عزام
02-12-2008, 06:03 PM
وهم امتلاك الحقيقة المطلقة
12/05/2005
أ. د. محمد عثمان الخشتة**
الدوجماطيقية تعريب لكلمة Dogmatism، ولها ترجمات عديدة، مثل: وثوقية، قطعية، توكيدية، إيقانية، معتقدية. وهي تعني الاعتقاد الجازم واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق! ومن ثم فهي مبدأ التعصب، وسمة لكل متزمت، ومنشأ الحروب العقائدية. والدوجماطيقة ليست مذهبا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد، وعدم إخضاع هذه المعتقدات لفحص نقدي أو تحليلي يراجع الأسس التي تقوم عليها، ودون بحث في حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلا عن عدم تمحيص الطرق التي توصل إلى المعرفة الصحيحة في كل لحظة تاريخية.
يواجه الفكر المعاصر خطر الاستقطاب من طرفين متنازعين، يتمثلان فى رؤيتين للغلو أصبح لهما الصوت الأعلى فى الجدل الجاري على مختلف الساحات، وفي العديد من الثقافات، وهما: تيار التطرف العلمانى وتيار التطرف الديني.. إذ يتحدث التيار الأول وكأن الله غير موجود، بينما يتحدث التيار الثانى وكأن الإنسان غير موجود ! بمعنى أنه ينزع من الإنسان كل فاعلياته ومسئولياته ومواهبه. التيار الأول جعل مرجعيته المادة وقيم القوة وطموحات الفردية، والتيار الثانى يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن، ومن ثم حوّلها من تعاليم للروح والجسد معا إلى تعاليم طقوسية، وقتل فلسفتها التقدمية من ناحية "العدل" والروحية من ناحية أخرى (الإحسان).
وكلا التيارين –رغم تعارضهما بل وتشاحنهما على الساحتين الثقافية والسياسية– يشتركان في مجموعة من السمات التى تجعل الصراع بينهما صراعا عقيما، هي: توهم الاستئثار بالحقيقة، ونفى الآخر، وقصور البصر والبصيرة، وثقافة التسلط، والانغلاق على نظام قيم معين بصورة نصية، وعدم الرغبة في فتح قنوات للحوار، وازدراء الرؤى المخالفة وتخوينها، وعدم السعي للبحث عن أرضية مشتركة. وهذه كلها ببساطة هي سمات الدوجماطيقية. وفي ظننا يكمن المنشأ الفلسفي للتطرف في طبيعة منهج التفكير؛ فالعقل المتطرف عقل مغلق على نفسه، عقل ذو بعد واحد، ومن ثم يستحيل عليه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها ثابتة لا تقبل المناقشة، ومؤكدة بشكل نهائي. فأي تطرف يصاحبه جمود في الفكر أو السياسة أو الدين أو حتى الفن هو "دوجماطيقية".. بلغة الفلسفة.
صعود على الساحة الدولية
غير أن العقلية الدوجماطيقية الدينية والسياسية والفكرية لا تزال -ولا شك- موجودة نظريا وعمليا وسياسيا في كل بلدان العالم. بل يمكن القول بأنها تشهد صعودا الآن على ساحة السياسة الدولية، بفضل النزعة الدوجماطيقية للحزب الجمهوري الأمريكي، وأكبر علامة على ذلك سيطرة لغة الحرب والاغتيال في حل الصراعات، وحلول لغة البندقية مكان لغة الحوار والتفاوض، وغلبة الرؤية المذهبية للصهيونية المسيحية ذات البعد المقترن بنهاية العالم المحتومة وفق تصورهم وسيناريو هذه النهاية الذي يضع سقفا للتفكير ويفرض حدودا على العقل؛ لأن التاريخ إذن يسير وفق اتجاه تلك الحتمية؛ فلا مجال البتة للنقاش أو تغيير نظم التفكير.
ومن الضروري التأكيد مجددا على أن الدوجماطيقية ليست سمة تلحق بالتطرف الديني وحده، بل هي سمة التطرف العلماني أيضا، وسمة التطرف الحضاري. ولذا نجد الدوجماطيقية كسمة تظهر بوضوح في بعض المواقف الغربية التي تتخذ موقفا معاديا من الحضارات الأخرى، وتزعم أن نموذجها الحضاري هو النموذج الأمثل بشكل مطلق! وهي لذلك تعمل جاهدة على تعميم هذا النموذج من خلال العولمة وترسيخ مفهوم صراع الحضارات الذي تنظر فيه إلى حضارتها كممثلة للمدنية، أما الحضارات الأخرى فهي إما بدائية أو بربرية! ومن ثم تقف منها موقف التحفظ والتعالي، إن لم يكن العداء والاحتشاد من أجل سحقها وإبادتها. وحتى نتبين طبيعة المنشأ الفلسفي للتطرف لا بد من تحليل فلسفي عميق لمفهوم الدوجماطيقية، من أجل اكتشاف السمات المشتركة بين كل تيارات التطرف على مختلف الجهات المتعارضة والمتصارعة.
