مقاوم
01-13-2008, 01:10 PM
من خلال الحوار في أحد المواضيع برز موضوع الحداثة وتبين أن بعض الإخوة والأخوات لا يعرفون الأبعاد العقدية للموضوع. المنادون بالحداثة ينكّرونها بمسميات أخرى ويمكرون مكر الليل والنهار لضرب الإسلام ورموزه ومصادره على كافة الأصعدة من فكر وأدب ولغة وسياسة و و و.
عنوان الموضوع هو في الواقع عنوان كتاب صدر للدكتور سعيد بن ناصر الغامدي أحد الأعضاء المؤسسين وعضو مجلس أمناء الحملة العلمية لمقاومة العدوان.وهو من بين قلة من الدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين فطنوا لخطورة الحداثة وانبروا لتعريتها والتحذير منها.
وهذه نبذة مختصرة من سيرته الذاتية:
الاسم : سعيد بن ناصر الغامدي
المولد : في سنة1381 في الملد من بلاد غامد
الدراسة:
* تخرج في المرحلة الابتدائية من المدرسة السلفية في بلجرشي سنة 1392هـ
* تخرج في معهد الباحة العلمي في سنة 1398هـ
* تخرج في كلية الشريعة في أبها عام 1402هـ
* حصل على الماجستير من كلية أصول الدين في جامعة الإمام في الرياض سنة 1410هـ في تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة
* حصل على الدكتوراه في التخصص نفسه سنة 1420هـ أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية الشريعة وأصول الدين ، جامعة الملك خالد بأبها
* عمل وكيلا لكلية الشريعة وأصول الدين 1406-1408
* عمل مشرفاً على وحدة البحث العلمي في كلية الشريعة وأصول الدين من تاريخ 25/2/1421
* القيام بالتدريس في كلية الشريعة وأصول الدين من سنة 1403 ، من معيد إلى محاضرإلى أستاذ مساعد في جامعة الملك خالد
·يعمل الآن أستاذاً في جامعة الملك عبدالعزيز – كلية المجتمع.
سأقوم بنشر مقالاته هنا بالتدريج لما رأيت فيها من فوائد عظيمة ودرر دفينة عسى أن توفر للإخوة في المنتدى أعضاءا وزوارا مرجعا ومعينا ينهلون منه فيستفيدون ويفيدون بإذن الله. المقالات تتسم بالطول وتتطلب مجاهدة النفس في القراءة لكنها تستحق ذلك منا.
وإلى المقال الأول:
المقدمة وأهمية الموضوع والدراسات السابقة في الموضوع
الحمد لله رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، خالق الخلق أجمعين ، الإله الحق المبين ، خلق الإنسان من سلالة من طين، وخلق الملائكة من نور مبين ، وخلق الجان من مارج من نار ، أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وقدر المقادير ، وشرع الشرائع ، وخلق الدنيا والآخرة والموت والحياة ، والجنة والنار ، وجعل الجنة للمؤمنين داراً ، والنار للكافرين قراراً.
وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه ، المبعوث رحمة للعالمين أجمعين ، بالدين القويم ، والصراط المستقيم ، فدعا إلى الله وجاهد في سبيله ، وأقام منارات العلم والهدى والخير والعدل ، وأثبت أحكام الإسلام في خير دولة أقيمت على وجه الأرض، وأنشأ مجتمعاً هو خير مجتمع ظهر على وجه البسيطة ، اتبعوا أوامر الله فلم يظلوا ، وحكَّمُوا شريعته فلم يذلوا ، وساروا على الهدى المستقيم فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، رضي الله عنهم وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، أمَّا بعد:
فإنه لما كثرت سهام الشبهات التي يرميها أعداء الإسلام ، وتطاول أهلها ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم ، وبثوا سمومهم الفكرية والسلوكية ، على شبيبة الأمة الإسلامية ، محاولين إغراقهم في الضلالات ، وإخراجهم من النور إلى الظلمات ، وتبديل يقينهم وإيمانهم ، وطرحهم في مفاوز الشكوك والريب والترهات ؛ كان لزاماً على من علم ذلك وخبره أن يبين لأمته وأبناء ملته خطورة هذه المسالك ، وفضاعة هذه المهالك ، كما قال تعالى : { وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ }.
1 - أهمية الموضوع وسبب اختياره :
إنّ من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل تلك المطالب الخبيثة ، وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها “ الأدب والشعر والثقافة والنقد ” وباطنها الكفر والشك والنفاق .
ذلك أن أعداء الإسلام استطاعوا أن يبذروا في أرض المسلمين بذور حقدهم ، ويستنبتوا فيها - في غفلة وضعف من أهلها - نباتات الشجرة الخبيثة ، شجرة المادية الملعونة ، فإذا بالمسلمين يرون ويسمعون
من ينادي بالكفر جهرة ويدعو إلى الضلال صراحة ، ويروج للرذائل الفكرية والخلقية علانية ، مرة تحت قناع “ الأدب المعاصر ” ومرة تحت شعار “ الثقافة الإنسانية ” وأخرى تحت لافتة “ التحديث ومجاراة العصر وتداخل الثقافات ” وأخر لاتحصى تحت عناوين كثيرة تدور كلها تحت معنى قول الله تعالى : {ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } ، وقوله سبحانه : {ويُرِيدُ الَذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } .
فالإضلال والإفساد غايتهم ومسلكهم ومنهجهم مستخدمين في ذلك وسائل الشهوات والشبهات ، ومع كل ذلك يزعمون ويدعون أنهم يريدون الإصلاح ، والنهضة والتقدم : {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
إن التجربة الإسلامية في مواجهة أرباب التضليل والإفساد تجربة طويلة مريرة ، بيد أن أشدها مرارة ، وأقساها وطأة هي ما تمر به الأمة في هذه الأزمنة ، إثر ما يسمى بـ “ الصدمة الحضارية ” التي أنتجت أجيالاً من أبناء المسلمين ، انسلخت من دينها وقيمها ، وراحت تلهث خلف سراب المذاهب المادية ، والعقائد الجاهلية المعاصرة ، وأصحابها يمدونهم في الغي ثم لايقصرون ، ويغرونهم ، ويمكنون لهم - بحكم غلبتهم ونفوذهم - في شتى الميادين .
إن مختلف النظم الفكرية المعاصرة المستوردة ، تحمل في طياتها ألواناً عديدة من الانحرافات ؛ ذلك لأنها إفراز نظريات مادية ذات جذور وثنية .
