ابو شجاع
09-08-2007, 03:03 PM
صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته :
قال الترمذي [ والعمل على هذا الحديث – حديث ابن عباس وسيأتي – عند أكثر أهل العلم ، قالوا : تُقبل شهادة واحد في الصيام ، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد . وقال إسحق : لا يُصام إلا بشهادة رجلين . ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين ] وقال الخطَّابي : لا أعلم اختلافاً في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رواية هلال شوال ، وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد ، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين .
وقد ذهب الجمهور إلى القول بشهادة شاهد واحد عدلٍ في رؤية هلال رمضان ، أي في بدء الصوم ، وعندهم أنه إن شهد مسلم واحد عدل أنه رأى هلال رمضان فقد وجب الصيام على جميع المسلمين ، قال أحمد : ولو كان عبداً أو امرأة ، وهو قولٌ للشافعية . ومعتمد مذهب الشافعية أنه لا بد من أن يكون الشاهد حراً ذكراً وأجاز الأحناف شهادة العدل ولو كان عبداً أو أنثى إذا كان بالسماء غيم . وخالف الجمهورَ المالكيةُ وإسحقُ بن راهُويه ، فأوجبوا لثبوت هلال رمضان شهادةَ شاهدين عدلين ذكرين حرَّين بالغين أو جماعةٍ كثيرةٍ وعندئذ لا يشترط أن يكونوا كلهم ذكوراً أحراراً عدولاً .
أما بخصوص ثبوت رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار فذهب الجمهور والأئمة الأربعة إلى أنه لا بد من شهادة شاهدَيْن في ثبوت رؤية هلال شوال . وقال الأحناف بوجوب أن يكون الشاهدان عدلين حريَّن ، أو حراً وحرَّتين بلفظ الشهادة . وخالفهم أبو ثور وابن المنذر من الشافعية ، وابن رُشْد من المالكية والشوكاني ، فأجازوا شهادة شاهد واحد عدل في إثبات رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار .
ونحن ننظر في النصوص التالية لنرى الرأي في هذه المسألة بحول الله تعالى :
أولاً : النصوص المتعلقة برؤية هلال رمضان :
1- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال { جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبصرتُ الليلةَ الهلالَ فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ؟ قال : نعم قال : قم يا فلان فأذِّن بالناس فلْيصوموا غداً } رواه ابن خُزيمة ( 1923 ) وابن حِبَّان . ورواه أبو داود ( 2340 ) بلفظ { ... إني رأيت الهلال – قال الحسن في حديثه : يعني رمضان ... } وروى الحديثَ أيضاً النَّسائي والترمذي وابن أبي شيبة ، وصححه الحاكم والذهبي .
2- عن حسين بن الحارث الجدلي ، من جديلةِ قيس ، أن أمير مكة خطب ، ثم قال { عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنْسُك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما ... ثم قال الأمير : إنَّ فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني ، وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأومأ بيده إلى رجل ، قال الحسين : فقلت لشيخ إلى جنبي : من هذا الذي أومأ إليه الأمير ؟ قال : هذا عبد الله بن عمر ، وصدق ، كان أعلم بالله منه ، فقال : بذلك أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه أبو داود ( 2338 ) والدارَقُطني وصححه . ورواه البيهقي . قوله ننْسُك : أي نعبد ، وهنا معناه نحجُّ . وقوله ننْسُك للرؤية : الرؤية هنا رؤية هلال ذي الحجة .
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال { تراءى الناسُ الهلال ، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَني رأيته ، فصامه وأمر الناس بصيامه } رواه أبو داود ( 2342 ) والدارمي والبيهقي . ورواه ابن حِبَّان والحاكم وابن حزم وصححوه .
