عزام
02-12-2008, 06:32 PM
أصول المناظرة
(عبد الرحمن حبنكة الميداني )
قد تدعو حاجة البحث المشترك للتوصل إلى الحق ، وحاجة الإقناع بالحق ، إلى استخدام وسيلة (المناظرة)، وهي الجدال بالتي هي أحسن . وللمناظرة المأذون بها شروط وقواعد وأصول ينبغي اتباعها، صيانة لها عن أن تتحول إلى مماراة بعيدة عن نشدان الحقيقة، أو إلى مشاحنات أنانية، ومشاتمات ومغالطات ، ونحو ذلك مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويورث التعصب ، ولا يوصل إلى حق . والجدال : هو حوار كلامي يتفهم فيه كل طرف من الفريقين المتحاورين وجهة نظر الطرف الاخر، وبعرض فيه كل طرف منهما أدلته التي رجحت لديه استمساكه بوجهة نظره ، ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التي يوجهها الطرف الاخر على أدلته ، أو من خلال الأدلة التي ينير له بها بعض النقاط التي كانت غامضة عليه .
وهدف المناظرة هو في الأصل تعاون الفريقين المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، بتبصير كل منهما صاحبه بالأماكن المظلمة عليه ، والتي خفيت عنه حينما أخذ ينظر باحثا عن الحقيقة، وذلك حينما لا يكون أحدهما واقفا على الحقيقة المبينة وقوفا قطعيا غير قابل للنقض ، أما في هذه الحالة فإن هدف المناظرة إنما هو تبصير الواقف على الحقيقة أخاه المناظر له بها، والأخذ بيده في طرق الاستدلال الصحيح لإبلاغه وجه الحق المشرق ، وذلك باستخدام الحوار البريء من التعصب ، الخالي من العنف والانفعال ،
المتمشي وفق الأصول العامة للحوار الذي يهدف فيه كل من الفريقين المتحاورين أن يصل إلى الحقيقة، كانه جاهل بها، خالي الذهن والنفس من أي استمساك سابق بوجهة نظر معينة من وجهات النظر المختلفة، وذلك للابتعاد عن كل أجواء التعصب والأنانية، التي تصرف النفوس والأفكار عن تفهم الحق ، أو التسليم به ، ولو انكشف لها واضحا جليا.
الجدال بالتي هي أحسن من وسائل الدعوة إلى الإسلام :
ولما كان الجدال في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقناع بها، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، والجدال سلاحه للدفاع عن أفكاره ، فقد أمر الإسلام به للدفاع عن الحق الإسلامي مشروطا بأن يكون بالتي هي أحسن ، كما أمر بالقتال لصد عدوان الكافرين ، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "وجادلهم بالتي هي احسن". وخاطب الله تعالى المؤمنين في سورة (العنكبوت 29) بقوله : "ولا تجادلوا أهل الكتاب !لا بالتى هي احسن". أي : فإن سلك مجادلوكم مسالك غير مهذبة القول، فتقيدوا أنتم بكل قول مهذب، واسلكوا كل طريقة هي أحسن وأفضل. وعبارة "بالتي هي أحسن" تشمل بعمومها الأساليب الفكرية والقولية، وبهذا يتبين لنا أن المطلوب من المسلم أن يكون في مجادلته، على حالة أرقى وأحسن باستمرار من الحالة التي يكون عليها من يجادله، أدبا وتهذيبا، أو قولا وفكرا. وقد اتى الله إبراهيم عليه السلام قوة حجة، وقدرة على الجدال للإلزام بالحق، وهذا ما تكشفه لنا جدلياته التي قص القران علينا طرفا منها، وأثنى الله على قوة حجة إبراهيم عليه السلام بقوله في سورة (الأنعام 6): "وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم(83)"
