عزام
02-16-2008, 04:28 PM
مقال اعجبتني نصائحه.. ارجو ان انجح في تطبيقها
عزام
هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وله الحمد على كل حال ، وفي كل آنٍ ، وله الحمد ملء السماوات والأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شاء من شيء بعد ، وله الحمد كما نقول ، وخيراً مما نقول ، وله الحمد كما يقول حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما يليق بجلاله ، وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى .
ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين ، نبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين .
أما بعد أيها الأخوة الكرام :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ...
ونحمد الله جل وعلا أن جدد اللقاء في هذا اليوم المبارك ، وفي رحاب بيت من بيوته تحفنا - بإذن الله عز وجل - الملائكة ، وتتغشانا الرحمة ، وتتنزل علينا السكينة ؛ إذ نذكر الله جل وعلا ، ونذكر هدي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا لقاءنا نع الدرس الثاني والثلاثين بعد المائة ينعقد في اليوم السابع من شهر الله المحرم عام سبعة عشر وأربعمائة وألف للهجرة ، وعنوان هذا الدرس ( هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟ ) .
وهو أمر نعرج فيه أو موضوع نعرج فيه على كثير من الممارسات والمقالات التي لا تنسجم مع كمال العقل وحصافة الرأي ؛ وبالتالي قبل ذلك أيضاً لا تتفق مع شرع الله عز وجل .
فإن العقل الكامل التام ليس الـذي هـو يميز الأمور أو يعرف الظواهر وإنما كما سنذكر له ملامح أعظم وأدق ، ونرى أن كثيراً من الممارسات تخالف مثل هذا المعنى ، فنستعين الله جل وعلا ، ونسأله التوفيق والسداد ، وأن يجعل في مجلسنا هذا النفع والفائدة ، وأن يكتب لنا فيه الأجر والمثوبة .
وسنبدأ في : معنى العقل .
ثم : وقفة بين العقل والهوى .
وثالثة : مع ملامح العقلاء .
ورابعة : نستطرد فيها في صور شتى ..
نسأل أنفسنا عند كل صورة منها : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟
حتى ندرك أن من التصرفات التي يمارسها بعض العقلاء ما يدل على أنهم غير عقلاء .
العقل في المعنى اللغوي يأتي بمعنى : الحجر ، ويأتي أيضاً ويطلق عليه: النهى ، ومعناه مرتبط بالكبح والضبط ؛ لأننا نعرف عقال البعير الذي يربطه ويضبطه ويقعده عن انطلاقته التي لا يريدها صاحبه ، ونعرف أيضاً الاعتقال ، فيقولون فلان معتقل . أي حبس وحدت حركته ونشاطه الذي تجـاوز فيه الحـد على غيره، أو أسـاء فيه إلى الناس ،أو أرتكب الجرم الذي استحق به أن يعقل ،وأن يعتقل ،أي أن يضبط وأن يحبس .
فالعقل في الحقيقة مضاد للهوى ، ومانع من الردى ، وكابح لشهوات النفس المردية ، ومدبر لتصرفات الإنسان ، وضابط لألفاظه وكلماته ، وهو الذي في جملة الأمر يحبه عن ما يضره ، ويكبح جماحه ،عما فيه مساءة لغيره ،وعاقبة سيئة له .
ولذلك لو تأملنا الاستعمالات اللغوية للمادة الثلاثية لكلمة العقل وهي "عقل" لوجدنا أنها تدور في هذه الدائرة وهي دائرة الحبس والمنع مما يضر .
ومن هذا المنطلق ننطلق إلى النقطة الثانية وهي بين العقل والهوى : فإن الهوى يهوي بصاحبه فهو انطلاق وجريان كجريان الهوى والريح ، يحتاج إلى عقل يضبطه ؛ ومن ثم فإن هناك نزاعاً بين العقل والهوى في حكم الإنسان ، وكأن هناك منافسة على السلطة في كيان الإنسان بين العقل وبين الهوى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائده " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة إليه " .
فالعقل إذا لم يكن تحت حكم الهوى رجع هو الذي يضبط الأمور ويسوس التصرفات والأفعال .
ولذلك يقول ابن القيم في روضة المحبين " إذا كانت الدولة للعقل سالمه الهوى وكان من خدمه وأتباعه كما أن الدولة إذا كانت للهوى صار العقل أسيراً في يديه محكوماً عليه فمن تسلط عليه هواه غاب عقله ومن تصرف الهوى في أفعاله وأقواله ظهر الجهل فيها وبان خفاء العقل منها " .
