ابو حسين
09-08-2007, 04:56 PM
إلى أهالي نهر البارد.. إلى اللاجئين مرّتين
أسعد أبو خليل*
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
04/09/2007 07:59
كذابون، نحن. لا تصدّقونا. متملّقون، نحن. لا تثقوا بنا. صغار النفوس، نحن. ننحني أمام القويّ المسلّح، ونعتدي على الفقير الأعزل. أما رأيتم هؤلاء الذين هتفوا لاستخبارات النظام السوري عندما كان جيش سوريا في لبنان، واكتشفوا غياب الديموقراطية في سوريا فقط بعد خروج جيشها من لبنان؟ هذا هو لبنان - لبنان الذي لا تسمح شاشة الـ«إل.بي.سي» برؤيته. نحن نطيع قامعينا، ونحلم بالبطولة في مسرحيات مملّة وفارغة يتقنها منصور الرحباني أكثر من غيره. نشهر سيوفاً كرتونية عندما يولي العدو أدباره، بعدما كنّا نكيل له المديح. أمّا مقاومونا، فنشوّه صورهم، ونطليها بالدهان. بطولات ثوار الحرية في لبنان انحصرت في ضرب بائعي الكعك من السوريين، وفي قتل عمال سوريين أبرياء.
تاريخنا بشع، وحاضرنا أبشع. وعندما كنا نهتف «كلنا فدائيون» (مات المخرج الشهم غاري غربتيان - هل يعده أمين الجميل من الطارئين؟ - أثناء تصوير فيلمه «كلّنا فدائيون» في الستينيات) في تظاهرات الستينيات وأوائل السبعينيات، لم نعنِ الهتاف. لم نعنِ كلمة. كنّا نقصد «كلنا كتائبيون». «كلنا طائفيون». «كلنا عنصريون». عندما كنا نناصر فلسطين، أو كنا ندّعي مناصرتها، في تظاهرات صاخبة، كنا نحاول تحسين مواقعنا الطائفية. بعضنا انخرط في صفوف منظمات فلسطينية وبعضنا مات من أجل فلسطين، والأكثرية دخلت في اللعبة لأهداف لا علاقة لها بتحرير فلسطين. البعض بنى ثروات من قضيتكم، والبعض وسّع قصوره من قضيتكم، والبعض الآخر قبض أثماناً من إسرائيل لِما فعله بكم. والبعض الأخير انضم الى منظماتكم ليسترق السمع على محادثاتكم لتقديم تقارير مفصلة لاستخبارات سلالات النفط. بعض هؤلاء تحوّل الى سياسيين مرموقين، وهم يتحدثون عن ماضيهم من دون خجل. وبعض من انضوى إلى صفوف المنظمات الفلسطينية وركب على ظهرها يعتبر اليوم عبارة «تحرير فلسطين» لغة خشبية فات زمانها الغابر.
ماذا نقول لكم: خدعناكم وصدّقتمونا. خذلناكم، وغفرتم لنا لا لشيء بل لأنكم عنيتم كلمات الصداقة والأخوة بينما كنا نحن نفعل ما نجيد: كذب ومراوغة وخداع. كل ما قلناه عن فلسطين، لم نقصد منه كلمة واحدة. كنا نمزح: حاولنا أن نحسّن مواقعنا الطائفية، كل من زاوية، وفي الطائفية نجتمع نحن اللبنانيين المختلفين على كل شيء آخر. فقط في الطائفية وفي الهتاف لزعمائنا الطائفيين، نتّحد - متفرّقين ومتقوقعين.
أهالي نهر البارد اللاجئين مرّتين، ماذا عسانا نقول لكم ونحن على أعتاب ذكرى أخرى لمجزرة صبرا وشاتيلا. لن تلاحظوا الذكرى في الإعلام. لا تقلّبوا الأقنية. لن تجدوا شيئاً عنهم. المسلسلات ستطغى، وما هو أسوأ من المسلسلات. سنبكي ضحايا المجزرة بصمت. سنجلس في زاوية في غرفة، ونتذكّرهم، هؤلاء الذين واللواتي قُتلوا في أثواب النوم. قابلت واحدة من الناجين من المخيم قبل سنة. كانت طفلة صغيرة آنذاك. وجدوها بعد أيام من المجزرة مختبئة تحت سرير. كانت تعاني، طبعاً، نفسياً وصحياً. ظنوا أنها جيفة. رأتهم. شاهدتهم واحداً واحداً يغتصبون أمها ويتناوبون في اغتصابها، قبل أن يقطّعوها إربا إربا، أمام أعين الطفلة المختبئة تحت السرير. هي تتذكر. لم أسألها ما إذا كانت تتبيّن ملامح بعضهم في نواب لبنان. لم أسألها أن تشير إليهم بالبنان. نحن ننسى. لا نريد أن نتذكر. حوّلنا قائد ميليشيا المغتصبين نفسها الى زعيم وطني يُطرح اسمه في بازار الترشيحات الرئاسية.