الأساطير المؤسسة للدوجماطيقية
تتنوع أصول ومبادئ الدوجماطيقية بتنوع صورها وأشكالها، وهي أشبه ما تكون بقواعد فخارية لقصر من الرمال، وتتمثل فيما يلي:
1- اليقين المطلق دون براهين كافية:
الأصل الأول لكل دوجماطيقية هو اليقين المطلق الذي تتسم به بعض المعتقدات اعتمادا على التسليم دون الاستناد إلى براهين يقينية، ودون تمحيص أو تمهيد نقدي للأسس التي تقوم عليها أو حتى إحاطة بعمقها وفلسفتها ومقاصدها كي يتسنى الدوران معها مع تغير الظروف.
2- التراوح بين قدرة العقل المطلقة وسلطة النص المصمتة:
من أشكال الدوجماطيقية ذلك الاتجاه الذي يعتمد على الإيمان المطلق بقدرة العقل. ويشير المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية إلى أن هذا الاتجاه يذهب إلى إثبات قيمة العقل وقدرته على المعرفة وإمكان الوصول إلى اليقين. وإذا كان مذهب الشك يوصي بالامتناع عن إثبات الحقائق أو نفيها؛ فإن الدوجماطيقية ترى أن العلم الإنساني لا يقف عند حد، وتؤكد قدرة العقل على المعرفة والتوصل إلى اليقين. وقد سارت هذه النزعة في فلسفة العقليين إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونحا نحوها التجريبيون الذين أكدوا إمكان المعرفة عن طريق التجربة". ولذا فهي ضد الشكية حسب هذا الشكل الذي يذكره المجمع. وفي المقابل نجد لدى كل التيارات الدوجماطيقية هيمنة للنص المرجعي دون محاولة للتفاعل معه أو تفعيله. ويلاحظ أن للدوجماطيقية العقلية أشكالا ساذجة، مثل الدوجماطيقية الساذجة التي نجدها –كما يقول د.يحيى هويدي- عند رجل الشارع؛ فرجل الشارع متعصب لآرائه إلى أبعد الحدود، لا يقبل أن يناقش آراءه ومعتقداته أحد، يعتقد في ذكائه المفرط وقدرته الخارقة على معالجة الأمور.
3- افتقاد الروح النقدية:
من الأصول التي تستند إليها كل الدوجماطيقيات افتقاد الروح النقدية. ومن هذه الزاوية تعد الدوجماطيقية مقابلا للنقدية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه "نقد العقل المحض" عندما وجد أن الدوجماطيقية لها استخدامان:
أولهما: إنشاء البراهين العلمية القاطعة المستندة لمبادئ قبلية؛ أي مبادئ عقلية أولية وضرورية غير مستمدة من التجربة؛ فهي قبل أي تجربة. وهذا الجانب للدوجماطيقية غير متعارض مع الرؤية النقدية، والنقدية هي الفلسفة التي تهتم بنقد العقل لبيان قدراته وحدوده والشروط التي تحكم عمله، وتبين ما الذي يستطيع أن يعرفه، وما الذي لا يستطيع أن يعرفه. فهي بهذا المعنى تؤسس القواعد الأولية للفهم والتصور، والتي بدونها لا يمكن الانطلاق لأي رؤية؛ أي أنها المفاهيم التأسيسية أو ما قبل المنهج كما يسميها الفلاسفة.
ثانيهما: التوصل إلى معارف ميتافيزيقية (أي معارف تتعلق بما بعد الطبيعة)، دون نقد سابق لقدرات العقل وبيان حدوده المعرفية، ودون بيان للكيفية التي توصل بها العقل إلى هذه المعارف الميتافيزيقية، ودون بيان وجه الحق الذي استند إليه العقل في إقراره لهذه المعارف. وهذه هي الطريقة الخاطئة للدوجماطيقية التي كان يستخدمها الفلاسفة الميتافيزيقيون حتى زمن كانط؛ أي حتى القرن الثامن عشر، مثل أفلاطون، وأوغسطين، وديكارت، وليبنتز وفولف وغيرهم.
وبهذا المعنى الثاني تعارض الدوجماطيقية الفلسفة النقدية. وفي أحيان أخرى يستخدم كانط الدوجماطيقية كمعارض للشك في معرض الحديث عن مصادر وطبيعة المعرفة.
