كلسينا
01-05-2008, 01:02 PM
وصلتني هذه الرسالة من جمعية التجدد الثقافية الأجتماعية بمناسبة مؤتمر الوحدة الإسلامية واحببت أن أطرحها للمناقشة .
من يجرؤ على القول بأن العداء والخصام الطائفي، أو استعلاء طائفة على أخرى، وظلم طائفة لأخرى هي روح الدين في قرآنه وأن هذه هي تعالم الدين السمح؟
أول ما يتنافى من الدين مع التمييز الطائفي هو التعميم في الحكم، فالقرآن حين يستعرض أوجه الاختلاف مع الآخر ، يحرص دائماً على تدوين حالات الاستثناء، فإذا كان الاختلاف والخصام مع القبائل العربيّة المشركة استثنى الذين لم يمارسوا العدوان منهم على المسلمين، ليجعل موضع الاختلاف والخصام محدداً بإطاره المتصف بالعدوان، مبعداً له عن التلبس بصفات التنازع المحتملة الأخرى، كالعشائرية، أو عدم الإيمان ولكن دون تكذيب وحرب وعدوان، وهذا مما لا يزال ملتبساً على الفكر الإسلامي حتى اليوم، فلم يميزوا بين خصومات المسلمين الدينية مع المخالفين المحاربين، عن المخالفين غير المحاربين، بل جعلوا الخلاف عقائديّاً بحتاً، وذلك لدواعي سياسية في الغالب، ولهذا فهم يطمسون بعض الحقائق التاريخية من مثل تحالفه (ص) بعد الحديبيّة ( أو قل إعلان تحالفه بعد الحديبيّة مع قبائل مشركة لا تزال، وإلاّ فإن تحالفه معها كان سابقاً على الصلح ولكنه كان مكتوماً، خاصة تلك القبائل التي كانت في حلف مع جده عبدالمطلب أيام قبل البعثة).
وإذا تحدث عن خصومات اليهود والنصارى، فلا بد أن تجد استثناءً إذا كان هناك من يستحق الاستثناء، من الفئات التي تشترك مع الخصم في الموقف الثقافي والنظري والعقائدي، ولكنها تختلف معه في الموقف السياسي والسلوكي من المسلمين، وقد جرى طمس هذه الحقيقة أيضاً لينظر للخلاف مع أهل الكتاب على أنه خصومه فطرية أبدية عقائدية، لا سلوكية سياسية طارئة على الموقف الأصل، ولأغراض سياسية أيضاً هنا كما هناك مع المشركين، ولهذا فإنك لا تجد عند المسلمين تقديراً لأمثال قوله تعالى(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران:113) ولن تقدر على فهم الموقف الحقيقي في الإسلام من أهل الكتاب، وكيف يمكن الجمع بين " ونساء أهل الكتاب حل لكم " و" طعامهم حل لكم " وقبولهم في الدولة على دينهم، ودين كونهم أعداءً دون عدوان، وخصوماً ولو لم يُبدوا خصومة.
لعلك لا تجد نصوصاً دينية في كل العالم شغوفة بالعدل كما تجدها عند المسلمين في كتاب الله، فالعدل في الإسلام المحمدي قيمة لا يُعلى عليها، يتصف الله بها أولاً، ثم دينه ونبيه، وهي منهاج للمؤمن ولو على حساب النفس، فالعدل قيمة معياريّة توزن بها الرجال والمواقف والأفكار، فيكفي لوصف شيء ما بالفساد أن يكون متصفاً بالظلم، أو مريداً له، ولو كان في الظلم والكذب مصلحة النفس والأهل والأقربين، وينبغي التمسك به ولو مع العدو الشانئ الذي لا يستحق في نفسه العدالة، ولكن لأن المؤمن هو أهل للعدل الذي هو من صفاته التي لا ينبغي له أن يغادرها، وإلاّ غادر حقيقة كبرى من حقائق الإيمان .
ولك أن تشرق في القرآن وأن تغرب لتقرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)
(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) إلى غير ذلك الكثير الواضح المسلّم به عند الجميع فلا نطيل فيه، وعليه فإن أول ما يصطدم التمييز الطائفي مع الثوابت من الدين هو التعميم في الحكم على طائفة بعينها، وبكل أفرادها، وأنها مستحقة للاعتداء عليها والتميز عليها لمجرد كونها طائفة أخرى مغايرة، لا لأجل أن فئة منهم أو كلهم قد مارسوا علينا العدوان، وحينها ليس لنا الحق إلاّ في رد العدوان بمثل العدوان لا يزيد عنه، فإن كان تنازعنا معهم حول مال وحقوق ظل هذا العنوان هو موضوع التنازع لا ينبغي تعديه لأسباب عرقية أو ثقافية، ولا ينبغي إلباسه لباس الدين كما يفعل السياسيون على مرّ العصور.