أحذّركم. لا تشاهدوا التلفاز (أو المرناة كما كان يفضل الشيخ عبد الله العلايلي) في ذكرى المجزرة. قاطعوا التلفاز في ذلك اليوم. ستتألّمون أكثر. سيستفزّونكم في جروحكم وندوبكم. سيصبّون حامضاً وخلّاً فوق جراحكم العميقة، وسيضحكون وهم يدخنون السيجار (اخترع اللبنانيون كذبة مفادها أن أعلى نسبة لتدخين السيجار هي في لبنان - يرون في تدخين السيجار حضارة ما بعدها حضارة). سيبحثون عن آثار الشظايا في أجسادكم ليرشّوها بماء النار.
في الذكرى الأخيرة لمجزرة بوسطة عين الرمانة، زوّروا التاريخ. لاموا الضحايا. جعلوهم، وهم كانوا مدنيين، إرهابيين. قالوا إن ركاب البوسطة الأبرياء أشعلوا حرباً أهليةً. وقتلة الركاب، حوّلوهم الى أبطال. تماماً كما تفعل إسرائيل بضحاياها من المدنيين والمدنيات من شعب فلسطين. ستطغى على ذكرى صبرا وشاتيلا هذا العام ذكرى اغتيال مرشح إسرائيل للرئاسة في لبنان. هذا الذي نُصّب من قبل إسرائيل رئيساً كان يصارح المراسلين الأجانب بنيّاته. كان يقول إن المخيمات يجب أن تصبح إما حدائق للحيوانات وإما ملاعب «تنس». هذا الذي كان يضع جماجم من ضحاياكم في صندوق سيارته، للتباهي. جماجم ضحاياكم، يا أهل المخيمات. ضحاياكم أنتم، يا أهل المخيمات في لبنان، ماتوا بصمت، ودُفنوا بصمت. لم تُقم لهم أنصاب، ولم تُعلّق صورهم على الجدران. ضحاياكم يا أهل فلسطين في لبنان لا يملكون المليارات ولن يخلّدهم وزير الاتصالات في طوابع بريدية تذكارية. ضحاياكم البريئة، المدنيين والمدنيات في البارد الذين لم يلتقوا بشاكر العبسي في حياتهم الشاقة، ماتوا في الوقت الذي كان فيه أحمد فتفت - ما غيره - يصرّ على أن مدنياً واحداً فقط مات في مخيم نهر البارد.
أهالي نهر البارد… وأنتم تتدثّرون ببطانيات سعودية وحريرية في البداوي، أتشعرون برغبة شديدة في التقيّؤ؟ أتنتابكم نوبات دورية من القرف الشديد؟ وعندما يأتي تيار المستقبل بمعوناته الغذائية لكم هل يذكّركم طعمها بالغثيان؟ أتأكلون الغثيان عندما تستيقظون في صباح البداوي؟ أتقتاتون على بقايا ذكرى التأييد الشعبي اللبناني لثورة فلسطين؟ ضحاياكم ماتوا في البارد في الوقت الذي كان فيه الشعب اللبناني يأخذ على الجيش اللبناني رأفته بكم. لم يدكّوا المخيم بما في الكفاية، قالوا. لو كان الأمر بيد الطوائف في لبنان، لرحّلوا جثث ضحاياكم تحت شعار منع التوطين. لو كان الأمر بيدهم، ولو تسنّى لهم نزع سلاحكم، لوضعوكم في مكب النورماندي، ومن دون تأنيب ضمير. هم يعتقدون أنهم متفوّقون جينياً عليكم.
أهالي نهر البارد... ماذا نقول لكم وأنتم ترون بأمّ العين تدمير مخيّم كامل، وتسمعون هتافات اللبنانيين في المعارضة والموالاة مطالبين بالدم. أتشعرون بالحيرة أم بالغضب وأنتم تدفعون ثمن عصابة زُرعت في مخيمكم من دون إرادتكم؟ الأمر لهم، لا لكم في حياتكم وفي مماتكم. أنتم ضحايا مرّتين، مرّة من جرّاء احتلال فلسطين (كل فلسطين إذ إن فلسطينكم أنتم وهي خارج الضفة والقطاع مُحيت من الخرائط ومن خطط السلام - يا سلام سلّم)، ومرة أخرى لِما ذقتم في لبنان من معاناة ومن قتل ومن تعذيب.
أعلم أنّهم يلومونكم في كل شيء، كما يلومون «السوري» اليوم. أتشعرون بالقهر لخطابهم الخالي من لوم الإسرائيلي؟ أتتقزّزون عندما تسمعون ساسة لبنان يتحدّثون وبقرف شديد عن «السوري والفلسطيني»؟ أما الإسرائيلي فهو «جار».