4- السلطة المطلقة للآباء أو الأجداد أو المفكرين والعلماء:
يتجلى هذا الأصل في طريقة البعض في تأكيد معتقداته عن طريق دعمها بسلطة الآباء أو الأجداد أو المفكرين أو العلماء أو غيرهم من أصحاب النفوذ المرجعي، وهذه هي طريقة الذين يقولون إن الحق يعرف بالرجال! وبهذا المعنى تكون الدوجماطيقية نظرية تقرها السلطة المعرفية (دينية كانت أم علمانية)، ويلتزم بها الأعضاء الواقعون تحت هذا السلطة، دون تمحيص أو برهان كاف.
وهذا الشكل ذكره القرآن الكريم، وانتقده عندما ذكر حجة الكافرين والمشركين في الدفاع عن عقائدهم الباطلة، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( البقرة:170).
فتظهر هنا طريقة الكافرين الدوجماطيقية في تأكيد معتقداتهم بسلطة الآباء دون برهان عقلي، ودون اهتداء إلى طريقة التفكير السليم. ولذا فالدوجماطيقية هنا –كما يقول لالاند في موسوعته الفلسفية- هي حيلة فكرية مخاتلة قائمة على تأكيد المرء لمعتقداته بأمر وسلطان، ودون القبول بأنها قد تحتمل شيئا من النقص أو الخطأ أو أن تطويرها لازم وضامن لاستمرار فاعليتها.
وهذا ما يرفضه القرآن الكريم؛ لأن المعتقدات ينبغي أن تؤسس على براهين وليس على سلطة الرجال؛ ولذا قال الإمام عليّ: "إن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق". ومن ثم نبذ الطريقة الدوجماطيقية في التفكير التي تقوم على التسليم دون تمحيص. وفي تاريخ الفلسفة يستخدم هذا المعنى للدلالة على الدوجماطيقية، جاء في المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية:" … واستعمل اللفظ بعده (أي بعد كانط) للدلالة على التسليم دون تمحيص". ونشير هنا إلى أن "مذهب الشك " الذي يزعم بشكل يقيني -وهنا المفارقة- أن المعرفة غير ممكنة مطلقا يمثل دوجماطيقية سلبية؛ أي هي القفاز نفسه .. مقلوبا.
12/05/2005
أ. د. محمد عثمان الخشتة**
الدوجماطيقية تعريب لكلمة Dogmatism، ولها ترجمات عديدة، مثل: وثوقية، قطعية، توكيدية، إيقانية، معتقدية. وهي تعني الاعتقاد الجازم واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق! ومن ثم فهي مبدأ التعصب، وسمة لكل متزمت، ومنشأ الحروب العقائدية. والدوجماطيقة ليست مذهبا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد، وعدم إخضاع هذه المعتقدات لفحص نقدي أو تحليلي يراجع الأسس التي تقوم عليها، ودون بحث في حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلا عن عدم تمحيص الطرق التي توصل إلى المعرفة الصحيحة في كل لحظة تاريخية.
يواجه الفكر المعاصر خطر الاستقطاب من طرفين متنازعين، يتمثلان فى رؤيتين للغلو أصبح لهما الصوت الأعلى فى الجدل الجاري على مختلف الساحات، وفي العديد من الثقافات، وهما: تيار التطرف العلمانى وتيار التطرف الديني.. إذ يتحدث التيار الأول وكأن الله غير موجود، بينما يتحدث التيار الثانى وكأن الإنسان غير موجود ! بمعنى أنه ينزع من الإنسان كل فاعلياته ومسئولياته ومواهبه. التيار الأول جعل مرجعيته المادة وقيم القوة وطموحات الفردية، والتيار الثانى يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن، ومن ثم حوّلها من تعاليم للروح والجسد معا إلى تعاليم طقوسية، وقتل فلسفتها التقدمية من ناحية "العدل" والروحية من ناحية أخرى (الإحسان).
وكلا التيارين –رغم تعارضهما بل وتشاحنهما على الساحتين الثقافية والسياسية– يشتركان في مجموعة من السمات التى تجعل الصراع بينهما صراعا عقيما، هي: توهم الاستئثار بالحقيقة، ونفى الآخر، وقصور البصر والبصيرة، وثقافة التسلط، والانغلاق على نظام قيم معين بصورة نصية، وعدم الرغبة في فتح قنوات للحوار، وازدراء الرؤى المخالفة وتخوينها، وعدم السعي للبحث عن أرضية مشتركة. وهذه كلها ببساطة هي سمات الدوجماطيقية. وفي ظننا يكمن المنشأ الفلسفي للتطرف في طبيعة منهج التفكير؛ فالعقل المتطرف عقل مغلق على نفسه، عقل ذو بعد واحد، ومن ثم يستحيل عليه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها ثابتة لا تقبل المناقشة، ومؤكدة بشكل نهائي. فأي تطرف يصاحبه جمود في الفكر أو السياسة أو الدين أو حتى الفن هو "دوجماطيقية".. بلغة الفلسفة.
