من هناك
12-01-2007, 12:25 PM
رفيق الحريري وتأسيس الحكم الإسلامي في لبنان
أسعد أبو خليل *
لبنان في أحسن أحواله. لا داعي للقلق أو للاضطراب. الوضع تحت السيطرة، ووزير الرياضة البدنية يتابع الأوضاع أوّلاً بأوّل. ومصطفى علوش يستشهد بالشعر العربي في تعاليمه عن المقاومة الحقّة، وهو أبدى استعداداً سخيّاً لإعطاء دروس خصوصية في المقاومة. ونائب كتلة جنبلاط من عاليه يثبّت شال «ثورة» الأرز حول عنقه، ويحاول أن ينسى خطبه وتصريحاته البعثية (ماذا لو أمره البيك مرة أخرى بالتحوّل؟ سيتحوّل وبحماسة طبعاً. لمَ السؤال؟). وخلية حمد تفتقر إلى «مرشدها الروحي» (والتسمية ليساري سابق بات من أنصار الجوزو وأمين الجميل).
وزعماء لبنان (من كل الطوائف) يبتهلون إلى آلهتهم خوفاً من أن ينشر رستم غزالة مذكّراته يوماً ما. ماذا عساه يقول؟ وماذا عساه يفعل هذه الأيام في ريف دمشق، باستثناء تذكّر النهارات والليالي الخوالي؟
وميشال المر يتنقّل بسهولة بين المعارضة والموالاة بين ليلة وضحاها، وهو رشيق جداً في تنقّلاته. عرّاب المرحلة الإسرائيلية تحوّل إلى عرّاب المرحلة السورية (ويقول طبيب رستم غزالة إنه كان أثناء إقامته الطويلة في لبنان يتلذذ بترك ميشال المر ينتظره على قارعة الطريق في الرملة البيضاء). وكوندوليزا رايس تتّصل بصورة شبه يومية بزعيم 90% من 5% من الشعب اللبناني. ليس لديهم ما يعطوه إلا التمني والتصريحات العنترية. وجريدة «المستقبل» (المتخصصة في العنصرية بحق الشعبين السوري والفلسطيني وبحق الخادمات السريلانكيات) تذكر في صفحتها الأولى أن مساعد وزير الدفاع الأميركي، أو واحداً منهم للدقة، اتصل بجنبلاط وأعطاه دعماً. تحاول «المستقبل» أن تخيف الطرف الآخر. تنسى أن زمن الخوف ولّى مع العدوان الإسرائيلي الفاشل على لبنان.
الصيغة الفريدة
يبدو أحياناً كأنّ التطبيق السياسي في لبنان توكيد للنظرية الفوضوية عن عدم حاجة الناس إلى الدولة، باستثناء وزارة الرياضة البدنية والأطفال. تجد اللبناني (واللبنانية)، حتى في المنافي والمهاجر، يعتمد على إرشادات الوزير الحكيمة قبل ممارسة الرياضة. لكن لبنان يظهر اليوم على حقيقته، عارياً كما هو، أي كما خلقه… المستعمر. وندر أن تجمعت وتكثفت مفارقات النظام والمجتمع في لبنان كما تجمعت في الأيام الأخيرة. ليست الرئاسة وحدها شاغرة، بل الجمهورية شاغرة. من أين تبدأ في تعداد المفارقات؟
هل تبدأ في زيارات الرجل الأبيض المتتالية وسط الاحتفال بالاستقلال؟ جاء الرجل الأبيض عنيفاً مُعنّفاً في هذا الموسم. وبّخهم الوزير الفرنسي (أو المهرّج كما سمّاه الرفيق خالد صاغية). استعمل لهجة قاسية لم نسمعها منذ عهد الانتداب. لم يرد عليه أحد. على العكس من ذلك. استقبلوه بالترحاب، بما فيهم حزب الله. وعقدة الإعجاب بالرجل الأبيض تصيب الطرفين، في الموالاة وفي المعارضة. لم يذكّره أحد بأن عهد الانتداب قد ولّى، اسمياً على الأقل. ثم هناك لائحة المرشحين المقدمة من البطريرك (وهي خلت ـــــ يا عجبي ـــــ من اسم ميشال معوّض، أو ماما معوّض التي تحبّه كثيراً). سمّى فيها مرشّحيه. شعب لبنان أُعطي له؟ أقنعه المُستعمر بأن مجد لبنان المزيّف أُعطي له، ثم عاد وأقنعه بأن شعب لبنان أُعطي له. بات البطريرك يلخص الجمهور الانتخابي بكامله. فلتُلغَ السياسة برمتها من لبنان. نراقب ونرى أن الهيئات المنتخبة نادراً ما تقرر مصير البلاد. الأمور تُحل أو تتعقد في اجتماعات مغلقة بين ممثلي السفارات وممثلي الطوائف. ولم يتوانَ يساري سابق عن دعوة البطريرك إلى زجّ معارضيه في غياهب السجون. لعلها دعوة لاستعادة عقوبات أسعد الشدياق.
