مقاوم
12-26-2007, 05:03 PM
ذاقوا حلاوة القرآن فقالوا
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في مقدمة الشاطبية :
وإن كتاب أوثق شافع *** وأغني غناء واهباً متفضلاً
وخير جليس لا يمل حديثه *** وترداده يزداد فيه تجملاً
وحيث الفتي يرتاع في ظلماته *** من القبر يلقاه سنا متهللاً
هنالك يهنيه مقيلاً وروضة *** ومن أجله في ذروة العز يجتلي
يناشد في أرضائه لحبيبه *** وأجدر به سؤلاً إليه موصلاً
فيا أيها القارئ به متمسكاً *** مجلاً له في كل حال مبجلاً
هنيئاً مريئاً والداك عليهما *** ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه *** أولئك أهل الله والصفوة الملا
أولو البر والإحسان و الصبر والتقى *** حلاهم بها جاء القرآن مفصلاً
عليك بها ماعشت فيها منافساً *** وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا
إلى أن قال :
أقول لحر والمروءة مرؤها *** لإخوته المرآت ذو النور مكحلاً
أخي أيها المجتاز نظمي ببابه *** ينادي عليه كاسد السوق أجملا
وظن به خيراً وسامح نسيجه *** بالإغضاء والحسني وإن كان هلهلا
وسلم لإحدى الحسنيين إصابة *** والأخرى اجتهاد رام صوباً فأمحلا
وإن كان خرق فأدركه بفضله *** من الحلم وليصلحه من جاد مقولا
وقل صادقاً لولا الوئام وروحه *** لطاح الانام الكل في الخلق والقلا
وعش سالماً صدرا وعن غيبة فغب *** تحضر حظار القدس أنقي مغسلاً
وهذا زمان الصبر من لك بالتي *** كقبض على جمر فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت *** سحائبها بالدمع ديما وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها *** فيا ضيعة الاعمار تمشي سبهللا
بنفسي من استهدى إلى الله وحده *** وكان له القرآن شرباً ومغسلا
وطابت عليه أرضه فتفقت *** بكل عبير حتى اصبح مخضلا
فطوبى له والشوق يبعث همه *** وزند الأسى يهتاج في القلب مشعلا
هو المجتبي يغدو على الناس كلهم *** قريباً غريباً مستمالا مؤملا
يعد جميع الناس مولي لأنهم *** على ما قضاه الله يجرون أفعلا
يري نفسه بالذم أولى لأنها *** على المجد لم تلعق من الصبر والألا
وقد قيل كن كالكلب يقصيه اهله *** وما يأتلي في نصحهم متبذلا
لعل إله العرش يا أخوتى يقي *** جماعتنا كل المكاره هو لا
ويجعلنا ممن يكون كتابه *** شفيعاً لهم إذا ما نسوه فيمحلا
وبالله حولي واعتصامى وقوتي *** ومالي إلا ستره متجللا
فيارب أنت الله حسبي وعدتي *** عليك اعتمادي ضارعا متوكلاً(1)
وقال حجة الإسلام الإمام الغزالى ـ رحمه الله ـ فى الإحياء ما نصه :
الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة وهي عشرة فهم
أصل الكلام ثم التعظيم ثم حضور القلب ثم التدبر ثم التفهم ثم التخلي عن موانع الفهم ثم التخصيص ثم التأثر ثم الترقي ثم التبري.
فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه.
فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه ، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه.
ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره ، ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق.
ولهذا عبر بعض العارفين عنه فقال : إن كل حرف من كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة ـ عليهم السلام ـ لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل ـ عليه السلام ـ وهو ملك اللوح فيرفعه فيقله بإذن الله ـ عز وجل ـ ورحمته لا بقوته وطاقته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك واستعمله به ولقد تألق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان وتثبيته مع قصور رتبته وضرب له مثلا لم يقصر فيه.
وذلك أنه دعا بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه فقال الملك أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله ـ عز وجل ـ فكيف يطيق الناس حمله ؟ فقال الحكيم : إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه ، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها ، وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر والصفير الذى سمعت به الدواب من الناس ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها ، فكان الصوت للحكمة جسدا ومسكنا ، والحكمة للصوت نفسا وروحا فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها.
والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل وهو القاضي العدل والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم فقط.
فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه النافذ أمره ، وكالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها ، وكالنجوم الزهرة التي قد يهتدي بها من لا يقف على سيرها فهو مفتاح الخزائن النفيسة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت ، ودواء الأسقام الذي من سقى منه لم يسقم ، فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه.