وآتى الله نوحا عليه السلام نفسا طويلا في جدال الكافرين ، لإقناعهم بالحق الذي جاء به من عند الله ، حتى ضاقوا ذرعا بقوة حجته وطول نفسه في الجدال ، فقالوا له : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، وهذا ما قصه الله علينا في سورة (هود ا ا) بقوله تعالى : "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين. ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون". وقلل القرآن من قيمة من هو في الخصام غير مبين، فقال الله تعالى في سورة (الزخرف) : "أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين". ومن هذا يتحصل لدينا أن الجدال للوقوف على الحق ، أو لإقناع الناس به ، عمل محمود، وقد يكون واجبا كالقتال في سبيل الله . أما الجدال انتصارا للنفس ، ورغبة بالاستعلاء والغلبة، فهو عمل مذموم ، وقد يكون حراما إذا كان فيه طمس للحق أوتضليل للمناظر. توجيهات إسلامية إلى القواعد العامة للجدال بالتي هي أحسن . يحسن بنا بعد أن عرفنا معنى الجدال بالتي هي أحسن ، وهدفه في المنهج الإسلامي أن ننظر في قواعده العامة التي هدى إليها الإسلام في توجيهاته . وقد استطعنا بالتأمل في النصوص الإسلامية، والتطبيقات الجدلية القرآنية، والأصول المنطقية البدهية ، أن نستنبط القواعد التالية:
القاعدة الأولى :
تخلي كل من الفريقين المتصديين للمحاورة الجدلية (المناظرة) حول موضوع معين، عن التعصب لوجهة نظره السابقة، وإعلانهما الاستعداد التام نلبحث عن الحقيقة، والأخذ بها عند ظهورها، سواء أكانت هي وجهة نظره السابقة، أو وجهة نظر من يحاوره في المناظرة، أو وجهة نظر أخرى. وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الأخذ بهذه القاعدة، إذ علم الرسول صلوات الله عليه والمسلمين في سورة (سبأ 34)، أن يقولوا للمشركين في مناظرتهم لهم : "وإنا وأياكم لعلى هدى او في ضلال مبين". وفي هذا غاية التخلي عن التعصب لأمر سابق، وكمال إعلان الرغبة بنشدان الحقيقة أنى كانت. ولما كان موضوع المناظرة الذي وردت هذه الآية في صدد توحيد الخالق أو الإشراك به، وهما أمران على طرفي نقيض، لا لقاء بينهما بحال من الأحوال، وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة الدينية، كان من الأمور البدهية أن الهداية في أحدهما إذ هو الحق، وأن الضلال المبين في الآخر إذ هو الباطل، ومن أجل ذلك كانت عبارة إعلان التخلي عن التعصب لأمر سابق ، تتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة.
القاعدة الثانية:
تقيد كل من الفريقين المتحاورين بالقول المهذب، البعيد عن كل طعن أو تجريح، أو هزء أو سخرية، أو احتقار لوجهة النظر التي يدعيها أو يدافع عنها من يحاوره. وقد أرشدنا الإسلام إلى التقيد بهذه القاعدة في نصوص كثيرة، منها قول الله تعالى لنبيه في سورة النحل 16: "وجادلهم بالتي هي احسن". وقوله تعالى للمؤمنين في سورة (العنكبوت 29): "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". والتوجيه إلى الخطة التي هي أحسن ، يشمل كل ما يتعلق بالجدال ، ويرتبط به ويرافقه ويصاحبه ، من قول وفكر وعمل . فالمسلم مطالب بأن يلتزم في مجادلته لإثبات الحق الذي يؤمن به وإقناع الناس به ، الخطة التي هي أحسن من كل خطة يمكن أن يتخذها الناس في مجادلاتهم . لذلك كان من أخلاق المسلم وآدابه مع خصوم دينه ومخالفي عقيدته، فضلا عن إخوانه المؤمنين، أنه لا يسلك مسالك السب والشتم، والطعن واللعن، والهمز واللمز، والهزء والسخرية، والفحش والبذاءة. وقد أكد الإسلام النهي عن هذه المسالك، فقال الله تعالى يخاطب رسوله والمؤمنين في سورة (الأنعام): "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (108)". وقد حكم الله بالويل (وهو العذاب الشديد) على الهمازين اللمازين، فقال تعالى في سورة (الهمزة) "ويل لكل همزة لمزة" . وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء ". رواه الترمذي والبيهقي في "شعب الإيمان ".