ويحاول اللبنانيون واللبنانيات إقناع أنفسهم بأن جمهوريتهم هي من نسق فريد من الديموقراطية. هي صيغة «فذّة»
كما كان بيار الجميل (الجد)، في تصريحات تكتب له، يسمّيها، أو «الطائفية البنّاءة» كما كان كمال الحاج يقول. ثم عاد أنطوان مسرّة وأفسد عقولهم بحديثه عن الديموقراطية التوافقية. باتوا يظنون أن الديموقراطية التوافقية هي اسم لنظام سياسي. وقد استقى مسرّة كتاباته عن الموضوع من كتابات العالم السياسي في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ارنت ليبيارت. والنظرية التوافقية هي مصطلح (و«التوافقية» هي ترجمة غير اعتباطية لكلمة إنكليزية) يُطلق على بعض الديموقراطيات في المجتمعات ذات الانقسامات أو الانشطارات العميقة. وقد ينطبق أو لا ينطبق هذا الوصف على النظام اللبناني، فالموضوع ذو ملابسات أكاديمية. لكن الكلمة باتت تُطلق عشوائياً لتسويغ إجراءات غير ديموقراطية في الغالب.
مآثر الحريري
والرئيس اللبناني السابق أصدر قراراً حازماً قبل أن يترك القصر (بعد صلاة العصر). نسي أنه خسر كل سلطاته في اليوم الذي غادرت فيه القوات السورية لبنان، مطرودة من جانب السعودية وجماهير الهمروجة الطائفية في 14آذار، ومن جانب مضاعفات ممارسات وجرائم مخابراتها في لبنان. لكن دلالات الفراغ في سدة الرئاسة عميقة وبعيدة المدى.
من الأكيد أن رفيق الحريري ترك آثاراً بالغة الأهمية والضرر في لبنان، وعلى كل الأصعدة، إذ إن طموحاته كانت نابوليونية مع فوارق في المواهب والشخصية. فقد أسس الحريري لزعامته السياسية معتمداً على الآفات الثلاث في الحياة السياسية في لبنان:
المال السياسي غير الخاضع للرقابة أو للضوابط،
الاستعانة بالتدخل الخارجي كلما تقضي الحاجة حتى ولو كانت في أمور تتعلق ببلدية بيروت الممتازة،
والتأجيج والشحن الطائفي والمذهبي، وهو الملاذ الأخير لمن يعاني سياسياً. وتسنّى لرفيق الحريري تطبيق الطائف مستعيناً بتوافق سعودي ـــــ سوري (مطعّم برعاية أميركية وفرنسية خصوصاً في عهد النزيه شيراك) على شخصه الكريم. ارتأى أو قرر مستشاروه، وما أكثرهم، أن اتفاق الطائف حول الطوائف نقل ثقل السلطة التنفيذية من الرئاسة إلى رئاسة الحكومة (الكلام عن سلطة مجلس الوزراء «مجتمعاً» يذكّر بكلام ستاليني عن القيادة الجماعية في المكتب السياسي للأحزاب الشيوعية).
لهذا، فقد طلب الحريري، أو سارع في الطلب، من حافظ الأسد سلطات استثنائية لأنه كان يرغب في أن يتمتع أيضاً بصلاحية السلطة الاشتراعية. وما الضير في أن يقبض على كل مقدرات الدولة وهو صاحب المال الوفير.
وفي عهد إلياس الهراوي (ينسى دعاة 14 آذار وآل الحريري أن معمّر قصر قريطم ـــــ بالإضافة إلى قصور أميرية في السعودية وقصر رئاسة في دمشق من باب التملّق الأقصى ـــــ مدّد لإلياس الهراوي أيضاً، لكن الأخير كان مطواعاً فاقتضى التمديد). انحصر الصراع السياسي بين رئيس المجلس والحريري. طبعاً، كان الهراوي يحرد أحياناً (كما جاء في مذكراته التي تتحدث عن كتابة بطرس حرب لخطب عصماء له في مديح النظام السوري، وكما جاء في روايته في برنامج زيارة خاصة على قناة الجزيرة)، لكنه كان سهل «الإقناع».