أتشعرون بالإحباط عندما يعذّبونكم ويقتلونكم، ثم يصرّحون بحرصهم على مصلحة الشعب الفلسطيني في لبنان؟ سيلومونكم أيضاً لخسارة سياحة الدعارة في بلدهم هذا الصيف، وهم يرون فيها قضية تفوق أهمية الدفاع عن أرض لبنان من اعتداءات اسرائيل المتكررة. لاحظوا أنهم لا يتهمون «السعودي» على الرغم من تورّط بعض السعوديين في «فتح الإسلام». طبعاً، هم عنصريون ضد «السعودي» لكنهم لا يجرؤون على المجاهرة. الدولار يطغى هنا.
أهالي مخيم نهر البارد… تعلّموا الدرس. يجب على كل الفلسطينيين والفلسطينيات في لبنان تعلّم الدرس. خذوا عظات من تاريخ الحرب الأهلية ومن تقلّباتها. لا تأمنوا لنا جانباً، ولا تثقوا بوعودنا. لا تديروا ظهوركم لنا قط. قد نطعنكم في الظهر، ونحن ماهرون في رياضة الطعن بالظهر، وخصوصاً ضد الفقراء. ألم تروا «ثوار» الأرز يضربون ويطعنون بائعي الكعك في لبنان؟ نريدكم عزّلاً من السلاح ليسهل علينا اقتلاعكم وقهركم وقتلكم كلما دعت الحاجة. نتذكر كيف عوملتم قبل امتشاق السلاح، وقبل اندلاع الثورة الفلسطينية وقبل «تجاوزات» أبو الزعيم والعصابات التي زرعها عرفات وزرعتها بعض الأنظمة العربية بيننا وبينكم، وإن كان اللبنانيون من أبطال التجاوزات آنذاك، لكننا لا نتذكر إلا تجاوزاتكم أنتم.
أهالي المخيمات... لا تثقوا بتطمينات تأتيكم. لا يعملون لأجلكم - كذبوا. يعملون ضدكم ومن أجل مخطط لم يرسموه هم، وإنما رسمه أعداؤكم أنتم. ما هم إلا منفذون.
أهالي المخيمات، نتذكر كيف عوملتم وأنتم عُزّل. نتذكر كيف عوملتم أيّام «الإصلاحي» فؤاد شهاب عندما كان الجنود في أيام المكتب الثاني (لم يذكر نقولا ناصيف كلمة واحدة عن معاناتكم في كتاب ضخم له عن المكتب الثاني) يدخلون المخيم أثناء فترات منع التجوّل، ويتلصلصون على النسوة في قمصان النوم. كانوا يشهرون سلاحهم بوجهكم إذا اعترض واحد منكم. اسألوا الكبار في السنّ بينكم. لديهم من الحكايا ما لديهم. واليوم يريد هؤلاء - من طينة هؤلاء نفسها - أن تُسلّموا سلاحكم في داخل وفي خارج المخيمات. أتتألّمون للمفارقة وأنتم تسمعون الوعود والتطمينات من أشخاص (من مختلف الطوائف) أمعنوا قتلاً في مخيماتكم؟
أهالي المخيمات في لبنان… لو كان الأمر بيدهم، ولو تسنّى لهم نزع سلاحكم، لفعلوا بكم ما فعله بكم أمين الجميل في عهده عندما كانوا يخطفون الصبية ويغتصبون من بقي من الفتيات في المخيمات. إيّاكم أن تسلموا أمركم لهم. لن تتلقّوا منهم إلا الأذية. هؤلاء الذين زايدوا على شعاراتكم آنذاك، يطالبون اليوم بالرضوخ لمطالب إسرائيل التي لا علاقة لها بتحرير أجزائكم من أرض فلسطين. هؤلاء تملقوا لكم للحفاظ على مقاطعاتهم الطائفية، وهببتم لنجدتهم بأرواحكم. هم اليوم يقولون عنكم إنكم إرهابيون.
أهالي المخيمات في لبنان… لماذا وثقتم بنا؟ ألم تعاشرونا؟ ألم تسمعونا ونحن نكيل الإهانة لكم ولقضيتكم عبر السنوات؟ ألم تروا كيف تعامل اللبنانيون معكم وكأنكّم حثالة؟ ألا تسمعونهم اليوم في المعارضة وفي الموالاة يتحدّثون عن «البؤر» الفلسطينية؟ أنتم حشرات بالنسبة إليهم. هم الذين يظنون أنهم حضاريون، هؤلاء الذين يتلذّذون بتعذيب خادماتهم السريلانكيات في الصباح ويهتفون من أجل الحرية بعد الظهيرة. تعرفونهم، أو وجب عليكم أن تعرفوهم بنفاقهم وحيلهم.