القاعدة الثالثة:
التزام الطرق المنطقية السليمة لدى المناظرة والحوار. ويدل على هذه القاعدة عموم الأمر بان يكون الجدال جدالا بالتي هي أحسن . ومن التزام الطرق المنطقية السليمة ما يلي:
أولا : تقديم الأدلة المثبتة أو المرجحة للأمور المدعاة.
ثانيا: إثبات صحة النقل للأمور المنقولة المروية. ومن ذلك أخذ علماء فن "آداب البحث والمناظرة" قاعدتهم المشهورة التي يقولون فيها : "إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل " . ونجد الإرشاد إلى ذلك في نصوص قرآنية كثيرة ، منها النصوص التاليات :
1-قول الله تعالى في سورة (النمل): "أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أئله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين(64)"
2 -وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء): "أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون(24)"
ففي هذين النصين يأمر الله رسوله محمدا صلى اله عليه وسلم بأن يطالب المشركين بتقديم برهانهم على ما يدعون، ويشمل البرهان في مثل هذا الادعاء البرهان العقلي، والبرهان النقلي عن رسول من رسل الله، وآية الأنبياء تشير إلى مطالبتهم بالبرهان النقلي، أما آية النمل فتطالب بتقديم البرهان بشكل عام، عقليا كان أو نقليا.
القاعدة الرابعة:
ألا يكون المناظر ملتزما في أمر من أموره بضد الدعوى التي يحاول أن يثبتها، فإذا كان ملتزما بشيء من ذلك، كان حاكما على نفسه بأن دعواه مرفوضة من وجهة نظره. ومن الأمثلة على سقوط دعوى المناظر بسبب التزامه بضد دعواه، وقبوله له. استدلال بعض من أنكر رسالة محمد صلوات الله عليه بانه بشر، وزعم هؤلاء أن الاصطفاء بالرسالة لا يكون للبشر، وإنما يكون للملائكة، أو مشروط بأن يكون مع الرسول من البشر ملك يرى، وفي اعتراضهم على بشريته قالوا : "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق"، مع أنهم يعتقدون برسالة كثير من الرسل السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء في نظرهم بشر وليسوا بملائكة. ولذلك أسقط الله دعواهم بقوله تعالى في سورة (الفرقان 25): "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق"
القاعدة الخامسة:
ألا يكون في الدعوى أو في الدليل الذي يقدمه المناظر تعارض، أي : ألا يكون بعض كلامه ينقض بعضه الآخر، فإذا كان كذلك كان كلامه ساقطا بداهة. ومن أمثلة ذلك قول الكافرين حينما كانوا يرون الآيات الباهرات تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سحر مستمر"، وقد حكى الله لنا ذلك بقوله في سورة (القمر): "إقتربت الساعه وانشق القمر وإن يروا اية يعرضوا ويقولوا سخر مستمر". ففي قولهم هذا تعارض وتهافت ظاهر لا يستحق ردا، وذلك لأن من شأن السحر كما يعلمون الا يكون مستمرا، ومن شأن الأمور المستمرة أن لا تكون سحرا، أما أن يكون الشيء الواحد سحرا ومستمرا معا، فذلك جمع عجيب بين أمرين متضادين لا يجتمعان. ونظير ذلك قول فرعون عن موسى عليه السلام حينما جاءه بسلطان مبين من الحجج الدامغة والآيات الباهرات: "ساحر أو مجنون" . وقد قص الله علينا ذلك بقوله في سورة الذاريات: "وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين - فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون". وهذان أمران يكادان يكونان متضادين، فمن غير المقبول منطقيا أن يكون الشخص الواحد ذو الصفات الواحدة، مترددا بين كونه ساحرا وكونه مجنونا، وذلك لأن من شأن الساحر أن يكون كثير الفطانة والذكاء والدهاء، وهذا أمر يتنافى مع الجنون تنافيا كليا، فكيف صح في فكر فرعون هذا الترديد بين كون موسى ساحرا وكونه مجنونا؟ إن في كلامه هذا لتهافتا ظاهرا يسقطه من الاعتبار لدى المناظرة، فهو لا يستحق عليه جوابا، وهو يشعر بان فرعون يتهرب من منطق الحق ، ويطلق عبارة يغشي بها على الملأ من حوله، حتى لا يفتضح أمامهم بانتصار موسى عليه في الحجة، و هو ينتقل إلى موضوع جرأة موسى في القصر الفرعوني، فيعللها بأنها صادرة عن ساحر يعتمد على قوته في السحر، و صادرة عن مجنون لا يقدر عواقب الأمور، وهذا أيضا تهرب من منطق الحجج التي قدمها موسى عليه السلام إلى موضوع اخر هو موضوع جرأته.