ومن أخطر هذه النظم المستوردة : النظام اللاديني المسمى بـ “ العلمانية ” والذي يظهر في أردية شتى ، منها الرداء الثقافي والأدبي المسمى بـ “ الحداثة ” التي أولع بها بعض أبناء البلاد الإسلامية فراحوا يبثون من خلالها السموم الفكرية ، ويرسخون المفاهيم الضلالية فاتحين أمام شباب الأمة أبواب التمرد - باسم الثقافة والأدب - ونوافذ التحدي للدين والسلوك القويم .
كل همهم ترويج أصناف الزيف تحت شعار الحرية الفكرية وعالمية الفكر الإنساني والموضوعية العلمية ، وهم أبعد الناس عن الحرية ؛ لأنهم مجرد أتباع مقلدين ، وأبعد الناس عن الموضوعية ؛ لأنهم أصحاب أهواء تجارت بهم تجاري الكَلَب بصاحبه .
ولكنهم - بسبب غفلة أو تغافل ، جهل أو عمالة - رسّخت لهم أقدام في مواضع التأثير ، فإذا بالأمة ترى من أبنائها من يدعو إلى الإلحاد ويجاهر بالكفر ويحارب دين الله جهاراً نهاراً ، ومن لم يكن على هذا القدر من الشطط في الكفر ، أو لم تكن له القدرة على التصريح به ، تجده ملفوفاً بالشكوك في كل مايتعلق بالإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق ، يتناولها تناول المستريب ، ويحاكمها محاكمة المتهم .
وهؤلاء وهؤلاء لايفتأون يذكرون أئمة الكفر بالذكر العاطر ، ويجعلون منهم قدوات ، ويرسمونهم أمام أعين الأجيال في أحسن صورة وأجمل وصف ، ويغدقون عليهم ألوان المديح والإطراء والتبجيل والتمجيد .
وهناك صنف ثالث تسيطر عليه بعض أوهام المروجين للخمور الفكرية ، فيرى أن الإسلام دين سماوي يعتني بالقيم والأخلاق والشعائر ، والعقائد المجردة ، لكنه لايستوعب الواقع ولايتدخل فيه ، ولايعنيه من أمور الناس إلاّ ما كان في إطار السلوك والشعائر ، أمَّا الأدب والفكر والثقافة أو السياسة والاقتصاد ، فهذه لها ميادينها المستقلة عن الدين وأحكامه ومعاييره، وهذا الصنف - على إغراقه في الانحراف - يعتبر من أمثلهم طريقة .
وهناك صنف رابع ضُربت عليهم عماية الجهل أو التجاهل ، ورانت على قلوبهم غشاوة الغباء أو التغابي ، فإذا هم يهونون من خطر هؤلاء ويحسنون بهم الظن ، ويدافعون عنهم ، ويميعون النظرة الحقيقية الجادة ، ويضفون البراءة عليهم وعلى أعمالهم الشائنة ، تحت حجج واهية بليدة ، أو يساعدون في إضفاء نوع من الضبابية على جوانب من طرحهم وفكرهم ، وكأن لسان حال هذا الصنف ينطق بـ { إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَاناً وتَوْفِيقاً } .
بل كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى : { ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكِيلاً } .
وبين هذه الأصناف جميعاً درجات من الانحراف والضلال بعضها أشر من بعض ، كما أن بعضها أخف من بعض .
ومما يزيد الأمر سوءاً أن هؤلاء الممسوخين لهم نفوذ صارخ في أجهزة التوجيه والإعلام في كثير من بلاد المسلمين ، ولا شغل لهم إلاّ نقل النفايات البشرية ، أو المماحكة فيما فرغ الشرع المعصوم من تقريره وإثباته .
قضيتهم الكبرى استيراد الآراء النظرية المتناقضة ، وتخدير إحساس الأمة بآلاف الدواوين والمسرحيات والرسوم والمقالات النقدية وغير النقدية ، من خلال الإثارة والجاذبية والمتعة الفنية في الشعر والرواية والقصة ، وتهريج المسرح وأصباغ الرسوم ، ومن خلال صناعة النجوم .
وإذا بنا نرى كل طائفي - يحمل أحقاده التاريخية على الإسلام - يخفي دمامة معتقداته تحت فلسفة الحداثة والعلمنة ، ويخرج سمومه القاتلة من أكمام الثوب الأدبي الفضفاض .
كما نرى الوثنية والنصرانية واليهودية تبرز في أقلام المبغضين لقرون الهجرة المباركة ، المعادين لتراث الأمة .
وإذا بنا نرى جهودهم وخبراتهم وقدراتهم تصب في إناء اليهودية التلمودية ، لتجتمع كلها تحت لواء الرغبة الجامحة للإجهاز على الإسلام وعقيدته وشريعته وتراثه وحضارته وتاريخه المجيد .
ومما يفت فؤاد المسلم أن يجد لهؤلاء الأرجاس أدوات من بني جلدتنا ، استقطبتهم زمزمة كهان الحداثة ، في حين غفلة منهم عن دينهم ، وعجز منهم عن تحقيق وجودهم بتحصيل علمي رصين ، فإذا هم يرددون أفكار الزنادقة والملاحدة ، ويضاهون اليهود والنصارى والوثنيين - ببلاهة وغوغائية - في عبارات مطاطة وألفاظ مبهمة ، وتراكيب غامضة إذا حققتها وجدتها التبعية والتقليد ليس غير .
وليست المأساة متوقفة عند هذا الحد ، بل تجدها تزداد خطورة عندما تلتفت إلى الركام الهائل من المؤلفات والمجلات والملاحق الأدبية ، والمراكز الثقافية في كثير من البلدان العربية ، فلاتجد عليها إلاَّ طائفياًّ نبت في الظلام وخرج من وراء الكواليس ليكون هو وأضرابه من معالم الأدب الحديث ، أو نصرانياً ترعرع تحت ظل الصليب يتسنم التوجيه والتثقيف ، أو ملحداً وجودياً أو ماركسياً أو إباحياً يبرز من أعطاف جثة المادية الغربية ليكون من رموز العلم والأدب والفن ، أو تابعاً لهؤلاء لايدري ، ولايدري أنه لايدري .