أهالي نهر البارد… ماذا عساكم تقولون وأنتم ترون بأم العين كيف استولوا بالمال على قياداتكم الفلسطينية. ابتاعوهم، كما تبتاعون الأحذية الجديدة في الأعياد. صمتت القيادة، وبعضها زايد في مطالبته بالمزيد من القصف والدكّ في البارد (قبل إجلاء المدنيين والمدنيات). أحد هؤلاء بلغت به الحماسة أن شكّل فريقاً للتطوّع في المساعدة على اقتحام المخيّم (قبل إجلاء المدنيين والمدنيات). ماذا عساكم تقولون وأنتم ترون حتى قيادات المنظمات الفلسطينية اليسارية صامتة أمام مشاهد تدمير المخيم (فوق رؤوسكم في البداية).
أهالي نهر البارد... لا تثقوا بهم ولا بتلك القيادة التي تتحدث باسمكم. أهالي المخيمات، يا وحدكم. يا وحدكم. عمَّ تتّكلون. ماذا دار في خلدكم عندما رأيتم أقلّ من دزينة من اللبنانيين تتظاهر من أجلكم. تفرّسوا في وجوه هؤلاء الذين واللواتي شعروا بمعاناتكم على قلّتهم. تفرّسوا في وجوههم حتى لا تكرهونا. لكم أن تكرهونا، لكن تذكّروا أنّ من اللبنانيين واللبنانيات من هو وهي مدين لكم. منكم تعلّموا عن فلسطين وعن الفقراء. منكم تعلموا مقت الأنظمة العربية - كلها من دون استثناء. تفرّسوا في وجوه هؤلاء. هم تشرّبوا القضية الفلسطينية من معاناتكم أنتم. لهؤلاء رفاق ورفيقات ماتوا من أجل فلسطين. بعض هؤلاء نبذ الكتب المدرسية وعانق البندقية الفلسطينية في سن مبكرة. لا، ليسوا كلهم مثل شلّة الطائفيين الحاقدين. هم ما زالوا بينكم، وإن كان بعضهم صامتاً. تغيّر البلد. لا تكرهونا، يا أهل المخيمات.
حتى الثورة، انظروا ما فعلوا فيها. انظروا ما فعل بها ذاك الذي كانوا يسمونه «رمز فلسطين». كان على وشك أن يبيع كل فلسطين لإرضاء كلينتون ومشيخات النفط، طالت أعماركم. هذا الذي وكلته الأنظمة العربية مهمة قيادة الثورة الفلسطينية للقضاء عليها. لم يقض عليها، لكنه أعادنا للوراء. ترك الدحلان وأبو مازن وراءه. هو نصّبهم. كان بارعاً في إبعاد المناضلين الأنقياء وفي تقريب الفاسدين. تسهل السيطرة على الفاسدين، كان يقول بتهكّم.
ماذا أقول لكم، يا أهل المخيم في البارد، أنتم اللاجئين مرتين. أنحني أمامكم وأعتذر. أستجدي المعذرة. أنظر الى صور الدمار في البارد وأتيقّن أن الصهيونية باتت مُعتنقة في أكثر من دولة عربية. تسرّبت الصهيونية الى ميثاق جامعة الدول العربية. أما تساءلتم لمَ صمتت المدفعية اللبنانية عندما اعتدت اسرائيل على لبنان قبل نحو سنة؟ أين كانت قذائفهم، يا أهل المخيم في البارد.
نقترب من ذكرى صبرا وشاتيلا ويصيبنا الشلل. ونسمع السنيورة، هذا الذي بنى مجده في الحكم على معاداة الفقراء من كل الطوائف، يتحدث ويبتسم عن «إعادة بناء المخيّم». ألا يذكّركم ذلك بحديث قادة العدو عن إعادة بناء مخيم جنين بعد تدميره؟ انزعوا نحو نظرية المؤامرة، يا أهل البارد. إياكم أن تهملوها. يسخرون من نظرية المؤامرة ليسهل تمريرها. تنبّهوا وتيقّظوا.
دمّروا مخيمكم يا أهل البارد، ورقصوا على أطلاله. قرعوا الطبول ابتهاجاً باقتحام مخيمكم المدمر. كان ينقص أن يفتحوا زجاجات الشامبانيا كما كانت تفعل ميليشيات الكتائب والأحرار (والتنظيم حتى لا ننسى جورج عدوان) أثناء الحرب. احتفل اللبنانيون بتدمير مخيمكم يا أهل البارد، ماذا عساكم تقولون لهم؟
يا أهالي البارد... إذا صادفتمونا في الشارع، لديّ رجاء واحد. اصفعونا على وجوهنا، وإن لم يتيسّر الصفع، ابصقوا علينا. أرجوكم.