هذا والحال متعلق بغير فئات المسلمين، من طوائف الأديان الأخرى، وأعراق الناس ومللهم ونحلهم، فلا بد أن يكون الحال أجلى وأوضح وأمتن بين طوائف المسلمين ومذاهبهم، ولو كان الاستعلاء بالظلم جائزاً على أحد من مكونات المسلمين لجاز على المنافقين، والذين كان كيانهم في مجمل مجموعه معروفاً ومشخصاً، حيث كانوا يتحلقون حول عبد الله بن سلول الشيخ الأعظم لقبيلتي الأوس والخزرج في الجاهلية، والذي لعظم شخصيّتة فيهم قبلوه عليهم وهما الحيان الخصمان سيداً ومتوجاً مسموع الرأي، فكانت له مجالسه وكان له أتباعه ومريدوه، وكم قد شاقّوا الله ورسوله باتخاذ المواقف الخاذلة والموهنة والمشككة والمفرقة بين جماعة المسلمين، ويخطئ من يظن أن الكتلة العظمى منهم لم تكن معروفة، اعتماداً على قول القائل أنهم كانوا يظهرون الإيمان، فليس هذا صحيحاً فهم كأي كتلة أخرى لهم سمات ومواقف مرصودة ومتوقعة، وكان عامة المسلمين واعين لأفرادهم ومواقفهم، ويتوقعونها منهم، فهم يسيرون على نمط من السلوك والحركة الاجتماعية مميزة ومتوقعة ، ومع كل هذا لم يعاملهم النبي (ص) بالظلم، بل حفظ لهم حقوقهم فيما لم يخالفوا فيه الحق، وحاسب أو تجاوز فيما خالفوا فيه، وبشكل فردي لا جماعي، وبهذا الوعي نجح في أن لا يبرزهم طائفة خارجة عن نسيج المسلمين، بل أذاب خصوصيتهم في نهر المسلمين، مع كل التميز الذي كان متجليّاً فيهم، واستطاع أن يحتّ منهم وينقص، بحيث تحول النفاق في المآل إلى مواقف فرديّة، فلم تعد تسمع بكتلة له متميزة ومترابطة كما كانت أيام ابن سلول، ومن بقي منهم اضطر للعمل على الفساد ضمن المسلمين ، ولكنه كان مضطرا في أكثر الحالات للقيام بواجبه تجاه الإسلام ولو على حساب نفسه وماله، فكم من منافق كان في صفوف المسلمين يقاتل رغما عن نفسه، وكم منهم من بذل ماله وهو كاره ، وهكذا سخروا للخدمة وبلا أجر!.
ولو أن النبي (ص) تشدد وتصلب في التعامل معهم كطائفة متماثلة آخذاً البريء منهم بالمذنب، والضعيف بالقوى، لما زادهم إلاّ تكتلاً وتراصاً، ولبقيت فئتهم مع الوقت لتشكل قطاعاً مستمراً يتآزر ويتكاتف ويحاول أن يفلسف موقفه فكريّاً، ويمارس صناعة القول والتنظير ليؤطر له مذهباً في المذاهب، كما فعل اللاحقون من الزنادقة والدهريين، الذين اتصلوا بثقافات فارس واليونان.
لقد ارتكب المنافقون جنايات وأطلقوا كلمات ذكرها القرآن، ووصفها بأنها كلمات كفر، ومع هذا رفض النبي (ص) أن يقتلهم كما أشار عليه أصحابه في أكثر من مرة، وقال قولته المشهورة " اكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه "، بمعنى أنه كره أن يسمع العرب " الأعداء " أن في المسلمين فتنة داخلية وانشقاقا على الرسول (ص)، وأنهم افترقوا عليه فرقاً فقام بقتل من خالفه، فيكون الفساد في هذا أشد من الفساد في ذاك الذي خشيه المسلمون من وجود منافقين واربوا بكلمات الكفر، فالحفاظ على الوحدة ظاهراً، خير من هتك غلالتها الحافظة لجماعة مجتمع المسلمين عن الفرقة والتشتت فالهوان في أعين الأعداء.