القاعدة السادسة:
ألا يكون الدليل الذي يقدمه المناظر ترديدا لأصل الدعوى، فإذا كان كذلك لم يكن دليلا، وإنما هو إعادة للدعوى بصيغة ثانية، وسقوط هذا في المناظرة أمر بدهي، وقد يخفى على الخصم إذا استخدم المناظر براعته في تغيير الألفاظ وزخرفتها، ولكنه حيلة باطلة لا يلجأ إليها طلاب الحق.
القاعدة السابعة:
عدم الطعن بأدلة المناظر إلا ضمن الأصول المنطقية، أو القواعد المسلم بها لدى الفريقين المتناظرين.
القاعدة الثامنة:
إعلان التسليم بالقضايا والأمور التي هي من المسلمات الأولى ، أو من الأمور المتفق بين الفريقين المتناظرين على التسليم بها، أما الإصرار على !نكار المسلمات فهو مكابرة قبيحة، ومماراة منحرفة عن أصول المناظرة والمحاورة الجدلية السليمة، وليست من شأن طالبي الحق.
القاعدة التاسعة:
قبول النتائج التي توصل إليها الأدلة القاطعة، أو الأدلة المرجحة، إذا كان الموضوع مما يكفي فيه الدليل المرجح ، وإلا كانت المناظرة من العبث الذي لا يليق بالعقلاء أن يمارسوه .
(عبد الرحمن حبنكة الميداني )
قد تدعو حاجة البحث المشترك للتوصل إلى الحق ، وحاجة الإقناع بالحق ، إلى استخدام وسيلة (المناظرة)، وهي الجدال بالتي هي أحسن . وللمناظرة المأذون بها شروط وقواعد وأصول ينبغي اتباعها، صيانة لها عن أن تتحول إلى مماراة بعيدة عن نشدان الحقيقة، أو إلى مشاحنات أنانية، ومشاتمات ومغالطات ، ونحو ذلك مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويورث التعصب ، ولا يوصل إلى حق . والجدال : هو حوار كلامي يتفهم فيه كل طرف من الفريقين المتحاورين وجهة نظر الطرف الاخر، وبعرض فيه كل طرف منهما أدلته التي رجحت لديه استمساكه بوجهة نظره ، ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التي يوجهها الطرف الاخر على أدلته ، أو من خلال الأدلة التي ينير له بها بعض النقاط التي كانت غامضة عليه .
وهدف المناظرة هو في الأصل تعاون الفريقين المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، بتبصير كل منهما صاحبه بالأماكن المظلمة عليه ، والتي خفيت عنه حينما أخذ ينظر باحثا عن الحقيقة، وذلك حينما لا يكون أحدهما واقفا على الحقيقة المبينة وقوفا قطعيا غير قابل للنقض ، أما في هذه الحالة فإن هدف المناظرة إنما هو تبصير الواقف على الحقيقة أخاه المناظر له بها، والأخذ بيده في طرق الاستدلال الصحيح لإبلاغه وجه الحق المشرق ، وذلك باستخدام الحوار البريء من التعصب ، الخالي من العنف والانفعال ،
المتمشي وفق الأصول العامة للحوار الذي يهدف فيه كل من الفريقين المتحاورين أن يصل إلى الحقيقة، كانه جاهل بها، خالي الذهن والنفس من أي استمساك سابق بوجهة نظر معينة من وجهات النظر المختلفة، وذلك للابتعاد عن كل أجواء التعصب والأنانية، التي تصرف النفوس والأفكار عن تفهم الحق ، أو التسليم به ، ولو انكشف لها واضحا جليا.