الحديث الثاني ، حديث أمير مكة ، ليس هو في باب الصوم ، وإنما هو في باب الحج فيبقى فيه ، ونَدَعه هناك . فيبقى حديثا ابن عباس وابن عمر : الأول يذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أثبت رؤية هلال رمضان وأمر بالصيام لشهادة أعرابيٍّ واحدٍ . والحديث الثاني يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثبت رؤية هلال رمضان ، وأمر بالصيام لشهادة ابن عمر نفسه . وهذان حديثان صالحان للاحتجاج ، ويدلان دلالة لا تقبل التأويل على أن ثبوت هلال رمضان وبدء الصوم يثبتان بشهادة شاهد واحد ، وهذا ردٌّ على من أوجب شهادة شاهدَيْن اثنين ، وهم المالكية وإسحق ابن راهُويه . والأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى وِقفة أطول .
ثانياً : النصوص المتعلقة برؤية هلال شوال :
1- عن ربعي ، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائماً لتمام الثلاثين من رمضان ، فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله وأنهما أَهَلاَّه بالأمس ، فأمرهم فأفطروا } رواه الدارَقُطني ( 2/168 ) وقال [ هذا صحيح ] ورواه أبو داود والنَّسائي وأحمد .
2- عن الحسين بن الحارث قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب يقول { إنَّا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعلمنا منهم ، وإِنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن أُغمي عليكم فعُدُّوا ثلاثين ، فإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأَفطروا وانْسُكوا } رواه الدارَقُطني ( 2/167 ) وأحمد والنَّسائي . ولفظ أحمد ( 19101 ) { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، وأنْ انسكوا لها فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثلاثين وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا }
3- عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه قال { إذا شهد رجلان ذوا عدلٍ على رؤية الهلال فأفطروا } رواه ابن أبي شيبة ( 2/482 ) .
4- عن أبي عُمَير بن أنس بن مالك قال : حدثني عمومتي من الأنصار ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا { أُغمي علينا هلالُ شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغَد } رواه ابن ماجة ( 1653 ) وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان والطحاوي . وقال الدارَقُطني [ إسناده حسن ] وكذا قال البيهقي ، وقال [ والصحابة كلهم عُدول سُمُّوا ، أو لم يُسَمَّوْا ] .
5- عن أنس رضي الله تعالى عنه { أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال ، هلالِ شوال ، فأمرهم أن يفطروا ، وأن يغدوا على عيدهم } رواه البزَّار ( 972 ) وأبو بكر القُطَيعي على مسند الإمام أحمد . قال الهيثمي [ رجاله رجال الصحيح ] .
الحديث الثاني عند الدارَقُطني وأحمد رواه الحجَّاج وهو ضعيف ، فيُترك سنداً . أما من حيث المتن فإن الزيادة ( فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا ) غير محفوظة ، وذلك أن صدر الحديث رُوي من عدة طرق في الصحاح ، ليست فيها هذه الزيادة ، فيُرَدُّ متناً . أما رواية النَّسائي فليس فيها الحجاج وإنما فيها إبراهيم بن يعقوب قال عنه الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال [ متَّهم بالكذب تالف ] فيُرَدُّ هذا الحديث أيضاً من رواية النَّسائي . أما الحديث الثالث فهو من رواية الحارث الأعور ، وهو متَّهم بالكذب ، فيُرَد الحديث . فتبقى عندنا الأحاديث ذوات الأرقام 1 ، 4 ، 5 .
الحديث الأول يقول ( فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله ، وأنهما أهَلاَّه بالأمس ، فأمرهم فأفطروا ) والرابع يقول ( فجاء ركب من آخر النهار ، فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا ) والخامس يقول ( أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال ، هلالِ شوال ، فأمرهم أن يفطروا ) بالنظر في هذه الألفاظ الثلاثة نجدها ذات نسق واحد ، هو أن الذي حصل كان وقائع أعيَانٍ ، أي وقائع حصلت مصادفةً لم تتضمَّن شرطاً أو شروطاً ، فليس في أيٍّ منها ذِكرٌ لأي اشتراط بأن يكون الشهود اثنين أو ركباً أو قوماً ، وإنما حصل أن جاء أعرابيان ، وحصل أن جاء ركْبٌ ، وحصل أن جاء قومٌ ، فلا تفيد هذه النصوص لا لغةً ولا شرعاً أن أقل من ذلك لا يُقبل ، فمن أدَّعى غير ذلك فليأتنا بالدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ شهادة شخص واحد في رؤية هلال شوال . والمعلوم أن وقائع الأعيان لا مفهوم لها ولا يقاس عليها ، ولا تدل على اشتراط أو تقييد ، وأَن كون الشهود أكثر من رجل واحد في هذه النصوص لا يعني أن شخصاً واحداً لا تكفي شهادته . فالقائل بكفاية شخص واحد إن جاءه اثنان أو خمسة أو عشرة أو مائة فإنه بلا شك سيقبلهم ، وزيادة الخير خير كما يقال ، وإنَّ الشخص الواحد الكافي ليدخل في الجموع ويتحقق المطلوب . وعليه فليس في هذه النصوص ما يدل على تقييدٍ أو اشتراطِ اثنين أو أكثر لرؤية هلال شوال .