ولكن المسلمين بعد ما اغتروا بأنفسهم، وأنهم أصحاب الإيمان، وفيهم العدد والعدة، ظنوا أن معالجة النبي (ص) لأهل النفاق، ومعالجته للمؤلفة قلوبهم، كانت معالجة المضطر مرحليّاً، وأنهم ليسوا الآن كما كانوا بالأمس، يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم، فكاشفوا المنافقين بالحرب والاحتقار، مما أسهم في فرز كل فئة استجدت في الإسلام، متخذة موقفاً سياسيّاً أو عقائديّاً مغايراً ولو جزئياً، وحوّلها إلى مذهب ثم طائفة، وحجب كل من يستحق قلبه أن يؤلف ليؤمن بوعي عن هذه الفرصة، لأنه لم توجد في المسلمين حكمة رسولهم في التعامل مع الآخر، ولو أن المسلمين لم يتعاملوا فيما بينهم بطريقة العزل والحرب والتفسيق والتدابر حينما يختلفون في الفكر أو في السياسة، لما تحولت مذاهب الرجال إلى طوائف، و لما اجتمع كل أتباع مذهب حول بعضهم ليكوّنوا خطاً دفاعياً، كما يتمترس الجنود خلف خطوط الدفاع، فلا يتزاوجون ولا يتساكنون إلا مع أنفسهم فقط ولا يعطون السمع إلاّ لرجالهم، ولكن مخالفة الحكمة النبوية، واتخاذ نهج التعصب الديني والسياسي جرَّ المسلمين لكل هذا التمزق من الفرق والطوائف.
سياسة الاعتزال والعزل:
لا يحق لأحد أن يتخذ غير سبيل التوحد والوحدة الجامعة مع سائر مكونات أمة الإسلام، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن لا يختلف المسلمون في آرائهم ومواقفهم، لأن الاختلاف سنة الحياة، ولكن أن لا يعتبر الاختلاف إذا حدث خروجاً عن إطار الوحدة، فهناك إطار عام يجتمع فيه كل المختلفين وهو الإيمان بالله وحده وبرسالة محمد (ص) الخاتمة وبالقرآن كتاباً هادياً، ثم مهما كان هناك من اختلاف في فهم هذه الأصول أو فروعها فهو لا يخرج عن إطار الوحدة أو هكذا ينبغي أن نفهم ونتعامل.
إن الذين يخرجون المخالف لهم عن الدين والملة بدعوى أنهم يمثلون الأمة في نقائها وكما أراد لها الله، هم خنجر يمزق جسد هذه الأمة ويوزعها أشلاء، والذين يعتزلون جماعة المسلمين لأنهم قد رأوا أن الأمة قد فارقت الحق، وأنهم روح الأمة الصافي بزعمهم، هم أيضاً يمزقون الأمة فرقا، ويمارسون عملاً لم يأذن به الله لأحد من المؤمنين أن يعتزل المؤمنين، وأما أن تقول فئة نحن خوارج شُراة خرجنا لله وشرينا أنفسنا له، نعتزل الأمة الضالة، أو تقول فئة نحن نعتزل الناس ذهابا عن ضلالهم، فليس لهم ذلك، وليس لأحد أن يعزلهم عن الجسد الكبير للأمة، بل لكل طرف الحق وعليه الواجب، أن يظل ضمن إطار الوحدة يمارس خلافه واختلافه، لأن هذا هو الأسلم والأبقى والأنفع لكل الأطراف، فمع الاستمرار والتلاقي يزيل كل طرف متطرف موقفه الفكري والسلوكي ويعود التقارب والتفهم بين الجميع ممكناً.
إن القرآن الكريم يؤكد أن إمكانية حدوث الاختلاف بين المؤمنين هو فرض واقعي، لا بل قد يصل الأمر إلى التقاتل، فأوجب على المسلمين السعي بينهم بالصلح ثم قتال الباغي حتى يعود إلى جسد الجماعة، وقرر القرآن الكريم أن الاختلاف في تقييم المواقف إلى حد التناقض هو أمر محتمل وفرضية واقعية، تحدث حتى بين الأنبياء كما سرد من خبر أخذ موسى عليه السلام برأس أخيه هارون يجره إليه. هذا على مستوى الأنبياء فما بالك بغيرهم.
دعوى النقاء الفكري والفرقة الناجية:
وحدهما الغرور والتعصب يدفعان لاعتقاد كل طرف من المسلمين بامتلاك كل الحقيقة وأن الآخر ليس على شيء، وهذا هو الموجه الأكبر ذاتياً نحو الميل للانعزال والتكتل في طائفة، ومن ثم النظر باستعلاء وازدراء للآخرين الذين لا يملكون الحقيقة من المغضوب عليهم أو الضالين.