الثاني التعظيم للمتكلم فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وإن في تلاوة كلام الله ـ عز وجل ـ غاية الخطر فإنه تعالى قال [ لا يمسه إلا المطهرون ] وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهرا فباطن معناه أيضا بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهرا عن كل رجس ومستنيرا بنور التعظيم والتوقير ، وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب ، ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشي عليه ويقول : هو كلام ربي هو كلام ربي .
فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعدله وأنه الذي يقول : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمة والتعالي فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام.
الثالث حضور القلب وترك حديث النفس. أهـ . [ الإحياء حـ1ص180 ـ 181 ] .
وقال الحارث المحاسبى – رحمه الله – في فضائل القرآن الكريم :
فإن العاقل عند الله – عز وجل – بدلائل الكتاب مستبصر بحبله من كل هلكة معتصم و لربه ، بتلاوته في الخلوات مناج لأنه بمناجات نفسه مهتم ففزع إلى فهم كلام الرب – جل و عز – ليحيي به قلبه ، و ينجو به من عقابه في يوم يندم فيه الغافلون و يتحسر فيه المبطلون ، فكفى بكتاب الله – عز و جل – عن غيب الآخرة مخبراً و ببصائره للعوام موضحاً لأن من فهم عن الله – عز وجل – ذاق طعم حلاوته ، وخالط فهم لذة مناجاته ، إذا عرف من تحاوره ، فعقل عن الله – عز و جل – ما به خاطبه ، فاتخذ معاذا فسكن إلى الله – عز وجل – و أنس به من كل وحشة ، فلم يؤثر شيئاً عليه ، فكان للمتقين الماضين قبله في الدنيا خلفا و للآخرين المريدين من بعده سلفاً فتدبر القرآن أيام حياته ، فصار الله – جل و عز – به مستفيداً ، لأنه الدليل الهادي للعباد قبل نزول المحل وحادي المشتاقين إلى جوار الكريم ، فبه نطق الحكماء وبه أنس المنفردون إلى إدمان الفكر في معانيه لا يضل السالك بإتباع دلائله ، لأنه النور الذي استضاء به الموقنون ، والغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ، والمنهج الذي لا يصل السالك إلا بإتباع دلائله ، ولا يعلم له طريق النجاة إلا من تقرب إلى الله عز و جل برعايته ، وحفظ حدوده وصبر لله – عز و جل – على أحكامه ، وهو الماحل لمن لم يكن في قلبه منه إلا حفظ حروفه ، و في جوارحه منه إلا تلاوته ، وهو القول الذي فصلت آياته ، والفرقان الذي يميز بين الحق والأباطيل بشواهد بيناته. حكمة بالغة منزلة من حكيم الحكماء ،وعليم العلماء ، انزله الله – تعالى – دواء للقلوب شافياً ، ولمن حرم حرامه وأحل حلاله عن النار عادلاً ، ولمن حذر مخاوفه من الادناس ، وأهل الخاصة من الله عز وجل الذين اشعروا فهمه قلوبهم ، وتدبروا آياته عند تلاوته بألباسهم فتزودوا لبعد سفرهم إلى معادهم ، وفهموا من شدة إجهادهم يوم القيامة ، ففزعوا وذكروا به السؤال من الله عز وجل فاستعدواللجواب عما عملوا فتابوا إلى الله – عز وجل – عن كل ذنب ، وتطهروا له من كل دنس ، وأخلصوا له النيات في أعمالهم ليجيبوه عما سلف من ذنوبهم بالتوبة وعن إرادتهم في طاعته بصدق النية ، فاستعدوا بالقرآن للعرض والسؤال منقادين له بذلتهم وخاشعين له باستكانتهم ، لأنهم وقروه لإجلال المتكلم به غير مغيبين عن تلاوته لطلب حقائق معانيه ، ولا مستهينين بحرماته فانتعشوا به من كل صرعة ، وجبر الله لهم به من كل مصيبة ، فما زال ذلك دأب العاقلين عن ربهم – عز وجل – لأنه ربيع قلوب المؤمنين ، وراحة الراجين ومستراح المحزونين ن لا ينقص نوره لدوام تلاوته ولا يدرك قدر فهمه ولا يبلغ له غاية نهاية تالية أبداً لأنه كلام الله – جل ثناؤه – الذي تعلق المتقون بعروته والملجأ الذي آوى الراهبون إلى كنف رحمته.
