مقاوم
11-01-2007, 11:51 AM
المشهد الفلسطيني: النقاط على الحروف...
هاني البرقاوي
منذ الفوز الكاسح لحماس في الانتخابات الفلسطينية مطلع 2006 دخل المشهد السياسي الفلسطيني في مرحلة جديدة شديدة التعقيد عنوانها الاستقطاب الحاد بين فتح وحماس وشهدت دخول المؤثرات الخارجية بشكل مباشر وقوي عليه لتوجيهه بحسب مصالح الفرقاء المختلفين، ويمكن إرجاع هذا الوضع شديد الدقة إلى سببين رئيسيين:
الأول: هول حجم الزلزال السياسي المتمثل في نتائج الانتخابات الفلسطينية في الداخل والخارج وما تبعه من هزات ارتدادية – بلغة علم الزلازل- لم يكن آخرها عملية "الحسم في غزة" وتداعياتها الهائلة على المنطقة ومواقف الأطراف المختلفة منه فلسطينياً وعربياً ودولياً، وتولي الولايات المتحدة و"إسرائيل" زمام الأمور بإعلانها حالة استنفار قصوى للتعامل مع الحدث الجلل وتداعياته وضرورة "إصلاحه" بحسب الرؤية الصهيوأمريكية، وقد تم وضع العديد من الخطط العامة والتفصيلية لتحقيق ذلك ولم تكن خطة دايتون الشهيرة سوى إحداها.
أما الثاني: خلط الأوراق وإضفاء الضبابية وإثارة الشبهات حول مواقف حماس وإشعال الفتن في الساحة ومحاولة إرباك وإعادة صياغة الرأي العام الفلسطيني ومن ورائه الرأي العام العربي والإسلامي تجاه حماس بما تمثل من مشروع للمقاومة ضد العدو وضد مشاريع التسوية التي ضاعت القضية في تيهها منذ اتفاقيات أوسلو المشؤومة، وذلك لضمان إقصاء حماس والقضاء عليها وعلى مشروعها على الأرض وفي وجدان الأمة بشكل كامل.
لذلك فعندما نحاول هنا تجلية المشهد الفلسطيني ووضع النقاط على الحروف فلا بد لنا من رؤية الصورة الكلية الكاملة للواقع الفلسطيني قبل الخوض في التفاصيل الجزئية التي يعمد الإعلام بشكل عام اليوم التركيزعليها وتكبيرها بشكل تضيع معه الصورة الكلية للمشهد.
الأرقام تتكلم
بحثا عن مدلولات ما حدث في غزة من حسم عسكري فلنتوقف عند إحصائية بعدد ضحايا الاقتتال الفلسطيني الداخلي وهو الأمر الذي تسبب بإثارة الفزع في فلسطين وعموم العالم العربي والإسلامي خوفا على مستقبل القضية وجهاد الشعب الفلسطيني، وحرصا على المحافظة على نصاعة موقف حماس كما كان طوال سني أوسلو العجاف من العض على الجراح والصبر والمصابرة أمام ظلم "ذوي القربى" والثمن الغالي الذي دفعته في مقابل الحفاظ على حرمة الدم الفلسطيني كخط أحمر لم يكن من المسموح تجاوزه بحال من الأحوال، وهو – أي الاقتتال - هو ما هلل له العدو ومن ورائه حلفه الصهيوأمريكي وأنبرى لاستثماره وتأجيجه بغية الوصول للهدف النهائي بإقصاء حماس عن المشهد السياسي أو احتوائها فيه، وهنا تبرز أهمية الأرقام واضحة الدلالة
الشهر
عدد الضحايا
1/2007
63
2/2007
35
شهد هذا الشهر توقيع اتفاق مكة
3/2007
19
وفيه تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وفق ما تم الاتفاق عليه في مكة
4/2007
19
5/2007
46
مع دخول خطة داتيون حيز التنفيذ، وتعالي نذر الصيف الساخن لإسقاط حكومة الوحدة الوطنية وإقصاء حماس وتوجيه ضربة قاصمة لها.
6/2007
83
معارك الحسم الرئيسية في غزة
7/2007
3
النتيجة المباشرة والطبيعية للحسم في غزة
إن ما لا يمكن لأحد تجاهله بحسب الإحصائية السابقة وبحسب واقع الحال على الأرض هو أن الأمن قد استتب أخيراً في غزة وهو ما شهد به القاصي والداني، وهو الأمر المستهدف اليوم لما يحمل من تأثيرات خطيرة على مستقبل قيادة الشعب الفلسطيني، وهو ما نشهد نقيضه اليوم في الضفة بالرغم من كل المحاولات اليائسة للتعتيم على ما يجري هناك من عربدة وانفلات أمني بدأت "كرد فعل" لما حدث في غزة ولكنه سرعان ما اتضح أنه مخطط منهجي مبرمج للقضاء على وجود ونفوذ حماس في الضفة وعلى كل المستويات وفق خطة دايتون المعدلة.
الحسم...انقلاب أم إجهاض للانقلاب
وهذا عنوان لمقال في غاية الأهمية للمفكر الإسلامي الكبير فهمي هويدي والذي وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالحسم العسكري الذي جرى في غزة، وهو ما أكدته التقارير الصادرة عن مؤسسات إعلامية عربية ودولية، وتلك الصادرة عن أجهزة المخابرات العربية والدولية وحتى "الإسرائيلية"، وحول ما أثير حوله من لغط ومن محاولات لتوظيفه سياسياً في "الحرب العالمية" المعلنة على حماس اليوم يمكننا التأكيد على ما يلي:
* "الانقلاب على الشرعية" لم يكن واردا في قاموس حماس وبرامجها وهي التي كانت تتصدى لمحاولة الانقلاب على شرعيتها الانتخابية وعن شرعية قيادتها للحكومة طوال عام ونصف، فكيف بها إذا ما انقلبت على نفسها وفق ما تروج له رئاسة السلطة.
* ما كان مطروحاً في إطار الحسم هو التعامل مع رأس الأفعي فيما يتعلق بالانفلات الأمني وهو تكرار لما حدث قبيل اتفاق مكة حين أقدمت كتائب القسام على السيطرة على المقار الأمنية في شمال القطاع وهو ما أجبر رئاسة السلطة بالقبول بالذهاب إلى مكة وتوقيع الاتفاق هناك على مضض منهم ومن الحلف الصهيوأمريكي الذي رفض الاتفاق واعتبره اختراقا من حماس للحصار وإجهاضاً لمخططات إقصائها، وضغط باتجاه إجهاضه والعمل على إسقاطه على الأرض وبالقوة.