أول عتبات الانفصال والتطيف هو دعوى النقاء الفكري وأن ما ذهب إليه فلان وفلان هو خروج عن ربقة الإيمان والدين، وأنه مستحق للعذاب في الدنيا والآخرة، وهذا الإدعاء هو في الحقيقة خروج عن القرآن في أدبه وسمته العام مع المختلفين غير المعتدين، فليس هناك اختلاف يمكن تصوره في دائرة أهل الأديان هو أشد من الاختلاف مع أهل الكتاب، فيما خالفوا فيه شرعتهم الصحيحة على ما ذكر القرآن عنهم، ولكن مع كل ذلك التنكير عليهم فيما حرفوا وستروا وغيروا، إلا أنه لم يخرجهم بها عن دائرة أحكام أهل الكتاب، شركاء المسلمين في الاعتقاد الأوسع الشامل للإيمان بالله وأصل إرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية والبعث والنشور في اليوم الآخر، وهي تمثل الخط العريض الجامع لكل أهل الأديان السماوية، وعلى أساسها قبلهم الإسلام على دينهم وشريعتهم، وأذن بالزواج منهم، والأكل من طعامهم، والإحسان إليهم، واعتبرهم قسماً مقبولاً في مجتمع المسلمين، فإذا كان الأمر كذلك مع أهل الكتاب فما هو المدى الذي يختلف فيه مسلمان حول حقائق الإسلام والإيمان يبلغ ما بلغوه؟ فلماذا يتسارع المسلمون إما إلى العزل أو الاعتزال، اللذين هما مفتاح التمذهب والتطيف، فليكن باب قبول الاختلاف بيننا واسعاً دون التطاول بدعوى الخروج عن الدين والإيمان، والمناداة بالطرد والعزل والتكفير، فكل فكرة إذا بقيت ضمن تدافع الحواضر ولم ينعزل أهلها أكاديمياً أو جغرافياً، فإنها لا تلبث أن تأكل من غيرها وتتآكل به، لتتحول عبر الجدل والحوار إلى شيء آخر غير ما بدأت به، فما أكثر ما تقارب علماء الكلام المتأخرين عن علماء الكلام المتقدمين، حتى يكاد أن يكون الاختلاف في النهاية شكلياً أكثر منه موضوعيّاً.
يقال أن النبي (ص) قد أعطى للمسلمين جردة حساب ختامية فقال إن أمته ستفترق على 73 فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، ومنذ ذلك وكل فرقة تفترق عن جسد الجماعة ( الأمة ) لتدعى أنها هي الفرقة الناجية، وأن سواها في النار، فيسلون أنفسهم بمثل هذا الذي يقولون، وكأن هذا الحديث هو تشجيع على التفرق لا تحذير منه على فرض صحته، وكأن النبي (ص) قد قال لكل مسلم انج بنفسك واترك أخاك للنار، وهذا لعمرك من خيانة حقوق الأخوة، فمن هي الفرقة الناجية؟ ومن هم الفرق الهالكة؟ هل الخوارج من الهالكين، وهم الفئة التي تكاثر من يعتبرهم كذلك، فانظر إلى قول أمير المؤمنين فيهم، أنهم أرادوا الحق فأخطأوه، على عكس الذي أراد الباطل فأدركه، فهل يحق لنا أن نخرج الخوارج عن دائرة الإسلام والإيمان وهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لمجرد أنهم قد فارقونا في فهم نقاط في الدين قلّت أو كثرت؟ وهل خلافهم هذا يسقط حقوقهم كمسلمين حرام دمهم ومالهم وعرضهم؟ كلا وألف كلا، فإن أي فرقة من فرق المسلمين هي أعظم شرفاً من المنافقين. فهل يجوز لأحدٍ أن يكفر أو يخون أو يزعم استحقاق النار لفئة من المسلمين اختلفت أو اشتبهت أو أخطأت أو ضلت عما هو حق في الإسلام؟ عوضاً عن أن يكون اختلافها إنما هو عن فهم فرقاء آخرين ؟
إن القرآن قد أجلى الموقف من الاختلاف في الأديان، فجعل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ودعا إلى قول التي هي أحسن دفعا لنزغ الشيطان بينهم، ثم جعل الحكم بين الناس في الآخرة هو شأن ربوبي، فانظر إلى أهل الأديان والمذاهب هل يلتزمون بهذا المنهاج، و ما عليك إلاّ أن تقرأ كتب الخلاف أو تتصفح مواقع " الشجار" ، وستعرف حينها متى ومن أين تبدأ الحروب الأهلية!