__________
(1) - مقدمة الشاطبية للإمام الشاطبي
من كتاب جامع لطائف التفسير للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد القماش
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في مقدمة الشاطبية :
وإن كتاب أوثق شافع *** وأغني غناء واهباً متفضلاً
وخير جليس لا يمل حديثه *** وترداده يزداد فيه تجملاً
وحيث الفتي يرتاع في ظلماته *** من القبر يلقاه سنا متهللاً
هنالك يهنيه مقيلاً وروضة *** ومن أجله في ذروة العز يجتلي
يناشد في أرضائه لحبيبه *** وأجدر به سؤلاً إليه موصلاً
فيا أيها القارئ به متمسكاً *** مجلاً له في كل حال مبجلاً
هنيئاً مريئاً والداك عليهما *** ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه *** أولئك أهل الله والصفوة الملا
أولو البر والإحسان و الصبر والتقى *** حلاهم بها جاء القرآن مفصلاً
عليك بها ماعشت فيها منافساً *** وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا
إلى أن قال :
أقول لحر والمروءة مرؤها *** لإخوته المرآت ذو النور مكحلاً
أخي أيها المجتاز نظمي ببابه *** ينادي عليه كاسد السوق أجملا
وظن به خيراً وسامح نسيجه *** بالإغضاء والحسني وإن كان هلهلا
وسلم لإحدى الحسنيين إصابة *** والأخرى اجتهاد رام صوباً فأمحلا
وإن كان خرق فأدركه بفضله *** من الحلم وليصلحه من جاد مقولا
وقل صادقاً لولا الوئام وروحه *** لطاح الانام الكل في الخلق والقلا
وعش سالماً صدرا وعن غيبة فغب *** تحضر حظار القدس أنقي مغسلاً
وهذا زمان الصبر من لك بالتي *** كقبض على جمر فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت *** سحائبها بالدمع ديما وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها *** فيا ضيعة الاعمار تمشي سبهللا
بنفسي من استهدى إلى الله وحده *** وكان له القرآن شرباً ومغسلا
وطابت عليه أرضه فتفقت *** بكل عبير حتى اصبح مخضلا
فطوبى له والشوق يبعث همه *** وزند الأسى يهتاج في القلب مشعلا
هو المجتبي يغدو على الناس كلهم *** قريباً غريباً مستمالا مؤملا
يعد جميع الناس مولي لأنهم *** على ما قضاه الله يجرون أفعلا
يري نفسه بالذم أولى لأنها *** على المجد لم تلعق من الصبر والألا
وقد قيل كن كالكلب يقصيه اهله *** وما يأتلي في نصحهم متبذلا
لعل إله العرش يا أخوتى يقي *** جماعتنا كل المكاره هو لا
ويجعلنا ممن يكون كتابه *** شفيعاً لهم إذا ما نسوه فيمحلا
وبالله حولي واعتصامى وقوتي *** ومالي إلا ستره متجللا
فيارب أنت الله حسبي وعدتي *** عليك اعتمادي ضارعا متوكلاً(1)
وقال حجة الإسلام الإمام الغزالى ـ رحمه الله ـ فى الإحياء ما نصه :
الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة وهي عشرة فهم
أصل الكلام ثم التعظيم ثم حضور القلب ثم التدبر ثم التفهم ثم التخلي عن موانع الفهم ثم التخصيص ثم التأثر ثم الترقي ثم التبري.
فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه.
فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه ، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه.
ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره ، ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق.
ولهذا عبر بعض العارفين عنه فقال : إن كل حرف من كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة ـ عليهم السلام ـ لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل ـ عليه السلام ـ وهو ملك اللوح فيرفعه فيقله بإذن الله ـ عز وجل ـ ورحمته لا بقوته وطاقته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك واستعمله به ولقد تألق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان وتثبيته مع قصور رتبته وضرب له مثلا لم يقصر فيه.
وذلك أنه دعا بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه فقال الملك أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله ـ عز وجل ـ فكيف يطيق الناس حمله ؟ فقال الحكيم : إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه ، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها ، وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر والصفير الذى سمعت به الدواب من الناس ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها ، فكان الصوت للحكمة جسدا ومسكنا ، والحكمة للصوت نفسا وروحا فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها.
والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل وهو القاضي العدل والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم فقط.
فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه النافذ أمره ، وكالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها ، وكالنجوم الزهرة التي قد يهتدي بها من لا يقف على سيرها فهو مفتاح الخزائن النفيسة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت ، ودواء الأسقام الذي من سقى منه لم يسقم ، فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه.