ولذلك يعبر ابن الجوزي في " صيد خاطره " عن الضبط الذي يكون للعقل وأنه قد يكون ضبطاً محكماً وقد يكون ضبطاً فيه ارتخاء فيمثل لذلك بمثال يقول " وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة - سبع يعني أسد في عنقه سلسلة - فإن استوثق منه ضابطه كفه " أي إن أحكم مسك السلسلة كفه عن الهجوم والاعتداء والإساءة ، ثم يقول : " إن استوثق منه ضابطه كفه ، وربما لاحـت له شهواته الغالبة عليه ، فلم تقاومها السلسة فأفلت" ، وما ظنكم بهذا السبع إذا أفلت ؟ .. أي ضرر يقع منه وأي خطر يرتقب ويحذر منه ؟ قال " على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، ومنهم من يكف هواه بخيط " أي بخيط خفيف مجرد أي حركة ينقطع هذا الخيط ، ويفلت الزمام من يده وهذا الذي لا يجعل للعقل حظوراً قوياً في موقف ، ولا يجعل للعقل سيطرة تامة في كل تصرف يكون ضبطه خفيفاً هيناً متميعاً ، فلا يملك إلا أن يغلبه هواه في جولة ثم ثانية ، ثم ربما استولى الهوى وتفرد بالسلطة على كيان الإنسان وتصرف في أفعاله و أقواله كما ذكرنا .
ولذلك عندما يفكر الإنسان ينظر إلى حقيقة العقل وإلى خطر الهوى ، ونجتمع في هذا إلى كلمات نفيسة ذكرها الماوردي في أدب الدنيا والدين إذ قال : " لما كان الهوى غالباً وإلى سبيل المهالك مورداً جعل العقل رقيباً مجاهداً يلاحظ عثرت غفلته ، ويدفع بادرة سطوت ويدفع خداع حيلته ؛ فإن سلطان الهوى قوي ومدخل مكره خفي " .
وهذه كلمات تدل على عمق نظر ودقة بصر ، وعلى فهم عميق وتحليل دقيق لطبيعة الإنسان وطبيعة سلوكه في الحياة ، بين فيها أن الهوى يغلب وأن غلبته تورد إلى المهالك وأن العقل ينبغي أن يكون رقيباً مجاهداً مجتهداً يلاحظ عثرة الغفلة ويدفع بادرة السطوة ويدفع خداع الحيلة ؛ لأن سلطان الهوى قوي ودخل مكره خفي .
فإذا عرفنا ذلك فلننتقل إلى النقطة الثالثة التي ننظر فيها إلى بعض ملامح العقلاء مما ورد في بعض الحكم والكلمات التي ذكرها العلماء والأدباء :
نحن نعرف العقل المعروف الذي ضد الجنون الذي يعرف فيه الإنسان أنه كذا ... والعقل الذي يدفع الإنسان إلى التعلم ويدفعه إلى ممارسة حياته وجلب المنفعة ودفع المضرة ، لكن نريد أن ننظر إلى ملامح العقل التام ، وإلى ملامح العقل الكامل الذي من رزقه فقد رزق خيراً عظيماً وفضلاً كبيراً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين عظيم منزلة وفضيلة العقل ، عندما جعل خطابه والانتفاع من آياته مخصوصاً بأهل العقل كما قال عز وجل : { إنما يتذكر أولوا الألباب } وكما قال عز وجل : { وما يعقلها إلا العالمون } قالوا في معناها أنهم العقلاء .
وكذلك في تفسير قوله عز وجل : { لينذر من كان حياً } قالوا من كان عاقلاً .
وكذلك في قوله سبحانه وتعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
أي لمن كان له عقل فلا أجل ولا أعظم من نعمة العقل التي جعلها الله عز وجل مناط التكليف والتي نوه الله سبحانه وتعالى أن هدايته وأن آياته وأن فضله وإنعامه لا يناله إلا صاحب العقل ولذلك قال محمد بن يزيد نظماً قي تفضيل العقل فقال :-
وأفضل قسم الله للمرء عقله *** وليس من الخيرات شيئاً يقاربه
إذا كمل الرحمن للمرء عقله *** فقد كملت أخلاقه ومآربه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه *** على العقل يجري علمه وتجاربه
ومن كان غلاباً بعقل ونجدة *** فذو الجد في أمر المعيشة غالبه
فزين الفتى في الناس صحة عقله *** وإن كان محصوراً عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
فإن هذا لا يفيده ولا ينفعه إن لم يكن له عقل يحسن أفعاله ، ويجمّل ألفاظه ، ويأمن به شرور العواقب بإذن الله عز وجل .
يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في حقيقة العقل وخلاصة تصرف العاقل : " لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه ، والشر فتركه ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له عقل " .
حتى إذا جئنا إلى الصور نكون قد اتفقنا على هذه القواعد ؛ فإذا جئنا إلى صورة أو إلى بعض النماذج الواقعة في حياة المسلمين وجئنا بعد كل صورة لنسأل : " هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟ " .
نتذكر هذه القواعد التي ذكرها العلماء فها هو يقول وأعيد قوله مرة أخرى :
" لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له من عقل " .
وقال أيضاً : " وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم ؛ حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره وترك ما يعلم أنه ينفعه لما نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال وهو في هذه الحال ليس عديم اعلم والتصديق بالكلية ؛ لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده بل عنه ، وعما في النفس من حب ما ينفعها ، وبغض ما يضرها فإذا حصل لها مرض بهذه الأمراض والأدواء ففسدت به أحبت ما يضرها ، وأبغضت ما ينفعها فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره " .
وهذا أحد المعالم التي هي أحد ملامح العقلاء وملمح آخر مهم هو أن العقلاء لا ينظرون إلى أوائل الأمور ومبادئها وإنما ينظرون إلى أواخرها وعواقبها وهنا يرجح عقل العاقل وهنا تظهر فطنة الفطن فإن الناس يشتركون في مبادئ الأمور لكن أصحاب العقول الراجحة هم الذين يتروون وينظرون إلى ما وراء الظواهر من العواقب والبواطن ولذا قال ابن الجوزي رحمه الله في ذم الهوى : " ومطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة ، ويحث إلى الميل إلى الشهوات عاجلاً ، وإن كانت سبباً للأم والأذى في العاجل ومنع اللذات في الآجل " ، والعقل - طبعاً - بخلاف ذلك هو الذي ينظر في اللذة الآخرة ، وينظر إلى عاقبة كل أمر ونهايته ، ولذلك من جميل ما قيل من حوار بين رجال من أعقل العقلاء نقل في بعض كتب الأدب هذا الحوار بين معاوية وعمرو بن العاص وكلاهما من أجلة العقلاء ومن نوادر الدهاة الأذكياء فقال معاوية لعمرو : ما بلغ من دهائك يا عمرو ؟!
قال عمرو : لم أدخل في أمر قط إلا خرجت منه . يعني لم أدخل في أمر قط وكرهته أو رأيت فيه مضرة إلا خرجت منه .
فقال معاوية : لكني لم أدخل في أمر قط فأردت الخروج منه . يعني فكر في الدخول قبل الخروج فلم يدخل ثم بعد ذلك يلتمس سبيل الخروج .
وعمرو كان ربما دخل في الأمر ولكنه أحسن التخلص ، لكن ما رأيكم في الثالث الذي يدخل في الأمر يضره ثم لا يحسن أن يخرج منه بل يبقى فيه ، هذا لا شك أنه هو أجهل الجهلاء .
ولذلك قال بعض أهل الأدب والحكمة : " ليس العاقل الذي يحتال في الأمر إذا وقع أو يحتال للأمر إذا وقع ولكنه الذي يحتال للأمر أن لا يقع " ، أي الذي يفكر ويحلل ، ويجمع المتفرقات ، ويدرس القضايا .. فيعرف الأواخر قبل الأوائل ، ويعرف المنتهى قبل المبتدى ، فيحكم أمره ، ويصوغ رأيه قبل أن يندم على تصرف يتصرفه .
ولذلك أيضاً قال القائل : " الناس حازمان وعاجز .. فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم ينظر به ، وتلقاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه - لم ينظر به أي يمكث فيه عنده كثيراً وإنما يسرع بالحيلة والتدبير حتى يخرج من المضرة والأذى - وأحزم منه العارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه .. والعاجز من هو ؟
العاجز في تردد حائر بائر ، لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا " ؛ فهذا لا شك أنه العاجز الجاهل الأحمق الذي ينبغي أن لا يتصف بوصفه أحد يريد لنفسه النجاة ولوصفه الكمال.
قال القائل في هذا المعنى : " بصري بأعقاب الأمور كأنما تخاطبه من كل أمر عواقبه " ، كأن النهايات تخاطبه فيعرفها ويبصرها .
