منال
12-27-2007, 01:48 PM
يَا طَالِبَ العِلْم ابْدَأ بِهَذَا أَوَّلاً
http://www.daawah.net/images/site/line-1.gif
للشيخ صلاح الدين بن علي بن عبد الموجود -حفظه الله تعالى-
فإن من أول ما يجب على طالب العلم معرفته وإدراكه قبل طلب العلم وتحصيله؛ أن يعلم أن هناك صفات يجب أن تلزم طالب العلم، وأن تصاحبه في عمره وسيره إلى الله عز وجل، فإن أخل بهذه الصفات أخل بمكانته في العلم وتعثر في طريقه إلى الآخرة...
فمن هذه الصفات أنه ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في طاعة اللّه وفي سبيل نشر العلم، ويجود بوقته في تحصيل العلم وبلوغ الغاية منه، ويجود براحته تعبًا في التعلم وتعليم غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمة الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس فيزهد فيه ولا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها طالب العلم أكبر الحظ والنصيب، إقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم -
ومن أهم هذه الخصال وأرفعها "زهده فيما في أيدي الناس"، وعدم التطلع له، وهذا ما أوقع الكثير من طلبة العلم في النكبات، والارتكاس والتدني بعد العلو والرفعة .
عَنْ أَبي العَبَّاس سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ, وَأَحَبّنِي النّاسُ، فَقَالَ:[ ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ. وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ ](حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة).
فقوله صلى الله عليه وسلم [ وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ ]، يعني لا يكن قلبك متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت نفسك مما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواءً عظم أم قل، فإنّه بذلك يحبك الناس؛ لأنّ الناس يرون فيك أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله جل وعلا لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله جل وعلا على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، فهذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جُبِلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون.
وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس شيء قليل لا قيمة له، حقير لا وزن له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ ثُمَّ قَالَ:[ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ ](متفق عليه).
فهذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة:
إحداها: قوله:[ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ].
والثانية: قوله:[ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ].
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقا به دون المخلوقين. فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبدا لله حقا، حرا من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ:[ خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ ](رواه البخاري ومسلم).
فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففا وترفعا عن منن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.
وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، إن ظن خيرا فله، وإن ظن غيره فله، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.
ومما صح من الدعاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:[ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ](رواه مسلم).
فجمع الخير كله في هذا الدعاء، فالهدى: هو العلم النافع، والتقى: هو العمل الصالح، وترك المحرمات كلها، هذا صلاح الدين.
وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله، ومن كان غنيا بالله فهو الغني حقا، وإن قلت حواصله، فليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.
والثالثة: قوله:[ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ].
ثم ذكر في الجملة الرابعة: أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه إعانة على الأمور، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }[ البقرة : 45 ]. أي: على أموركم كلها.
والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها، فلهذا قال:[ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ ] أي: يجاهد نفسه على الصبر [ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ] ويعينه، وإنما كان الصبر أعظم العطايا، لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر.
وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان رسوله أمورا عالية جليلة، وعدهم بالإعانة في كل أمورهم. وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد، وأنه يحبهم ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات والرحمة والهداية عند المصيبات، والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى، ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضا عاجلا يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة ومصيبة وهو في ابتدائه صعب شديد وفي انتهائه سهل حميد العواقب، كما قيل:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل
فلذلك يجب على طالب العلم أن يتصبر ويلعق العلقم حتى ينال المراد.
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: ولا يحول بينك وبين هذا المطلب الشريف ما تنازعك نفسك إليه من مطالب الدنيا التي تروقها وتود الظفر بها، فإنها حاصلة لك على الوجه الذي تحب، والسبيل الذي تريد، بعد تحصيلك لما أرشدتك إليه من الرتبة العلمية، وتكون إذ ذاك مخطوباً لا خاطباً، ومطلوباً لا طالباً.
وعلى فرض أنها تكدي عليك المطالب، وتعاند الأسباب، فلست تعدم الكفاف الذي لا بد لك منه. فما رأينا عالماً ولا متعلماً مات جوعاً، ولا أعوزه الحال حتى انكشفت عورته عرياً، أو لم يجد مكاناً يكنه، ومنزلاً يسكنه، وليس الدنيا إلا هذه الأمور، وما عداها فضلات مشغلة للأحياء مهلكة للأموات.
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً *** وإذا مت لست أعدم قبراً
وعلى العاقل أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، ولا يعدوه ما قدره له، وأنه قد فرغ من أمر رزقه الذي فرضه الله له. فلا القعود يصده، ولا السعي وأتعاب النفس يوجب الوصول إلى ما لم يأذن به الله تعالى.