أعتذر لطولها ولكنني نقلتها كما هي لأنها مطروحة للمناقشة كاملة .
من يجرؤ على القول بأن العداء والخصام الطائفي، أو استعلاء طائفة على أخرى، وظلم طائفة لأخرى هي روح الدين في قرآنه وأن هذه هي تعالم الدين السمح؟
أول ما يتنافى من الدين مع التمييز الطائفي هو التعميم في الحكم، فالقرآن حين يستعرض أوجه الاختلاف مع الآخر ، يحرص دائماً على تدوين حالات الاستثناء، فإذا كان الاختلاف والخصام مع القبائل العربيّة المشركة استثنى الذين لم يمارسوا العدوان منهم على المسلمين، ليجعل موضع الاختلاف والخصام محدداً بإطاره المتصف بالعدوان، مبعداً له عن التلبس بصفات التنازع المحتملة الأخرى، كالعشائرية، أو عدم الإيمان ولكن دون تكذيب وحرب وعدوان، وهذا مما لا يزال ملتبساً على الفكر الإسلامي حتى اليوم، فلم يميزوا بين خصومات المسلمين الدينية مع المخالفين المحاربين، عن المخالفين غير المحاربين، بل جعلوا الخلاف عقائديّاً بحتاً، وذلك لدواعي سياسية في الغالب، ولهذا فهم يطمسون بعض الحقائق التاريخية من مثل تحالفه (ص) بعد الحديبيّة ( أو قل إعلان تحالفه بعد الحديبيّة مع قبائل مشركة لا تزال، وإلاّ فإن تحالفه معها كان سابقاً على الصلح ولكنه كان مكتوماً، خاصة تلك القبائل التي كانت في حلف مع جده عبدالمطلب أيام قبل البعثة).
وإذا تحدث عن خصومات اليهود والنصارى، فلا بد أن تجد استثناءً إذا كان هناك من يستحق الاستثناء، من الفئات التي تشترك مع الخصم في الموقف الثقافي والنظري والعقائدي، ولكنها تختلف معه في الموقف السياسي والسلوكي من المسلمين، وقد جرى طمس هذه الحقيقة أيضاً لينظر للخلاف مع أهل الكتاب على أنه خصومه فطرية أبدية عقائدية، لا سلوكية سياسية طارئة على الموقف الأصل، ولأغراض سياسية أيضاً هنا كما هناك مع المشركين، ولهذا فإنك لا تجد عند المسلمين تقديراً لأمثال قوله تعالى(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران:113) ولن تقدر على فهم الموقف الحقيقي في الإسلام من أهل الكتاب، وكيف يمكن الجمع بين " ونساء أهل الكتاب حل لكم " و" طعامهم حل لكم " وقبولهم في الدولة على دينهم، ودين كونهم أعداءً دون عدوان، وخصوماً ولو لم يُبدوا خصومة.
لعلك لا تجد نصوصاً دينية في كل العالم شغوفة بالعدل كما تجدها عند المسلمين في كتاب الله، فالعدل في الإسلام المحمدي قيمة لا يُعلى عليها، يتصف الله بها أولاً، ثم دينه ونبيه، وهي منهاج للمؤمن ولو على حساب النفس، فالعدل قيمة معياريّة توزن بها الرجال والمواقف والأفكار، فيكفي لوصف شيء ما بالفساد أن يكون متصفاً بالظلم، أو مريداً له، ولو كان في الظلم والكذب مصلحة النفس والأهل والأقربين، وينبغي التمسك به ولو مع العدو الشانئ الذي لا يستحق في نفسه العدالة، ولكن لأن المؤمن هو أهل للعدل الذي هو من صفاته التي لا ينبغي له أن يغادرها، وإلاّ غادر حقيقة كبرى من حقائق الإيمان .
ولك أن تشرق في القرآن وأن تغرب لتقرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)
(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) إلى غير ذلك الكثير الواضح المسلّم به عند الجميع فلا نطيل فيه، وعليه فإن أول ما يصطدم التمييز الطائفي مع الثوابت من الدين هو التعميم في الحكم على طائفة بعينها، وبكل أفرادها، وأنها مستحقة للاعتداء عليها والتميز عليها لمجرد كونها طائفة أخرى مغايرة، لا لأجل أن فئة منهم أو كلهم قد مارسوا علينا العدوان، وحينها ليس لنا الحق إلاّ في رد العدوان بمثل العدوان لا يزيد عنه، فإن كان تنازعنا معهم حول مال وحقوق ظل هذا العنوان هو موضوع التنازع لا ينبغي تعديه لأسباب عرقية أو ثقافية، ولا ينبغي إلباسه لباس الدين كما يفعل السياسيون على مرّ العصور.