ولا شك أن هذا أن مع كمال العقل إشراق التقوى ، لأن الله عز وجل قال : } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [ البقرة:282 ] .
وكما ورد أيضاً : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) .
لا شك أن التقوى والبعد عن الذنوب مع العقل والتفكر هو الذي يقود الإنسان إلى بصائر الذنوب ، وكما قال بعض أهل العلم : " الفتنة إذا أدبرت عرفها كل أحد لكنها لا يعرفها إذا أقبلت إلا أهل العقل والإيمان " يعني إذا انتهت الفتنة عرف ما كان فيها من الحق والباطل ، ولذلك تقع الفتن فتختلف الآراء وتضطرب المواقف ، ويحصل لكل أحد رأي وموقف وعمل ، ثم تنجلي الأمور فكثيراً يكونون من النادمين ويقرون ، بأنهم كانوا مخطئين ، وقليلون من أهل البصائر ومن أهل الإيمان من يكونوا قد وفق لمعرفة ما وراء ذلك ، وكما قال القائل أيضاً :
بصير بأعقاب الأمور كأنما *** يرى بصواب الرأي ما هو واقع
فهذه أيضاً نقطة ثانية مهمة فيما يتعلق بعواقب الأمور وهي من ملامح العقلاء .
ومن الملامح أيضاً أن العاقل يفكر عن إرادة الفعل تفكيراً دقيقاً ؛ حتى يزن الأمر قبل فعله .. وهذا يختلف عن الأول في أن هذا في الأمور المعتادة والعارضة وذاك في الأمور الكبيرة الجسيمة .
قال الحسن البصري رحمه الله : " لسان العاقل وراء قلبه فإذا أراد التكلم تفكر ؛ فإن كان له قال ، وإن كان عليه سكت ، وقلب الأحمق من وراء لسانه .. فإذا أراد أن يقـول قـال ؛ فـإن كـان لـه سكت ، وإن عليه قال " ؛ لأنه يعكس الأمور ويأتي بها على عواقبها .
وفي هذا بالذات في ملامح العقلاء ما يتعلق بالمنطق :
وهذه مسألة مهمة لأن النبي عليه والصلاة والسلام قد قال : ( رب كلمة يتكلم بها الرجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا ) .
ولما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في حق صفية : "حسبك من صفية قصرها " قال النبي : ( قد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته )
وهذا تدليل على عظمة الكلام وخطورته ، ودقة مواقعه وخطورة ما يئول إليه سيما إن كان في الحكم على الناس أو إن كان في الفتيا في الدين ونحو ذلك ؛ فإنه أمر تخشى عواقبه .
ولذلك من نفائس الحكم التي ذكرت عن سليمان بن عبد الملك رحمه الله أنه قال : " فضل العقل على المنطق حكمة ... " وفضل يعني زيادة .
أي زيادة العقل على الكلام حكمة أي بمعنى من زاد عقله على كلامه فذلك حكمة ، ثم قال : " وفضل المنطق على العقل هجنة" أي مما يستهجن ويعاب به الإنسان .
ثم قال : " وخير الأمور ما صدق بعضها بعضا" أي ما كان اللسان في مواطنـاً للعقـل موافقـاً لـه منضبطاً بتفكيره وتدبيره ، ولذلك ينبغي أن ندرك مثل هذا الملمح .
وملمح رابع أيضاً نذكره وهو : أن التجارب هي التي تصقل العقول
ولذلك ينبغي أن لا نظن أن العقل وكماله بالعلم وحده ، وإنما التجربة تنضج العقل في كثير من الأحوال أكثر من العلم والاطلاع .
ولذلك كما يقولون : " حكمة الشيوخ " ، ومن أين جاءت حكمة الشيوخ ؟ .. جاءت من طول التجارب التي تمر بهم ، ولذلك ينبغي أن ندرك أهمية هذه التجارب .. و قد قال القائل في مثل هذا المعنى :
ألم ترى أن العقل زين لأهله *** وأن كمال العقل طول التجارب
ولذلك يتأمل الإنسان فيرى أعظم ما ينفعه إنما يكتسبه بكثرة الخبرة والمعرفة والتأمل في مصائر الناس ؛ لأنه كما قالوا : " السعيد من وعظ بغيره ، والعاقل من تفكّر في مصير غيره " .
لأن الأمور إنما تقاس بالأشباه والنظائر ؛ فإذا حصل نتيجة الفعل القبيح عاقبة سيئة فليعلم أن من فعل مثل هذا الفعل فستكون له مثل تلك العاقبة .