الجدال بالتي هي أحسن من وسائل الدعوة إلى الإسلام :
ولما كان الجدال في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقناع بها، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، والجدال سلاحه للدفاع عن أفكاره ، فقد أمر الإسلام به للدفاع عن الحق الإسلامي مشروطا بأن يكون بالتي هي أحسن ، كما أمر بالقتال لصد عدوان الكافرين ، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "وجادلهم بالتي هي احسن". وخاطب الله تعالى المؤمنين في سورة (العنكبوت 29) بقوله : "ولا تجادلوا أهل الكتاب !لا بالتى هي احسن". أي : فإن سلك مجادلوكم مسالك غير مهذبة القول، فتقيدوا أنتم بكل قول مهذب، واسلكوا كل طريقة هي أحسن وأفضل. وعبارة "بالتي هي أحسن" تشمل بعمومها الأساليب الفكرية والقولية، وبهذا يتبين لنا أن المطلوب من المسلم أن يكون في مجادلته، على حالة أرقى وأحسن باستمرار من الحالة التي يكون عليها من يجادله، أدبا وتهذيبا، أو قولا وفكرا. وقد اتى الله إبراهيم عليه السلام قوة حجة، وقدرة على الجدال للإلزام بالحق، وهذا ما تكشفه لنا جدلياته التي قص القران علينا طرفا منها، وأثنى الله على قوة حجة إبراهيم عليه السلام بقوله في سورة (الأنعام 6): "وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم(83)"
وآتى الله نوحا عليه السلام نفسا طويلا في جدال الكافرين ، لإقناعهم بالحق الذي جاء به من عند الله ، حتى ضاقوا ذرعا بقوة حجته وطول نفسه في الجدال ، فقالوا له : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، وهذا ما قصه الله علينا في سورة (هود ا ا) بقوله تعالى : "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين. ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون". وقلل القرآن من قيمة من هو في الخصام غير مبين، فقال الله تعالى في سورة (الزخرف) : "أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين". ومن هذا يتحصل لدينا أن الجدال للوقوف على الحق ، أو لإقناع الناس به ، عمل محمود، وقد يكون واجبا كالقتال في سبيل الله . أما الجدال انتصارا للنفس ، ورغبة بالاستعلاء والغلبة، فهو عمل مذموم ، وقد يكون حراما إذا كان فيه طمس للحق أوتضليل للمناظر. توجيهات إسلامية إلى القواعد العامة للجدال بالتي هي أحسن . يحسن بنا بعد أن عرفنا معنى الجدال بالتي هي أحسن ، وهدفه في المنهج الإسلامي أن ننظر في قواعده العامة التي هدى إليها الإسلام في توجيهاته . وقد استطعنا بالتأمل في النصوص الإسلامية، والتطبيقات الجدلية القرآنية، والأصول المنطقية البدهية ، أن نستنبط القواعد التالية:
القاعدة الأولى :
تخلي كل من الفريقين المتصديين للمحاورة الجدلية (المناظرة) حول موضوع معين، عن التعصب لوجهة نظره السابقة، وإعلانهما الاستعداد التام نلبحث عن الحقيقة، والأخذ بها عند ظهورها، سواء أكانت هي وجهة نظره السابقة، أو وجهة نظر من يحاوره في المناظرة، أو وجهة نظر أخرى. وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الأخذ بهذه القاعدة، إذ علم الرسول صلوات الله عليه والمسلمين في سورة (سبأ 34)، أن يقولوا للمشركين في مناظرتهم لهم : "وإنا وأياكم لعلى هدى او في ضلال مبين". وفي هذا غاية التخلي عن التعصب لأمر سابق، وكمال إعلان الرغبة بنشدان الحقيقة أنى كانت. ولما كان موضوع المناظرة الذي وردت هذه الآية في صدد توحيد الخالق أو الإشراك به، وهما أمران على طرفي نقيض، لا لقاء بينهما بحال من الأحوال، وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة الدينية، كان من الأمور البدهية أن الهداية في أحدهما إذ هو الحق، وأن الضلال المبين في الآخر إذ هو الباطل، ومن أجل ذلك كانت عبارة إعلان التخلي عن التعصب لأمر سابق ، تتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة.