* لا يمكن لأحد أياً كان موقفه إنكار أن عملية الحسم كانت بامتياز عملية جراحية موضعية استباقية سريعة بالرغم مما شابها من تجاوزات هنا أوهناك، فلقد انحصر القتال بين تيار داخل الأجهزة الأمنية الرئيسية الوقائي والمخابرات العامة وحرس الرئاسة وبمستوى أقل الأمن الوطني بقيادة دحلان وعصابته، وبين كتائب القسام والقوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية من جهة أخرى، وقد تم تحييد الجسم الأساسي لحركة فتح في غزة، وتم تحييد العديد من قادة الأجهزة الأمنية ومنتسبيها مما بدد مخاوف الحرب الأهلية الشاملة التي كانت تدفع بها "إسرائيل" ومن تحالف معها والتي كانت التقارير تشير بأنها ستكون حمام دم يودي بحياة آلاف الضحايا، وهي التي لم يتورع أحد المسؤولين الأمريكيين وفي لقاء معه على شبكة CNN وفي إجابته على سؤال مؤداه أن ما يتم الإعداد له والتحريض عليه على الأرض سيتسبب في حرب أهلية فلسطينية طاحنة، حين قال إذا كان ثمن تحقيق "السلام" في المنطقة حربا أهلية فليكن؟!
* لقد توصلت لجنة التحقيق المكلفة من قبل الرئيس الفلسطيني في أحداث غزة إلى نتيجة مؤداها أن الأجهزة الأمنية كانت مخترقة من قبل حماس، وهو ما تسبب بتحييد معظم الأجهزة الأمنية وتسبب في السقوط السريع والمفاجئ للأجهزة الأمنية، وهو ذاته ما تحدثت به التقارير العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وبدليل أن المربع الأمني قد سقط دون شهداء وبدون رصاص بعد الانهيار التام للأجهزة الأمنية.
* الخطة التي كانت موضع التنفيذ في غزة من قبل التيار الإنقلابي في الأجهزة الأمنية وفي فتح كانت تهدف إلى تسخين الوضع الميداني عن طريق تأجيج الفلتان الأمني باتجاه صيف ساخن يشهد حرب استئصال شاملة ضد حماس، يتم بعدها فرض حالة طوارئ شاملة في غزة والضفة لإقصاء حماس بشكل نهائي وكامل من المشهد الفلسطيني، وهو ما تم تطبيقه في الضفة بعد أن تم إجهاض هذا التحرك في غزة بالحسم الاستباقي.
* تواترت التقارير بأن الحسم كان قرارا "غزيا" اتخذ على المستوى القيادي الشوري وفق الخطة العسكرية المقدمة من القيادة العسكرية للقسام، وأن الهدف المحدد للخطة كان الوقوف عند المربع الأمني والمنتدى مقر الرئيس الفلسطيني ومن ثم انتظار التدخلات والوساطات الفصائلية الفلسطينية والتحركات العربية لفض الاشتباك والتوصل لاتفاق يبعث الروح في الاتفاقيات الموقعة في القاهرة، ووثيقة الوفاق الوطني واتفاق مكة ويضعها من جديد موضع التنفيذ الفعلي بعيدا عن سطوة الأجهزة الأمنية المنفلتة بعد تحييدها.
* ما حدث ميدانيا هو أن الأحداث تدحرجت وفق تصريحات لمسؤولين مصريين في اللحظة الأخيرة في ظل الانهيار الكامل والسريع والمفاجئ للأجهزة الأمنية، وبروز حالة من الفوضى الشعبية باجتياح مجموعات من الأهالي لبعض المقرات داخل المنتدى الرئاسي ونهب محتوياتها، وبسبب مجموعة من الأحداث المتتالية التي تسببت في تأجيج حالة الاحتقان والغليان، وتجاوزت كل حدود الصبر لدى حماس :
* كان عدد شهداء حماس خلال فترة وقف إطلاق النار المعلن من حماس من جانب واحد قبيل الحسم قد وصل إلى 18 شهيد في مقابل 3 لفتح، وكانت الأحداث تنذر بتفاقم الأمر سريعا.
* في 10/6 تم إطلاق قذيفة على مجلس الوزراء خلال انعقاده، وإطلاق قذيفة على منزل رئيس الوزراء وتم إعدام الشيخ محمد الرفاتي أمام أبنائه، وتم إعدام ماهرعجور واختطاف أسرته من قبل آل بكر المدعومين من الأجهزة الأمنية، وتم إلقاء الشاب الملتحي حسام أبو قينص من الدور الخامس عشر لأحد الأبراج في جوار منتدى الرئاسة للاشتباه بانتمائه لحماس، وتم استهداف العديد من أبناء الحركة وأنصارها والمشتبه بتدينهم والتنكيل بهم، كما لم تسلم النساء من عمليات التنكيل، كما وتم استهداف العديد من المساجد وإطلاق النار عليها.
* حملة إحراق ونهب المنازل العائدة لأنصار الحركة في محيط مقر الأمن الوقائي في تل الإسلام "تل الهوى" بقيادة سميح المدهون والذي هدد عبر إذاعة الشباب التابعة لدحلان بإحراق المزيد والمزيد منها.
* حملة تشويه إعلامي شعواء كانت تشن ضد حماس وسط صمت مطبق لوسائل الإعلام العربية والدولية وصمت مريب للفصائل الفلسطينية وللدول العربية تجاه ما يجري على الأرض.
* لم يكن الحسم في جوهره محل اختلاف داخل حماس بين الداخل والخارج، ولم يكن لأحد الاعتراض عليه إذا ما تم وفق الضوابط المتفق عليها على مستوى أهدافه الميدانية، أو بالتحرك الإعلامي المصاحب له من قبل فضائية الأقصى والتي على أهمية الدور الذي قامت به في عرض الحقائق على الأرض في مواجهة حملة التشويه والتعتيم الإعلامي، إلا أنها تسببت في حالة من الحرج الشديد لحماس بسبب ما عرضته من تغطيات لبعض الأحداث مثل إعدام سميح المدهون ودخول مقر الرئاسة وبعض المشاهد مثل إنزال العلم الفلسطيني واستسلام بعض أفراد الأمن الوقائي وظهورهم بالملابس الداخلية أمام الشاشات.