.
عزام
هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وله الحمد على كل حال ، وفي كل آنٍ ، وله الحمد ملء السماوات والأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شاء من شيء بعد ، وله الحمد كما نقول ، وخيراً مما نقول ، وله الحمد كما يقول حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما يليق بجلاله ، وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى .
ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين ، نبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين .
أما بعد أيها الأخوة الكرام :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ...
ونحمد الله جل وعلا أن جدد اللقاء في هذا اليوم المبارك ، وفي رحاب بيت من بيوته تحفنا - بإذن الله عز وجل - الملائكة ، وتتغشانا الرحمة ، وتتنزل علينا السكينة ؛ إذ نذكر الله جل وعلا ، ونذكر هدي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا لقاءنا نع الدرس الثاني والثلاثين بعد المائة ينعقد في اليوم السابع من شهر الله المحرم عام سبعة عشر وأربعمائة وألف للهجرة ، وعنوان هذا الدرس ( هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟ ) .
وهو أمر نعرج فيه أو موضوع نعرج فيه على كثير من الممارسات والمقالات التي لا تنسجم مع كمال العقل وحصافة الرأي ؛ وبالتالي قبل ذلك أيضاً لا تتفق مع شرع الله عز وجل .
فإن العقل الكامل التام ليس الـذي هـو يميز الأمور أو يعرف الظواهر وإنما كما سنذكر له ملامح أعظم وأدق ، ونرى أن كثيراً من الممارسات تخالف مثل هذا المعنى ، فنستعين الله جل وعلا ، ونسأله التوفيق والسداد ، وأن يجعل في مجلسنا هذا النفع والفائدة ، وأن يكتب لنا فيه الأجر والمثوبة .
وسنبدأ في : معنى العقل .
ثم : وقفة بين العقل والهوى .
وثالثة : مع ملامح العقلاء .
ورابعة : نستطرد فيها في صور شتى ..
نسأل أنفسنا عند كل صورة منها : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟
حتى ندرك أن من التصرفات التي يمارسها بعض العقلاء ما يدل على أنهم غير عقلاء .
العقل في المعنى اللغوي يأتي بمعنى : الحجر ، ويأتي أيضاً ويطلق عليه: النهى ، ومعناه مرتبط بالكبح والضبط ؛ لأننا نعرف عقال البعير الذي يربطه ويضبطه ويقعده عن انطلاقته التي لا يريدها صاحبه ، ونعرف أيضاً الاعتقال ، فيقولون فلان معتقل . أي حبس وحدت حركته ونشاطه الذي تجـاوز فيه الحـد على غيره، أو أسـاء فيه إلى الناس ،أو أرتكب الجرم الذي استحق به أن يعقل ،وأن يعتقل ،أي أن يضبط وأن يحبس .
فالعقل في الحقيقة مضاد للهوى ، ومانع من الردى ، وكابح لشهوات النفس المردية ، ومدبر لتصرفات الإنسان ، وضابط لألفاظه وكلماته ، وهو الذي في جملة الأمر يحبه عن ما يضره ، ويكبح جماحه ،عما فيه مساءة لغيره ،وعاقبة سيئة له .
ولذلك لو تأملنا الاستعمالات اللغوية للمادة الثلاثية لكلمة العقل وهي "عقل" لوجدنا أنها تدور في هذه الدائرة وهي دائرة الحبس والمنع مما يضر .
ومن هذا المنطلق ننطلق إلى النقطة الثانية وهي بين العقل والهوى : فإن الهوى يهوي بصاحبه فهو انطلاق وجريان كجريان الهوى والريح ، يحتاج إلى عقل يضبطه ؛ ومن ثم فإن هناك نزاعاً بين العقل والهوى في حكم الإنسان ، وكأن هناك منافسة على السلطة في كيان الإنسان بين العقل وبين الهوى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائده " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة إليه " .
فالعقل إذا لم يكن تحت حكم الهوى رجع هو الذي يضبط الأمور ويسوس التصرفات والأفعال .
ولذلك يقول ابن القيم في روضة المحبين " إذا كانت الدولة للعقل سالمه الهوى وكان من خدمه وأتباعه كما أن الدولة إذا كانت للهوى صار العقل أسيراً في يديه محكوماً عليه فمن تسلط عليه هواه غاب عقله ومن تصرف الهوى في أفعاله وأقواله ظهر الجهل فيها وبان خفاء العقل منها " .
