ابو حسين
01-03-2008, 11:42 AM
http://www.aliwaa.com/images/logo.gifhttp://www.aliwaa.com/images/gray-print.gifhttp://www.aliwaa.com/images/pix.gifالاثنين, كانون الأول 31 2007 الموافق 22 ذو الحجة 1428 هـ
أين "الثقافة اللبنانية" و"المجتمع اللبناني"؟
تنشر "اللواء" هذا المقال عملاً بحرية النشر وإيماناً منها بحق الجميع عن التعبير عن آرائهم· وفي الوقت نفسه، تؤكد أنها لا تتبنى معظم المضامين الأساسية التي طرحها المقال ولا الإستنتاجات التي وصل اليها· وهنا تفتح "اللواء" باب الرد أمام القارئ، كما تحتفظ أيضاً في التصويب والتعليق والنقد· أحمد القصص راج بين الكتّاب والمتكلمين في السياسة اللبنانية القول بأن اتفاق الطائف كان المؤذن بانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، باعتبار أنه أقر وثيقة "للوفاق الوطني" التي أسست لعلاقة جديدة بين الطوائف، من خلال إعادة توزيع المناصب على نحو "أكثر توازناً" فيما بينها· ولقد عدّ الكثير من هؤلاء الكتّاب والمتكلمين البند الاول من مقدمة هذه الوثيقة إنجازاً تاريخياً وطياً لصفحة من التوتر والانقسام، وهو البند الذي ينص على أن "لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في الدستور اللبناني والمعترف بها دولياً"· فافترضت هذه النظرة "المتفائلة" أن مجرد تدوين أشخاص - مهما كان شأنهم - فكرة ما في النصوص سينعكس توثيقاً لها في النفوس· والحقيقة هي العكس، أي أن ما يدون في الدستور يجب أن يكون معبّراً عن ثقافة وقناعات سبق ورسخت لدى المجتمع الذي سيطبق عليه هذا الدستور· فالدساتير لا تصنع الأمم، وإنما تعبّر عن ثقافتها وأعرافها وتطلعاتها، وتساهم في الحفاظ على هويتها حين تِرعى شؤونها بالقوانين المتفرعة عنها· فهل ساهمت هذه الوثيقة حقيقة في تكوين "مجتمع لبناني" تشكل هويته بما يسمونه "ثقافة لبنانية"؟ تعالوا الى الإجابة على هذا السؤال، قبل المبالغة المتسرعة بالحديث عن "الأمة اللبنانية": منذ انتهاء الحرب الاهلية عقب توقيع اتفاق الطائف، نشطت "الجمهورية الثانية" في مجموعة من المشاريع، تهدف من خلالها الى التخلص من أسباب النزاع والشقاق التي دفعت أهل لبنان الى انقسامات حادة جعلتهم خلال أكثر من خمس عشرة سنة مجموعة من الحاميات العسكرية، تتقاتل فيما بينها وتسفك الدماء· وكانت هذه المشاريع تركز على تكوين "مجتمع لبناني" واحد متماسك، وذلك من خلال تعزيز ما يسمى بالحس الوطني وإحياء الهوية اللبنانية والانصهار الوطني·· وكان من أهم تلك الأعمال إعادة دمج فصائل الجيش اللبناني، بحيث يزول منه الفرز الطائفي، وفرض التجنيد الإلزامي لسنوات، قبل أن يؤول الأمر الى إلغائه· ثم بدأت السلطة تتكلم عن خطة تربوية جديدة، تهدف الى تربية الأجيال على نحو نزع أسباب الانقسام من أبناء البلد الواحد·· ومن أهم مضامين هذه الخطة الإعلان عن توحيد كتابي التاريخ والتربية المدنية في كافة المراحل من التعليم الأساسي والثانوي، بحيث تلزم المدارس والثانويات الرسمية وغير الرسمية بكتاب رسمي تدرس من خلال هاتان المادتان· وقد كان من دواعي السخرية أن عهد الجمهورية الثانية أذن بالأفول دون أن يرى