الثاني التعظيم للمتكلم فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وإن في تلاوة كلام الله ـ عز وجل ـ غاية الخطر فإنه تعالى قال [ لا يمسه إلا المطهرون ] وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهرا فباطن معناه أيضا بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهرا عن كل رجس ومستنيرا بنور التعظيم والتوقير ، وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب ، ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشي عليه ويقول : هو كلام ربي هو كلام ربي .
فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعدله وأنه الذي يقول : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمة والتعالي فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام.
الثالث حضور القلب وترك حديث النفس. أهـ . [ الإحياء حـ1ص180 ـ 181 ] .
وقال الحارث المحاسبى – رحمه الله – في فضائل القرآن الكريم :
فإن العاقل عند الله – عز وجل – بدلائل الكتاب مستبصر بحبله من كل هلكة معتصم و لربه ، بتلاوته في الخلوات مناج لأنه بمناجات نفسه مهتم ففزع إلى فهم كلام الرب – جل و عز – ليحيي به قلبه ، و ينجو به من عقابه في يوم يندم فيه الغافلون و يتحسر فيه المبطلون ، فكفى بكتاب الله – عز و جل – عن غيب الآخرة مخبراً و ببصائره للعوام موضحاً لأن من فهم عن الله – عز وجل – ذاق طعم حلاوته ، وخالط فهم لذة مناجاته ، إذا عرف من تحاوره ، فعقل عن الله – عز و جل – ما به خاطبه ، فاتخذ معاذا فسكن إلى الله – عز وجل – و أنس به من كل وحشة ، فلم يؤثر شيئاً عليه ، فكان للمتقين الماضين قبله في الدنيا خلفا و للآخرين المريدين من بعده سلفاً فتدبر القرآن أيام حياته ، فصار الله – جل و عز – به مستفيداً ، لأنه الدليل الهادي للعباد قبل نزول المحل وحادي المشتاقين إلى جوار الكريم ، فبه نطق الحكماء وبه أنس المنفردون إلى إدمان الفكر في معانيه لا يضل السالك بإتباع دلائله ، لأنه النور الذي استضاء به الموقنون ، والغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ، والمنهج الذي لا يصل السالك إلا بإتباع دلائله ، ولا يعلم له طريق النجاة إلا من تقرب إلى الله عز و جل برعايته ، وحفظ حدوده وصبر لله – عز و جل – على أحكامه ، وهو الماحل لمن لم يكن في قلبه منه إلا حفظ حروفه ، و في جوارحه منه إلا تلاوته ، وهو القول الذي فصلت آياته ، والفرقان الذي يميز بين الحق والأباطيل بشواهد بيناته. حكمة بالغة منزلة من حكيم الحكماء ،وعليم العلماء ، انزله الله – تعالى – دواء للقلوب شافياً ، ولمن حرم حرامه وأحل حلاله عن النار عادلاً ، ولمن حذر مخاوفه من الادناس ، وأهل الخاصة من الله عز وجل الذين اشعروا فهمه قلوبهم ، وتدبروا آياته عند تلاوته بألباسهم فتزودوا لبعد سفرهم إلى معادهم ، وفهموا من شدة إجهادهم يوم القيامة ، ففزعوا وذكروا به السؤال من الله عز وجل فاستعدواللجواب عما عملوا فتابوا إلى الله – عز وجل – عن كل ذنب ، وتطهروا له من كل دنس ، وأخلصوا له النيات في أعمالهم ليجيبوه عما سلف من ذنوبهم بالتوبة وعن إرادتهم في طاعته بصدق النية ، فاستعدوا بالقرآن للعرض والسؤال منقادين له بذلتهم وخاشعين له باستكانتهم ، لأنهم وقروه لإجلال المتكلم به غير مغيبين عن تلاوته لطلب حقائق معانيه ، ولا مستهينين بحرماته فانتعشوا به من كل صرعة ، وجبر الله لهم به من كل مصيبة ، فما زال ذلك دأب العاقلين عن ربهم – عز وجل – لأنه ربيع قلوب المؤمنين ، وراحة الراجين ومستراح المحزونين ن لا ينقص نوره لدوام تلاوته ولا يدرك قدر فهمه ولا يبلغ له غاية نهاية تالية أبداً لأنه كلام الله – جل ثناؤه – الذي تعلق المتقون بعروته والملجأ الذي آوى الراهبون إلى كنف رحمته.
__________
(1) - مقدمة الشاطبية للإمام الشاطبي
من كتاب جامع لطائف التفسير للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد القماش