعاروا "القالب" الفلسفى ليصبوا فيه "التصور الإسلامى" ، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها ، وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامى أما المصطلحات فقد كادت تكون كلها مستعارة !
ولما كانت هناك جفوة أصلية بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة ، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة ، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التى تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.. فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" - كما سميت - نشازا" كاملا" فى لحن العقيدة المتناسق ! ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير ، شاب صفاء التصور الإسلامى، وصغر مساحته ، وأصابه بالسطحية .
ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط . مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام . وطبيعته وحقيقته ومنهجه ، وأسلوبة !
وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة - على الأقل ! - سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة .. ولكنى أقرره ، وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامى" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ ، إلا حين نلقى عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية" وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة فى شتى العصور أيضا" ! ثم نعود إلى القرآن الكريم ، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامى" ، مع بيان "خصائصه" التى تفرده من بين سائر التصورات ، ولا بأس من بعض الموازنات - التى توضح هذه الخصائص - مع التصورات الأخرى - أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة ، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماما" .
مقالة مهمة اظنها لصاحب الظلال
لعلها تجيب على بعض اسئلة الاخ مقاوم عن كيفية التغيير المنشود.
أخ بلال، اقرا ما بالاحمر لأني اعرفك لا تحب المقالات "غير القصيرة جدا". :)
عزام
ضرورة تحديد خصائص التصور الاسلامي
تحديد "خصائص التصور الإسلامى ومقوماته(1)" ... مسألة ضرورية ، لأسباب كثيرة :
ضرورية لأنه لابد للمسلم من تفسير شامل للوجود ، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود.. لابد من تفسير يقرب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التى يتعامل معها ، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق : حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية (وهذه تشتمل على حقيقة الكون .. وحقيقة الحياة ، وحقيقة الإنسان) .. وما بينها جميعا" من تعامل وارتباط .
وضرورية لأنه لابد للمسلم من معرفة حقيقة مركز الإنسان فى هذا الوجود الكونى ، وغاية وجوده الإنسانى .. فمن هذه المعرفة يتبين دور "الإنسان" فى "الكون" وحدود اختصاصاته كذلك ، وحدود علاقته بخالقه وخالق هذا الكون جميعا".
وضرورية لأنه بناء على ذلك التفسير الشامل ، وعلى معرفة حقيقة مركز الإنسان فى الوجود الكونى وغاية وجوده الإنسانى ، يتحدد منهج حياته ، ونوع النظام الذى يحقق هذا المنهج ، فنوع النظام الذى يحكم الحياة الإنسانية رهين بذلك التفسير الشامل ، ولابد من أن ينبثق منه انبثاقا" ذاتيا"
وإلا كان نظاما" مفتعلا" ، قريب الجذور ، سريع الذبول . والفترة التى يقدر له فيها البقاء ، وهى فترة شقاء "للإنسان" ، كما أنها فترة صدام بين هذا النظام وبين الفطرة البشرية ، وحاجات "الإنسان"الحقيقية ! الأمر الذى ينطبق اليوم على جميع الأنظمة فى الأرض كلها - بلا استثناء - وبخاصة فى الأمم التى تسمى "متقدمة(2) !"
وضرورية لأن هذا الدين جاء لينشئ أمة ذات طابع خاص متميز متفرد ، وهى فى الوقت ذاته أمة جاءت لقيادة البشرية ، وتحقيق منهج الله فى الأرض ، وإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من القيادات الضالة ، والمناهج الضالة ، والتصورات الضالة - وهو ما تعانى اليوم مثله مع اختلاف فى الصور والأشكال - وإدراك المسلم لطبيعة التصور الإسلامى ، وخصائصه ومقاومته ، هو الذى يكفل له أن يكون عنصرا" صالحا" فى بناء هذه الأمة ، ذات الطابع الخاص المتفرد المتميز ، وعنصرا" قادرا" على القيادة والإنقاذ ، فالتصور الاعتقادى هو أداة التوجيه الكبرى ، إلى جانب النظام الواقعى الذى ينبثق منه ، ويقوم على أساسه ، ويتناول النشاط الفردى كله ، والنشاط الجماعى كله ، فى شتى حقول النشاط الإنسانى .
***
ولقد كان القرآن الكريم قد قدم للناس هذا التفسير الشامل ، فى الصورة الكاملة ، التى تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية ، وتلبى كل جوانبها ، وتتعامل مع كل مقوماتها .. تتعامل مع "الحس" و "الفكر" و "البديهة" و "البصيرة" .. ومع سائر عناصر الإدراك البشرى ،، والكينونة البشرية بوجه عام - كما تتعامل مع الواقع المادى للإنسان ، هذا الواقع الذى ينشئه وضعه الكونى - فى الأسلوب الذى يخاطب ، ويوحى ، وبوجه كل عناصر هذه الكينونة متجمعة ، فى تناسق ، هو تناسق الفطرة كما خرجت من يد بارئها سبحانه !