أمَّا إذا تأملت في تعبيراتهم ورموزهم ، فإنك تجدها على قسمين ، أحدهما : مكشوف ، والآخر مقنع ، وكلاهما مسخر لخدمة الحداثة ومضامينها ، وموجه لتحطيم دين الله تعالى والإرث المبارك والتراث الخير ، ومؤسس للقيام بدور التخريب الفكري ، والتلويث الثقافي ، والانحلال الخلقي ، فتجد في إنتاجهم المجاهرة بإنكار الرب سبحانه وتعالى ، وجوداً وألوهية ، والاستهانة بأسمائه - تعالى - وصفاته ، وجحد وجود الملائكة والسخرية منهم ، وتكذيب الرسل والأنبياء وإنكار قضية الوحي جملة وتفصيلاً ، وجحد الكتب المنزلة والسخرية بكل ذلك ، وإضفاء صفة النبوة والمعجزة على الشاعر والحداثي المبدع ، وجعل الأساطير بديلاً للوحي الكريم ، والآلهة الوثنية شريكاً لله العظيم ، مع تكذيب بالقدر واستهانة به ، وتهكم بالمؤمنين به ، وجحد المعاد وسائر الغيبيات ، مع الإيمان بغيبيات وثنية جاهلية ، ولذلك تجدهم يوظفون الرموز الوثنية واليهودية والنصرانية في أعمالهم بشكل بارز وكثيف .
أمَّا إذا جاؤوا إلى تاريخ الإسلام فإنهم لايستخرجون منه سوى أمثالهم من أهل الزيغ والشك والانحراف والزندقة ، وهم مع كل ذلك يطرحون فكرتهم على أساس أنها فكرة كلية شاملة ، متطورة أبداً ، قادرة على احتواء كل قضايا الكون والحياة والإنسان ، وعلى ذلك فقد توجهوا بعنف وحقد لمحاربة الحكم الإسلامي والسخرية من أخلاق الإسلام والسعي لترسيخ ألوان الانحرافات الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية ، والدعوة للانحلال والفوضى الخلقية والدعوة إلى استبدال شرع غير الله بشرع الله الحكيم ، إلى غير ذلك من مفردات الانحرافات التي لاتكاد تحصى لكثرتها وتنوعها .
أمَّا المقنَّع من أفكارهم تحت أردية الغموض والرمزية فهو كثير كذلك ، ولايخرج عن المضامين السابقة ، بل هو في خوضها الآسن غارق .
فإذا أرادوا - مثلاً - الحديث عن القرآن سموه “ صوت الألوهية ” أو “ نتاج الغيبوبة ” ، والحكم الإسلامي يرمزون له بالملح والرماد والجفاف ، وقررن الهجرة والفتح الإسلامي والخلافة رمزوا لها بالإبل والسفر والنخيل والبخور والتعاويذ والصحراء والهجير والرمال الضريرة ، والعمائم المتخمة والأعشاب الميتة ، وأرض الحروف عندهم أرض النبوات والإسلام والهدى ، والأغوار الخرساء يريدون بها التاريخ الإسلامي ، والشريعة والصلاة والمنارة يرمزون لها بالستارة السوداء ، والإصلاح والدعوة وإحياء الإسلام يعبرون عن موقفهم منها بقولهم : “ أهدم كل لحظة مدائن الغزالي ” ونبذ التراث والإقبال على الغرب يأتي تحت قولهم : “ أرفض الرمل واتجه نحو البحر ” ، والحداثة يسمونها : الشمس وفاطمة وفضة ونافذة الضوء ورياح المواقع والتضاريس ، والمطر والخصب ، والتكوين الآتي إلى آخر ما هنالك من رموز وألفاظ تحتها الأفاعي والحيات .
إضافة إلى إحياء الرموز الباطنية وأسسها الفلسفية لتشكل ملامح غير معروفة إلاّ لذي التتبع ، وتعطي للغة دلالات غير دلالاتها الأصلية ، وهو جانب آخر من جوانب الخطورة التي ينطوي عليها المشروع الحداثي يتمثل في دعوتهم إلى “ تفجير اللغة ” أو “ التحديث اللغوي ” فإذا انضاف إلى ذلك سعيهم لهدم أصول الفقه ، وضوابط تلقي الوحي وفهمه وتطبيقه علمنا أن القوم لايهدفون إلى تجديد في الأساليب ولاتحديثٍ في الصيغ بقدر مايستهدفون هدم ملة الإسلام ، وإقامة ملة الحداثة مكانها { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ}.
من هذا كله وغيره كان الموضوع على جانب كبير من الأهمية ، وكان اختياري له بعد مدة طويلة من المتابعة لإصداراتهم والنظر في أعمالهم والتأمل في مقالاتهم ، والمناظرة والمناقشة مع بعض أتباع هذه النحلة محلياً وعربياً .
فسجلت فيه بحثي هذا لأبيين بعض جوانب الخطورة في الأدب العربي المعاصر ، لعله يكون سبباً في كبتهم فينقلبوا على أعقابهم خاسرين ، وسبباً لإيضاح الحق لمن استغفل وجرى في مجراهم مؤيداً أو منافحاً ؛ لعله يعود إلى الهدى ، وسبباً لتحريك حمية أهل الإيمان فيلتفتوا إلى دعاة جهنم ممن يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ويعيشون بين ظهراني المسلمين .
وأكبر آمالي أن يكتب الله لي أجر المنافحة عن دينه والمغايظة لأعدائه ، وإبانة سبيل المجرمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة .
2 - حدود الموضوع :
وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة أبواب وخاتمة ، وصدرته بالمقدمة والتمهيد .
فالمقدمة تحدثت فيها عن أهمية الموضوع وسبب اختياره ، وعن حدود الموضوع وبعض الدراسات السابقة فيه .
والتمهيد تحدثت فيه بإيجاز عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه ، وعن علاقة الأدب بالاعتقاد ، ونبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب .
أمَّا الباب الأول فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى ، وتحته أربعة فصول :
الفصل الأول : الانحرافات المتعلقة بالربوبية .
الفصل الثاني : الانحرافات المتعلقة بالألوهية .
الفصل الثالث : الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات .
وأمَّا الباب الثاني فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة بالملائكة والكتب المنزلة والأنبياء ، وتحته ثلاثة فصول :
الفصل الأول : الانحرافات المتعلقة بالملائكة عليهم السلام .
الفصل الثاني : الانحرافات المتعلقة بالكتب عامة والقرآن خاصة .
الفصل الثالث : الانحرافات المتعلقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام .
وأمَّا الباب الثالث فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر والقدر ، وتحته ثلاثة فصول :
الفصل الأول : الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر .
الفصل الثاني : الانحرافات المتعلقة بالقدر .
الفصل الثالث : الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى .
وأمَّا الباب الرابع فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة بالأحكام والسلوك ونظام الحياة ، وتحته خمسة فصول :
الفصل الأول : العبث بالمصطلحات الشرعية والشعائر الإسلامية .
الفصل الثاني : محاربة الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره .
الفصل الثالث : السخرية من الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية .
الفصل الرابع : الانحرافات في القضايا الاجتماعية والنفسية .
الفصل الخامس : الانحرافات في القضايا السياسية والاقتصادية .