وكان رفيق الحريري يعلم بأن إمكان تجاهل المسيحيين في لبنان ممكن لو أن الراعي الخارجي يسهل أمر الإعانة في الجزر والفرض، كما فعل في الانتخابات المهزلة التي قوطعت من قبل معظم المسيحيين. لم يرف لهم جفن، آنذاك. وقد فاتح بطريرك «أنطاكية وسائر المشرق» رفيق الحريري بمخاوفه في عام 1993، واشتكى من شرائه لأراضٍ للمسيحيين. فأجابه الحريري ذو الذهن المذهبي الوقّاد: «أنا لم أشتر أنا. اشترى الأرض سواي من الشيعة». (أنطوان سعد، السادس والسبعون: مار نصر الله بطرس صفير، الجزء الثاني، ص 74). وكان الحريري يوكل داوود الصايغ بشؤون بكركي (هل لاحظ أحد أن الحريري كان ميّالاً إلى مستشارين من خريجي مدرسة 17 أيار: داوود الصايغ، زاهي البستاني، إيلي حبيقة، جوني عبده، إلخ).
أحكم رفيق الحريري بنيان سلطة ولاية آل سعود. لم يعارض بمبدئية، وهو الذي كان يعرّف نفسه بأنه مقاول (يراجع كتاب الفضل شلق في هذا الخصوص)، كما عارض موضوع الزواج المدني. جيّش أتباعه من رجال الدين لمعارضة الأمر. وكان يرى الرئيس الماروني تابعاً له، كما كان يتعامل كميل شمعون مع سامي الصلح أو كما تعامل أمين الجميل مع شفيق الوزان (هذا الاكتشاف المتأخر لـ«المارونية السياسية»). ولمَ العجب؟ ألم يكن النظام السعودي المثال الأعلى للحريري؟ وهل تغيّر الأمر مع ابنه النابغة؟
سوابق خطيرة
وكانت زيارة السنيورة إلى بكركي بعد انتهاء ولاية لحود (وهي كادت تتحوّل إلى ولاية فقيه لانعدام التأييد الشعبي له باستثناء جمهور حزب الله) مقلقة في البلد الطائفي، أكثر مما كانت مطمئنة للرأي العام المسيحي. وهي ذكّرت بتلك الإطلالة لوزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ بعد محاولة اغتيال رونالد ريغان عندما قال: أنا هنا، أحكم. هذا ما كان السنيورة يودّ قوله. إنه هو يحكم. هو الدولة، والدولة هو. نسي أنه في بلد بلا حاكم. أو أنه حاكم بلا جمهورية. رافقه مسؤول التشريفات في القصر الجمهوري. كنا ننتظر أن ترافقه ثلة من الحرس الجمهوري بعد أن تخضع لإعادة تأهيل في مدرسة قوى الأمن الداخلي التي تحمي الحدود وقريطم في آن. لكن لا يمكن إصدار أحكام قاسية على السنيورة. فهو زار بكركي من دون أن يقبض على صولجان. لقد تواضع، لطمأنة المسيحيين (والمسيحيات).
والمعادلة واضحة للعيان، لكن هناك سوابق ترتكب وتفوت انتباه أهل الطوائف المسيحية في 14 آذار. ليس هناك من يسأل عن طبيعة مجرى الحكم في لبنان عندما يتفق السنّة والشيعة في البلد. فسابقة الحكومة الحالية ستسمح ببقاء حكومة من دون أي تمثيل مسيحي مستقبلاً. وسابقة النصف الزائد واحداً ستسمح بانتخاب رئيس من المسلمين فقط في المستقبل. وإمكان التوافق بين الطائفتين الكبيرتين وارد مستقبلاً، وخصوصاً أن للسعودية وإيران ما لهما من نفوذ في أوساط الطائفتين الكبيرتين. والطائفتان هما في أصل الصراع الدائر في لبنان، ويمكن القول إن للفريق المسيحي في 8 آذار حظوة تفوق حظوة الفريق المسيحي في 14 آذار، وهو بمثابة التزيين الداخلي.
هل هناك من يعتقد حقاً بأن فريق الحريري ـــــ جنبلاط (والأخير يسعى للتهدئة وإن دعا من واشنطن الولايات المتحدة إلى إرسال سيارات مفخخة إلى دمشق) يستشير بطرس حرب ونسيب لحود قبل اتخاذ القرارات؟ حتى الدور الدرزي فإنه سائر إلى الاضمحلال عندما يتولى الزعامة السنّية شخص يستطيع أن يقرأ من دون الاستعانة بهاني حمود (وهو بالمناسبة يساري سابق، يا للصدفة).