وبهذا التصور المستمد مباشرة من القرآن ، تكيفت الجماعة المسلمة الأولى ، تكيفت ذلك التكيف الفريد .. وتسلمت قيادة البشرية ، وقادتها تلك القيادة الفريدة التى لم تعرف لها البشرية من قبل ولا من بعد - نظيرة . وحققت فى حياة البشرية - سواء فى عالم الضمير والشعور ، أو فى عالم الحركة والواقع - ذلك النموذج الفذ الذى لم يعهده التاريخ ، وكان القرآن هو المرجع الأول لتلك الجماعة ، فمنه انبثقت هى ذاتها .. وكانت أعجب ظاهرة فى تاريخ الحياة البشرية : ظاهرة انبثاق أمة من خلال نصوص كتاب ! وبه عاشت . وعليه اعتمدت فى الدرجة الأولى باعتبار أن "السنة" ليست شيئا" آخر سوى الثمرة الكاملة النموذجية للتوجيه القرآنى .. كما لخصتها عائشة - رضى الله عنها -وهى تسأل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتجيب تلك الإجابة الجامعة الصادقة العميقة : "كان خلقه القرآن" .. (خرجه النسائى) .
***
ولكن الناس بعدوا عن القرآن ، وعن أسلوبه الخاص ، وعن الحياة فى ظلاله ، عن ملابسة الأحداث والمقومات التى يشابه جوها الجو الذى تنزل فيه القرآن .. وملابسة هذه الأحداث والمقومات ، وتنسم جوها الواقعى ، هو وحده الذى يجعل هذا القرآن مدركا" وموحيا" كذلك ، فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالى البال من مكان الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقية ، ومن معاناة هذا الأمر العسير الشاق وجرائره وتضحياته وآلامه ، ومعاناة المشاعر المختلفة التى تصاحب تلك المكابدة فى عالم الواقع ، فى مواجهة الجاهلية فى أى زمان !
إن المسألة - فى إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته - ليست هى فهم ألفاظه وعباراته ، ليست هى "تفسير" القرآن - كما اعتدنا أن نقول ! المسألة ليست هذه إنما هى استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب ، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التى صاحبت نزوله، وصحبت حياة الجماعة المسلمة وهى تتلقاه فى خضم المعترك .. معترك الجهاد .. جهاد النفس وجهاد الناس ، جهاد الشهوات وجهات الأعداء . والبذل والتضحية . والخوف والرجاء . والضعف والقوة . والعثرة والنهوض .. جو مكة ، والدعوة الناشئة ، والقلة والضعف ، والغربة بين الناس .. جو الشعب والحصار ، والجوع والخوف ، والاضطهاد والمطاردة والانقطاع إلا عن الله .. ثم جو المدينة : جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم ، بين الكيد والنفاق ، والتنظيم والكفاح .. جو "بدر" و "أحد" و "الخندق" و "الحديبية" وجو " الفتح " و "حنين" و "تبوك" .. جو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ فى ثنايا النشأة وفى خلال التنظيم .
فى هذا الجو الذى تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية .. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحائاتها .. وفى هذا الجو الذى يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب ، ويمنح أسراره ، ويشيع عطره ، ويكون فيه هدى ونور قد كانوا يومئذ يدركون حقيقة قول الله لهم :
"يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" (الحجرات : 17)
وحقيقة قول الله لهم :
"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25)وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (الأنفال : 24 : 26)
وحقيقة قول الله لهم :
"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون" . (آل عمران : 123)
وحقيقة قول الله لهم :
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ"". (آل عمران : 139-143)
وحقيقة قول الله لهم :
"لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ" . (التوبة : 25 - 26 )
وحقيقة قول الله لهم :
"لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" . (آل عمران : 186)
كانوا يدركون حقيقة قول الله لهم فى هذا كله ، لأنه كان يحدثهم عن واقعيات فى حياتهم عاشوها ، وعن ذكريات فى نفوسهم لم تغب معالمها ، وعن ملابسات لم يبعد بها الزمن ، فهى تعيش فى ذات الجيل ..
والذين يعانون اليوم وغدا" مثل هذه الملابسات ، هم الذين يدركون معانى القرآن وإيحاءاته ، وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامى كما جاء بها القرآن ، لأن لها رصيدا" حاضرا" فى مشاعرهم وفى تجاربهم ، يتلقونها به ، ويدركونها على ضوئه .. وهم قليل ..
ومن ثم لم يكن بد - وقد بعد الناس عن القرآن ببعدهم عن الحياة الواقعية فى مثل جوه - أن نقدم لهم حقائق : "التصور الإسلامى" عن الله والكون والحياة والإنسان من خلال النصوص القرآنية ، مصحوبة بالشرح والتوجيه ، والتجميع والتبويب ، لا ليغنى هذا غناء القرآن فى مخاطبة القلوب والعقول ، ولكن ليصل الناس بالقرآن - على قدر الإمكان - وليساعدهم على أن يتذوقوه ، ويلتمسوا فيه بأنفسهم حقائق التصور الإسلامى الكبير !