وأمَّا الخاتمة ففيها : بيان أسباب الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث ، ومقترحات لمواجهة الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث .
هذا وقد بدأت أهتم بهذا الموضوع وأعتنى بجمع الكتب فيه من أيام الدراسة الجامعية ، يوم شعرت أن بعض الطلاب قد تأثرت عقائدهم بشكوك قادت بعضهم إلى الإلحاد الصريح ، وبعضهم إلى ريب في وجود الله تعالى والنبوات والمعاد ، وكنت أراهم يتداولون دواوين شعراء الحداثة وكتبهم النقدية والفكرية ، وأظن أن ذلك من باب الحرص على التجديد الفني والأدبي كما كانوا يزعمون ، فلما اطلعت على ما لديهم وجدت أن الأمراض الاعتقادية قد تسربت إليهم من مجالسات أهل الشبه والأهواء ، ومن الكتب التي كان جلساؤهم بل أساتذتهم في الشر يوجهونهم لشرائها ، واقتنائها وكانت هناك مكتبة لأحد الحداثيين تجلب كتب أهل الحداثة ومجلاتهم ، والقوم على أرففها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ، يتهافتون على شرائها ثم توزيعها إهداء أو إعارة .
وكانت لي معهم جولات وصولات في القضايا الكبرى ؛ قضية وجود الله ، قضية القدر ، والنبوة ، والمعاد ، وأحكام الشريعة ، وغير ذلك .
ثم واصلت متابعتي لهذا التيار على مستوى الصحف المحلية ، والأندية الأدبية ، والأمسيات الشعرية ، وجرى فيها من الأحداث مايطول شرحه .
وفي عام 1407 هـ سجلت على شريطين مادة علمية عن هذا الاتجاه بعنوان “ الحداثة حقائق ووثائق ” كانت ذات أثر بالغ على صعيدين :
الأول : أهل الدين والإيمان فهؤلاء تبين لهم خطورة هذا المذهب ، وضلاله وبشاعته ، وعظم انحرافاته .
الثاني : أهل الحداثة والعلمنة وقد وقع هذا العمل منهم موقع الصيحة ، فهبوا يدافعون في الصحف والأندية ، وفي المنشورات ، وطفقوا يبحثون عن أي شيء به يحتمون ، أو من خلاله يهاجمون ، واستعدوا وألَّبُوا ، وتناصروا ، واستخدموا بعض الفئات الجاهلة أو المتجاهلة ، وظاهرهم إخوانهم من الحداثيين العرب في مصر وبيروت ولندن وباريس .
وفي أثناء هذه المسيرة الطويلة من المرحلة الجامعية حتى تسجيل هذا البحث جمعت كميات كبيرة من كتبهم ومجلاتهم وقصاصات كثيرة من صحفهم وملاحقهم الأدبية ، ولما جئت لكتابة هذا البحث وجدت أمامي ركاماً هائلاً مما هو في ملكي ، فضلاً عما في الأندية الأدبية والمكتبات الكبيرة ، وكان من المستحيل أن أجمع مادة هذا البحث من كل هذه الكتب والمجلات والملاحق ، فعمدت إلى كتب ودواوين وروايات أكابر عتاة هذه النحلة ، وأعرضت عن التلاميذ الصغار الذين يحاكون أساتذتهم ويرددون مقالاتهم ، وقد قرأت بعد تسجيلي لهذا البحث مايزيد على خمسة عشر ألف صفحة من كتبهم ، ولايدخل في هذا العدد ما قرأته من مجلات وملاحق ، ولا ما سبق لي قراءته طوال ثلاثة عشر عاماً من أواسط المرحلة الجامعية حتى تاريخ تسجيل هذا البحث ، ولا ما قرأته من كتب مضادة للحداثة والعلمانية .
ومادمت أتحدث عن حدود الموضوع فإني أرغب في تبيان عدة أمور :
1 - أنه بعد النظر في كتب أهل الأدب الحديث تبين لي أن أكثرهم يطلقون لفظ “ المعاصرة ” و “ الأدب المعاصر ” على أدب الحداثة .
ذلك أن الحداثة عندهم مصطلح عسير التحديد مضطرب الحدود محملٌ بمعان مشكلة ملتبسة ، وأكثر ماتجد التباسه مع لفظ “ المعاصر ” و “ الجديد ” و “ العصري ” ، بحيث يضفى هذا الالتباس على هذا المصطلح طابعاً مضطرباً قلقاً ، يجعله متداخلاً بعمق - في استعمالهم - مع مصطلح “ المعاصر ” و “ الجديد ” في الإشارة إلى مفهوم الحداثة .
وعلى هذا فعنوان البحث وموضوعه يتجه مباشرة لمعالجة موضوع الحداثة .
2 - وبناء على ما سبق فإني ابتدأت في هذا البحث من بداية الحداثة الشعرية العربية في العراق على يد السياب أو نازك الملائكة حسب اختلاف الحداثيين ، وكلاهما ظهر في حقبة واحدة ما بين 1366 هـ - 1380 هـ/1946 م - 1960 م .
على أنني قد أتحدث عن بعض من سبقهم مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه ومعروف الرصافي ، والرابطة القلمية وجماعة ابولو والديوان وغيرهم ممن يعدون الإرهاصات الفكرية والأدبية للحداثة .
3 - ركزت على دواوين وكتب أكابر الحداثيين وأوائلهم ومشاهيرهم في البلاد العربية ، وإن ذكرت بعض تلاميذهم فعلى سبيل الاستطراد أو الاستشهاد في قضية محددة ، ولذلك لم أتعرض - إلاَّ لماماً - للحداثة المحلية ؛ لأنني رأيتهم مجرد نقلة ومحاكين لأولئك الأوائل ، الذين كانوا هم بدورهم مجرد نقلة ومقلدين للحداثيين الغربيين .
4 - رتبت أكثر الفصول على الطريقة التالية : أبدأ بذكر إجمالي لمعتقد أهل السنة والجماعة في القضية المتناولة ، ثم أذكر - غالباً - الجذور الفكرية للانحرافات الاعتقادية عند أهل الأدب العربي المعاصر ، ثم أورد أوجه الانحرافات والشواهد عليها ، وأعقب على بعض الشواهد ناقداً ومفنداً ، وأترك أكثرها من غير تعقيب لوضوح انحرافها وشططها ، أو اكتفاء بما مهدت به للفصل من ذكر لمجمل عقيدة أهل السنة ، والجذور الفكرية للانحرافات الحداثية .
5 - ركزت في ذكر الشواهد على مايسمونه شعراً ، ثم على بعض الروايات ، ولم أفرق بين الحداثة الشعرية والحداثة الفكرية ؛ لأنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، إلاّ كالفرق بين النصرانية وترانيم يوم الأحد في الكنيسة .