كتاب التاريخ الموحد النور· وزعمت بعض التيارات والأطراف أن أنظمة "الأحوال الشخصية" الدينية كانت عاملاً في انقسام سكان لبنان، فعملت على التسويق لفكرة علمنة الأحوال الشخصية، وبالتالي إقرار ما يسمى بالزواج المدني، الأمر الذي أثار - ولا يزال يثير - عاصفة من الجدل في الاوساط الرسمية والروحية والإعلامية، وأيضاً - وهذا الأهم - في الاوساط الشعبية· فانكفأ أصحاب الطرح الى ما وراء خطوطهم التي انطلقوا منها في حملتهم هذه· ولطالما دار جدل في الأوساط الثقافية والسياسية، في لبنان وخارجه: هل هناك تعدد ثقافي في لبنان؟ آم هناك ثقافة لبنانية واحدة يجتمع عليها أهل لبنان وتجعل منهم شعباً واحداً؟ وبصرف النظر عما هو موجود في الوضع الراهن، طرحت التساؤلات التالية: ما الذي يجب أن يوجد؟ ثقافة واحدة؟ أم لا بأس بوجود ثقافات متعددة؟ إن هذه الأسئلة ليست من قبيل الترف الفكري ولا الجدل البيزنطي العقيم، بل إن الإجابة عليها مسألة حيوية وخطيرة الى حد بعيد، ذلك أنه لا قيام لأي مجتمع متماسك ومستقر في أي بقعة من الارض دون بت هذه المسألة الأساسية· من هنا كان اهتمامنا بمعالجة هذا الموضوع بروية وهدوء، وأيضاً بكل جدية واهتمام· المسألة اللبنانية إن معالجة قضية كهذه تقتضي منا بالضرورة العودة الى نشأتها وأسبابها الاساسية، حتى لا يكون كلامنا نظرياً بعيداً عن ارض الواقع وأصل المشكلة· إن مشكلة البحث هي "لبنان"، وذلك بالمعنى السياسي للكلمة· أي إن مشكلة البحث هي الكيان السياسي اللبناني: هل يصلح هذا الكيان إطاراً لمجتمع مستقر يرتبط أهله فيما بينهم برابطة وثيقة متينة تجعل منهم وحدة سياسية منسجمة ومتناسقة؟ هذا هو صعيد البحث· إذ عندما يتكلم أصحاب "الاطروحة اللبنانية"، عن الوحدة الوطنية وتعزيز الحس الوطني والانتماء للوطن وما شاكل ذلك، يفترضون مسبقاً إن الكيان اللبناني صالح ليكون إطاراً يعيش ضمنه "مجتمع لبناني" موحد ومتميز· من الناحية التاريخية، لم يكن للبنان بوصفه كياناً سياسياً مستقلاً أي وجود طوال التاريخ بكل حقباته المعروفة· ولم تكن كلمة "لبنان" طوال التاريخ ترمز الى أكثر من منطقة جبلية اختلف الجغرافيون والمؤرخون دائماً في تحديد مداها· ولم يوجد لبنان كياناً سياسياً إلا في التاريخ المعاصر، وبالتحديد بعد نهاية الحرب العالمية الاولى· إذ بعد نهاية هذه الحرب، كان جزء من بلاد الشام (لبنان وسوريا) من نصيب الاحتلال الفرنسي، وأرادت فرنسا إنشاء كيان يدين لها بالولاء، فاصطنعت الكيان اللبناني، وأعلن المفوض السامي الفرنسي في لبنان وسوريا الجنرال غورو قيام لبنان في الاول من أيلول عام 1920، حيث ضم الى ما كان يعرف بمتصرفية جبل لبنان - وهي منطقة إدارية تابعة للسلطنة العثمانية - ولاية بيروت التي كانت تشمل أقضية صيدا وصور ومرجعيون، وولاية طرابلس التي كانت تشمل قضاء عكار وأقضية البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا· ليوجد لبنان على صورته التي نعرفها اليوم، حيث بلغت مساحته ثلاثة أضعاف مساحة متصرفية جبل لبنان العثمانية· لقد كان إعلان دولة لبنان تحقيقاً لطموح الموارنة فيه· أما المسلمون فقد أبدوا معارضة شديدة وسخطاً