على أننا نحب أن ننبه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة .. إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي ، مجرد المعرفة الثقافية ... لا نبغى إنشاء فصل فى المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عرف من قبل باسم "الفلسفة الإسلامية" . كلا ! إننا لا نهدف إلى مجرد "المعرفة" الباردة ، التى تتعامل مع الأذهان ، وتحسب فى رصيد "الثقافة" ! إن هذا الهدف فى اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه! إنه هدف تافه رخيص ! إنما نحن نبتغى "الحركة" من وراء "المعرفة" . نبتغى أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة ، لتحقيق مدلولها فى عالم الواقع . نبتغى استجاشة ضمير "الإنسان" لتحقيق غاية وجوده الإنسانى ، كما يرسمها هذا التصور الربانى ، نبتغى أن ترجع البشرية إلى ربها ، وإلى منهجه الذى أراده لها ، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التى تتفق مع الكرامة التى كتبها الله للإنسان ، والتى تحققت فى فترة من فترات التاريخ ، على ضوء هذا التصور ، عندما استحال واقعا" فى الأرض ، يتمثل فى أمة ، تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء .
***
ولقد وقع - فى طور من أطوار التاريخ الإسلامى - أن احتكت الحياة الإسلامية الأصلية ، المنبثقة من التصور الإسلامى الصحيح ، بألوان الحياة الأخرى التى وجدها الإسلام فى البلاد المفتوحة ، وفيما وراءها كذلك ، ثم بالثقافات السائدة فى تلك البلاد .
واشتغل الناس فى الرقعة الإسلامية - وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد ، واستسلموا لموجات الرخاء .. وجدت فى الوقت ذاته من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأى والمذهبية - كان بعضها فى وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين على ومعاوية - اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث الللاهوتية التى تجمعت حول المسيحية ، والتى ترجمت إلى اللغة العربية .. ونشأ عن هذا الاشتغال الذى لا يخلو من طابع الترف العقلى فى عهد العباسيين وفى الأندلس أيضا"، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامى الأصيل ، التصور الذى جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات ، ومن مثل هذه الاتجاهات ، وردها إلى التصور الإسلامى الإيجابى الواقعى ، الذى يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة ، للبناء والتعمير ، والارتفاع والتطهير ، ويصون الطاقة أن تنفق فى الثرثرة كما يصون الإدراك البشرى أن يطوح به فى التيه بلا دليل .
ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لابد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك ، وهذا الانحراف ، بردود إيضاحات وجدل حول ذات الله - سبحانه - وصفاته . وحول القضاء والقدر وحول عمل الإنسان وجزائه ، وحول المعصية والتوبة .. إلى آخر المباحث التى ثار حولها الجدل فى تاريخ الفكر الإسلامى ! ووجدت الفرق المختلفة خوارج وشيعة ومرجئة ، قدرية وجبرية ، سنية ومعتزلة .. إلى آخر هذه الأسماء .
كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية - وبخاصة شروح فلسلفة أرسطو - أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه - وبالمباحث اللاهوتية- "الميتافيزيقية" - وظنوا أن "الفكر الإسلامى" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله ، أو مظاهر أبهته وعظمته ، إلا إذا ارتدى هذا الزى - زى التفلسف والفلسفة - وكانت له فيها مؤلفات ! وكما يفتن منا اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية . فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها . فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية . وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو !
وبدلا" من صياغة "التصور الإسلامى" فى قالب ذاتى مستقل ، وفق طبيعته الكلية ، التى تخاطب الكينونة البشرية جملة ، بكل مقوماتها طاقتها ولا تخاطب "الفكر البشرى" وحده خطابا" باردا" مصبوبا" فى قالب المنطق الذهنى .. بدلا" من هذا فإنهم استعاروا "القالب" الفلسفى ليصبوا فيه "التصور الإسلامى" ، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها ، وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامى أما المصطلحات فقد كادت تكون كلها مستعارة !
ولما كانت هناك جفوة أصلية بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة ، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة ، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التى تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.. فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" - كما سميت - نشازا" كاملا" فى لحن العقيدة المتناسق ! ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير ، شاب صفاء التصور الإسلامى، وصغر مساحته ، وأصابه بالسطحية .
ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط . مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام . وطبيعته وحقيقته ومنهجه ، وأسلوبة !
وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة - على الأقل ! - سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة .. ولكنى أقرره ، وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامى" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ ، إلا حين نلقى عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية" وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة فى شتى العصور أيضا" ! ثم نعود إلى القرآن الكريم ، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامى" ، مع بيان "خصائصه" التى تفرده من بين سائر التصورات ، ولا بأس من بعض الموازنات - التى توضح هذه الخصائص - مع التصورات الأخرى - أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة ، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماما" .