فالحداثة الفكرية قاعدة الصنم ، والحداثة الأدبية بقية أجزائه .
عنوان الموضوع هو في الواقع عنوان كتاب صدر للدكتور سعيد بن ناصر الغامدي أحد الأعضاء المؤسسين وعضو مجلس أمناء الحملة العلمية لمقاومة العدوان.وهو من بين قلة من الدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين فطنوا لخطورة الحداثة وانبروا لتعريتها والتحذير منها.
وهذه نبذة مختصرة من سيرته الذاتية:
الاسم : سعيد بن ناصر الغامدي
المولد : في سنة1381 في الملد من بلاد غامد
الدراسة:
* تخرج في المرحلة الابتدائية من المدرسة السلفية في بلجرشي سنة 1392هـ
* تخرج في معهد الباحة العلمي في سنة 1398هـ
* تخرج في كلية الشريعة في أبها عام 1402هـ
* حصل على الماجستير من كلية أصول الدين في جامعة الإمام في الرياض سنة 1410هـ في تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة
* حصل على الدكتوراه في التخصص نفسه سنة 1420هـ أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية الشريعة وأصول الدين ، جامعة الملك خالد بأبها
* عمل وكيلا لكلية الشريعة وأصول الدين 1406-1408
* عمل مشرفاً على وحدة البحث العلمي في كلية الشريعة وأصول الدين من تاريخ 25/2/1421
* القيام بالتدريس في كلية الشريعة وأصول الدين من سنة 1403 ، من معيد إلى محاضرإلى أستاذ مساعد في جامعة الملك خالد
·يعمل الآن أستاذاً في جامعة الملك عبدالعزيز – كلية المجتمع.
سأقوم بنشر مقالاته هنا بالتدريج لما رأيت فيها من فوائد عظيمة ودرر دفينة عسى أن توفر للإخوة في المنتدى أعضاءا وزوارا مرجعا ومعينا ينهلون منه فيستفيدون ويفيدون بإذن الله. المقالات تتسم بالطول وتتطلب مجاهدة النفس في القراءة لكنها تستحق ذلك منا.
وإلى المقال الأول:
المقدمة وأهمية الموضوع والدراسات السابقة في الموضوع
الحمد لله رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، خالق الخلق أجمعين ، الإله الحق المبين ، خلق الإنسان من سلالة من طين، وخلق الملائكة من نور مبين ، وخلق الجان من مارج من نار ، أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وقدر المقادير ، وشرع الشرائع ، وخلق الدنيا والآخرة والموت والحياة ، والجنة والنار ، وجعل الجنة للمؤمنين داراً ، والنار للكافرين قراراً.
وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه ، المبعوث رحمة للعالمين أجمعين ، بالدين القويم ، والصراط المستقيم ، فدعا إلى الله وجاهد في سبيله ، وأقام منارات العلم والهدى والخير والعدل ، وأثبت أحكام الإسلام في خير دولة أقيمت على وجه الأرض، وأنشأ مجتمعاً هو خير مجتمع ظهر على وجه البسيطة ، اتبعوا أوامر الله فلم يظلوا ، وحكَّمُوا شريعته فلم يذلوا ، وساروا على الهدى المستقيم فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، رضي الله عنهم وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، أمَّا بعد:
فإنه لما كثرت سهام الشبهات التي يرميها أعداء الإسلام ، وتطاول أهلها ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم ، وبثوا سمومهم الفكرية والسلوكية ، على شبيبة الأمة الإسلامية ، محاولين إغراقهم في الضلالات ، وإخراجهم من النور إلى الظلمات ، وتبديل يقينهم وإيمانهم ، وطرحهم في مفاوز الشكوك والريب والترهات ؛ كان لزاماً على من علم ذلك وخبره أن يبين لأمته وأبناء ملته خطورة هذه المسالك ، وفضاعة هذه المهالك ، كما قال تعالى : { وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ }.
1 - أهمية الموضوع وسبب اختياره :
إنّ من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل تلك المطالب الخبيثة ، وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها “ الأدب والشعر والثقافة والنقد ” وباطنها الكفر والشك والنفاق .
ذلك أن أعداء الإسلام استطاعوا أن يبذروا في أرض المسلمين بذور حقدهم ، ويستنبتوا فيها - في غفلة وضعف من أهلها - نباتات الشجرة الخبيثة ، شجرة المادية الملعونة ، فإذا بالمسلمين يرون ويسمعون
من ينادي بالكفر جهرة ويدعو إلى الضلال صراحة ، ويروج للرذائل الفكرية والخلقية علانية ، مرة تحت قناع “ الأدب المعاصر ” ومرة تحت شعار “ الثقافة الإنسانية ” وأخرى تحت لافتة “ التحديث ومجاراة العصر وتداخل الثقافات ” وأخر لاتحصى تحت عناوين كثيرة تدور كلها تحت معنى قول الله تعالى : {ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } ، وقوله سبحانه : {ويُرِيدُ الَذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } .
فالإضلال والإفساد غايتهم ومسلكهم ومنهجهم مستخدمين في ذلك وسائل الشهوات والشبهات ، ومع كل ذلك يزعمون ويدعون أنهم يريدون الإصلاح ، والنهضة والتقدم : {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
إن التجربة الإسلامية في مواجهة أرباب التضليل والإفساد تجربة طويلة مريرة ، بيد أن أشدها مرارة ، وأقساها وطأة هي ما تمر به الأمة في هذه الأزمنة ، إثر ما يسمى بـ “ الصدمة الحضارية ” التي أنتجت أجيالاً من أبناء المسلمين ، انسلخت من دينها وقيمها ، وراحت تلهث خلف سراب المذاهب المادية ، والعقائد الجاهلية المعاصرة ، وأصحابها يمدونهم في الغي ثم لايقصرون ، ويغرونهم ، ويمكنون لهم - بحكم غلبتهم ونفوذهم - في شتى الميادين .
إن مختلف النظم الفكرية المعاصرة المستوردة ، تحمل في طياتها ألواناً عديدة من الانحرافات ؛ ذلك لأنها إفراز نظريات مادية ذات جذور وثنية .
ومن أخطر هذه النظم المستوردة : النظام اللاديني المسمى بـ “ العلمانية ” والذي يظهر في أردية شتى ، منها الرداء الثقافي والأدبي المسمى بـ “ الحداثة ” التي أولع بها بعض أبناء البلاد الإسلامية فراحوا يبثون من خلالها السموم الفكرية ، ويرسخون المفاهيم الضلالية فاتحين أمام شباب الأمة أبواب التمرد - باسم الثقافة والأدب - ونوافذ التحدي للدين والسلوك القويم .