* التحرك السياسي خلال الحسم كان متواصلا وقد تم التوصل مع الرئيس في المراحل النهائية إلي اتفاق النقاط الثماني لوقف إطلاق النار ووضع الترتيبات الأمنية والسياسية بعد أن بدا المشهد على الأرض متجها نحو الحسم، وقد فوض الرئيس الفلسطيني أحمد حلس للقيام بتنفيذ الاتفاق مع حماس.
* ميدانيا كان لا بد من حسم حالة الفوضى والسيطرة على كافة المقرات ووقف حالات النهب من قبل العوام للمقرات الرسمية، ذلك أنه بات من مسؤوليات حماس بعد انهيار الأجهزة الأمنية وسيطرتها على القطاع بشكل كامل.
* باتجاه الأحداث نحو الحسم الشامل وانقطاع سبل السياسة، وتحت ضغط الوفد الأمني المصري الذي طالب حماس بتأمين خروجه من القطاع بسلام بعد محاصرتهم وسط إطلاق النار، وتأمين من لجأ إليهم من قيادات عصابة دحلان في فتح والأجهزة الأمنية تم تأمين ذلك مع التحفظ على هذه القيادات للتحقيق معها ومن ثم تسليمهم لأبو ماهر حلس لاحقا وخروجهم مع الوفد الأمني المصري.
* لكي نضع الحسم في سياقه علينا أن نتصور لو ان خطة دايتون قد مضت إلى نهايتها وحققت أهدافها لا قدر الله وكانت الغلبة في المواجهة للأجهزة الأمنية المنفلتة، ولن نحتاج للتحليق بعيدا في خيالنا لأن ما حدث في الضفة من جرائم ما هو إلا تطبيق لذات الخطة الآثمة وكما صرح احد القادة الميدانيين في نابلس على تلفزيون السلطة بأنه قد أمر مرؤسيه باستهداف كل من يقول لا إله إلا الله في نابلس.
ما بعد الحسم ... تمايز الصفوف وتربص في مواجهة الأحزاب
ما أن انجلى غبار معركة الحسم، وأوصدت كل أبواب الحوار، ومع دخول الحلف الصهيوأمريكي على خط الأزمة لتعميق الانقسام الفلسطيني والدفع بأبي مازن نحو نقطة اللاعودة مع حماس، والضغط والتحريض لحشد العالم لعزل حماس في غزة وتشديد الحصار الشامل عليها والمباشرة بخطة ميدانية لإقصائها نهائيا من المشهد السياسي انطلاقا من الضفة عبر سلسلة من الإجراءات الفرمانات "القانونية" غير الدستورية، وعبر الملاحقة الأمنية المشتركة بين قوات الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية التي عادت للتنسيق الأمني المشؤوم مع الاحتلال، والتحضير لخطة التعامل مع حماس في غزة عبر إحكام الحصار الشامل وإثارة الفلتان الأمني والعصيان المدني في وجهها من جديد، وعن طريق التحضير لحملة عسكرية تستهدف ضربها عبر عمليات عسكرية إسرائيلية متصاعدة وصولا للاجتياح الاسرائيلي الشامل، وفي المقابل نجد أن حماس دخلت في مرحلة من التربص والانتظار لاستيعاب ما يمكن وصفه "بالهزات الإرتدادية" لزلزال الحسم في غزة، وقد باشرت بالعمل على تثبيت الأمن وأركان الإدارة الراشدة في غزة لبناء النموذج وبيان الفارق الشاسع بين مشروعي المقاومة والفوضى "الخلاقة"، باستعراض بعض المحطات المهمة ذات الدلالة خلال هذه المرحلة:
* الاختبار الحقيقي الأول لمعركة الحسم كان في اليوم التالي له مباشرة حين اجتمع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة لمناقشة الأحداث في ظل ضغط وتحريض أمريكي لإدانة حماس وتجريم فعلها ودعم أبو مازن بشكل كامل:
* ما حدث كان عميق الدلالة ففي حين لم تتم دعوة حماس للحضور وبات من السهل قراءة ما سيتمخض عنه اللقاء من منح أبومازن المدعوم بشكل كامل من الولايات المتحدة ومن "إسرائيل" تفويضا ودعما عربيا كاملا للتعامل مع "انقلاب" حماس، كانت المفاجأة أن وزراء خارجية عرب قد قاموا بالتنسيق مع حماس لعرض وجهة نظرها في المؤتمر ومن بينهم وزير خارجية عُمان.
* وبعد خطاب مطول لمدة ساعة لعزام الأحمد استعرض فيها رواية فتح للأحداث، ووسط تأييد أردني ومصري وإماراتي كانت المفاجأة من وزير خارجية قطر الذي انبرى للدفاع عن حماس كما تحدثت بعض التقارير الصحفية المتسربة عن الاجتماع داعياً للسماع من الطرفين والوقوف على مسافة متساوية منهما، متهما وزير الخارجية الإماراتي بترديد ما سمعه من الإسرائيليين مما تسبب بتوتير الأجواء، وانسحاب الوزير الإماراتي مغضباً، وتم إصدار بيان متوازن يدعو لتشكيل لجنة تحقيق عربية، تمهيداً للعمل على رأب الصدع والعودة للحوار وفق ما تم الاتفاق عليه سابقا في مكة، وتم الـتأكيد على دعم وتأييد شرعية الرئيس وشرعية المجلس التشريعي المنتخب معا.
* ومع هذا الانجاز بدأ شبح السيناريو الأسوأ المتمثل بحصار القطاع حصار إبادة، وبإهدار دم حماس بغطاء عربي كامل بالانجلاء شيئا فشيئا، وبات أبو مازن يبتعد بعدا عن الموقف العربي أكثر فأكثر باستقوائه وارتهانه لموقفه بالموقف الصهيوأمريكي، ومع فشل محاولات الأردن للتوسط مع السعودية لتغيير موقفها باتجاه إحكام الحصار، وفشل محاولات جمع العاهل السعودي بأبو مازن بسبب إصرار الأخير على رفض استئناف الحوار مع حماس.
* وقد ساهم في تعزيز ذلك الإنجاز ظهور أصوات معتبرة من داخل فتح تشرح حقيقة التيار الانقلابي في فتح وفي الأجهزة الأمنية وتبدي تأييدا لمعركة الحسم معه وتعتبر ما حدث إنجازا للشعب الفلسطيني، ومن بين هؤلاء هاني الحسن الذي التقى بالمسؤولين السعوديين وشرح ذلك على الملأ في وسائل الإعلام .