المفارقة الأخرى تتعلق بالمفاوضات الجارية في شأن اختيار الرئيس. لم يتقدم لبنان في محاولة إنجاز الاستقلال. هذا البلد لم يكن مستقلّاً يوماً، واستقلاله ينقص عبر السنوات. لو تسنّى للرئيس الحريري العيش لكان خصخص الوطن وباعه رسمياً لشركة أجنبية. لعله كان باعه لشركة إسرائيلية ليسهّل عملية دخول لبنان في منظمة التجارة العالمية. ألم يكن عتاة القوميين العرب والقوميين السوريين محقّين ومحقّات في معارضتهم المبدئية لفكرة الكيان اللبناني من أساسها؟ لن تقوم قائمة لهذا الكيان وفكرة اندماج لبنان في دولة مع سوريا (الشعب لا النظام) تصبح أكثر قابلية مع وجود نظام سوري صالح، مهما طال الزمن. أراد المستعمر من فكرة الكيان اللبناني أن يخلق مقراً له، ثم أراد أن يخلق رديفاً للكيان الصهيوني. والمحاكاة بين الصهيونية الفينيقية وبين إسرائيل لم تكن عفوية، أو غلطة ـــــ صارت.
طبعاً، إن عوامل عديدة ساعدت في إبعاد وإقصاء النفوذ المسيحي عن الحكم. فالصراعات المارونية (يحاول البعض أن يصورها كدليل على نزوع جيني نحو التنوع، مع أن الطائفة توحّدت بالقوة في عهد بشير الجميل (الذي كانت زوجته تعدّ أطباقاً لبنانية شهية لأرييل شارون، كما وعدته بأن يكون الضيف الأول في القصر الجمهوري. لم يتسنَّ لها تحقيق ما أرادت. تسارعت الأحداث) في الوقت الذي تنوّعت فيه أهواء أبناء وبنات الطائفة الشيعية في حقبة الحرب. الطوائف في لبنان لا تثبت على مبادئ. هي كما قال المستعمر البريطاني عن القبائل الأفغانية: معروضة للإيجار، لكن ليس للبيع.
والمرحلة الحالية تؤذن بتحولات عميقة في المستقبل. السوابق سترتكب في المستقبل من قبل حلف سنّي ـــــ شيعي ضد الباقين. الديموغرافيا ستؤثر هي الأخرى. ودبي أصبحت أكثر جاذبية من جبل لبنان، الذي لا يزال يستقطب الماعز من كل أنحاء المعمورة. ومرقد العنزة مضرب مثل على ما درسنا في المدارس اللبنانية، ومنه تعلّمنا عشق الأرزة (واللوبيا بزيت).
لكن لا يجب الركون إلى اليأس. فهناك نقاط مضيئة. فميشال معوّض يصلح لتبوّء منصب الرئاسة. ونائلة معوض تفخر بابنها وهي مستعدة لحشد خمسين شخصاً من المؤيدين له في مهرجان عرمرمي كما تفعل عندما يلقي خطبة حماسية في صالون منزلها. ولن تكون صعوبة اللغة العربية عائقاً أمام طموحاته. فهو بدأ بتلقّي دروس خصوصية في القواعد العربية والعروض من كارلوس إده، وقد أبدى سعد الحريري استعداده لتعليمه جدول الضرب عندما يمسك بناصيته. لمَ لا؟ ميشال معوّض رئيساً للجمهورية اللبنانية. ألم تُلتقط له صورة أخيراً في واشنطن مع بول وولفويتز (إلى جانب الماما معوّض)؟ ولمَ لا يكون ميشال رئيساً للبنان في الوقت الذي أهّل نبوغ سعد الحريري للعب دور الوسيط في الأزمة الباكستانية؟ أي أن نبوغ سعد الحريري يتيح له حل أزمتين في وقت واحد. وهل هناك من نسي رحلة سعد الحريري إلى قبرص في عز العدوان الإسرائيلي على لبنان (وباسم السبع، الزعيم الشيعي الأوحد كان شاهداً. لكن لماذا لا نقرأ عن اجتماعات لتنظيم باسم السبع الشيعي، مع ان استطلاعات الرأي تجزم بأن الرأي العام الشيعي تحول باتجاه مضاد لحزب الله نتيجة سحر السبع الجماهيري، بالإضافة إلى جهود محامي عائلة الحريري).