هذا والحال متعلق بغير فئات المسلمين، من طوائف الأديان الأخرى، وأعراق الناس ومللهم ونحلهم، فلا بد أن يكون الحال أجلى وأوضح وأمتن بين طوائف المسلمين ومذاهبهم، ولو كان الاستعلاء بالظلم جائزاً على أحد من مكونات المسلمين لجاز على المنافقين، والذين كان كيانهم في مجمل مجموعه معروفاً ومشخصاً، حيث كانوا يتحلقون حول عبد الله بن سلول الشيخ الأعظم لقبيلتي الأوس والخزرج في الجاهلية، والذي لعظم شخصيّتة فيهم قبلوه عليهم وهما الحيان الخصمان سيداً ومتوجاً مسموع الرأي، فكانت له مجالسه وكان له أتباعه ومريدوه، وكم قد شاقّوا الله ورسوله باتخاذ المواقف الخاذلة والموهنة والمشككة والمفرقة بين جماعة المسلمين، ويخطئ من يظن أن الكتلة العظمى منهم لم تكن معروفة، اعتماداً على قول القائل أنهم كانوا يظهرون الإيمان، فليس هذا صحيحاً فهم كأي كتلة أخرى لهم سمات ومواقف مرصودة ومتوقعة، وكان عامة المسلمين واعين لأفرادهم ومواقفهم، ويتوقعونها منهم، فهم يسيرون على نمط من السلوك والحركة الاجتماعية مميزة ومتوقعة ، ومع كل هذا لم يعاملهم النبي (ص) بالظلم، بل حفظ لهم حقوقهم فيما لم يخالفوا فيه الحق، وحاسب أو تجاوز فيما خالفوا فيه، وبشكل فردي لا جماعي، وبهذا الوعي نجح في أن لا يبرزهم طائفة خارجة عن نسيج المسلمين، بل أذاب خصوصيتهم في نهر المسلمين، مع كل التميز الذي كان متجليّاً فيهم، واستطاع أن يحتّ منهم وينقص، بحيث تحول النفاق في المآل إلى مواقف فرديّة، فلم تعد تسمع بكتلة له متميزة ومترابطة كما كانت أيام ابن سلول، ومن بقي منهم اضطر للعمل على الفساد ضمن المسلمين ، ولكنه كان مضطرا في أكثر الحالات للقيام بواجبه تجاه الإسلام ولو على حساب نفسه وماله، فكم من منافق كان في صفوف المسلمين يقاتل رغما عن نفسه، وكم منهم من بذل ماله وهو كاره ، وهكذا سخروا للخدمة وبلا أجر!.
ولو أن النبي (ص) تشدد وتصلب في التعامل معهم كطائفة متماثلة آخذاً البريء منهم بالمذنب، والضعيف بالقوى، لما زادهم إلاّ تكتلاً وتراصاً، ولبقيت فئتهم مع الوقت لتشكل قطاعاً مستمراً يتآزر ويتكاتف ويحاول أن يفلسف موقفه فكريّاً، ويمارس صناعة القول والتنظير ليؤطر له مذهباً في المذاهب، كما فعل اللاحقون من الزنادقة والدهريين، الذين اتصلوا بثقافات فارس واليونان.
لقد ارتكب المنافقون جنايات وأطلقوا كلمات ذكرها القرآن، ووصفها بأنها كلمات كفر، ومع هذا رفض النبي (ص) أن يقتلهم كما أشار عليه أصحابه في أكثر من مرة، وقال قولته المشهورة " اكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه "، بمعنى أنه كره أن يسمع العرب " الأعداء " أن في المسلمين فتنة داخلية وانشقاقا على الرسول (ص)، وأنهم افترقوا عليه فرقاً فقام بقتل من خالفه، فيكون الفساد في هذا أشد من الفساد في ذاك الذي خشيه المسلمون من وجود منافقين واربوا بكلمات الكفر، فالحفاظ على الوحدة ظاهراً، خير من هتك غلالتها الحافظة لجماعة مجتمع المسلمين عن الفرقة والتشتت فالهوان في أعين الأعداء.