القاعدة الثانية:
تقيد كل من الفريقين المتحاورين بالقول المهذب، البعيد عن كل طعن أو تجريح، أو هزء أو سخرية، أو احتقار لوجهة النظر التي يدعيها أو يدافع عنها من يحاوره. وقد أرشدنا الإسلام إلى التقيد بهذه القاعدة في نصوص كثيرة، منها قول الله تعالى لنبيه في سورة النحل 16: "وجادلهم بالتي هي احسن". وقوله تعالى للمؤمنين في سورة (العنكبوت 29): "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". والتوجيه إلى الخطة التي هي أحسن ، يشمل كل ما يتعلق بالجدال ، ويرتبط به ويرافقه ويصاحبه ، من قول وفكر وعمل . فالمسلم مطالب بأن يلتزم في مجادلته لإثبات الحق الذي يؤمن به وإقناع الناس به ، الخطة التي هي أحسن من كل خطة يمكن أن يتخذها الناس في مجادلاتهم . لذلك كان من أخلاق المسلم وآدابه مع خصوم دينه ومخالفي عقيدته، فضلا عن إخوانه المؤمنين، أنه لا يسلك مسالك السب والشتم، والطعن واللعن، والهمز واللمز، والهزء والسخرية، والفحش والبذاءة. وقد أكد الإسلام النهي عن هذه المسالك، فقال الله تعالى يخاطب رسوله والمؤمنين في سورة (الأنعام): "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (108)". وقد حكم الله بالويل (وهو العذاب الشديد) على الهمازين اللمازين، فقال تعالى في سورة (الهمزة) "ويل لكل همزة لمزة" . وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء ". رواه الترمذي والبيهقي في "شعب الإيمان ".
القاعدة الثالثة:
التزام الطرق المنطقية السليمة لدى المناظرة والحوار. ويدل على هذه القاعدة عموم الأمر بان يكون الجدال جدالا بالتي هي أحسن . ومن التزام الطرق المنطقية السليمة ما يلي:
أولا : تقديم الأدلة المثبتة أو المرجحة للأمور المدعاة.
ثانيا: إثبات صحة النقل للأمور المنقولة المروية. ومن ذلك أخذ علماء فن "آداب البحث والمناظرة" قاعدتهم المشهورة التي يقولون فيها : "إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل " . ونجد الإرشاد إلى ذلك في نصوص قرآنية كثيرة ، منها النصوص التاليات :
1-قول الله تعالى في سورة (النمل): "أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أئله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين(64)"
2 -وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء): "أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون(24)"
ففي هذين النصين يأمر الله رسوله محمدا صلى اله عليه وسلم بأن يطالب المشركين بتقديم برهانهم على ما يدعون، ويشمل البرهان في مثل هذا الادعاء البرهان العقلي، والبرهان النقلي عن رسول من رسل الله، وآية الأنبياء تشير إلى مطالبتهم بالبرهان النقلي، أما آية النمل فتطالب بتقديم البرهان بشكل عام، عقليا كان أو نقليا.