وهذا معلوم من الشرع، قد توافق عليه صريح الكتاب والسنة، وتطابقت عليه الشرائع.
وإن أعظم ما يريده الله منه، ويقربه إليه، ويفوز به عنده، أن يشغل نفسه ويستغرق أوقاته في طلب معرفة هذه الشريعة التي شرعها الله لعباده، وينفق ساعاته في تحصيل هذا الأمر الذي جاءت به رسل الله إلى عباده، ونزلت به ملائكته. فإن جميع ما يريده الله من عباده عاجلاً وآجلاً، وما وعدهم به من خير وشر، قد صار في هذه الشريعة.
فأكرم برجل تاقت نفسه عن أن يكون عبد بطنه إلى أن يكون مهتما بأمر دينه، حتى يناله على الوجه الأكمل، ويعرفه على الوجه الذي أراده الله منه، ويرشد إليه من عباده من أراد له الرشاد، ويهدي به من استحق الهداية. فانظر أعزك الله كم الفرق بين الرجلين، وتأمل قدر مسافة التفاوت بين الأمرين ؟!.
هذا يستغرق جميع أوقاته وينفق كل ساعاته في تحصيل طعامه وشرابه وملبسه وما لا بد منه قام أو قعد سعى أو وقف، وهذا يقابله بسعي غير هذا السعي وعمل غير ذلك العمل، فينفق ساعاته ويستغرق أوقاته في طلب ما جاء عن الله وعن رسوله، من التكاليف التي كلف بها عباده، وما أذن به من إبلاغه إليهم من أمور دنياهم وأخراهم لينتفع بذلك، ثم ينفع به من يشاء الله من عباده، ويبلغ إليهم حجة الله، ويعرفهم شرائعه.
فلقد تعاظم الفرق بين النوعين، وتفاوت تفاوتاً يقصر التعبير عنه، ويعجز البيان له، إلا على وجه الإجمال بأن يقال إن أحد النوعين قد التحق بالدواب، والآخر بالملائكة؛ لأن كل واحد منهما قد سعى سعياً شابه من التحق به، فإن الدابة يستعملها مالكها في مصالحه، ويقوم بطعامها وشرابها وما يحتاج إليه.
http://www.daawah.net/images/site/line-1.gif
للشيخ صلاح الدين بن علي بن عبد الموجود -حفظه الله تعالى-
فإن من أول ما يجب على طالب العلم معرفته وإدراكه قبل طلب العلم وتحصيله؛ أن يعلم أن هناك صفات يجب أن تلزم طالب العلم، وأن تصاحبه في عمره وسيره إلى الله عز وجل، فإن أخل بهذه الصفات أخل بمكانته في العلم وتعثر في طريقه إلى الآخرة...
فمن هذه الصفات أنه ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في طاعة اللّه وفي سبيل نشر العلم، ويجود بوقته في تحصيل العلم وبلوغ الغاية منه، ويجود براحته تعبًا في التعلم وتعليم غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمة الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس فيزهد فيه ولا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها طالب العلم أكبر الحظ والنصيب، إقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم -
ومن أهم هذه الخصال وأرفعها "زهده فيما في أيدي الناس"، وعدم التطلع له، وهذا ما أوقع الكثير من طلبة العلم في النكبات، والارتكاس والتدني بعد العلو والرفعة .
عَنْ أَبي العَبَّاس سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ, وَأَحَبّنِي النّاسُ، فَقَالَ:[ ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ. وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ ](حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة).
فقوله صلى الله عليه وسلم [ وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ ]، يعني لا يكن قلبك متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت نفسك مما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواءً عظم أم قل، فإنّه بذلك يحبك الناس؛ لأنّ الناس يرون فيك أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله جل وعلا لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله جل وعلا على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، فهذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جُبِلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون.
وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس شيء قليل لا قيمة له، حقير لا وزن له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ ثُمَّ قَالَ:[ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ ](متفق عليه).
فهذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة:
إحداها: قوله:[ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ].
والثانية: قوله:[ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ].
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقا به دون المخلوقين. فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبدا لله حقا، حرا من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ:[ خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ ](رواه البخاري ومسلم).
فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففا وترفعا عن منن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.
وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، إن ظن خيرا فله، وإن ظن غيره فله، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.
ومما صح من الدعاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:[ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ](رواه مسلم).