ولكن المسلمين بعد ما اغتروا بأنفسهم، وأنهم أصحاب الإيمان، وفيهم العدد والعدة، ظنوا أن معالجة النبي (ص) لأهل النفاق، ومعالجته للمؤلفة قلوبهم، كانت معالجة المضطر مرحليّاً، وأنهم ليسوا الآن كما كانوا بالأمس، يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم، فكاشفوا المنافقين بالحرب والاحتقار، مما أسهم في فرز كل فئة استجدت في الإسلام، متخذة موقفاً سياسيّاً أو عقائديّاً مغايراً ولو جزئياً، وحوّلها إلى مذهب ثم طائفة، وحجب كل من يستحق قلبه أن يؤلف ليؤمن بوعي عن هذه الفرصة، لأنه لم توجد في المسلمين حكمة رسولهم في التعامل مع الآخر، ولو أن المسلمين لم يتعاملوا فيما بينهم بطريقة العزل والحرب والتفسيق والتدابر حينما يختلفون في الفكر أو في السياسة، لما تحولت مذاهب الرجال إلى طوائف، و لما اجتمع كل أتباع مذهب حول بعضهم ليكوّنوا خطاً دفاعياً، كما يتمترس الجنود خلف خطوط الدفاع، فلا يتزاوجون ولا يتساكنون إلا مع أنفسهم فقط ولا يعطون السمع إلاّ لرجالهم، ولكن مخالفة الحكمة النبوية، واتخاذ نهج التعصب الديني والسياسي جرَّ المسلمين لكل هذا التمزق من الفرق والطوائف.
سياسة الاعتزال والعزل:
لا يحق لأحد أن يتخذ غير سبيل التوحد والوحدة الجامعة مع سائر مكونات أمة الإسلام، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن لا يختلف المسلمون في آرائهم ومواقفهم، لأن الاختلاف سنة الحياة، ولكن أن لا يعتبر الاختلاف إذا حدث خروجاً عن إطار الوحدة، فهناك إطار عام يجتمع فيه كل المختلفين وهو الإيمان بالله وحده وبرسالة محمد (ص) الخاتمة وبالقرآن كتاباً هادياً، ثم مهما كان هناك من اختلاف في فهم هذه الأصول أو فروعها فهو لا يخرج عن إطار الوحدة أو هكذا ينبغي أن نفهم ونتعامل.
إن الذين يخرجون المخالف لهم عن الدين والملة بدعوى أنهم يمثلون الأمة في نقائها وكما أراد لها الله، هم خنجر يمزق جسد هذه الأمة ويوزعها أشلاء، والذين يعتزلون جماعة المسلمين لأنهم قد رأوا أن الأمة قد فارقت الحق، وأنهم روح الأمة الصافي بزعمهم، هم أيضاً يمزقون الأمة فرقا، ويمارسون عملاً لم يأذن به الله لأحد من المؤمنين أن يعتزل المؤمنين، وأما أن تقول فئة نحن خوارج شُراة خرجنا لله وشرينا أنفسنا له، نعتزل الأمة الضالة، أو تقول فئة نحن نعتزل الناس ذهابا عن ضلالهم، فليس لهم ذلك، وليس لأحد أن يعزلهم عن الجسد الكبير للأمة، بل لكل طرف الحق وعليه الواجب، أن يظل ضمن إطار الوحدة يمارس خلافه واختلافه، لأن هذا هو الأسلم والأبقى والأنفع لكل الأطراف، فمع الاستمرار والتلاقي يزيل كل طرف متطرف موقفه الفكري والسلوكي ويعود التقارب والتفهم بين الجميع ممكناً.
إن القرآن الكريم يؤكد أن إمكانية حدوث الاختلاف بين المؤمنين هو فرض واقعي، لا بل قد يصل الأمر إلى التقاتل، فأوجب على المسلمين السعي بينهم بالصلح ثم قتال الباغي حتى يعود إلى جسد الجماعة، وقرر القرآن الكريم أن الاختلاف في تقييم المواقف إلى حد التناقض هو أمر محتمل وفرضية واقعية، تحدث حتى بين الأنبياء كما سرد من خبر أخذ موسى عليه السلام برأس أخيه هارون يجره إليه. هذا على مستوى الأنبياء فما بالك بغيرهم.
دعوى النقاء الفكري والفرقة الناجية:
وحدهما الغرور والتعصب يدفعان لاعتقاد كل طرف من المسلمين بامتلاك كل الحقيقة وأن الآخر ليس على شيء، وهذا هو الموجه الأكبر ذاتياً نحو الميل للانعزال والتكتل في طائفة، ومن ثم النظر باستعلاء وازدراء للآخرين الذين لا يملكون الحقيقة من المغضوب عليهم أو الضالين.