ولا ننسى أن الوزير طارق متري (واحد من اليساريين السابقين) ذهب إلى أنابوليس لتطبيق أسلوب السنيورة في النضال الحضاري. ومن يدري، فقد يستطيع بخطاب له (وإن كان خطابه في مجلس الأمن أسوأ بكثير من خطاب وزير الخارجية القطري، والأخير من دعاة التطبيع مع إسرائيل) أن يقنع إسرائيل حضارياً بالجلاء عن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر. وهل تحدث متري في المؤتمر عن الصهيونية المسيحية، أم أن الاحتواء الحريري له طال اختصاصه كما طال قناعاته؟
أما إذا لم يتفق اللبنانيون، فإن وزير الخارجية الفرنسي لهم بالمرصاد. احذروا.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com (http://angryarab.blogspot.com/)
أسعد أبو خليل *
لبنان في أحسن أحواله. لا داعي للقلق أو للاضطراب. الوضع تحت السيطرة، ووزير الرياضة البدنية يتابع الأوضاع أوّلاً بأوّل. ومصطفى علوش يستشهد بالشعر العربي في تعاليمه عن المقاومة الحقّة، وهو أبدى استعداداً سخيّاً لإعطاء دروس خصوصية في المقاومة. ونائب كتلة جنبلاط من عاليه يثبّت شال «ثورة» الأرز حول عنقه، ويحاول أن ينسى خطبه وتصريحاته البعثية (ماذا لو أمره البيك مرة أخرى بالتحوّل؟ سيتحوّل وبحماسة طبعاً. لمَ السؤال؟). وخلية حمد تفتقر إلى «مرشدها الروحي» (والتسمية ليساري سابق بات من أنصار الجوزو وأمين الجميل).
وزعماء لبنان (من كل الطوائف) يبتهلون إلى آلهتهم خوفاً من أن ينشر رستم غزالة مذكّراته يوماً ما. ماذا عساه يقول؟ وماذا عساه يفعل هذه الأيام في ريف دمشق، باستثناء تذكّر النهارات والليالي الخوالي؟
وميشال المر يتنقّل بسهولة بين المعارضة والموالاة بين ليلة وضحاها، وهو رشيق جداً في تنقّلاته. عرّاب المرحلة الإسرائيلية تحوّل إلى عرّاب المرحلة السورية (ويقول طبيب رستم غزالة إنه كان أثناء إقامته الطويلة في لبنان يتلذذ بترك ميشال المر ينتظره على قارعة الطريق في الرملة البيضاء). وكوندوليزا رايس تتّصل بصورة شبه يومية بزعيم 90% من 5% من الشعب اللبناني. ليس لديهم ما يعطوه إلا التمني والتصريحات العنترية. وجريدة «المستقبل» (المتخصصة في العنصرية بحق الشعبين السوري والفلسطيني وبحق الخادمات السريلانكيات) تذكر في صفحتها الأولى أن مساعد وزير الدفاع الأميركي، أو واحداً منهم للدقة، اتصل بجنبلاط وأعطاه دعماً. تحاول «المستقبل» أن تخيف الطرف الآخر. تنسى أن زمن الخوف ولّى مع العدوان الإسرائيلي الفاشل على لبنان.
الصيغة الفريدة
يبدو أحياناً كأنّ التطبيق السياسي في لبنان توكيد للنظرية الفوضوية عن عدم حاجة الناس إلى الدولة، باستثناء وزارة الرياضة البدنية والأطفال. تجد اللبناني (واللبنانية)، حتى في المنافي والمهاجر، يعتمد على إرشادات الوزير الحكيمة قبل ممارسة الرياضة. لكن لبنان يظهر اليوم على حقيقته، عارياً كما هو، أي كما خلقه… المستعمر. وندر أن تجمعت وتكثفت مفارقات النظام والمجتمع في لبنان كما تجمعت في الأيام الأخيرة. ليست الرئاسة وحدها شاغرة، بل الجمهورية شاغرة. من أين تبدأ في تعداد المفارقات؟
هل تبدأ في زيارات الرجل الأبيض المتتالية وسط الاحتفال بالاستقلال؟ جاء الرجل الأبيض عنيفاً مُعنّفاً في هذا الموسم. وبّخهم الوزير الفرنسي (أو المهرّج كما سمّاه الرفيق خالد صاغية). استعمل لهجة قاسية لم نسمعها منذ عهد الانتداب. لم يرد عليه أحد. على العكس من ذلك. استقبلوه بالترحاب، بما فيهم حزب الله. وعقدة الإعجاب بالرجل الأبيض تصيب الطرفين، في الموالاة وفي المعارضة. لم يذكّره أحد بأن عهد الانتداب قد ولّى، اسمياً على الأقل. ثم هناك لائحة المرشحين المقدمة من البطريرك (وهي خلت ـــــ يا عجبي ـــــ من اسم ميشال معوّض، أو ماما معوّض التي تحبّه كثيراً). سمّى فيها مرشّحيه. شعب لبنان أُعطي له؟ أقنعه المُستعمر بأن مجد لبنان المزيّف أُعطي له، ثم عاد وأقنعه بأن شعب لبنان أُعطي له. بات البطريرك يلخص الجمهور الانتخابي بكامله. فلتُلغَ السياسة برمتها من لبنان. نراقب ونرى أن الهيئات المنتخبة نادراً ما تقرر مصير البلاد. الأمور تُحل أو تتعقد في اجتماعات مغلقة بين ممثلي السفارات وممثلي الطوائف. ولم يتوانَ يساري سابق عن دعوة البطريرك إلى زجّ معارضيه في غياهب السجون. لعلها دعوة لاستعادة عقوبات أسعد الشدياق.