http://www.arabs48.com/display.x?cid=7&sid=25&id=48369
أسعد أبو خليل*
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
04/09/2007 07:59
كذابون، نحن. لا تصدّقونا. متملّقون، نحن. لا تثقوا بنا. صغار النفوس، نحن. ننحني أمام القويّ المسلّح، ونعتدي على الفقير الأعزل. أما رأيتم هؤلاء الذين هتفوا لاستخبارات النظام السوري عندما كان جيش سوريا في لبنان، واكتشفوا غياب الديموقراطية في سوريا فقط بعد خروج جيشها من لبنان؟ هذا هو لبنان - لبنان الذي لا تسمح شاشة الـ«إل.بي.سي» برؤيته. نحن نطيع قامعينا، ونحلم بالبطولة في مسرحيات مملّة وفارغة يتقنها منصور الرحباني أكثر من غيره. نشهر سيوفاً كرتونية عندما يولي العدو أدباره، بعدما كنّا نكيل له المديح. أمّا مقاومونا، فنشوّه صورهم، ونطليها بالدهان. بطولات ثوار الحرية في لبنان انحصرت في ضرب بائعي الكعك من السوريين، وفي قتل عمال سوريين أبرياء.
تاريخنا بشع، وحاضرنا أبشع. وعندما كنا نهتف «كلنا فدائيون» (مات المخرج الشهم غاري غربتيان - هل يعده أمين الجميل من الطارئين؟ - أثناء تصوير فيلمه «كلّنا فدائيون» في الستينيات) في تظاهرات الستينيات وأوائل السبعينيات، لم نعنِ الهتاف. لم نعنِ كلمة. كنّا نقصد «كلنا كتائبيون». «كلنا طائفيون». «كلنا عنصريون». عندما كنا نناصر فلسطين، أو كنا ندّعي مناصرتها، في تظاهرات صاخبة، كنا نحاول تحسين مواقعنا الطائفية. بعضنا انخرط في صفوف منظمات فلسطينية وبعضنا مات من أجل فلسطين، والأكثرية دخلت في اللعبة لأهداف لا علاقة لها بتحرير فلسطين. البعض بنى ثروات من قضيتكم، والبعض وسّع قصوره من قضيتكم، والبعض الآخر قبض أثماناً من إسرائيل لِما فعله بكم. والبعض الأخير انضم الى منظماتكم ليسترق السمع على محادثاتكم لتقديم تقارير مفصلة لاستخبارات سلالات النفط. بعض هؤلاء تحوّل الى سياسيين مرموقين، وهم يتحدثون عن ماضيهم من دون خجل. وبعض من انضوى إلى صفوف المنظمات الفلسطينية وركب على ظهرها يعتبر اليوم عبارة «تحرير فلسطين» لغة خشبية فات زمانها الغابر.
ماذا نقول لكم: خدعناكم وصدّقتمونا. خذلناكم، وغفرتم لنا لا لشيء بل لأنكم عنيتم كلمات الصداقة والأخوة بينما كنا نحن نفعل ما نجيد: كذب ومراوغة وخداع. كل ما قلناه عن فلسطين، لم نقصد منه كلمة واحدة. كنا نمزح: حاولنا أن نحسّن مواقعنا الطائفية، كل من زاوية، وفي الطائفية نجتمع نحن اللبنانيين المختلفين على كل شيء آخر. فقط في الطائفية وفي الهتاف لزعمائنا الطائفيين، نتّحد - متفرّقين ومتقوقعين.
أهالي نهر البارد اللاجئين مرّتين، ماذا عسانا نقول لكم ونحن على أعتاب ذكرى أخرى لمجزرة صبرا وشاتيلا. لن تلاحظوا الذكرى في الإعلام. لا تقلّبوا الأقنية. لن تجدوا شيئاً عنهم. المسلسلات ستطغى، وما هو أسوأ من المسلسلات. سنبكي ضحايا المجزرة بصمت. سنجلس في زاوية في غرفة، ونتذكّرهم، هؤلاء الذين واللواتي قُتلوا في أثواب النوم. قابلت واحدة من الناجين من المخيم قبل سنة. كانت طفلة صغيرة آنذاك. وجدوها بعد أيام من المجزرة مختبئة تحت سرير. كانت تعاني، طبعاً، نفسياً وصحياً. ظنوا أنها جيفة. رأتهم. شاهدتهم واحداً واحداً يغتصبون أمها ويتناوبون في اغتصابها، قبل أن يقطّعوها إربا إربا، أمام أعين الطفلة المختبئة تحت السرير. هي تتذكر. لم أسألها ما إذا كانت تتبيّن ملامح بعضهم في نواب لبنان. لم أسألها أن تشير إليهم بالبنان. نحن ننسى. لا نريد أن نتذكر. حوّلنا قائد ميليشيا المغتصبين نفسها الى زعيم وطني يُطرح اسمه في بازار الترشيحات الرئاسية.