فجمع الخير كله في هذا الدعاء، فالهدى: هو العلم النافع، والتقى: هو العمل الصالح، وترك المحرمات كلها، هذا صلاح الدين.
وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله، ومن كان غنيا بالله فهو الغني حقا، وإن قلت حواصله، فليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.
والثالثة: قوله:[ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ].
ثم ذكر في الجملة الرابعة: أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه إعانة على الأمور، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }[ البقرة : 45 ]. أي: على أموركم كلها.
والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها، فلهذا قال:[ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ ] أي: يجاهد نفسه على الصبر [ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ] ويعينه، وإنما كان الصبر أعظم العطايا، لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر.
وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان رسوله أمورا عالية جليلة، وعدهم بالإعانة في كل أمورهم. وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد، وأنه يحبهم ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات والرحمة والهداية عند المصيبات، والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى، ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضا عاجلا يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة ومصيبة وهو في ابتدائه صعب شديد وفي انتهائه سهل حميد العواقب، كما قيل:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل
فلذلك يجب على طالب العلم أن يتصبر ويلعق العلقم حتى ينال المراد.
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: ولا يحول بينك وبين هذا المطلب الشريف ما تنازعك نفسك إليه من مطالب الدنيا التي تروقها وتود الظفر بها، فإنها حاصلة لك على الوجه الذي تحب، والسبيل الذي تريد، بعد تحصيلك لما أرشدتك إليه من الرتبة العلمية، وتكون إذ ذاك مخطوباً لا خاطباً، ومطلوباً لا طالباً.
وعلى فرض أنها تكدي عليك المطالب، وتعاند الأسباب، فلست تعدم الكفاف الذي لا بد لك منه. فما رأينا عالماً ولا متعلماً مات جوعاً، ولا أعوزه الحال حتى انكشفت عورته عرياً، أو لم يجد مكاناً يكنه، ومنزلاً يسكنه، وليس الدنيا إلا هذه الأمور، وما عداها فضلات مشغلة للأحياء مهلكة للأموات.
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً *** وإذا مت لست أعدم قبراً
وعلى العاقل أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، ولا يعدوه ما قدره له، وأنه قد فرغ من أمر رزقه الذي فرضه الله له. فلا القعود يصده، ولا السعي وأتعاب النفس يوجب الوصول إلى ما لم يأذن به الله تعالى.
وهذا معلوم من الشرع، قد توافق عليه صريح الكتاب والسنة، وتطابقت عليه الشرائع.
وإن أعظم ما يريده الله منه، ويقربه إليه، ويفوز به عنده، أن يشغل نفسه ويستغرق أوقاته في طلب معرفة هذه الشريعة التي شرعها الله لعباده، وينفق ساعاته في تحصيل هذا الأمر الذي جاءت به رسل الله إلى عباده، ونزلت به ملائكته. فإن جميع ما يريده الله من عباده عاجلاً وآجلاً، وما وعدهم به من خير وشر، قد صار في هذه الشريعة.
فأكرم برجل تاقت نفسه عن أن يكون عبد بطنه إلى أن يكون مهتما بأمر دينه، حتى يناله على الوجه الأكمل، ويعرفه على الوجه الذي أراده الله منه، ويرشد إليه من عباده من أراد له الرشاد، ويهدي به من استحق الهداية. فانظر أعزك الله كم الفرق بين الرجلين، وتأمل قدر مسافة التفاوت بين الأمرين ؟!.
هذا يستغرق جميع أوقاته وينفق كل ساعاته في تحصيل طعامه وشرابه وملبسه وما لا بد منه قام أو قعد سعى أو وقف، وهذا يقابله بسعي غير هذا السعي وعمل غير ذلك العمل، فينفق ساعاته ويستغرق أوقاته في طلب ما جاء عن الله وعن رسوله، من التكاليف التي كلف بها عباده، وما أذن به من إبلاغه إليهم من أمور دنياهم وأخراهم لينتفع بذلك، ثم ينفع به من يشاء الله من عباده، ويبلغ إليهم حجة الله، ويعرفهم شرائعه.
فلقد تعاظم الفرق بين النوعين، وتفاوت تفاوتاً يقصر التعبير عنه، ويعجز البيان له، إلا على وجه الإجمال بأن يقال إن أحد النوعين قد التحق بالدواب، والآخر بالملائكة؛ لأن كل واحد منهما قد سعى سعياً شابه من التحق به، فإن الدابة يستعملها مالكها في مصالحه، ويقوم بطعامها وشرابها وما يحتاج إليه.