ويحاول اللبنانيون واللبنانيات إقناع أنفسهم بأن جمهوريتهم هي من نسق فريد من الديموقراطية. هي صيغة «فذّة»
كما كان بيار الجميل (الجد)، في تصريحات تكتب له، يسمّيها، أو «الطائفية البنّاءة» كما كان كمال الحاج يقول. ثم عاد أنطوان مسرّة وأفسد عقولهم بحديثه عن الديموقراطية التوافقية. باتوا يظنون أن الديموقراطية التوافقية هي اسم لنظام سياسي. وقد استقى مسرّة كتاباته عن الموضوع من كتابات العالم السياسي في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ارنت ليبيارت. والنظرية التوافقية هي مصطلح (و«التوافقية» هي ترجمة غير اعتباطية لكلمة إنكليزية) يُطلق على بعض الديموقراطيات في المجتمعات ذات الانقسامات أو الانشطارات العميقة. وقد ينطبق أو لا ينطبق هذا الوصف على النظام اللبناني، فالموضوع ذو ملابسات أكاديمية. لكن الكلمة باتت تُطلق عشوائياً لتسويغ إجراءات غير ديموقراطية في الغالب.
مآثر الحريري
والرئيس اللبناني السابق أصدر قراراً حازماً قبل أن يترك القصر (بعد صلاة العصر). نسي أنه خسر كل سلطاته في اليوم الذي غادرت فيه القوات السورية لبنان، مطرودة من جانب السعودية وجماهير الهمروجة الطائفية في 14آذار، ومن جانب مضاعفات ممارسات وجرائم مخابراتها في لبنان. لكن دلالات الفراغ في سدة الرئاسة عميقة وبعيدة المدى.
من الأكيد أن رفيق الحريري ترك آثاراً بالغة الأهمية والضرر في لبنان، وعلى كل الأصعدة، إذ إن طموحاته كانت نابوليونية مع فوارق في المواهب والشخصية. فقد أسس الحريري لزعامته السياسية معتمداً على الآفات الثلاث في الحياة السياسية في لبنان:
المال السياسي غير الخاضع للرقابة أو للضوابط،
الاستعانة بالتدخل الخارجي كلما تقضي الحاجة حتى ولو كانت في أمور تتعلق ببلدية بيروت الممتازة،
والتأجيج والشحن الطائفي والمذهبي، وهو الملاذ الأخير لمن يعاني سياسياً. وتسنّى لرفيق الحريري تطبيق الطائف مستعيناً بتوافق سعودي ـــــ سوري (مطعّم برعاية أميركية وفرنسية خصوصاً في عهد النزيه شيراك) على شخصه الكريم. ارتأى أو قرر مستشاروه، وما أكثرهم، أن اتفاق الطائف حول الطوائف نقل ثقل السلطة التنفيذية من الرئاسة إلى رئاسة الحكومة (الكلام عن سلطة مجلس الوزراء «مجتمعاً» يذكّر بكلام ستاليني عن القيادة الجماعية في المكتب السياسي للأحزاب الشيوعية).
لهذا، فقد طلب الحريري، أو سارع في الطلب، من حافظ الأسد سلطات استثنائية لأنه كان يرغب في أن يتمتع أيضاً بصلاحية السلطة الاشتراعية. وما الضير في أن يقبض على كل مقدرات الدولة وهو صاحب المال الوفير.
وفي عهد إلياس الهراوي (ينسى دعاة 14 آذار وآل الحريري أن معمّر قصر قريطم ـــــ بالإضافة إلى قصور أميرية في السعودية وقصر رئاسة في دمشق من باب التملّق الأقصى ـــــ مدّد لإلياس الهراوي أيضاً، لكن الأخير كان مطواعاً فاقتضى التمديد). انحصر الصراع السياسي بين رئيس المجلس والحريري. طبعاً، كان الهراوي يحرد أحياناً (كما جاء في مذكراته التي تتحدث عن كتابة بطرس حرب لخطب عصماء له في مديح النظام السوري، وكما جاء في روايته في برنامج زيارة خاصة على قناة الجزيرة)، لكنه كان سهل «الإقناع».