أحذّركم. لا تشاهدوا التلفاز (أو المرناة كما كان يفضل الشيخ عبد الله العلايلي) في ذكرى المجزرة. قاطعوا التلفاز في ذلك اليوم. ستتألّمون أكثر. سيستفزّونكم في جروحكم وندوبكم. سيصبّون حامضاً وخلّاً فوق جراحكم العميقة، وسيضحكون وهم يدخنون السيجار (اخترع اللبنانيون كذبة مفادها أن أعلى نسبة لتدخين السيجار هي في لبنان - يرون في تدخين السيجار حضارة ما بعدها حضارة). سيبحثون عن آثار الشظايا في أجسادكم ليرشّوها بماء النار.
في الذكرى الأخيرة لمجزرة بوسطة عين الرمانة، زوّروا التاريخ. لاموا الضحايا. جعلوهم، وهم كانوا مدنيين، إرهابيين. قالوا إن ركاب البوسطة الأبرياء أشعلوا حرباً أهليةً. وقتلة الركاب، حوّلوهم الى أبطال. تماماً كما تفعل إسرائيل بضحاياها من المدنيين والمدنيات من شعب فلسطين. ستطغى على ذكرى صبرا وشاتيلا هذا العام ذكرى اغتيال مرشح إسرائيل للرئاسة في لبنان. هذا الذي نُصّب من قبل إسرائيل رئيساً كان يصارح المراسلين الأجانب بنيّاته. كان يقول إن المخيمات يجب أن تصبح إما حدائق للحيوانات وإما ملاعب «تنس». هذا الذي كان يضع جماجم من ضحاياكم في صندوق سيارته، للتباهي. جماجم ضحاياكم، يا أهل المخيمات. ضحاياكم أنتم، يا أهل المخيمات في لبنان، ماتوا بصمت، ودُفنوا بصمت. لم تُقم لهم أنصاب، ولم تُعلّق صورهم على الجدران. ضحاياكم يا أهل فلسطين في لبنان لا يملكون المليارات ولن يخلّدهم وزير الاتصالات في طوابع بريدية تذكارية. ضحاياكم البريئة، المدنيين والمدنيات في البارد الذين لم يلتقوا بشاكر العبسي في حياتهم الشاقة، ماتوا في الوقت الذي كان فيه أحمد فتفت - ما غيره - يصرّ على أن مدنياً واحداً فقط مات في مخيم نهر البارد.
أهالي نهر البارد… وأنتم تتدثّرون ببطانيات سعودية وحريرية في البداوي، أتشعرون برغبة شديدة في التقيّؤ؟ أتنتابكم نوبات دورية من القرف الشديد؟ وعندما يأتي تيار المستقبل بمعوناته الغذائية لكم هل يذكّركم طعمها بالغثيان؟ أتأكلون الغثيان عندما تستيقظون في صباح البداوي؟ أتقتاتون على بقايا ذكرى التأييد الشعبي اللبناني لثورة فلسطين؟ ضحاياكم ماتوا في البارد في الوقت الذي كان فيه الشعب اللبناني يأخذ على الجيش اللبناني رأفته بكم. لم يدكّوا المخيم بما في الكفاية، قالوا. لو كان الأمر بيد الطوائف في لبنان، لرحّلوا جثث ضحاياكم تحت شعار منع التوطين. لو كان الأمر بيدهم، ولو تسنّى لهم نزع سلاحكم، لوضعوكم في مكب النورماندي، ومن دون تأنيب ضمير. هم يعتقدون أنهم متفوّقون جينياً عليكم.
أهالي نهر البارد... ماذا نقول لكم وأنتم ترون بأمّ العين تدمير مخيّم كامل، وتسمعون هتافات اللبنانيين في المعارضة والموالاة مطالبين بالدم. أتشعرون بالحيرة أم بالغضب وأنتم تدفعون ثمن عصابة زُرعت في مخيمكم من دون إرادتكم؟ الأمر لهم، لا لكم في حياتكم وفي مماتكم. أنتم ضحايا مرّتين، مرّة من جرّاء احتلال فلسطين (كل فلسطين إذ إن فلسطينكم أنتم وهي خارج الضفة والقطاع مُحيت من الخرائط ومن خطط السلام - يا سلام سلّم)، ومرة أخرى لِما ذقتم في لبنان من معاناة ومن قتل ومن تعذيب.
أعلم أنّهم يلومونكم في كل شيء، كما يلومون «السوري» اليوم. أتشعرون بالقهر لخطابهم الخالي من لوم الإسرائيلي؟ أتتقزّزون عندما تسمعون ساسة لبنان يتحدّثون وبقرف شديد عن «السوري والفلسطيني»؟ أما الإسرائيلي فهو «جار».