ولذلك يعبر ابن الجوزي في " صيد خاطره " عن الضبط الذي يكون للعقل وأنه قد يكون ضبطاً محكماً وقد يكون ضبطاً فيه ارتخاء فيمثل لذلك بمثال يقول " وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة - سبع يعني أسد في عنقه سلسلة - فإن استوثق منه ضابطه كفه " أي إن أحكم مسك السلسلة كفه عن الهجوم والاعتداء والإساءة ، ثم يقول : " إن استوثق منه ضابطه كفه ، وربما لاحـت له شهواته الغالبة عليه ، فلم تقاومها السلسة فأفلت" ، وما ظنكم بهذا السبع إذا أفلت ؟ .. أي ضرر يقع منه وأي خطر يرتقب ويحذر منه ؟ قال " على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، ومنهم من يكف هواه بخيط " أي بخيط خفيف مجرد أي حركة ينقطع هذا الخيط ، ويفلت الزمام من يده وهذا الذي لا يجعل للعقل حظوراً قوياً في موقف ، ولا يجعل للعقل سيطرة تامة في كل تصرف يكون ضبطه خفيفاً هيناً متميعاً ، فلا يملك إلا أن يغلبه هواه في جولة ثم ثانية ، ثم ربما استولى الهوى وتفرد بالسلطة على كيان الإنسان وتصرف في أفعاله و أقواله كما ذكرنا .
ولذلك عندما يفكر الإنسان ينظر إلى حقيقة العقل وإلى خطر الهوى ، ونجتمع في هذا إلى كلمات نفيسة ذكرها الماوردي في أدب الدنيا والدين إذ قال : " لما كان الهوى غالباً وإلى سبيل المهالك مورداً جعل العقل رقيباً مجاهداً يلاحظ عثرت غفلته ، ويدفع بادرة سطوت ويدفع خداع حيلته ؛ فإن سلطان الهوى قوي ومدخل مكره خفي " .
وهذه كلمات تدل على عمق نظر ودقة بصر ، وعلى فهم عميق وتحليل دقيق لطبيعة الإنسان وطبيعة سلوكه في الحياة ، بين فيها أن الهوى يغلب وأن غلبته تورد إلى المهالك وأن العقل ينبغي أن يكون رقيباً مجاهداً مجتهداً يلاحظ عثرة الغفلة ويدفع بادرة السطوة ويدفع خداع الحيلة ؛ لأن سلطان الهوى قوي ودخل مكره خفي .
فإذا عرفنا ذلك فلننتقل إلى النقطة الثالثة التي ننظر فيها إلى بعض ملامح العقلاء مما ورد في بعض الحكم والكلمات التي ذكرها العلماء والأدباء :
نحن نعرف العقل المعروف الذي ضد الجنون الذي يعرف فيه الإنسان أنه كذا ... والعقل الذي يدفع الإنسان إلى التعلم ويدفعه إلى ممارسة حياته وجلب المنفعة ودفع المضرة ، لكن نريد أن ننظر إلى ملامح العقل التام ، وإلى ملامح العقل الكامل الذي من رزقه فقد رزق خيراً عظيماً وفضلاً كبيراً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين عظيم منزلة وفضيلة العقل ، عندما جعل خطابه والانتفاع من آياته مخصوصاً بأهل العقل كما قال عز وجل : { إنما يتذكر أولوا الألباب } وكما قال عز وجل : { وما يعقلها إلا العالمون } قالوا في معناها أنهم العقلاء .
وكذلك في تفسير قوله عز وجل : { لينذر من كان حياً } قالوا من كان عاقلاً .
وكذلك في قوله سبحانه وتعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
أي لمن كان له عقل فلا أجل ولا أعظم من نعمة العقل التي جعلها الله عز وجل مناط التكليف والتي نوه الله سبحانه وتعالى أن هدايته وأن آياته وأن فضله وإنعامه لا يناله إلا صاحب العقل ولذلك قال محمد بن يزيد نظماً قي تفضيل العقل فقال :-
وأفضل قسم الله للمرء عقله *** وليس من الخيرات شيئاً يقاربه
إذا كمل الرحمن للمرء عقله *** فقد كملت أخلاقه ومآربه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه *** على العقل يجري علمه وتجاربه
ومن كان غلاباً بعقل ونجدة *** فذو الجد في أمر المعيشة غالبه
فزين الفتى في الناس صحة عقله *** وإن كان محصوراً عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
فإن هذا لا يفيده ولا ينفعه إن لم يكن له عقل يحسن أفعاله ، ويجمّل ألفاظه ، ويأمن به شرور العواقب بإذن الله عز وجل .
يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في حقيقة العقل وخلاصة تصرف العاقل : " لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه ، والشر فتركه ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له عقل " .
حتى إذا جئنا إلى الصور نكون قد اتفقنا على هذه القواعد ؛ فإذا جئنا إلى صورة أو إلى بعض النماذج الواقعة في حياة المسلمين وجئنا بعد كل صورة لنسأل : " هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟ " .
نتذكر هذه القواعد التي ذكرها العلماء فها هو يقول وأعيد قوله مرة أخرى :
" لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له من عقل " .
وقال أيضاً : " وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم ؛ حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره وترك ما يعلم أنه ينفعه لما نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال وهو في هذه الحال ليس عديم اعلم والتصديق بالكلية ؛ لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده بل عنه ، وعما في النفس من حب ما ينفعها ، وبغض ما يضرها فإذا حصل لها مرض بهذه الأمراض والأدواء ففسدت به أحبت ما يضرها ، وأبغضت ما ينفعها فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره " .
وهذا أحد المعالم التي هي أحد ملامح العقلاء وملمح آخر مهم هو أن العقلاء لا ينظرون إلى أوائل الأمور ومبادئها وإنما ينظرون إلى أواخرها وعواقبها وهنا يرجح عقل العاقل وهنا تظهر فطنة الفطن فإن الناس يشتركون في مبادئ الأمور لكن أصحاب العقول الراجحة هم الذين يتروون وينظرون إلى ما وراء الظواهر من العواقب والبواطن ولذا قال ابن الجوزي رحمه الله في ذم الهوى : " ومطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة ، ويحث إلى الميل إلى الشهوات عاجلاً ، وإن كانت سبباً للأم والأذى في العاجل ومنع اللذات في الآجل " ، والعقل - طبعاً - بخلاف ذلك هو الذي ينظر في اللذة الآخرة ، وينظر إلى عاقبة كل أمر ونهايته ، ولذلك من جميل ما قيل من حوار بين رجال من أعقل العقلاء نقل في بعض كتب الأدب هذا الحوار بين معاوية وعمرو بن العاص وكلاهما من أجلة العقلاء ومن نوادر الدهاة الأذكياء فقال معاوية لعمرو : ما بلغ من دهائك يا عمرو ؟!
قال عمرو : لم أدخل في أمر قط إلا خرجت منه . يعني لم أدخل في أمر قط وكرهته أو رأيت فيه مضرة إلا خرجت منه .
فقال معاوية : لكني لم أدخل في أمر قط فأردت الخروج منه . يعني فكر في الدخول قبل الخروج فلم يدخل ثم بعد ذلك يلتمس سبيل الخروج .
وعمرو كان ربما دخل في الأمر ولكنه أحسن التخلص ، لكن ما رأيكم في الثالث الذي يدخل في الأمر يضره ثم لا يحسن أن يخرج منه بل يبقى فيه ، هذا لا شك أنه هو أجهل الجهلاء .
ولذلك قال بعض أهل الأدب والحكمة : " ليس العاقل الذي يحتال في الأمر إذا وقع أو يحتال للأمر إذا وقع ولكنه الذي يحتال للأمر أن لا يقع " ، أي الذي يفكر ويحلل ، ويجمع المتفرقات ، ويدرس القضايا .. فيعرف الأواخر قبل الأوائل ، ويعرف المنتهى قبل المبتدى ، فيحكم أمره ، ويصوغ رأيه قبل أن يندم على تصرف يتصرفه .
ولذلك أيضاً قال القائل : " الناس حازمان وعاجز .. فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم ينظر به ، وتلقاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه - لم ينظر به أي يمكث فيه عنده كثيراً وإنما يسرع بالحيلة والتدبير حتى يخرج من المضرة والأذى - وأحزم منه العارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه .. والعاجز من هو ؟
العاجز في تردد حائر بائر ، لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا " ؛ فهذا لا شك أنه العاجز الجاهل الأحمق الذي ينبغي أن لا يتصف بوصفه أحد يريد لنفسه النجاة ولوصفه الكمال.
قال القائل في هذا المعنى : " بصري بأعقاب الأمور كأنما تخاطبه من كل أمر عواقبه " ، كأن النهايات تخاطبه فيعرفها ويبصرها .