وكان رفيق الحريري يعلم بأن إمكان تجاهل المسيحيين في لبنان ممكن لو أن الراعي الخارجي يسهل أمر الإعانة في الجزر والفرض، كما فعل في الانتخابات المهزلة التي قوطعت من قبل معظم المسيحيين. لم يرف لهم جفن، آنذاك. وقد فاتح بطريرك «أنطاكية وسائر المشرق» رفيق الحريري بمخاوفه في عام 1993، واشتكى من شرائه لأراضٍ للمسيحيين. فأجابه الحريري ذو الذهن المذهبي الوقّاد: «أنا لم أشتر أنا. اشترى الأرض سواي من الشيعة». (أنطوان سعد، السادس والسبعون: مار نصر الله بطرس صفير، الجزء الثاني، ص 74). وكان الحريري يوكل داوود الصايغ بشؤون بكركي (هل لاحظ أحد أن الحريري كان ميّالاً إلى مستشارين من خريجي مدرسة 17 أيار: داوود الصايغ، زاهي البستاني، إيلي حبيقة، جوني عبده، إلخ).
أحكم رفيق الحريري بنيان سلطة ولاية آل سعود. لم يعارض بمبدئية، وهو الذي كان يعرّف نفسه بأنه مقاول (يراجع كتاب الفضل شلق في هذا الخصوص)، كما عارض موضوع الزواج المدني. جيّش أتباعه من رجال الدين لمعارضة الأمر. وكان يرى الرئيس الماروني تابعاً له، كما كان يتعامل كميل شمعون مع سامي الصلح أو كما تعامل أمين الجميل مع شفيق الوزان (هذا الاكتشاف المتأخر لـ«المارونية السياسية»). ولمَ العجب؟ ألم يكن النظام السعودي المثال الأعلى للحريري؟ وهل تغيّر الأمر مع ابنه النابغة؟
سوابق خطيرة
وكانت زيارة السنيورة إلى بكركي بعد انتهاء ولاية لحود (وهي كادت تتحوّل إلى ولاية فقيه لانعدام التأييد الشعبي له باستثناء جمهور حزب الله) مقلقة في البلد الطائفي، أكثر مما كانت مطمئنة للرأي العام المسيحي. وهي ذكّرت بتلك الإطلالة لوزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ بعد محاولة اغتيال رونالد ريغان عندما قال: أنا هنا، أحكم. هذا ما كان السنيورة يودّ قوله. إنه هو يحكم. هو الدولة، والدولة هو. نسي أنه في بلد بلا حاكم. أو أنه حاكم بلا جمهورية. رافقه مسؤول التشريفات في القصر الجمهوري. كنا ننتظر أن ترافقه ثلة من الحرس الجمهوري بعد أن تخضع لإعادة تأهيل في مدرسة قوى الأمن الداخلي التي تحمي الحدود وقريطم في آن. لكن لا يمكن إصدار أحكام قاسية على السنيورة. فهو زار بكركي من دون أن يقبض على صولجان. لقد تواضع، لطمأنة المسيحيين (والمسيحيات).
والمعادلة واضحة للعيان، لكن هناك سوابق ترتكب وتفوت انتباه أهل الطوائف المسيحية في 14 آذار. ليس هناك من يسأل عن طبيعة مجرى الحكم في لبنان عندما يتفق السنّة والشيعة في البلد. فسابقة الحكومة الحالية ستسمح ببقاء حكومة من دون أي تمثيل مسيحي مستقبلاً. وسابقة النصف الزائد واحداً ستسمح بانتخاب رئيس من المسلمين فقط في المستقبل. وإمكان التوافق بين الطائفتين الكبيرتين وارد مستقبلاً، وخصوصاً أن للسعودية وإيران ما لهما من نفوذ في أوساط الطائفتين الكبيرتين. والطائفتان هما في أصل الصراع الدائر في لبنان، ويمكن القول إن للفريق المسيحي في 8 آذار حظوة تفوق حظوة الفريق المسيحي في 14 آذار، وهو بمثابة التزيين الداخلي.
هل هناك من يعتقد حقاً بأن فريق الحريري ـــــ جنبلاط (والأخير يسعى للتهدئة وإن دعا من واشنطن الولايات المتحدة إلى إرسال سيارات مفخخة إلى دمشق) يستشير بطرس حرب ونسيب لحود قبل اتخاذ القرارات؟ حتى الدور الدرزي فإنه سائر إلى الاضمحلال عندما يتولى الزعامة السنّية شخص يستطيع أن يقرأ من دون الاستعانة بهاني حمود (وهو بالمناسبة يساري سابق، يا للصدفة).