كل همهم ترويج أصناف الزيف تحت شعار الحرية الفكرية وعالمية الفكر الإنساني والموضوعية العلمية ، وهم أبعد الناس عن الحرية ؛ لأنهم مجرد أتباع مقلدين ، وأبعد الناس عن الموضوعية ؛ لأنهم أصحاب أهواء تجارت بهم تجاري الكَلَب بصاحبه .
ولكنهم - بسبب غفلة أو تغافل ، جهل أو عمالة - رسّخت لهم أقدام في مواضع التأثير ، فإذا بالأمة ترى من أبنائها من يدعو إلى الإلحاد ويجاهر بالكفر ويحارب دين الله جهاراً نهاراً ، ومن لم يكن على هذا القدر من الشطط في الكفر ، أو لم تكن له القدرة على التصريح به ، تجده ملفوفاً بالشكوك في كل مايتعلق بالإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق ، يتناولها تناول المستريب ، ويحاكمها محاكمة المتهم .
وهؤلاء وهؤلاء لايفتأون يذكرون أئمة الكفر بالذكر العاطر ، ويجعلون منهم قدوات ، ويرسمونهم أمام أعين الأجيال في أحسن صورة وأجمل وصف ، ويغدقون عليهم ألوان المديح والإطراء والتبجيل والتمجيد .
وهناك صنف ثالث تسيطر عليه بعض أوهام المروجين للخمور الفكرية ، فيرى أن الإسلام دين سماوي يعتني بالقيم والأخلاق والشعائر ، والعقائد المجردة ، لكنه لايستوعب الواقع ولايتدخل فيه ، ولايعنيه من أمور الناس إلاّ ما كان في إطار السلوك والشعائر ، أمَّا الأدب والفكر والثقافة أو السياسة والاقتصاد ، فهذه لها ميادينها المستقلة عن الدين وأحكامه ومعاييره، وهذا الصنف - على إغراقه في الانحراف - يعتبر من أمثلهم طريقة .
وهناك صنف رابع ضُربت عليهم عماية الجهل أو التجاهل ، ورانت على قلوبهم غشاوة الغباء أو التغابي ، فإذا هم يهونون من خطر هؤلاء ويحسنون بهم الظن ، ويدافعون عنهم ، ويميعون النظرة الحقيقية الجادة ، ويضفون البراءة عليهم وعلى أعمالهم الشائنة ، تحت حجج واهية بليدة ، أو يساعدون في إضفاء نوع من الضبابية على جوانب من طرحهم وفكرهم ، وكأن لسان حال هذا الصنف ينطق بـ { إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَاناً وتَوْفِيقاً } .
بل كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى : { ولا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكِيلاً } .
وبين هذه الأصناف جميعاً درجات من الانحراف والضلال بعضها أشر من بعض ، كما أن بعضها أخف من بعض .
ومما يزيد الأمر سوءاً أن هؤلاء الممسوخين لهم نفوذ صارخ في أجهزة التوجيه والإعلام في كثير من بلاد المسلمين ، ولا شغل لهم إلاّ نقل النفايات البشرية ، أو المماحكة فيما فرغ الشرع المعصوم من تقريره وإثباته .
قضيتهم الكبرى استيراد الآراء النظرية المتناقضة ، وتخدير إحساس الأمة بآلاف الدواوين والمسرحيات والرسوم والمقالات النقدية وغير النقدية ، من خلال الإثارة والجاذبية والمتعة الفنية في الشعر والرواية والقصة ، وتهريج المسرح وأصباغ الرسوم ، ومن خلال صناعة النجوم .
وإذا بنا نرى كل طائفي - يحمل أحقاده التاريخية على الإسلام - يخفي دمامة معتقداته تحت فلسفة الحداثة والعلمنة ، ويخرج سمومه القاتلة من أكمام الثوب الأدبي الفضفاض .
كما نرى الوثنية والنصرانية واليهودية تبرز في أقلام المبغضين لقرون الهجرة المباركة ، المعادين لتراث الأمة .
وإذا بنا نرى جهودهم وخبراتهم وقدراتهم تصب في إناء اليهودية التلمودية ، لتجتمع كلها تحت لواء الرغبة الجامحة للإجهاز على الإسلام وعقيدته وشريعته وتراثه وحضارته وتاريخه المجيد .
ومما يفت فؤاد المسلم أن يجد لهؤلاء الأرجاس أدوات من بني جلدتنا ، استقطبتهم زمزمة كهان الحداثة ، في حين غفلة منهم عن دينهم ، وعجز منهم عن تحقيق وجودهم بتحصيل علمي رصين ، فإذا هم يرددون أفكار الزنادقة والملاحدة ، ويضاهون اليهود والنصارى والوثنيين - ببلاهة وغوغائية - في عبارات مطاطة وألفاظ مبهمة ، وتراكيب غامضة إذا حققتها وجدتها التبعية والتقليد ليس غير .
وليست المأساة متوقفة عند هذا الحد ، بل تجدها تزداد خطورة عندما تلتفت إلى الركام الهائل من المؤلفات والمجلات والملاحق الأدبية ، والمراكز الثقافية في كثير من البلدان العربية ، فلاتجد عليها إلاَّ طائفياًّ نبت في الظلام وخرج من وراء الكواليس ليكون هو وأضرابه من معالم الأدب الحديث ، أو نصرانياً ترعرع تحت ظل الصليب يتسنم التوجيه والتثقيف ، أو ملحداً وجودياً أو ماركسياً أو إباحياً يبرز من أعطاف جثة المادية الغربية ليكون من رموز العلم والأدب والفن ، أو تابعاً لهؤلاء لايدري ، ولايدري أنه لايدري .
أمَّا إذا تأملت في تعبيراتهم ورموزهم ، فإنك تجدها على قسمين ، أحدهما : مكشوف ، والآخر مقنع ، وكلاهما مسخر لخدمة الحداثة ومضامينها ، وموجه لتحطيم دين الله تعالى والإرث المبارك والتراث الخير ، ومؤسس للقيام بدور التخريب الفكري ، والتلويث الثقافي ، والانحلال الخلقي ، فتجد في إنتاجهم المجاهرة بإنكار الرب سبحانه وتعالى ، وجوداً وألوهية ، والاستهانة بأسمائه - تعالى - وصفاته ، وجحد وجود الملائكة والسخرية منهم ، وتكذيب الرسل والأنبياء وإنكار قضية الوحي جملة وتفصيلاً ، وجحد الكتب المنزلة والسخرية بكل ذلك ، وإضفاء صفة النبوة والمعجزة على الشاعر والحداثي المبدع ، وجعل الأساطير بديلاً للوحي الكريم ، والآلهة الوثنية شريكاً لله العظيم ، مع تكذيب بالقدر واستهانة به ، وتهكم بالمؤمنين به ، وجحد المعاد وسائر الغيبيات ، مع الإيمان بغيبيات وثنية جاهلية ، ولذلك تجدهم يوظفون الرموز الوثنية واليهودية والنصرانية في أعمالهم بشكل بارز وكثيف .