* ميدانيا بدا واضحا التناقض في واقع الأحداث في كل من الضفة وغزة ففي حين بدأت غزة تنعم بالهدوء والأمن بالرغم من كل مخاطر الحصار والتحرك العسكري الإسرائيلي وانسداد أي أفق لانفراج الأزمة الحادة، في حين ظهرت الضفة على أنها مسرح للفوضى والتصعيد الميداني من قبل قوات الاحتلال والأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة ضد حماس وأنصارها ومؤسساتها وضد المؤسسات الخيرية والاجتماعية التابعة للحركة الإسلامية.
- لقد تحقق التمايز على أرض الواقع بين مشروعين:
* أحدهما تقوده حماس في قيادة المقاومة وقيادة المشروع الوطني عبر الدعوة الدائمة للحوار والعودة للتفاهمات السابقة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب وأن ما تم من حسم في غزة إنما هو علاج إضطراري لمرض مزمن عانى منه الجسد الفلسطيني على مدى عمر السلطة الفلسطينية.
* بينما المشروع الآخر تقوده فتح صاحبة المشروع الوطني تاريخيا والتي تبنت خيار التسوية استراتيجيا ورهنت قرارها وأفق تحركها السياسي بالإملاءات الصهيوأمريكية وعلى قاعدة تأهيل نفسها كشريك فلسطيني في المشروع الصهيوأمريكي الهادف إلى تصفية القضية، معتبرة أن وضع الانقسام الداخلي الراهن، وحالة الحصار المطبق على حماس في غزة ما هو إلا فرصة ذهبية لإنجاز اتفاق سلام شامل مع العدو بعد إعادة إحياء موات عملية التسوية برعاية أمريكية.
- لقد تلقى المشروع الذي تقوده فتح ضربات متتالية قوضت كل أساساته:
* شطب المشروع وضربه فكريا عبر تقييم حصاد أوسلو المر والكارثي على القضية.
* كسر احتكار فتح للمؤسسات الشعبية والنقابية التي كانت تقدم لمشروعها الغطاء الشعبي.
* هزيمة المشروع سياسيا عبر الانتخابات التشريعية.
* هزيمة المشروع عسكريا في مواجهة الانفلات الأمني.
* تم توجيه ضربه قاصمة لعملية تأهيل فتح كشريك في المشروع الصهيوأمريكي، وبات العالم يعلم يقينا أنه لا أمل في إعادة بناء فتح، وأنها في طريقها للتحلل، لكنه مجبر على التعامل معها على ضعفها في غياب البديل، وبسبب عمق الأزمة التي يعيشها الطرفين الامريكي والإسرائيلي.
* وقوع فتح في مأزق أمام الشعب الفلسطيني والأمة في رفضها البات للحوار مع حماس، بينما بدت لاهثة وراء أي لقاء من العدو الصهيوني وحريصة على تقديم أوراق اعتمادها كشريك كامل في العملية "السلمية" عبر البوابة الامنية، وهو ما دفع الكثير من رجال الإعلام إلى التساؤل عن العدو الحقيقي لفتح اليوم هل هو "الإسرائيلي" الذي تعيش في حالة من التناغم غير المسبوق معه أم هو حماس الذي تشن عليها الرئاسة حربا شعواء قذرة بكل الوسائل متحالفة مع العدو الصهيوني ومستقوية بدعم الولايات المتحدة وحلفها الدولي تحت طائلة محاربة "الإرهاب" و"التطرف الإسلامي".
* في ظل هذا الوضع أصبح من الطبيعي فهم ما يقوم به التيار المسيطر على فتح في مؤسسة الرئاسة من محاولات يائسة للدفاع ليس عن مشروعه فحسب بل للدفاع عن وجوده.
* وبالمقابل فلا تراجع على الأرض عن أي إنجاز سياسي مع أي طرف له علاقات مع حماس بل تعزز ذلك على كل الأصعدة عبر دعم محور الممانعة والمقاومة المكون من إيران وسوريا والمقاومة اللبنانية، وعبر علاقات متميزة مع قطر، واليمن والسودان، وعبر تحييد نسبي لموقف مصر وهي الرئة التي تتنفس منها غزة حيث خففت من حدة مواقفها بعد تطمينات الحركة، والتقارير الأمنية المصرية التي أيدت مواقف حماس، والتي أبدت مخاوف من مخاطر إقصاء الحركة باتجاه مزيد من التطرف والعنف في المنطقة، وباتجاه المزيد من التأييد للقاعدة ونهجها في غزة، وكذلك دوليا عبر الموقف الروسي المتقدم بدعوتهم لعباس لترميم العلاقات الداخلية الفلسطينية قبل مؤتمر الخريف، وعبر تباين المواقف الأوروبية التي احتفظت العديد منها بصلاتها مع حماس، بل وإن وفودا أمريكية رسمية التقت بقيادة الحركة في دمشق، ولكن يبقى الحصار قائما بالرغم من ذلك نتيجة للضغط الأمريكي المباشر الذي عبرت عنه كونداليزا رايس بقولها أن كل دولار يصل ليد حماس في غزة يشكل خطرا على فرص تحقيق "السلام" في المنطقة.
* مع مرور الوقت الثمين تتعزز سيطرة حماس في غزة، ويظهر فشل وعجز فريق عباس في تحقيق أي إنجاز يذكر في سبيل تعزيز فرصه في البقاء، ويبقى تعويل هذا الفريق على العدو "الإسرائيلي" لحسم المعركة مع حماس عبر تشديد الحصار الشامل بإعلان "إسرائيل" غزة كيانا معاديا مما سيسمح لها بقطع الإمدادات الحيوية من وقود وماء وغذاء ودواء وكهرباء، وبالرغم من كل ما ما يحمله هذا الإعلان من مخاطر حقيقية إلا أنه يدلل على عمق الأزمة التي يمر بها الحلف الصهيوأمريكي في مواجهة حماس حيث أن هذا الإعلان ووفق الكثير من المحللين غير قابل للتطبيق العملي كونه يمثل عقوبات جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، كما وأن محللين إسرائيليين وصفوه بإنه مناقض للفكرة الصهيونية ويعد تراجعا حقيقيا عن مفهوم "أرض الميعاد"، كما وأنه يصعد الضغط على الدول العربية لدعم هذا الكيان المعادي وإمداده بأسباب الحياة، بالإضافة إلى إمكانية كونه مقدمة للقبول بعرض حماس لتوقيع هدنة حيث أن الهدنة لا تكون إلا مع كيان معادي، وليس مع فصيل أو حزب.