القاعدة الرابعة:
ألا يكون المناظر ملتزما في أمر من أموره بضد الدعوى التي يحاول أن يثبتها، فإذا كان ملتزما بشيء من ذلك، كان حاكما على نفسه بأن دعواه مرفوضة من وجهة نظره. ومن الأمثلة على سقوط دعوى المناظر بسبب التزامه بضد دعواه، وقبوله له. استدلال بعض من أنكر رسالة محمد صلوات الله عليه بانه بشر، وزعم هؤلاء أن الاصطفاء بالرسالة لا يكون للبشر، وإنما يكون للملائكة، أو مشروط بأن يكون مع الرسول من البشر ملك يرى، وفي اعتراضهم على بشريته قالوا : "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق"، مع أنهم يعتقدون برسالة كثير من الرسل السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء في نظرهم بشر وليسوا بملائكة. ولذلك أسقط الله دعواهم بقوله تعالى في سورة (الفرقان 25): "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق"
القاعدة الخامسة:
ألا يكون في الدعوى أو في الدليل الذي يقدمه المناظر تعارض، أي : ألا يكون بعض كلامه ينقض بعضه الآخر، فإذا كان كذلك كان كلامه ساقطا بداهة. ومن أمثلة ذلك قول الكافرين حينما كانوا يرون الآيات الباهرات تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سحر مستمر"، وقد حكى الله لنا ذلك بقوله في سورة (القمر): "إقتربت الساعه وانشق القمر وإن يروا اية يعرضوا ويقولوا سخر مستمر". ففي قولهم هذا تعارض وتهافت ظاهر لا يستحق ردا، وذلك لأن من شأن السحر كما يعلمون الا يكون مستمرا، ومن شأن الأمور المستمرة أن لا تكون سحرا، أما أن يكون الشيء الواحد سحرا ومستمرا معا، فذلك جمع عجيب بين أمرين متضادين لا يجتمعان. ونظير ذلك قول فرعون عن موسى عليه السلام حينما جاءه بسلطان مبين من الحجج الدامغة والآيات الباهرات: "ساحر أو مجنون" . وقد قص الله علينا ذلك بقوله في سورة الذاريات: "وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين - فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون". وهذان أمران يكادان يكونان متضادين، فمن غير المقبول منطقيا أن يكون الشخص الواحد ذو الصفات الواحدة، مترددا بين كونه ساحرا وكونه مجنونا، وذلك لأن من شأن الساحر أن يكون كثير الفطانة والذكاء والدهاء، وهذا أمر يتنافى مع الجنون تنافيا كليا، فكيف صح في فكر فرعون هذا الترديد بين كون موسى ساحرا وكونه مجنونا؟ إن في كلامه هذا لتهافتا ظاهرا يسقطه من الاعتبار لدى المناظرة، فهو لا يستحق عليه جوابا، وهو يشعر بان فرعون يتهرب من منطق الحق ، ويطلق عبارة يغشي بها على الملأ من حوله، حتى لا يفتضح أمامهم بانتصار موسى عليه في الحجة، و هو ينتقل إلى موضوع جرأة موسى في القصر الفرعوني، فيعللها بأنها صادرة عن ساحر يعتمد على قوته في السحر، و صادرة عن مجنون لا يقدر عواقب الأمور، وهذا أيضا تهرب من منطق الحجج التي قدمها موسى عليه السلام إلى موضوع اخر هو موضوع جرأته.
القاعدة السادسة:
ألا يكون الدليل الذي يقدمه المناظر ترديدا لأصل الدعوى، فإذا كان كذلك لم يكن دليلا، وإنما هو إعادة للدعوى بصيغة ثانية، وسقوط هذا في المناظرة أمر بدهي، وقد يخفى على الخصم إذا استخدم المناظر براعته في تغيير الألفاظ وزخرفتها، ولكنه حيلة باطلة لا يلجأ إليها طلاب الحق.
القاعدة السابعة:
عدم الطعن بأدلة المناظر إلا ضمن الأصول المنطقية، أو القواعد المسلم بها لدى الفريقين المتناظرين.
القاعدة الثامنة:
إعلان التسليم بالقضايا والأمور التي هي من المسلمات الأولى ، أو من الأمور المتفق بين الفريقين المتناظرين على التسليم بها، أما الإصرار على !نكار المسلمات فهو مكابرة قبيحة، ومماراة منحرفة عن أصول المناظرة والمحاورة الجدلية السليمة، وليست من شأن طالبي الحق.
القاعدة التاسعة:
قبول النتائج التي توصل إليها الأدلة القاطعة، أو الأدلة المرجحة، إذا كان الموضوع مما يكفي فيه الدليل المرجح ، وإلا كانت المناظرة من العبث الذي لا يليق بالعقلاء أن يمارسوه .