أمَّا إذا جاؤوا إلى تاريخ الإسلام فإنهم لايستخرجون منه سوى أمثالهم من أهل الزيغ والشك والانحراف والزندقة ، وهم مع كل ذلك يطرحون فكرتهم على أساس أنها فكرة كلية شاملة ، متطورة أبداً ، قادرة على احتواء كل قضايا الكون والحياة والإنسان ، وعلى ذلك فقد توجهوا بعنف وحقد لمحاربة الحكم الإسلامي والسخرية من أخلاق الإسلام والسعي لترسيخ ألوان الانحرافات الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية ، والدعوة للانحلال والفوضى الخلقية والدعوة إلى استبدال شرع غير الله بشرع الله الحكيم ، إلى غير ذلك من مفردات الانحرافات التي لاتكاد تحصى لكثرتها وتنوعها .
أمَّا المقنَّع من أفكارهم تحت أردية الغموض والرمزية فهو كثير كذلك ، ولايخرج عن المضامين السابقة ، بل هو في خوضها الآسن غارق .
فإذا أرادوا - مثلاً - الحديث عن القرآن سموه “ صوت الألوهية ” أو “ نتاج الغيبوبة ” ، والحكم الإسلامي يرمزون له بالملح والرماد والجفاف ، وقررن الهجرة والفتح الإسلامي والخلافة رمزوا لها بالإبل والسفر والنخيل والبخور والتعاويذ والصحراء والهجير والرمال الضريرة ، والعمائم المتخمة والأعشاب الميتة ، وأرض الحروف عندهم أرض النبوات والإسلام والهدى ، والأغوار الخرساء يريدون بها التاريخ الإسلامي ، والشريعة والصلاة والمنارة يرمزون لها بالستارة السوداء ، والإصلاح والدعوة وإحياء الإسلام يعبرون عن موقفهم منها بقولهم : “ أهدم كل لحظة مدائن الغزالي ” ونبذ التراث والإقبال على الغرب يأتي تحت قولهم : “ أرفض الرمل واتجه نحو البحر ” ، والحداثة يسمونها : الشمس وفاطمة وفضة ونافذة الضوء ورياح المواقع والتضاريس ، والمطر والخصب ، والتكوين الآتي إلى آخر ما هنالك من رموز وألفاظ تحتها الأفاعي والحيات .
إضافة إلى إحياء الرموز الباطنية وأسسها الفلسفية لتشكل ملامح غير معروفة إلاّ لذي التتبع ، وتعطي للغة دلالات غير دلالاتها الأصلية ، وهو جانب آخر من جوانب الخطورة التي ينطوي عليها المشروع الحداثي يتمثل في دعوتهم إلى “ تفجير اللغة ” أو “ التحديث اللغوي ” فإذا انضاف إلى ذلك سعيهم لهدم أصول الفقه ، وضوابط تلقي الوحي وفهمه وتطبيقه علمنا أن القوم لايهدفون إلى تجديد في الأساليب ولاتحديثٍ في الصيغ بقدر مايستهدفون هدم ملة الإسلام ، وإقامة ملة الحداثة مكانها { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ}.
من هذا كله وغيره كان الموضوع على جانب كبير من الأهمية ، وكان اختياري له بعد مدة طويلة من المتابعة لإصداراتهم والنظر في أعمالهم والتأمل في مقالاتهم ، والمناظرة والمناقشة مع بعض أتباع هذه النحلة محلياً وعربياً .
فسجلت فيه بحثي هذا لأبيين بعض جوانب الخطورة في الأدب العربي المعاصر ، لعله يكون سبباً في كبتهم فينقلبوا على أعقابهم خاسرين ، وسبباً لإيضاح الحق لمن استغفل وجرى في مجراهم مؤيداً أو منافحاً ؛ لعله يعود إلى الهدى ، وسبباً لتحريك حمية أهل الإيمان فيلتفتوا إلى دعاة جهنم ممن يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ويعيشون بين ظهراني المسلمين .
وأكبر آمالي أن يكتب الله لي أجر المنافحة عن دينه والمغايظة لأعدائه ، وإبانة سبيل المجرمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة .
2 - حدود الموضوع :
وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة أبواب وخاتمة ، وصدرته بالمقدمة والتمهيد .
فالمقدمة تحدثت فيها عن أهمية الموضوع وسبب اختياره ، وعن حدود الموضوع وبعض الدراسات السابقة فيه .
والتمهيد تحدثت فيه بإيجاز عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه ، وعن علاقة الأدب بالاعتقاد ، ونبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب .
أمَّا الباب الأول فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى ، وتحته أربعة فصول :
الفصل الأول : الانحرافات المتعلقة بالربوبية .
الفصل الثاني : الانحرافات المتعلقة بالألوهية .
الفصل الثالث : الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات .
وأمَّا الباب الثاني فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة بالملائكة والكتب المنزلة والأنبياء ، وتحته ثلاثة فصول :
الفصل الأول : الانحرافات المتعلقة بالملائكة عليهم السلام .
الفصل الثاني : الانحرافات المتعلقة بالكتب عامة والقرآن خاصة .
الفصل الثالث : الانحرافات المتعلقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام .
وأمَّا الباب الثالث فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر والقدر ، وتحته ثلاثة فصول :
الفصل الأول : الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر .
الفصل الثاني : الانحرافات المتعلقة بالقدر .
الفصل الثالث : الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى .
وأمَّا الباب الرابع فهو بعنوان : الانحرافات المتعلقة بالأحكام والسلوك ونظام الحياة ، وتحته خمسة فصول :
الفصل الأول : العبث بالمصطلحات الشرعية والشعائر الإسلامية .
الفصل الثاني : محاربة الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره .
الفصل الثالث : السخرية من الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية .
الفصل الرابع : الانحرافات في القضايا الاجتماعية والنفسية .
الفصل الخامس : الانحرافات في القضايا السياسية والاقتصادية .
وأمَّا الخاتمة ففيها : بيان أسباب الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث ، ومقترحات لمواجهة الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث .
هذا وقد بدأت أهتم بهذا الموضوع وأعتنى بجمع الكتب فيه من أيام الدراسة الجامعية ، يوم شعرت أن بعض الطلاب قد تأثرت عقائدهم بشكوك قادت بعضهم إلى الإلحاد الصريح ، وبعضهم إلى ريب في وجود الله تعالى والنبوات والمعاد ، وكنت أراهم يتداولون دواوين شعراء الحداثة وكتبهم النقدية والفكرية ، وأظن أن ذلك من باب الحرص على التجديد الفني والأدبي كما كانوا يزعمون ، فلما اطلعت على ما لديهم وجدت أن الأمراض الاعتقادية قد تسربت إليهم من مجالسات أهل الشبه والأهواء ، ومن الكتب التي كان جلساؤهم بل أساتذتهم في الشر يوجهونهم لشرائها ، واقتنائها وكانت هناك مكتبة لأحد الحداثيين تجلب كتب أهل الحداثة ومجلاتهم ، والقوم على أرففها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ، يتهافتون على شرائها ثم توزيعها إهداء أو إعارة .
وكانت لي معهم جولات وصولات في القضايا الكبرى ؛ قضية وجود الله ، قضية القدر ، والنبوة ، والمعاد ، وأحكام الشريعة ، وغير ذلك .
ثم واصلت متابعتي لهذا التيار على مستوى الصحف المحلية ، والأندية الأدبية ، والأمسيات الشعرية ، وجرى فيها من الأحداث مايطول شرحه .
وفي عام 1407 هـ سجلت على شريطين مادة علمية عن هذا الاتجاه بعنوان “ الحداثة حقائق ووثائق ” كانت ذات أثر بالغ على صعيدين :
الأول : أهل الدين والإيمان فهؤلاء تبين لهم خطورة هذا المذهب ، وضلاله وبشاعته ، وعظم انحرافاته .
الثاني : أهل الحداثة والعلمنة وقد وقع هذا العمل منهم موقع الصيحة ، فهبوا يدافعون في الصحف والأندية ، وفي المنشورات ، وطفقوا يبحثون عن أي شيء به يحتمون ، أو من خلاله يهاجمون ، واستعدوا وألَّبُوا ، وتناصروا ، واستخدموا بعض الفئات الجاهلة أو المتجاهلة ، وظاهرهم إخوانهم من الحداثيين العرب في مصر وبيروت ولندن وباريس .
وفي أثناء هذه المسيرة الطويلة من المرحلة الجامعية حتى تسجيل هذا البحث جمعت كميات كبيرة من كتبهم ومجلاتهم وقصاصات كثيرة من صحفهم وملاحقهم الأدبية ، ولما جئت لكتابة هذا البحث وجدت أمامي ركاماً هائلاً مما هو في ملكي ، فضلاً عما في الأندية الأدبية والمكتبات الكبيرة ، وكان من المستحيل أن أجمع مادة هذا البحث من كل هذه الكتب والمجلات والملاحق ، فعمدت إلى كتب ودواوين وروايات أكابر عتاة هذه النحلة ، وأعرضت عن التلاميذ الصغار الذين يحاكون أساتذتهم ويرددون مقالاتهم ، وقد قرأت بعد تسجيلي لهذا البحث مايزيد على خمسة عشر ألف صفحة من كتبهم ، ولايدخل في هذا العدد ما قرأته من مجلات وملاحق ، ولا ما سبق لي قراءته طوال ثلاثة عشر عاماً من أواسط المرحلة الجامعية حتى تاريخ تسجيل هذا البحث ، ولا ما قرأته من كتب مضادة للحداثة والعلمانية .
ومادمت أتحدث عن حدود الموضوع فإني أرغب في تبيان عدة أمور :
1 - أنه بعد النظر في كتب أهل الأدب الحديث تبين لي أن أكثرهم يطلقون لفظ “ المعاصرة ” و “ الأدب المعاصر ” على أدب الحداثة .
ذلك أن الحداثة عندهم مصطلح عسير التحديد مضطرب الحدود محملٌ بمعان مشكلة ملتبسة ، وأكثر ماتجد التباسه مع لفظ “ المعاصر ” و “ الجديد ” و “ العصري ” ، بحيث يضفى هذا الالتباس على هذا المصطلح طابعاً مضطرباً قلقاً ، يجعله متداخلاً بعمق - في استعمالهم - مع مصطلح “ المعاصر ” و “ الجديد ” في الإشارة إلى مفهوم الحداثة .
وعلى هذا فعنوان البحث وموضوعه يتجه مباشرة لمعالجة موضوع الحداثة .
2 - وبناء على ما سبق فإني ابتدأت في هذا البحث من بداية الحداثة الشعرية العربية في العراق على يد السياب أو نازك الملائكة حسب اختلاف الحداثيين ، وكلاهما ظهر في حقبة واحدة ما بين 1366 هـ - 1380 هـ/1946 م - 1960 م .
على أنني قد أتحدث عن بعض من سبقهم مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه ومعروف الرصافي ، والرابطة القلمية وجماعة ابولو والديوان وغيرهم ممن يعدون الإرهاصات الفكرية والأدبية للحداثة .
3 - ركزت على دواوين وكتب أكابر الحداثيين وأوائلهم ومشاهيرهم في البلاد العربية ، وإن ذكرت بعض تلاميذهم فعلى سبيل الاستطراد أو الاستشهاد في قضية محددة ، ولذلك لم أتعرض - إلاَّ لماماً - للحداثة المحلية ؛ لأنني رأيتهم مجرد نقلة ومحاكين لأولئك الأوائل ، الذين كانوا هم بدورهم مجرد نقلة ومقلدين للحداثيين الغربيين .
4 - رتبت أكثر الفصول على الطريقة التالية : أبدأ بذكر إجمالي لمعتقد أهل السنة والجماعة في القضية المتناولة ، ثم أذكر - غالباً - الجذور الفكرية للانحرافات الاعتقادية عند أهل الأدب العربي المعاصر ، ثم أورد أوجه الانحرافات والشواهد عليها ، وأعقب على بعض الشواهد ناقداً ومفنداً ، وأترك أكثرها من غير تعقيب لوضوح انحرافها وشططها ، أو اكتفاء بما مهدت به للفصل من ذكر لمجمل عقيدة أهل السنة ، والجذور الفكرية للانحرافات الحداثية .
5 - ركزت في ذكر الشواهد على مايسمونه شعراً ، ثم على بعض الروايات ، ولم أفرق بين الحداثة الشعرية والحداثة الفكرية ؛ لأنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، إلاّ كالفرق بين النصرانية وترانيم يوم الأحد في الكنيسة .
فالحداثة الفكرية قاعدة الصنم ، والحداثة الأدبية بقية أجزائه .