هاني البرقاوي
منذ الفوز الكاسح لحماس في الانتخابات الفلسطينية مطلع 2006 دخل المشهد السياسي الفلسطيني في مرحلة جديدة شديدة التعقيد عنوانها الاستقطاب الحاد بين فتح وحماس وشهدت دخول المؤثرات الخارجية بشكل مباشر وقوي عليه لتوجيهه بحسب مصالح الفرقاء المختلفين، ويمكن إرجاع هذا الوضع شديد الدقة إلى سببين رئيسيين:
الأول: هول حجم الزلزال السياسي المتمثل في نتائج الانتخابات الفلسطينية في الداخل والخارج وما تبعه من هزات ارتدادية – بلغة علم الزلازل- لم يكن آخرها عملية "الحسم في غزة" وتداعياتها الهائلة على المنطقة ومواقف الأطراف المختلفة منه فلسطينياً وعربياً ودولياً، وتولي الولايات المتحدة و"إسرائيل" زمام الأمور بإعلانها حالة استنفار قصوى للتعامل مع الحدث الجلل وتداعياته وضرورة "إصلاحه" بحسب الرؤية الصهيوأمريكية، وقد تم وضع العديد من الخطط العامة والتفصيلية لتحقيق ذلك ولم تكن خطة دايتون الشهيرة سوى إحداها.
أما الثاني: خلط الأوراق وإضفاء الضبابية وإثارة الشبهات حول مواقف حماس وإشعال الفتن في الساحة ومحاولة إرباك وإعادة صياغة الرأي العام الفلسطيني ومن ورائه الرأي العام العربي والإسلامي تجاه حماس بما تمثل من مشروع للمقاومة ضد العدو وضد مشاريع التسوية التي ضاعت القضية في تيهها منذ اتفاقيات أوسلو المشؤومة، وذلك لضمان إقصاء حماس والقضاء عليها وعلى مشروعها على الأرض وفي وجدان الأمة بشكل كامل.
لذلك فعندما نحاول هنا تجلية المشهد الفلسطيني ووضع النقاط على الحروف فلا بد لنا من رؤية الصورة الكلية الكاملة للواقع الفلسطيني قبل الخوض في التفاصيل الجزئية التي يعمد الإعلام بشكل عام اليوم التركيزعليها وتكبيرها بشكل تضيع معه الصورة الكلية للمشهد.
الأرقام تتكلم
بحثا عن مدلولات ما حدث في غزة من حسم عسكري فلنتوقف عند إحصائية بعدد ضحايا الاقتتال الفلسطيني الداخلي وهو الأمر الذي تسبب بإثارة الفزع في فلسطين وعموم العالم العربي والإسلامي خوفا على مستقبل القضية وجهاد الشعب الفلسطيني، وحرصا على المحافظة على نصاعة موقف حماس كما كان طوال سني أوسلو العجاف من العض على الجراح والصبر والمصابرة أمام ظلم "ذوي القربى" والثمن الغالي الذي دفعته في مقابل الحفاظ على حرمة الدم الفلسطيني كخط أحمر لم يكن من المسموح تجاوزه بحال من الأحوال، وهو – أي الاقتتال - هو ما هلل له العدو ومن ورائه حلفه الصهيوأمريكي وأنبرى لاستثماره وتأجيجه بغية الوصول للهدف النهائي بإقصاء حماس عن المشهد السياسي أو احتوائها فيه، وهنا تبرز أهمية الأرقام واضحة الدلالة
الشهر
عدد الضحايا
1/2007
63
2/2007
35
شهد هذا الشهر توقيع اتفاق مكة
3/2007
19
وفيه تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وفق ما تم الاتفاق عليه في مكة
4/2007
19
5/2007
46
مع دخول خطة داتيون حيز التنفيذ، وتعالي نذر الصيف الساخن لإسقاط حكومة الوحدة الوطنية وإقصاء حماس وتوجيه ضربة قاصمة لها.
6/2007
83
معارك الحسم الرئيسية في غزة
7/2007
3
النتيجة المباشرة والطبيعية للحسم في غزة
إن ما لا يمكن لأحد تجاهله بحسب الإحصائية السابقة وبحسب واقع الحال على الأرض هو أن الأمن قد استتب أخيراً في غزة وهو ما شهد به القاصي والداني، وهو الأمر المستهدف اليوم لما يحمل من تأثيرات خطيرة على مستقبل قيادة الشعب الفلسطيني، وهو ما نشهد نقيضه اليوم في الضفة بالرغم من كل المحاولات اليائسة للتعتيم على ما يجري هناك من عربدة وانفلات أمني بدأت "كرد فعل" لما حدث في غزة ولكنه سرعان ما اتضح أنه مخطط منهجي مبرمج للقضاء على وجود ونفوذ حماس في الضفة وعلى كل المستويات وفق خطة دايتون المعدلة.
الحسم...انقلاب أم إجهاض للانقلاب
وهذا عنوان لمقال في غاية الأهمية للمفكر الإسلامي الكبير فهمي هويدي والذي وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالحسم العسكري الذي جرى في غزة، وهو ما أكدته التقارير الصادرة عن مؤسسات إعلامية عربية ودولية، وتلك الصادرة عن أجهزة المخابرات العربية والدولية وحتى "الإسرائيلية"، وحول ما أثير حوله من لغط ومن محاولات لتوظيفه سياسياً في "الحرب العالمية" المعلنة على حماس اليوم يمكننا التأكيد على ما يلي:
* "الانقلاب على الشرعية" لم يكن واردا في قاموس حماس وبرامجها وهي التي كانت تتصدى لمحاولة الانقلاب على شرعيتها الانتخابية وعن شرعية قيادتها للحكومة طوال عام ونصف، فكيف بها إذا ما انقلبت على نفسها وفق ما تروج له رئاسة السلطة.
* ما كان مطروحاً في إطار الحسم هو التعامل مع رأس الأفعي فيما يتعلق بالانفلات الأمني وهو تكرار لما حدث قبيل اتفاق مكة حين أقدمت كتائب القسام على السيطرة على المقار الأمنية في شمال القطاع وهو ما أجبر رئاسة السلطة بالقبول بالذهاب إلى مكة وتوقيع الاتفاق هناك على مضض منهم ومن الحلف الصهيوأمريكي الذي رفض الاتفاق واعتبره اختراقا من حماس للحصار وإجهاضاً لمخططات إقصائها، وضغط باتجاه إجهاضه والعمل على إسقاطه على الأرض وبالقوة.