على هذا الإجراء، وبقوا مدة طويلة بعد ذلك يطالبون بالانضمام الى سوريا، ورفض الكثير منهم الانخراط في مؤسسات الدولة الجديدة· إلا أن الاستعمار الفرنسي فرض هذا الواقع الجديد، وأخذت معارضة المسلمين تضعف تدريجياً الى أن بدأوا يقبلون بالمشاركة في الحكم، خصوصاً حين حملت الحرب العالمية الثانية معها الآمال بإمكانية التحرر من الاحتلال· فكان أن ظهر شيء من التفاهم بين زعماء الطوائف، عرف بميثاق 43، وهو الميثاق الذي أعطى الموارنة الأفضلية والأولوية في الكيان اللبناني· إلا أن المسلمين بقوا يتطلعون الى الانضمام الى سوريا، وكان كثير من المرشحين للنيابة من المسلمين يجعلون العمل على ضم لبنان الى سوريا في مقدمة برامجهم وحملاتهم الانتخابية· إزاء هذه النزعة "العابرة للحدود اللبنانية" عند المسلمين في لبنان، أي شعور الارتباط بالمحيط الاسلامي، ولا سيما بسوريا بوصفها البلد المجاور· فقامت بإعداد المناهج التربوية على أساس تنمية "الشعور الوطني اللبناني" والإعلاء من شأن "القومية اللبنانية"· فاصطنعت للبنان تاريخاً خاصاً، يرجع آلاف السنين الى عهد الفينيقيين الذين استوطنوا الساحل الشرقي للمتوسط، ثم يقفز ذلك التاريخ أكثر من ألفي سنة، ليصل الى عهد امراء الشوف في حقبة السيادة العثمانية، كفخر الدين المعني وبشير الشهابي وغيرهما، ثم عهد القائمقاميتين ثم متصرفية جبل لبنان وصولاً الى إعلان دولة لبنان· وصيغت كتب التربية الوطنية على نحو يبعث في نفوس الناشئة عصبية جديدة هي "العصبية اللبنانية"· وعلى الصعيد الإعلامي، رددت أجهزة الإعلام والصحافة الرسمية شعارات وطنية مثل "الدين لله والوطن للجميع" ومثل "وطني دائماً على حق" ومثل "حب الوطن من الإيمان"··· وروجت النشيد الوطني، وأظهرت العلم اللبناني بمظاهر ملحمية وعاطفية، وأكثرت من الكلام عن التراث اللبناني، والفولكلور اللبناني والدبكة وكرم الضيافة وأرز لبنان الشامخ وجباله العنيدة··· الأمر الذي أدى الى توليد شيء من الشعور بالتميز والفخر لدى نسبة من المسلمين في لبنان، فضلاً عن معظم النصارى، وأدى بالتالي الى وجود شيء من التعالي والازدراء لسائر الاقطار المحيطة، لدى شريحة كبيرة من الاجيال الناشئة· إلا أن الحرب الاهلية أتت لتكشف هشاشة هذا البنيان المصطنع· انهيار الأطروحة اللبنانية نشبت الحرب الأهلية عام 1975، لتقوض كل الجهود التي بذلتها مؤسسات الدولة، التربوية منها والإعلامية، بل والمخابراتية، ولتثبت أن كل المزاعم بالوحدة الوطنية والمجتمع اللبناني كانت هذياناً ووهماً· وإذ بين ليلة وضحاها انقسم "اللبنانيون"! وتناثرت أشلاء المجتمع المزعوم، وأصبح كل فريق في خندق يوجه بندقيته الى الفريق الآخر، وبات من الصعب على المراقب إحصاء الاطراف المتقاتلة على الساحة اللبنانية، ومن الصعب عليه تحديد سمة للتحالفات والتخاصمات التي تستجد بين يوم وآخر· ووفق تعبير جوناثان راندل: "فجأة، انبثقت التناقضات من الضباب، وطافت على السطح تعقيدات لبنان وسرعة عطبه"· واستمرت هذه الحرب طالما كانت هناك اطراف خارجية متصارعة تدعم الاطراف الداخلية بعضها ضد البعض الآخر، الى أن تمكن طرف خارجي قوي من الإمساك