أتشعرون بالإحباط عندما يعذّبونكم ويقتلونكم، ثم يصرّحون بحرصهم على مصلحة الشعب الفلسطيني في لبنان؟ سيلومونكم أيضاً لخسارة سياحة الدعارة في بلدهم هذا الصيف، وهم يرون فيها قضية تفوق أهمية الدفاع عن أرض لبنان من اعتداءات اسرائيل المتكررة. لاحظوا أنهم لا يتهمون «السعودي» على الرغم من تورّط بعض السعوديين في «فتح الإسلام». طبعاً، هم عنصريون ضد «السعودي» لكنهم لا يجرؤون على المجاهرة. الدولار يطغى هنا.
أهالي مخيم نهر البارد… تعلّموا الدرس. يجب على كل الفلسطينيين والفلسطينيات في لبنان تعلّم الدرس. خذوا عظات من تاريخ الحرب الأهلية ومن تقلّباتها. لا تأمنوا لنا جانباً، ولا تثقوا بوعودنا. لا تديروا ظهوركم لنا قط. قد نطعنكم في الظهر، ونحن ماهرون في رياضة الطعن بالظهر، وخصوصاً ضد الفقراء. ألم تروا «ثوار» الأرز يضربون ويطعنون بائعي الكعك في لبنان؟ نريدكم عزّلاً من السلاح ليسهل علينا اقتلاعكم وقهركم وقتلكم كلما دعت الحاجة. نتذكر كيف عوملتم قبل امتشاق السلاح، وقبل اندلاع الثورة الفلسطينية وقبل «تجاوزات» أبو الزعيم والعصابات التي زرعها عرفات وزرعتها بعض الأنظمة العربية بيننا وبينكم، وإن كان اللبنانيون من أبطال التجاوزات آنذاك، لكننا لا نتذكر إلا تجاوزاتكم أنتم.
أهالي المخيمات... لا تثقوا بتطمينات تأتيكم. لا يعملون لأجلكم - كذبوا. يعملون ضدكم ومن أجل مخطط لم يرسموه هم، وإنما رسمه أعداؤكم أنتم. ما هم إلا منفذون.
أهالي المخيمات، نتذكر كيف عوملتم وأنتم عُزّل. نتذكر كيف عوملتم أيّام «الإصلاحي» فؤاد شهاب عندما كان الجنود في أيام المكتب الثاني (لم يذكر نقولا ناصيف كلمة واحدة عن معاناتكم في كتاب ضخم له عن المكتب الثاني) يدخلون المخيم أثناء فترات منع التجوّل، ويتلصلصون على النسوة في قمصان النوم. كانوا يشهرون سلاحهم بوجهكم إذا اعترض واحد منكم. اسألوا الكبار في السنّ بينكم. لديهم من الحكايا ما لديهم. واليوم يريد هؤلاء - من طينة هؤلاء نفسها - أن تُسلّموا سلاحكم في داخل وفي خارج المخيمات. أتتألّمون للمفارقة وأنتم تسمعون الوعود والتطمينات من أشخاص (من مختلف الطوائف) أمعنوا قتلاً في مخيماتكم؟
أهالي المخيمات في لبنان… لو كان الأمر بيدهم، ولو تسنّى لهم نزع سلاحكم، لفعلوا بكم ما فعله بكم أمين الجميل في عهده عندما كانوا يخطفون الصبية ويغتصبون من بقي من الفتيات في المخيمات. إيّاكم أن تسلموا أمركم لهم. لن تتلقّوا منهم إلا الأذية. هؤلاء الذين زايدوا على شعاراتكم آنذاك، يطالبون اليوم بالرضوخ لمطالب إسرائيل التي لا علاقة لها بتحرير أجزائكم من أرض فلسطين. هؤلاء تملقوا لكم للحفاظ على مقاطعاتهم الطائفية، وهببتم لنجدتهم بأرواحكم. هم اليوم يقولون عنكم إنكم إرهابيون.
أهالي المخيمات في لبنان… لماذا وثقتم بنا؟ ألم تعاشرونا؟ ألم تسمعونا ونحن نكيل الإهانة لكم ولقضيتكم عبر السنوات؟ ألم تروا كيف تعامل اللبنانيون معكم وكأنكّم حثالة؟ ألا تسمعونهم اليوم في المعارضة وفي الموالاة يتحدّثون عن «البؤر» الفلسطينية؟ أنتم حشرات بالنسبة إليهم. هم الذين يظنون أنهم حضاريون، هؤلاء الذين يتلذّذون بتعذيب خادماتهم السريلانكيات في الصباح ويهتفون من أجل الحرية بعد الظهيرة. تعرفونهم، أو وجب عليكم أن تعرفوهم بنفاقهم وحيلهم.