أول عتبات الانفصال والتطيف هو دعوى النقاء الفكري وأن ما ذهب إليه فلان وفلان هو خروج عن ربقة الإيمان والدين، وأنه مستحق للعذاب في الدنيا والآخرة، وهذا الإدعاء هو في الحقيقة خروج عن القرآن في أدبه وسمته العام مع المختلفين غير المعتدين، فليس هناك اختلاف يمكن تصوره في دائرة أهل الأديان هو أشد من الاختلاف مع أهل الكتاب، فيما خالفوا فيه شرعتهم الصحيحة على ما ذكر القرآن عنهم، ولكن مع كل ذلك التنكير عليهم فيما حرفوا وستروا وغيروا، إلا أنه لم يخرجهم بها عن دائرة أحكام أهل الكتاب، شركاء المسلمين في الاعتقاد الأوسع الشامل للإيمان بالله وأصل إرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية والبعث والنشور في اليوم الآخر، وهي تمثل الخط العريض الجامع لكل أهل الأديان السماوية، وعلى أساسها قبلهم الإسلام على دينهم وشريعتهم، وأذن بالزواج منهم، والأكل من طعامهم، والإحسان إليهم، واعتبرهم قسماً مقبولاً في مجتمع المسلمين، فإذا كان الأمر كذلك مع أهل الكتاب فما هو المدى الذي يختلف فيه مسلمان حول حقائق الإسلام والإيمان يبلغ ما بلغوه؟ فلماذا يتسارع المسلمون إما إلى العزل أو الاعتزال، اللذين هما مفتاح التمذهب والتطيف، فليكن باب قبول الاختلاف بيننا واسعاً دون التطاول بدعوى الخروج عن الدين والإيمان، والمناداة بالطرد والعزل والتكفير، فكل فكرة إذا بقيت ضمن تدافع الحواضر ولم ينعزل أهلها أكاديمياً أو جغرافياً، فإنها لا تلبث أن تأكل من غيرها وتتآكل به، لتتحول عبر الجدل والحوار إلى شيء آخر غير ما بدأت به، فما أكثر ما تقارب علماء الكلام المتأخرين عن علماء الكلام المتقدمين، حتى يكاد أن يكون الاختلاف في النهاية شكلياً أكثر منه موضوعيّاً.
يقال أن النبي (ص) قد أعطى للمسلمين جردة حساب ختامية فقال إن أمته ستفترق على 73 فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، ومنذ ذلك وكل فرقة تفترق عن جسد الجماعة ( الأمة ) لتدعى أنها هي الفرقة الناجية، وأن سواها في النار، فيسلون أنفسهم بمثل هذا الذي يقولون، وكأن هذا الحديث هو تشجيع على التفرق لا تحذير منه على فرض صحته، وكأن النبي (ص) قد قال لكل مسلم انج بنفسك واترك أخاك للنار، وهذا لعمرك من خيانة حقوق الأخوة، فمن هي الفرقة الناجية؟ ومن هم الفرق الهالكة؟ هل الخوارج من الهالكين، وهم الفئة التي تكاثر من يعتبرهم كذلك، فانظر إلى قول أمير المؤمنين فيهم، أنهم أرادوا الحق فأخطأوه، على عكس الذي أراد الباطل فأدركه، فهل يحق لنا أن نخرج الخوارج عن دائرة الإسلام والإيمان وهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لمجرد أنهم قد فارقونا في فهم نقاط في الدين قلّت أو كثرت؟ وهل خلافهم هذا يسقط حقوقهم كمسلمين حرام دمهم ومالهم وعرضهم؟ كلا وألف كلا، فإن أي فرقة من فرق المسلمين هي أعظم شرفاً من المنافقين. فهل يجوز لأحدٍ أن يكفر أو يخون أو يزعم استحقاق النار لفئة من المسلمين اختلفت أو اشتبهت أو أخطأت أو ضلت عما هو حق في الإسلام؟ عوضاً عن أن يكون اختلافها إنما هو عن فهم فرقاء آخرين ؟
إن القرآن قد أجلى الموقف من الاختلاف في الأديان، فجعل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ودعا إلى قول التي هي أحسن دفعا لنزغ الشيطان بينهم، ثم جعل الحكم بين الناس في الآخرة هو شأن ربوبي، فانظر إلى أهل الأديان والمذاهب هل يلتزمون بهذا المنهاج، و ما عليك إلاّ أن تقرأ كتب الخلاف أو تتصفح مواقع " الشجار" ، وستعرف حينها متى ومن أين تبدأ الحروب الأهلية!
أعتذر لطولها ولكنني نقلتها كما هي لأنها مطروحة للمناقشة كاملة .