صعود على الساحة الدولية
غير أن العقلية الدوجماطيقية الدينية والسياسية والفكرية لا تزال -ولا شك- موجودة نظريا وعمليا وسياسيا في كل بلدان العالم. بل يمكن القول بأنها تشهد صعودا الآن على ساحة السياسة الدولية، بفضل النزعة الدوجماطيقية للحزب الجمهوري الأمريكي، وأكبر علامة على ذلك سيطرة لغة الحرب والاغتيال في حل الصراعات، وحلول لغة البندقية مكان لغة الحوار والتفاوض، وغلبة الرؤية المذهبية للصهيونية المسيحية ذات البعد المقترن بنهاية العالم المحتومة وفق تصورهم وسيناريو هذه النهاية الذي يضع سقفا للتفكير ويفرض حدودا على العقل؛ لأن التاريخ إذن يسير وفق اتجاه تلك الحتمية؛ فلا مجال البتة للنقاش أو تغيير نظم التفكير.
ومن الضروري التأكيد مجددا على أن الدوجماطيقية ليست سمة تلحق بالتطرف الديني وحده، بل هي سمة التطرف العلماني أيضا، وسمة التطرف الحضاري. ولذا نجد الدوجماطيقية كسمة تظهر بوضوح في بعض المواقف الغربية التي تتخذ موقفا معاديا من الحضارات الأخرى، وتزعم أن نموذجها الحضاري هو النموذج الأمثل بشكل مطلق! وهي لذلك تعمل جاهدة على تعميم هذا النموذج من خلال العولمة وترسيخ مفهوم صراع الحضارات الذي تنظر فيه إلى حضارتها كممثلة للمدنية، أما الحضارات الأخرى فهي إما بدائية أو بربرية! ومن ثم تقف منها موقف التحفظ والتعالي، إن لم يكن العداء والاحتشاد من أجل سحقها وإبادتها. وحتى نتبين طبيعة المنشأ الفلسفي للتطرف لا بد من تحليل فلسفي عميق لمفهوم الدوجماطيقية، من أجل اكتشاف السمات المشتركة بين كل تيارات التطرف على مختلف الجهات المتعارضة والمتصارعة.
الأساطير المؤسسة للدوجماطيقية
تتنوع أصول ومبادئ الدوجماطيقية بتنوع صورها وأشكالها، وهي أشبه ما تكون بقواعد فخارية لقصر من الرمال، وتتمثل فيما يلي:
1- اليقين المطلق دون براهين كافية:
الأصل الأول لكل دوجماطيقية هو اليقين المطلق الذي تتسم به بعض المعتقدات اعتمادا على التسليم دون الاستناد إلى براهين يقينية، ودون تمحيص أو تمهيد نقدي للأسس التي تقوم عليها أو حتى إحاطة بعمقها وفلسفتها ومقاصدها كي يتسنى الدوران معها مع تغير الظروف.
2- التراوح بين قدرة العقل المطلقة وسلطة النص المصمتة:
من أشكال الدوجماطيقية ذلك الاتجاه الذي يعتمد على الإيمان المطلق بقدرة العقل. ويشير المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية إلى أن هذا الاتجاه يذهب إلى إثبات قيمة العقل وقدرته على المعرفة وإمكان الوصول إلى اليقين. وإذا كان مذهب الشك يوصي بالامتناع عن إثبات الحقائق أو نفيها؛ فإن الدوجماطيقية ترى أن العلم الإنساني لا يقف عند حد، وتؤكد قدرة العقل على المعرفة والتوصل إلى اليقين. وقد سارت هذه النزعة في فلسفة العقليين إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونحا نحوها التجريبيون الذين أكدوا إمكان المعرفة عن طريق التجربة". ولذا فهي ضد الشكية حسب هذا الشكل الذي يذكره المجمع. وفي المقابل نجد لدى كل التيارات الدوجماطيقية هيمنة للنص المرجعي دون محاولة للتفاعل معه أو تفعيله. ويلاحظ أن للدوجماطيقية العقلية أشكالا ساذجة، مثل الدوجماطيقية الساذجة التي نجدها –كما يقول د.يحيى هويدي- عند رجل الشارع؛ فرجل الشارع متعصب لآرائه إلى أبعد الحدود، لا يقبل أن يناقش آراءه ومعتقداته أحد، يعتقد في ذكائه المفرط وقدرته الخارقة على معالجة الأمور.