بزمام الأمور وكف أيدي الأطراف الاخرى، فتوقفت الحرب الاهلية في لبنان الى اجل غير مسمى· وعادت الدولة - وهي هذه المرة "الجمهورية الثانية" ذات السلطة العسكرية المخابراتية السورية اللبنانية - الى القيام بالمهمة التي كانت تقوم بها الجمهورية الاولى، أعني تعزيز الحس الوطني والهوية اللبنانية· إلا أن ثمة فارقاً يميز بين عمل كل من الجمهوريتين في هذا المجال· وهذا الفارق يتبين في ما يلي: إن ما يسمى بتعزيز الحس الوطني أو الهوية اللبنانية يؤتي ثمرتين اثنتين· أما إحداهما، فهي فصل اللبنانيين شعورياً عن المحيط الاسلامي، بحيث يشعرون بالتميز عن سائر الاقطار والشعوب المحيطة بهم، بل ربما بازدرائها والتعالي عليها· وهي الثمرة التي أرادت جنيها "الجمهورية الاولى"· وأما الثمرة الثانية - والتي يبدو أن أحداً لم يجنها حتى الآن - فهي ايجاد رابطة بين أهل لبنان تجمع شملهم وتعزز أواصر العلاقات فيما بينهم، بحيث تقضي على عوامل الفرقة والنزاع، وبالتالي درء خطر الحرب الأهلية من جديد، وبعبارة أخرى إنشاء مجتمع لبناني موحد، ينصهر فيه الناس على اختلاف طوائفهم وأديانهم ومناطقهم في بوتقة واحدة· وعلى جني هذه الثمرة ركزت - أو هكذا زعمت على الأقل - "الجمهورية الثانية"· هذا هو واقع المشكلة اللبنانية، وهذه هي المشكلة التي يسعى "الوطنيون اللبنانيون" اليوم الى معالجتها: كيف يمكن صهر سكان لبنان ليشكلوا مجتمعاً مستقراً منسجماً تنتفي فيه أسباب الفرقة والنزاع ويغيب عنه شبح الحرب الأهلية المدمرة، أو شبح التقسيم المسمى بالفيدرالية الطائفية؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير المكتب الإعلامي لحزب التحرير في لبنان
أين "الثقافة اللبنانية" و"المجتمع اللبناني"؟
تنشر "اللواء" هذا المقال عملاً بحرية النشر وإيماناً منها بحق الجميع عن التعبير عن آرائهم· وفي الوقت نفسه، تؤكد أنها لا تتبنى معظم المضامين الأساسية التي طرحها المقال ولا الإستنتاجات التي وصل اليها· وهنا تفتح "اللواء" باب الرد أمام القارئ، كما تحتفظ أيضاً في التصويب والتعليق والنقد· أحمد القصص راج بين الكتّاب والمتكلمين في السياسة اللبنانية القول بأن اتفاق الطائف كان المؤذن بانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، باعتبار أنه أقر وثيقة "للوفاق الوطني" التي أسست لعلاقة جديدة بين الطوائف، من خلال إعادة توزيع المناصب على نحو "أكثر توازناً" فيما بينها· ولقد عدّ الكثير من هؤلاء الكتّاب والمتكلمين البند الاول من مقدمة هذه الوثيقة إنجازاً تاريخياً وطياً لصفحة من التوتر والانقسام، وهو البند الذي ينص على أن "لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في الدستور اللبناني والمعترف بها دولياً"· فافترضت هذه النظرة "المتفائلة" أن مجرد تدوين أشخاص - مهما كان شأنهم - فكرة ما في النصوص سينعكس توثيقاً لها في النفوس· والحقيقة هي العكس، أي أن ما يدون في الدستور يجب أن يكون معبّراً عن ثقافة وقناعات سبق ورسخت لدى المجتمع الذي سيطبق عليه هذا الدستور· فالدساتير لا تصنع الأمم، وإنما تعبّر عن ثقافتها وأعرافها وتطلعاتها، وتساهم في الحفاظ على هويتها حين تِرعى شؤونها بالقوانين المتفرعة عنها· فهل ساهمت هذه الوثيقة حقيقة في تكوين "مجتمع لبناني" تشكل هويته بما يسمونه "ثقافة لبنانية"؟ تعالوا الى الإجابة على هذا السؤال، قبل المبالغة المتسرعة بالحديث عن "الأمة اللبنانية": منذ انتهاء الحرب الاهلية عقب توقيع اتفاق الطائف، نشطت "الجمهورية الثانية" في مجموعة من المشاريع، تهدف من خلالها الى التخلص من أسباب النزاع والشقاق التي دفعت أهل لبنان الى انقسامات حادة جعلتهم خلال أكثر من خمس عشرة سنة مجموعة من الحاميات العسكرية، تتقاتل فيما بينها وتسفك الدماء· وكانت هذه المشاريع تركز على تكوين "مجتمع لبناني" واحد متماسك، وذلك من خلال تعزيز ما يسمى بالحس الوطني وإحياء الهوية اللبنانية والانصهار الوطني·· وكان من أهم تلك الأعمال إعادة دمج فصائل الجيش اللبناني، بحيث يزول منه الفرز الطائفي، وفرض التجنيد الإلزامي لسنوات، قبل أن يؤول الأمر الى إلغائه· ثم بدأت السلطة تتكلم عن خطة تربوية جديدة، تهدف الى تربية الأجيال على نحو نزع أسباب الانقسام من أبناء البلد الواحد·· ومن أهم مضامين هذه الخطة الإعلان عن توحيد كتابي التاريخ والتربية المدنية في كافة المراحل من التعليم الأساسي والثانوي، بحيث تلزم المدارس والثانويات الرسمية وغير الرسمية بكتاب رسمي تدرس من خلال هاتان المادتان· وقد كان من دواعي السخرية أن عهد الجمهورية الثانية أذن بالأفول دون أن يرى كتاب التاريخ الموحد النور· وزعمت بعض التيارات والأطراف أن أنظمة "الأحوال الشخصية" الدينية كانت عاملاً في انقسام سكان لبنان، فعملت على التسويق لفكرة علمنة الأحوال الشخصية، وبالتالي إقرار ما يسمى بالزواج المدني، الأمر الذي أثار - ولا يزال يثير - عاصفة من الجدل في الاوساط الرسمية والروحية والإعلامية، وأيضاً - وهذا الأهم - في الاوساط الشعبية· فانكفأ أصحاب الطرح الى ما وراء خطوطهم التي انطلقوا منها في حملتهم هذه· ولطالما دار جدل في الأوساط الثقافية والسياسية، في لبنان وخارجه: هل هناك تعدد ثقافي في لبنان؟ آم هناك ثقافة لبنانية واحدة يجتمع عليها أهل لبنان وتجعل منهم شعباً واحداً؟ وبصرف النظر عما هو موجود في الوضع الراهن، طرحت التساؤلات التالية: ما الذي يجب أن يوجد؟ ثقافة واحدة؟ أم لا بأس بوجود ثقافات متعددة؟ إن هذه الأسئلة ليست من قبيل الترف الفكري ولا الجدل البيزنطي العقيم، بل إن الإجابة عليها مسألة حيوية وخطيرة الى حد بعيد، ذلك أنه لا قيام لأي مجتمع متماسك ومستقر في أي بقعة من الارض دون بت هذه المسألة الأساسية· من هنا كان اهتمامنا بمعالجة هذا الموضوع بروية وهدوء، وأيضاً بكل جدية واهتمام· المسألة اللبنانية إن معالجة قضية كهذه تقتضي منا بالضرورة العودة الى نشأتها وأسبابها الاساسية، حتى لا يكون كلامنا نظرياً بعيداً عن ارض الواقع وأصل المشكلة· إن مشكلة البحث هي "لبنان"، وذلك بالمعنى السياسي للكلمة· أي إن مشكلة البحث هي الكيان السياسي اللبناني: هل يصلح هذا الكيان إطاراً لمجتمع مستقر يرتبط أهله فيما بينهم برابطة وثيقة متينة تجعل منهم وحدة سياسية منسجمة ومتناسقة؟ هذا هو صعيد البحث· إذ عندما يتكلم أصحاب "الاطروحة اللبنانية"، عن الوحدة الوطنية وتعزيز الحس الوطني والانتماء للوطن وما شاكل ذلك، يفترضون مسبقاً إن الكيان اللبناني صالح ليكون إطاراً يعيش ضمنه "مجتمع لبناني" موحد ومتميز· من الناحية التاريخية، لم يكن للبنان بوصفه كياناً سياسياً مستقلاً أي وجود طوال التاريخ بكل حقباته المعروفة· ولم تكن كلمة "لبنان" طوال التاريخ ترمز الى أكثر من منطقة جبلية اختلف الجغرافيون والمؤرخون دائماً في تحديد مداها· ولم يوجد لبنان كياناً سياسياً إلا في التاريخ المعاصر، وبالتحديد بعد نهاية الحرب العالمية الاولى· إذ بعد نهاية هذه الحرب، كان جزء من بلاد الشام (لبنان وسوريا) من نصيب الاحتلال الفرنسي، وأرادت فرنسا إنشاء كيان يدين لها بالولاء، فاصطنعت الكيان اللبناني، وأعلن المفوض السامي الفرنسي في لبنان وسوريا الجنرال غورو قيام لبنان في الاول من أيلول عام 1920، حيث ضم الى ما كان يعرف بمتصرفية جبل لبنان - وهي منطقة إدارية تابعة للسلطنة العثمانية - ولاية بيروت التي كانت تشمل أقضية صيدا وصور ومرجعيون، وولاية طرابلس التي كانت تشمل قضاء عكار وأقضية البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا· ليوجد لبنان على صورته التي نعرفها اليوم، حيث بلغت مساحته ثلاثة أضعاف مساحة متصرفية جبل لبنان العثمانية· لقد كان إعلان دولة لبنان تحقيقاً لطموح الموارنة فيه· أما المسلمون فقد أبدوا معارضة شديدة وسخطاً على هذا الإجراء، وبقوا مدة طويلة بعد ذلك يطالبون بالانضمام الى سوريا، ورفض الكثير منهم الانخراط في مؤسسات الدولة الجديدة· إلا أن الاستعمار الفرنسي فرض هذا الواقع الجديد، وأخذت معارضة المسلمين تضعف تدريجياً الى أن بدأوا يقبلون بالمشاركة في الحكم، خصوصاً حين حملت الحرب العالمية الثانية معها الآمال بإمكانية التحرر من الاحتلال· فكان أن ظهر شيء من التفاهم بين زعماء الطوائف، عرف بميثاق 43، وهو الميثاق الذي أعطى الموارنة الأفضلية والأولوية في الكيان اللبناني· إلا أن المسلمين بقوا يتطلعون الى الانضمام الى سوريا، وكان كثير من المرشحين للنيابة من المسلمين يجعلون العمل على ضم لبنان الى سوريا في مقدمة برامجهم وحملاتهم الانتخابية· إزاء هذه النزعة "العابرة للحدود اللبنانية" عند المسلمين في لبنان، أي شعور الارتباط بالمحيط الاسلامي، ولا سيما بسوريا بوصفها البلد المجاور· فقامت بإعداد المناهج التربوية على أساس تنمية "الشعور الوطني اللبناني" والإعلاء من شأن "القومية اللبنانية"· فاصطنعت للبنان تاريخاً خاصاً، يرجع آلاف السنين الى عهد الفينيقيين الذين استوطنوا الساحل الشرقي للمتوسط، ثم يقفز ذلك التاريخ أكثر من ألفي سنة، ليصل الى عهد امراء الشوف في حقبة السيادة العثمانية، كفخر الدين المعني وبشير الشهابي وغيرهما، ثم عهد القائمقاميتين ثم متصرفية جبل لبنان وصولاً الى إعلان دولة لبنان· وصيغت كتب التربية الوطنية على نحو يبعث في نفوس الناشئة عصبية جديدة هي "العصبية اللبنانية"· وعلى الصعيد الإعلامي، رددت أجهزة الإعلام والصحافة الرسمية شعارات وطنية مثل "الدين لله والوطن للجميع" ومثل "وطني دائماً على حق" ومثل "حب الوطن من الإيمان"··· وروجت النشيد الوطني، وأظهرت العلم اللبناني بمظاهر ملحمية وعاطفية، وأكثرت من الكلام عن التراث اللبناني، والفولكلور اللبناني والدبكة وكرم الضيافة وأرز لبنان الشامخ وجباله العنيدة··· الأمر الذي أدى الى توليد شيء من الشعور بالتميز والفخر لدى نسبة من المسلمين في لبنان، فضلاً عن معظم النصارى، وأدى بالتالي الى وجود شيء من التعالي والازدراء لسائر الاقطار المحيطة، لدى شريحة كبيرة من الاجيال الناشئة· إلا أن الحرب الاهلية أتت لتكشف هشاشة هذا البنيان المصطنع· انهيار الأطروحة اللبنانية نشبت الحرب الأهلية عام 1975، لتقوض كل الجهود التي بذلتها مؤسسات الدولة، التربوية منها والإعلامية، بل والمخابراتية، ولتثبت أن كل المزاعم بالوحدة الوطنية والمجتمع اللبناني كانت هذياناً ووهماً· وإذ بين ليلة وضحاها انقسم "اللبنانيون"! وتناثرت أشلاء المجتمع المزعوم، وأصبح كل فريق في خندق يوجه بندقيته الى الفريق الآخر، وبات من الصعب على المراقب إحصاء الاطراف المتقاتلة على الساحة اللبنانية، ومن الصعب عليه تحديد سمة للتحالفات والتخاصمات التي تستجد بين يوم وآخر· ووفق تعبير جوناثان راندل: "فجأة، انبثقت التناقضات من الضباب، وطافت على السطح تعقيدات لبنان وسرعة عطبه"· واستمرت هذه الحرب طالما كانت هناك اطراف خارجية متصارعة تدعم الاطراف الداخلية بعضها ضد البعض الآخر، الى أن تمكن طرف خارجي قوي من الإمساك بزمام الأمور وكف أيدي الأطراف الاخرى، فتوقفت الحرب الاهلية في لبنان الى اجل غير مسمى· وعادت الدولة - وهي هذه المرة "الجمهورية الثانية" ذات السلطة العسكرية المخابراتية السورية اللبنانية - الى القيام بالمهمة التي كانت تقوم بها الجمهورية الاولى، أعني تعزيز الحس الوطني والهوية اللبنانية· إلا أن ثمة فارقاً يميز بين عمل كل من الجمهوريتين في هذا المجال· وهذا الفارق يتبين في ما يلي: إن ما يسمى بتعزيز الحس الوطني أو الهوية اللبنانية يؤتي ثمرتين اثنتين· أما إحداهما، فهي فصل اللبنانيين شعورياً عن المحيط الاسلامي، بحيث يشعرون بالتميز عن سائر الاقطار والشعوب المحيطة بهم، بل ربما بازدرائها والتعالي عليها· وهي الثمرة التي أرادت جنيها "الجمهورية الاولى"· وأما الثمرة الثانية - والتي يبدو أن أحداً لم يجنها حتى الآن - فهي ايجاد رابطة بين أهل لبنان تجمع شملهم وتعزز أواصر العلاقات فيما بينهم، بحيث تقضي على عوامل الفرقة والنزاع، وبالتالي درء خطر الحرب الأهلية من جديد، وبعبارة أخرى إنشاء مجتمع لبناني موحد، ينصهر فيه الناس على اختلاف طوائفهم وأديانهم ومناطقهم في بوتقة واحدة· وعلى جني هذه الثمرة ركزت - أو هكذا زعمت على الأقل - "الجمهورية الثانية"· هذا هو واقع المشكلة اللبنانية، وهذه هي المشكلة التي يسعى "الوطنيون اللبنانيون" اليوم الى معالجتها: كيف يمكن صهر سكان لبنان ليشكلوا مجتمعاً مستقراً منسجماً تنتفي فيه أسباب الفرقة والنزاع ويغيب عنه شبح الحرب الأهلية المدمرة، أو شبح التقسيم المسمى بالفيدرالية الطائفية؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير المكتب الإعلامي لحزب التحرير في لبنان