* لا يمكن لأحد أياً كان موقفه إنكار أن عملية الحسم كانت بامتياز عملية جراحية موضعية استباقية سريعة بالرغم مما شابها من تجاوزات هنا أوهناك، فلقد انحصر القتال بين تيار داخل الأجهزة الأمنية الرئيسية الوقائي والمخابرات العامة وحرس الرئاسة وبمستوى أقل الأمن الوطني بقيادة دحلان وعصابته، وبين كتائب القسام والقوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية من جهة أخرى، وقد تم تحييد الجسم الأساسي لحركة فتح في غزة، وتم تحييد العديد من قادة الأجهزة الأمنية ومنتسبيها مما بدد مخاوف الحرب الأهلية الشاملة التي كانت تدفع بها "إسرائيل" ومن تحالف معها والتي كانت التقارير تشير بأنها ستكون حمام دم يودي بحياة آلاف الضحايا، وهي التي لم يتورع أحد المسؤولين الأمريكيين وفي لقاء معه على شبكة CNN وفي إجابته على سؤال مؤداه أن ما يتم الإعداد له والتحريض عليه على الأرض سيتسبب في حرب أهلية فلسطينية طاحنة، حين قال إذا كان ثمن تحقيق "السلام" في المنطقة حربا أهلية فليكن؟!
* لقد توصلت لجنة التحقيق المكلفة من قبل الرئيس الفلسطيني في أحداث غزة إلى نتيجة مؤداها أن الأجهزة الأمنية كانت مخترقة من قبل حماس، وهو ما تسبب بتحييد معظم الأجهزة الأمنية وتسبب في السقوط السريع والمفاجئ للأجهزة الأمنية، وهو ذاته ما تحدثت به التقارير العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وبدليل أن المربع الأمني قد سقط دون شهداء وبدون رصاص بعد الانهيار التام للأجهزة الأمنية.
* الخطة التي كانت موضع التنفيذ في غزة من قبل التيار الإنقلابي في الأجهزة الأمنية وفي فتح كانت تهدف إلى تسخين الوضع الميداني عن طريق تأجيج الفلتان الأمني باتجاه صيف ساخن يشهد حرب استئصال شاملة ضد حماس، يتم بعدها فرض حالة طوارئ شاملة في غزة والضفة لإقصاء حماس بشكل نهائي وكامل من المشهد الفلسطيني، وهو ما تم تطبيقه في الضفة بعد أن تم إجهاض هذا التحرك في غزة بالحسم الاستباقي.
* تواترت التقارير بأن الحسم كان قرارا "غزيا" اتخذ على المستوى القيادي الشوري وفق الخطة العسكرية المقدمة من القيادة العسكرية للقسام، وأن الهدف المحدد للخطة كان الوقوف عند المربع الأمني والمنتدى مقر الرئيس الفلسطيني ومن ثم انتظار التدخلات والوساطات الفصائلية الفلسطينية والتحركات العربية لفض الاشتباك والتوصل لاتفاق يبعث الروح في الاتفاقيات الموقعة في القاهرة، ووثيقة الوفاق الوطني واتفاق مكة ويضعها من جديد موضع التنفيذ الفعلي بعيدا عن سطوة الأجهزة الأمنية المنفلتة بعد تحييدها.
* ما حدث ميدانيا هو أن الأحداث تدحرجت وفق تصريحات لمسؤولين مصريين في اللحظة الأخيرة في ظل الانهيار الكامل والسريع والمفاجئ للأجهزة الأمنية، وبروز حالة من الفوضى الشعبية باجتياح مجموعات من الأهالي لبعض المقرات داخل المنتدى الرئاسي ونهب محتوياتها، وبسبب مجموعة من الأحداث المتتالية التي تسببت في تأجيج حالة الاحتقان والغليان، وتجاوزت كل حدود الصبر لدى حماس :
* كان عدد شهداء حماس خلال فترة وقف إطلاق النار المعلن من حماس من جانب واحد قبيل الحسم قد وصل إلى 18 شهيد في مقابل 3 لفتح، وكانت الأحداث تنذر بتفاقم الأمر سريعا.
* في 10/6 تم إطلاق قذيفة على مجلس الوزراء خلال انعقاده، وإطلاق قذيفة على منزل رئيس الوزراء وتم إعدام الشيخ محمد الرفاتي أمام أبنائه، وتم إعدام ماهرعجور واختطاف أسرته من قبل آل بكر المدعومين من الأجهزة الأمنية، وتم إلقاء الشاب الملتحي حسام أبو قينص من الدور الخامس عشر لأحد الأبراج في جوار منتدى الرئاسة للاشتباه بانتمائه لحماس، وتم استهداف العديد من أبناء الحركة وأنصارها والمشتبه بتدينهم والتنكيل بهم، كما لم تسلم النساء من عمليات التنكيل، كما وتم استهداف العديد من المساجد وإطلاق النار عليها.
* حملة إحراق ونهب المنازل العائدة لأنصار الحركة في محيط مقر الأمن الوقائي في تل الإسلام "تل الهوى" بقيادة سميح المدهون والذي هدد عبر إذاعة الشباب التابعة لدحلان بإحراق المزيد والمزيد منها.
* حملة تشويه إعلامي شعواء كانت تشن ضد حماس وسط صمت مطبق لوسائل الإعلام العربية والدولية وصمت مريب للفصائل الفلسطينية وللدول العربية تجاه ما يجري على الأرض.
* لم يكن الحسم في جوهره محل اختلاف داخل حماس بين الداخل والخارج، ولم يكن لأحد الاعتراض عليه إذا ما تم وفق الضوابط المتفق عليها على مستوى أهدافه الميدانية، أو بالتحرك الإعلامي المصاحب له من قبل فضائية الأقصى والتي على أهمية الدور الذي قامت به في عرض الحقائق على الأرض في مواجهة حملة التشويه والتعتيم الإعلامي، إلا أنها تسببت في حالة من الحرج الشديد لحماس بسبب ما عرضته من تغطيات لبعض الأحداث مثل إعدام سميح المدهون ودخول مقر الرئاسة وبعض المشاهد مثل إنزال العلم الفلسطيني واستسلام بعض أفراد الأمن الوقائي وظهورهم بالملابس الداخلية أمام الشاشات.