3- افتقاد الروح النقدية:
من الأصول التي تستند إليها كل الدوجماطيقيات افتقاد الروح النقدية. ومن هذه الزاوية تعد الدوجماطيقية مقابلا للنقدية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه "نقد العقل المحض" عندما وجد أن الدوجماطيقية لها استخدامان:
أولهما: إنشاء البراهين العلمية القاطعة المستندة لمبادئ قبلية؛ أي مبادئ عقلية أولية وضرورية غير مستمدة من التجربة؛ فهي قبل أي تجربة. وهذا الجانب للدوجماطيقية غير متعارض مع الرؤية النقدية، والنقدية هي الفلسفة التي تهتم بنقد العقل لبيان قدراته وحدوده والشروط التي تحكم عمله، وتبين ما الذي يستطيع أن يعرفه، وما الذي لا يستطيع أن يعرفه. فهي بهذا المعنى تؤسس القواعد الأولية للفهم والتصور، والتي بدونها لا يمكن الانطلاق لأي رؤية؛ أي أنها المفاهيم التأسيسية أو ما قبل المنهج كما يسميها الفلاسفة.
ثانيهما: التوصل إلى معارف ميتافيزيقية (أي معارف تتعلق بما بعد الطبيعة)، دون نقد سابق لقدرات العقل وبيان حدوده المعرفية، ودون بيان للكيفية التي توصل بها العقل إلى هذه المعارف الميتافيزيقية، ودون بيان وجه الحق الذي استند إليه العقل في إقراره لهذه المعارف. وهذه هي الطريقة الخاطئة للدوجماطيقية التي كان يستخدمها الفلاسفة الميتافيزيقيون حتى زمن كانط؛ أي حتى القرن الثامن عشر، مثل أفلاطون، وأوغسطين، وديكارت، وليبنتز وفولف وغيرهم.
وبهذا المعنى الثاني تعارض الدوجماطيقية الفلسفة النقدية. وفي أحيان أخرى يستخدم كانط الدوجماطيقية كمعارض للشك في معرض الحديث عن مصادر وطبيعة المعرفة.
4- السلطة المطلقة للآباء أو الأجداد أو المفكرين والعلماء:
يتجلى هذا الأصل في طريقة البعض في تأكيد معتقداته عن طريق دعمها بسلطة الآباء أو الأجداد أو المفكرين أو العلماء أو غيرهم من أصحاب النفوذ المرجعي، وهذه هي طريقة الذين يقولون إن الحق يعرف بالرجال! وبهذا المعنى تكون الدوجماطيقية نظرية تقرها السلطة المعرفية (دينية كانت أم علمانية)، ويلتزم بها الأعضاء الواقعون تحت هذا السلطة، دون تمحيص أو برهان كاف.
وهذا الشكل ذكره القرآن الكريم، وانتقده عندما ذكر حجة الكافرين والمشركين في الدفاع عن عقائدهم الباطلة، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( البقرة:170).
فتظهر هنا طريقة الكافرين الدوجماطيقية في تأكيد معتقداتهم بسلطة الآباء دون برهان عقلي، ودون اهتداء إلى طريقة التفكير السليم. ولذا فالدوجماطيقية هنا –كما يقول لالاند في موسوعته الفلسفية- هي حيلة فكرية مخاتلة قائمة على تأكيد المرء لمعتقداته بأمر وسلطان، ودون القبول بأنها قد تحتمل شيئا من النقص أو الخطأ أو أن تطويرها لازم وضامن لاستمرار فاعليتها.
وهذا ما يرفضه القرآن الكريم؛ لأن المعتقدات ينبغي أن تؤسس على براهين وليس على سلطة الرجال؛ ولذا قال الإمام عليّ: "إن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق". ومن ثم نبذ الطريقة الدوجماطيقية في التفكير التي تقوم على التسليم دون تمحيص. وفي تاريخ الفلسفة يستخدم هذا المعنى للدلالة على الدوجماطيقية، جاء في المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية:" … واستعمل اللفظ بعده (أي بعد كانط) للدلالة على التسليم دون تمحيص". ونشير هنا إلى أن "مذهب الشك " الذي يزعم بشكل يقيني -وهنا المفارقة- أن المعرفة غير ممكنة مطلقا يمثل دوجماطيقية سلبية؛ أي هي القفاز نفسه .. مقلوبا.