أهالي نهر البارد… ماذا عساكم تقولون وأنتم ترون بأم العين كيف استولوا بالمال على قياداتكم الفلسطينية. ابتاعوهم، كما تبتاعون الأحذية الجديدة في الأعياد. صمتت القيادة، وبعضها زايد في مطالبته بالمزيد من القصف والدكّ في البارد (قبل إجلاء المدنيين والمدنيات). أحد هؤلاء بلغت به الحماسة أن شكّل فريقاً للتطوّع في المساعدة على اقتحام المخيّم (قبل إجلاء المدنيين والمدنيات). ماذا عساكم تقولون وأنتم ترون حتى قيادات المنظمات الفلسطينية اليسارية صامتة أمام مشاهد تدمير المخيم (فوق رؤوسكم في البداية).
أهالي نهر البارد... لا تثقوا بهم ولا بتلك القيادة التي تتحدث باسمكم. أهالي المخيمات، يا وحدكم. يا وحدكم. عمَّ تتّكلون. ماذا دار في خلدكم عندما رأيتم أقلّ من دزينة من اللبنانيين تتظاهر من أجلكم. تفرّسوا في وجوه هؤلاء الذين واللواتي شعروا بمعاناتكم على قلّتهم. تفرّسوا في وجوههم حتى لا تكرهونا. لكم أن تكرهونا، لكن تذكّروا أنّ من اللبنانيين واللبنانيات من هو وهي مدين لكم. منكم تعلّموا عن فلسطين وعن الفقراء. منكم تعلموا مقت الأنظمة العربية - كلها من دون استثناء. تفرّسوا في وجوه هؤلاء. هم تشرّبوا القضية الفلسطينية من معاناتكم أنتم. لهؤلاء رفاق ورفيقات ماتوا من أجل فلسطين. بعض هؤلاء نبذ الكتب المدرسية وعانق البندقية الفلسطينية في سن مبكرة. لا، ليسوا كلهم مثل شلّة الطائفيين الحاقدين. هم ما زالوا بينكم، وإن كان بعضهم صامتاً. تغيّر البلد. لا تكرهونا، يا أهل المخيمات.
حتى الثورة، انظروا ما فعلوا فيها. انظروا ما فعل بها ذاك الذي كانوا يسمونه «رمز فلسطين». كان على وشك أن يبيع كل فلسطين لإرضاء كلينتون ومشيخات النفط، طالت أعماركم. هذا الذي وكلته الأنظمة العربية مهمة قيادة الثورة الفلسطينية للقضاء عليها. لم يقض عليها، لكنه أعادنا للوراء. ترك الدحلان وأبو مازن وراءه. هو نصّبهم. كان بارعاً في إبعاد المناضلين الأنقياء وفي تقريب الفاسدين. تسهل السيطرة على الفاسدين، كان يقول بتهكّم.
ماذا أقول لكم، يا أهل المخيم في البارد، أنتم اللاجئين مرتين. أنحني أمامكم وأعتذر. أستجدي المعذرة. أنظر الى صور الدمار في البارد وأتيقّن أن الصهيونية باتت مُعتنقة في أكثر من دولة عربية. تسرّبت الصهيونية الى ميثاق جامعة الدول العربية. أما تساءلتم لمَ صمتت المدفعية اللبنانية عندما اعتدت اسرائيل على لبنان قبل نحو سنة؟ أين كانت قذائفهم، يا أهل المخيم في البارد.
نقترب من ذكرى صبرا وشاتيلا ويصيبنا الشلل. ونسمع السنيورة، هذا الذي بنى مجده في الحكم على معاداة الفقراء من كل الطوائف، يتحدث ويبتسم عن «إعادة بناء المخيّم». ألا يذكّركم ذلك بحديث قادة العدو عن إعادة بناء مخيم جنين بعد تدميره؟ انزعوا نحو نظرية المؤامرة، يا أهل البارد. إياكم أن تهملوها. يسخرون من نظرية المؤامرة ليسهل تمريرها. تنبّهوا وتيقّظوا.
دمّروا مخيمكم يا أهل البارد، ورقصوا على أطلاله. قرعوا الطبول ابتهاجاً باقتحام مخيمكم المدمر. كان ينقص أن يفتحوا زجاجات الشامبانيا كما كانت تفعل ميليشيات الكتائب والأحرار (والتنظيم حتى لا ننسى جورج عدوان) أثناء الحرب. احتفل اللبنانيون بتدمير مخيمكم يا أهل البارد، ماذا عساكم تقولون لهم؟
يا أهالي البارد... إذا صادفتمونا في الشارع، لديّ رجاء واحد. اصفعونا على وجوهنا، وإن لم يتيسّر الصفع، ابصقوا علينا. أرجوكم.
http://www.arabs48.com/display.x?cid=7&sid=25&id=48369