* التحرك السياسي خلال الحسم كان متواصلا وقد تم التوصل مع الرئيس في المراحل النهائية إلي اتفاق النقاط الثماني لوقف إطلاق النار ووضع الترتيبات الأمنية والسياسية بعد أن بدا المشهد على الأرض متجها نحو الحسم، وقد فوض الرئيس الفلسطيني أحمد حلس للقيام بتنفيذ الاتفاق مع حماس.
* ميدانيا كان لا بد من حسم حالة الفوضى والسيطرة على كافة المقرات ووقف حالات النهب من قبل العوام للمقرات الرسمية، ذلك أنه بات من مسؤوليات حماس بعد انهيار الأجهزة الأمنية وسيطرتها على القطاع بشكل كامل.
* باتجاه الأحداث نحو الحسم الشامل وانقطاع سبل السياسة، وتحت ضغط الوفد الأمني المصري الذي طالب حماس بتأمين خروجه من القطاع بسلام بعد محاصرتهم وسط إطلاق النار، وتأمين من لجأ إليهم من قيادات عصابة دحلان في فتح والأجهزة الأمنية تم تأمين ذلك مع التحفظ على هذه القيادات للتحقيق معها ومن ثم تسليمهم لأبو ماهر حلس لاحقا وخروجهم مع الوفد الأمني المصري.
* لكي نضع الحسم في سياقه علينا أن نتصور لو ان خطة دايتون قد مضت إلى نهايتها وحققت أهدافها لا قدر الله وكانت الغلبة في المواجهة للأجهزة الأمنية المنفلتة، ولن نحتاج للتحليق بعيدا في خيالنا لأن ما حدث في الضفة من جرائم ما هو إلا تطبيق لذات الخطة الآثمة وكما صرح احد القادة الميدانيين في نابلس على تلفزيون السلطة بأنه قد أمر مرؤسيه باستهداف كل من يقول لا إله إلا الله في نابلس.
ما بعد الحسم ... تمايز الصفوف وتربص في مواجهة الأحزاب
ما أن انجلى غبار معركة الحسم، وأوصدت كل أبواب الحوار، ومع دخول الحلف الصهيوأمريكي على خط الأزمة لتعميق الانقسام الفلسطيني والدفع بأبي مازن نحو نقطة اللاعودة مع حماس، والضغط والتحريض لحشد العالم لعزل حماس في غزة وتشديد الحصار الشامل عليها والمباشرة بخطة ميدانية لإقصائها نهائيا من المشهد السياسي انطلاقا من الضفة عبر سلسلة من الإجراءات الفرمانات "القانونية" غير الدستورية، وعبر الملاحقة الأمنية المشتركة بين قوات الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية التي عادت للتنسيق الأمني المشؤوم مع الاحتلال، والتحضير لخطة التعامل مع حماس في غزة عبر إحكام الحصار الشامل وإثارة الفلتان الأمني والعصيان المدني في وجهها من جديد، وعن طريق التحضير لحملة عسكرية تستهدف ضربها عبر عمليات عسكرية إسرائيلية متصاعدة وصولا للاجتياح الاسرائيلي الشامل، وفي المقابل نجد أن حماس دخلت في مرحلة من التربص والانتظار لاستيعاب ما يمكن وصفه "بالهزات الإرتدادية" لزلزال الحسم في غزة، وقد باشرت بالعمل على تثبيت الأمن وأركان الإدارة الراشدة في غزة لبناء النموذج وبيان الفارق الشاسع بين مشروعي المقاومة والفوضى "الخلاقة"، باستعراض بعض المحطات المهمة ذات الدلالة خلال هذه المرحلة:
* الاختبار الحقيقي الأول لمعركة الحسم كان في اليوم التالي له مباشرة حين اجتمع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة لمناقشة الأحداث في ظل ضغط وتحريض أمريكي لإدانة حماس وتجريم فعلها ودعم أبو مازن بشكل كامل:
* ما حدث كان عميق الدلالة ففي حين لم تتم دعوة حماس للحضور وبات من السهل قراءة ما سيتمخض عنه اللقاء من منح أبومازن المدعوم بشكل كامل من الولايات المتحدة ومن "إسرائيل" تفويضا ودعما عربيا كاملا للتعامل مع "انقلاب" حماس، كانت المفاجأة أن وزراء خارجية عرب قد قاموا بالتنسيق مع حماس لعرض وجهة نظرها في المؤتمر ومن بينهم وزير خارجية عُمان.
* وبعد خطاب مطول لمدة ساعة لعزام الأحمد استعرض فيها رواية فتح للأحداث، ووسط تأييد أردني ومصري وإماراتي كانت المفاجأة من وزير خارجية قطر الذي انبرى للدفاع عن حماس كما تحدثت بعض التقارير الصحفية المتسربة عن الاجتماع داعياً للسماع من الطرفين والوقوف على مسافة متساوية منهما، متهما وزير الخارجية الإماراتي بترديد ما سمعه من الإسرائيليين مما تسبب بتوتير الأجواء، وانسحاب الوزير الإماراتي مغضباً، وتم إصدار بيان متوازن يدعو لتشكيل لجنة تحقيق عربية، تمهيداً للعمل على رأب الصدع والعودة للحوار وفق ما تم الاتفاق عليه سابقا في مكة، وتم الـتأكيد على دعم وتأييد شرعية الرئيس وشرعية المجلس التشريعي المنتخب معا.
* ومع هذا الانجاز بدأ شبح السيناريو الأسوأ المتمثل بحصار القطاع حصار إبادة، وبإهدار دم حماس بغطاء عربي كامل بالانجلاء شيئا فشيئا، وبات أبو مازن يبتعد بعدا عن الموقف العربي أكثر فأكثر باستقوائه وارتهانه لموقفه بالموقف الصهيوأمريكي، ومع فشل محاولات الأردن للتوسط مع السعودية لتغيير موقفها باتجاه إحكام الحصار، وفشل محاولات جمع العاهل السعودي بأبو مازن بسبب إصرار الأخير على رفض استئناف الحوار مع حماس.
* وقد ساهم في تعزيز ذلك الإنجاز ظهور أصوات معتبرة من داخل فتح تشرح حقيقة التيار الانقلابي في فتح وفي الأجهزة الأمنية وتبدي تأييدا لمعركة الحسم معه وتعتبر ما حدث إنجازا للشعب الفلسطيني، ومن بين هؤلاء هاني الحسن الذي التقى بالمسؤولين السعوديين وشرح ذلك على الملأ في وسائل الإعلام .