المفارقة الأخرى تتعلق بالمفاوضات الجارية في شأن اختيار الرئيس. لم يتقدم لبنان في محاولة إنجاز الاستقلال. هذا البلد لم يكن مستقلّاً يوماً، واستقلاله ينقص عبر السنوات. لو تسنّى للرئيس الحريري العيش لكان خصخص الوطن وباعه رسمياً لشركة أجنبية. لعله كان باعه لشركة إسرائيلية ليسهّل عملية دخول لبنان في منظمة التجارة العالمية. ألم يكن عتاة القوميين العرب والقوميين السوريين محقّين ومحقّات في معارضتهم المبدئية لفكرة الكيان اللبناني من أساسها؟ لن تقوم قائمة لهذا الكيان وفكرة اندماج لبنان في دولة مع سوريا (الشعب لا النظام) تصبح أكثر قابلية مع وجود نظام سوري صالح، مهما طال الزمن. أراد المستعمر من فكرة الكيان اللبناني أن يخلق مقراً له، ثم أراد أن يخلق رديفاً للكيان الصهيوني. والمحاكاة بين الصهيونية الفينيقية وبين إسرائيل لم تكن عفوية، أو غلطة ـــــ صارت.
طبعاً، إن عوامل عديدة ساعدت في إبعاد وإقصاء النفوذ المسيحي عن الحكم. فالصراعات المارونية (يحاول البعض أن يصورها كدليل على نزوع جيني نحو التنوع، مع أن الطائفة توحّدت بالقوة في عهد بشير الجميل (الذي كانت زوجته تعدّ أطباقاً لبنانية شهية لأرييل شارون، كما وعدته بأن يكون الضيف الأول في القصر الجمهوري. لم يتسنَّ لها تحقيق ما أرادت. تسارعت الأحداث) في الوقت الذي تنوّعت فيه أهواء أبناء وبنات الطائفة الشيعية في حقبة الحرب. الطوائف في لبنان لا تثبت على مبادئ. هي كما قال المستعمر البريطاني عن القبائل الأفغانية: معروضة للإيجار، لكن ليس للبيع.
والمرحلة الحالية تؤذن بتحولات عميقة في المستقبل. السوابق سترتكب في المستقبل من قبل حلف سنّي ـــــ شيعي ضد الباقين. الديموغرافيا ستؤثر هي الأخرى. ودبي أصبحت أكثر جاذبية من جبل لبنان، الذي لا يزال يستقطب الماعز من كل أنحاء المعمورة. ومرقد العنزة مضرب مثل على ما درسنا في المدارس اللبنانية، ومنه تعلّمنا عشق الأرزة (واللوبيا بزيت).
لكن لا يجب الركون إلى اليأس. فهناك نقاط مضيئة. فميشال معوّض يصلح لتبوّء منصب الرئاسة. ونائلة معوض تفخر بابنها وهي مستعدة لحشد خمسين شخصاً من المؤيدين له في مهرجان عرمرمي كما تفعل عندما يلقي خطبة حماسية في صالون منزلها. ولن تكون صعوبة اللغة العربية عائقاً أمام طموحاته. فهو بدأ بتلقّي دروس خصوصية في القواعد العربية والعروض من كارلوس إده، وقد أبدى سعد الحريري استعداده لتعليمه جدول الضرب عندما يمسك بناصيته. لمَ لا؟ ميشال معوّض رئيساً للجمهورية اللبنانية. ألم تُلتقط له صورة أخيراً في واشنطن مع بول وولفويتز (إلى جانب الماما معوّض)؟ ولمَ لا يكون ميشال رئيساً للبنان في الوقت الذي أهّل نبوغ سعد الحريري للعب دور الوسيط في الأزمة الباكستانية؟ أي أن نبوغ سعد الحريري يتيح له حل أزمتين في وقت واحد. وهل هناك من نسي رحلة سعد الحريري إلى قبرص في عز العدوان الإسرائيلي على لبنان (وباسم السبع، الزعيم الشيعي الأوحد كان شاهداً. لكن لماذا لا نقرأ عن اجتماعات لتنظيم باسم السبع الشيعي، مع ان استطلاعات الرأي تجزم بأن الرأي العام الشيعي تحول باتجاه مضاد لحزب الله نتيجة سحر السبع الجماهيري، بالإضافة إلى جهود محامي عائلة الحريري).
ولا ننسى أن الوزير طارق متري (واحد من اليساريين السابقين) ذهب إلى أنابوليس لتطبيق أسلوب السنيورة في النضال الحضاري. ومن يدري، فقد يستطيع بخطاب له (وإن كان خطابه في مجلس الأمن أسوأ بكثير من خطاب وزير الخارجية القطري، والأخير من دعاة التطبيع مع إسرائيل) أن يقنع إسرائيل حضارياً بالجلاء عن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر. وهل تحدث متري في المؤتمر عن الصهيونية المسيحية، أم أن الاحتواء الحريري له طال اختصاصه كما طال قناعاته؟
أما إذا لم يتفق اللبنانيون، فإن وزير الخارجية الفرنسي لهم بالمرصاد. احذروا.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com (http://angryarab.blogspot.com/)