ولا شك أن هذا أن مع كمال العقل إشراق التقوى ، لأن الله عز وجل قال : } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [ البقرة:282 ] .
وكما ورد أيضاً : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) .
لا شك أن التقوى والبعد عن الذنوب مع العقل والتفكر هو الذي يقود الإنسان إلى بصائر الذنوب ، وكما قال بعض أهل العلم : " الفتنة إذا أدبرت عرفها كل أحد لكنها لا يعرفها إذا أقبلت إلا أهل العقل والإيمان " يعني إذا انتهت الفتنة عرف ما كان فيها من الحق والباطل ، ولذلك تقع الفتن فتختلف الآراء وتضطرب المواقف ، ويحصل لكل أحد رأي وموقف وعمل ، ثم تنجلي الأمور فكثيراً يكونون من النادمين ويقرون ، بأنهم كانوا مخطئين ، وقليلون من أهل البصائر ومن أهل الإيمان من يكونوا قد وفق لمعرفة ما وراء ذلك ، وكما قال القائل أيضاً :
بصير بأعقاب الأمور كأنما *** يرى بصواب الرأي ما هو واقع
فهذه أيضاً نقطة ثانية مهمة فيما يتعلق بعواقب الأمور وهي من ملامح العقلاء .
ومن الملامح أيضاً أن العاقل يفكر عن إرادة الفعل تفكيراً دقيقاً ؛ حتى يزن الأمر قبل فعله .. وهذا يختلف عن الأول في أن هذا في الأمور المعتادة والعارضة وذاك في الأمور الكبيرة الجسيمة .
قال الحسن البصري رحمه الله : " لسان العاقل وراء قلبه فإذا أراد التكلم تفكر ؛ فإن كان له قال ، وإن كان عليه سكت ، وقلب الأحمق من وراء لسانه .. فإذا أراد أن يقـول قـال ؛ فـإن كـان لـه سكت ، وإن عليه قال " ؛ لأنه يعكس الأمور ويأتي بها على عواقبها .
وفي هذا بالذات في ملامح العقلاء ما يتعلق بالمنطق :
وهذه مسألة مهمة لأن النبي عليه والصلاة والسلام قد قال : ( رب كلمة يتكلم بها الرجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا ) .
ولما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في حق صفية : "حسبك من صفية قصرها " قال النبي : ( قد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته )
وهذا تدليل على عظمة الكلام وخطورته ، ودقة مواقعه وخطورة ما يئول إليه سيما إن كان في الحكم على الناس أو إن كان في الفتيا في الدين ونحو ذلك ؛ فإنه أمر تخشى عواقبه .
ولذلك من نفائس الحكم التي ذكرت عن سليمان بن عبد الملك رحمه الله أنه قال : " فضل العقل على المنطق حكمة ... " وفضل يعني زيادة .
أي زيادة العقل على الكلام حكمة أي بمعنى من زاد عقله على كلامه فذلك حكمة ، ثم قال : " وفضل المنطق على العقل هجنة" أي مما يستهجن ويعاب به الإنسان .
ثم قال : " وخير الأمور ما صدق بعضها بعضا" أي ما كان اللسان في مواطنـاً للعقـل موافقـاً لـه منضبطاً بتفكيره وتدبيره ، ولذلك ينبغي أن ندرك مثل هذا الملمح .
وملمح رابع أيضاً نذكره وهو : أن التجارب هي التي تصقل العقول
ولذلك ينبغي أن لا نظن أن العقل وكماله بالعلم وحده ، وإنما التجربة تنضج العقل في كثير من الأحوال أكثر من العلم والاطلاع .
ولذلك كما يقولون : " حكمة الشيوخ " ، ومن أين جاءت حكمة الشيوخ ؟ .. جاءت من طول التجارب التي تمر بهم ، ولذلك ينبغي أن ندرك أهمية هذه التجارب .. و قد قال القائل في مثل هذا المعنى :
ألم ترى أن العقل زين لأهله *** وأن كمال العقل طول التجارب
ولذلك يتأمل الإنسان فيرى أعظم ما ينفعه إنما يكتسبه بكثرة الخبرة والمعرفة والتأمل في مصائر الناس ؛ لأنه كما قالوا : " السعيد من وعظ بغيره ، والعاقل من تفكّر في مصير غيره " .
لأن الأمور إنما تقاس بالأشباه والنظائر ؛ فإذا حصل نتيجة الفعل القبيح عاقبة سيئة فليعلم أن من فعل مثل هذا الفعل فستكون له مثل تلك العاقبة .
.