* ميدانيا بدا واضحا التناقض في واقع الأحداث في كل من الضفة وغزة ففي حين بدأت غزة تنعم بالهدوء والأمن بالرغم من كل مخاطر الحصار والتحرك العسكري الإسرائيلي وانسداد أي أفق لانفراج الأزمة الحادة، في حين ظهرت الضفة على أنها مسرح للفوضى والتصعيد الميداني من قبل قوات الاحتلال والأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة ضد حماس وأنصارها ومؤسساتها وضد المؤسسات الخيرية والاجتماعية التابعة للحركة الإسلامية.
- لقد تحقق التمايز على أرض الواقع بين مشروعين:
* أحدهما تقوده حماس في قيادة المقاومة وقيادة المشروع الوطني عبر الدعوة الدائمة للحوار والعودة للتفاهمات السابقة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب وأن ما تم من حسم في غزة إنما هو علاج إضطراري لمرض مزمن عانى منه الجسد الفلسطيني على مدى عمر السلطة الفلسطينية.
* بينما المشروع الآخر تقوده فتح صاحبة المشروع الوطني تاريخيا والتي تبنت خيار التسوية استراتيجيا ورهنت قرارها وأفق تحركها السياسي بالإملاءات الصهيوأمريكية وعلى قاعدة تأهيل نفسها كشريك فلسطيني في المشروع الصهيوأمريكي الهادف إلى تصفية القضية، معتبرة أن وضع الانقسام الداخلي الراهن، وحالة الحصار المطبق على حماس في غزة ما هو إلا فرصة ذهبية لإنجاز اتفاق سلام شامل مع العدو بعد إعادة إحياء موات عملية التسوية برعاية أمريكية.
- لقد تلقى المشروع الذي تقوده فتح ضربات متتالية قوضت كل أساساته:
* شطب المشروع وضربه فكريا عبر تقييم حصاد أوسلو المر والكارثي على القضية.
* كسر احتكار فتح للمؤسسات الشعبية والنقابية التي كانت تقدم لمشروعها الغطاء الشعبي.
* هزيمة المشروع سياسيا عبر الانتخابات التشريعية.
* هزيمة المشروع عسكريا في مواجهة الانفلات الأمني.
* تم توجيه ضربه قاصمة لعملية تأهيل فتح كشريك في المشروع الصهيوأمريكي، وبات العالم يعلم يقينا أنه لا أمل في إعادة بناء فتح، وأنها في طريقها للتحلل، لكنه مجبر على التعامل معها على ضعفها في غياب البديل، وبسبب عمق الأزمة التي يعيشها الطرفين الامريكي والإسرائيلي.
* وقوع فتح في مأزق أمام الشعب الفلسطيني والأمة في رفضها البات للحوار مع حماس، بينما بدت لاهثة وراء أي لقاء من العدو الصهيوني وحريصة على تقديم أوراق اعتمادها كشريك كامل في العملية "السلمية" عبر البوابة الامنية، وهو ما دفع الكثير من رجال الإعلام إلى التساؤل عن العدو الحقيقي لفتح اليوم هل هو "الإسرائيلي" الذي تعيش في حالة من التناغم غير المسبوق معه أم هو حماس الذي تشن عليها الرئاسة حربا شعواء قذرة بكل الوسائل متحالفة مع العدو الصهيوني ومستقوية بدعم الولايات المتحدة وحلفها الدولي تحت طائلة محاربة "الإرهاب" و"التطرف الإسلامي".
* في ظل هذا الوضع أصبح من الطبيعي فهم ما يقوم به التيار المسيطر على فتح في مؤسسة الرئاسة من محاولات يائسة للدفاع ليس عن مشروعه فحسب بل للدفاع عن وجوده.
* وبالمقابل فلا تراجع على الأرض عن أي إنجاز سياسي مع أي طرف له علاقات مع حماس بل تعزز ذلك على كل الأصعدة عبر دعم محور الممانعة والمقاومة المكون من إيران وسوريا والمقاومة اللبنانية، وعبر علاقات متميزة مع قطر، واليمن والسودان، وعبر تحييد نسبي لموقف مصر وهي الرئة التي تتنفس منها غزة حيث خففت من حدة مواقفها بعد تطمينات الحركة، والتقارير الأمنية المصرية التي أيدت مواقف حماس، والتي أبدت مخاوف من مخاطر إقصاء الحركة باتجاه مزيد من التطرف والعنف في المنطقة، وباتجاه المزيد من التأييد للقاعدة ونهجها في غزة، وكذلك دوليا عبر الموقف الروسي المتقدم بدعوتهم لعباس لترميم العلاقات الداخلية الفلسطينية قبل مؤتمر الخريف، وعبر تباين المواقف الأوروبية التي احتفظت العديد منها بصلاتها مع حماس، بل وإن وفودا أمريكية رسمية التقت بقيادة الحركة في دمشق، ولكن يبقى الحصار قائما بالرغم من ذلك نتيجة للضغط الأمريكي المباشر الذي عبرت عنه كونداليزا رايس بقولها أن كل دولار يصل ليد حماس في غزة يشكل خطرا على فرص تحقيق "السلام" في المنطقة.
* مع مرور الوقت الثمين تتعزز سيطرة حماس في غزة، ويظهر فشل وعجز فريق عباس في تحقيق أي إنجاز يذكر في سبيل تعزيز فرصه في البقاء، ويبقى تعويل هذا الفريق على العدو "الإسرائيلي" لحسم المعركة مع حماس عبر تشديد الحصار الشامل بإعلان "إسرائيل" غزة كيانا معاديا مما سيسمح لها بقطع الإمدادات الحيوية من وقود وماء وغذاء ودواء وكهرباء، وبالرغم من كل ما ما يحمله هذا الإعلان من مخاطر حقيقية إلا أنه يدلل على عمق الأزمة التي يمر بها الحلف الصهيوأمريكي في مواجهة حماس حيث أن هذا الإعلان ووفق الكثير من المحللين غير قابل للتطبيق العملي كونه يمثل عقوبات جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، كما وأن محللين إسرائيليين وصفوه بإنه مناقض للفكرة الصهيونية ويعد تراجعا حقيقيا عن مفهوم "أرض الميعاد"، كما وأنه يصعد الضغط على الدول العربية لدعم هذا الكيان المعادي وإمداده بأسباب الحياة، بالإضافة إلى إمكانية كونه مقدمة للقبول بعرض حماس لتوقيع هدنة حيث أن الهدنة لا تكون إلا مع كيان معادي، وليس مع فصيل أو حزب.