وأقول لمن يرى في هذه النصوص أنها دالة على تقييدٍ أو اشتراطٍ : إنَّ الأخذَ بالحديث الرابع والحديث الخامس ، حسب فهمهم ، يعني أنه لا يصح قبول الشاهدَيْن فقط كما ورد في الحديث الأول ، فالقائلون بأن هذه النصوص توجب التقيد بالعدد يصبحون في حيرةٍ ، مالهم منها من خلاصٍ ، فهم إما أن يُعمِلوا النصوصَ الثلاثة ، وبذلك ينفون جواز الاثنين لأنهما أقل من الرَّكب ومن القوم ، وإما أن يعتبروها متعارضة فيأخذ من شاء منهم بالاثنين ويرُدُّ الرَّكب والقوم ، ويأخذ من شاء منهم بالرَّكب والقوم ويرد الاثنين !!
إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) فاشترطَ الرؤيةَ عمومَ الرؤيةِ ، لرؤية هلال رمضان ولرؤية هلال شوال ، ولم يفرِّق هذا النص البالغ الصحة بين الصوم والإفطار ، فوجب القول بالتساوي بينهما نصوم للرؤية على عمومها ، ونفطر للرؤية على عمومها ، دون أن نجد مخصِّصاً واحداً لهذه الرؤية ، وإنما وجدنا نصوصاً تذكر قبول الشاهد الواحد على الصيام ، فنعمِّمُ القولَ بالشاهد الواحد كإثباتٍ على حصول الرؤية ، وحيث أن الرؤية لهلال الصوم كالرؤية لهلال الإفطار فإن شاهداً واحداً قد ثبت قبولُه في أحدهما يجب أن يُقبَل في الآخر إلا أن تأتي نصوصٌ تستثني الآخَر من العموم ، ولا نصوصَ مطلقاً .
وثمةَ نقطةٌ مهمة أذكرها هنا هي أن القول بقبول رؤية الشاهد الواحد لهلال رمضان يستلزم الإفطارَ عند تمام الشهر استناداً إلى قوله ، وهذه الحالة تعني قبولَ رؤيةِ هذا الشاهد الواحد في ثبوت شهر شوال . وبذلك يظهر أنَّ الأئمة الأربعة أخطأوا في اشتراط الشاهدَيْن للإِفطار ، ويظهر صواب رأي أبي ثور وابن المنذر وابن رشد والشوكاني القائلين بالمساواة بين رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال .
وأما التفريعات المذكورة في ثنايا صدر البحث من حيث الحُرُّ والعبدُ والذكرُ والأنثى والغيومُ فلا محل لها هنا ولا دليل عليها . أما العبد فلم يعد له وجود فلا نُشغِلُ أنفسَنا به ، وأما الذَّكَر والأنثى فإن العَدْل منهما تُقبل شهادته ، فالعدالة في الإسلام لم تُعطَ للذكر فقط ولا للأنثى فقط ، وإنما هما مشتركان فيها ، وما جاء في النصوص من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين فإنما يُقصَر على الموضوعات الواردة فيه ، ولا يُعمَّم .
عن كتاب الجامع لاحكام الصيام للشيخ أبو إياس محمود بن عبد اللطيف بن محمود ( عويضة )
يتبع
قال الترمذي [ والعمل على هذا الحديث – حديث ابن عباس وسيأتي – عند أكثر أهل العلم ، قالوا : تُقبل شهادة واحد في الصيام ، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد . وقال إسحق : لا يُصام إلا بشهادة رجلين . ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين ] وقال الخطَّابي : لا أعلم اختلافاً في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رواية هلال شوال ، وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد ، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين .
وقد ذهب الجمهور إلى القول بشهادة شاهد واحد عدلٍ في رؤية هلال رمضان ، أي في بدء الصوم ، وعندهم أنه إن شهد مسلم واحد عدل أنه رأى هلال رمضان فقد وجب الصيام على جميع المسلمين ، قال أحمد : ولو كان عبداً أو امرأة ، وهو قولٌ للشافعية . ومعتمد مذهب الشافعية أنه لا بد من أن يكون الشاهد حراً ذكراً وأجاز الأحناف شهادة العدل ولو كان عبداً أو أنثى إذا كان بالسماء غيم . وخالف الجمهورَ المالكيةُ وإسحقُ بن راهُويه ، فأوجبوا لثبوت هلال رمضان شهادةَ شاهدين عدلين ذكرين حرَّين بالغين أو جماعةٍ كثيرةٍ وعندئذ لا يشترط أن يكونوا كلهم ذكوراً أحراراً عدولاً .
أما بخصوص ثبوت رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار فذهب الجمهور والأئمة الأربعة إلى أنه لا بد من شهادة شاهدَيْن في ثبوت رؤية هلال شوال . وقال الأحناف بوجوب أن يكون الشاهدان عدلين حريَّن ، أو حراً وحرَّتين بلفظ الشهادة . وخالفهم أبو ثور وابن المنذر من الشافعية ، وابن رُشْد من المالكية والشوكاني ، فأجازوا شهادة شاهد واحد عدل في إثبات رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار .
ونحن ننظر في النصوص التالية لنرى الرأي في هذه المسألة بحول الله تعالى :
أولاً : النصوص المتعلقة برؤية هلال رمضان :
1- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال { جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبصرتُ الليلةَ الهلالَ فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ؟ قال : نعم قال : قم يا فلان فأذِّن بالناس فلْيصوموا غداً } رواه ابن خُزيمة ( 1923 ) وابن حِبَّان . ورواه أبو داود ( 2340 ) بلفظ { ... إني رأيت الهلال – قال الحسن في حديثه : يعني رمضان ... } وروى الحديثَ أيضاً النَّسائي والترمذي وابن أبي شيبة ، وصححه الحاكم والذهبي .
2- عن حسين بن الحارث الجدلي ، من جديلةِ قيس ، أن أمير مكة خطب ، ثم قال { عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنْسُك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما ... ثم قال الأمير : إنَّ فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني ، وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأومأ بيده إلى رجل ، قال الحسين : فقلت لشيخ إلى جنبي : من هذا الذي أومأ إليه الأمير ؟ قال : هذا عبد الله بن عمر ، وصدق ، كان أعلم بالله منه ، فقال : بذلك أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه أبو داود ( 2338 ) والدارَقُطني وصححه . ورواه البيهقي . قوله ننْسُك : أي نعبد ، وهنا معناه نحجُّ . وقوله ننْسُك للرؤية : الرؤية هنا رؤية هلال ذي الحجة .
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال { تراءى الناسُ الهلال ، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَني رأيته ، فصامه وأمر الناس بصيامه } رواه أبو داود ( 2342 ) والدارمي والبيهقي . ورواه ابن حِبَّان والحاكم وابن حزم وصححوه .
الحديث الثاني ، حديث أمير مكة ، ليس هو في باب الصوم ، وإنما هو في باب الحج فيبقى فيه ، ونَدَعه هناك . فيبقى حديثا ابن عباس وابن عمر : الأول يذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أثبت رؤية هلال رمضان وأمر بالصيام لشهادة أعرابيٍّ واحدٍ . والحديث الثاني يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثبت رؤية هلال رمضان ، وأمر بالصيام لشهادة ابن عمر نفسه . وهذان حديثان صالحان للاحتجاج ، ويدلان دلالة لا تقبل التأويل على أن ثبوت هلال رمضان وبدء الصوم يثبتان بشهادة شاهد واحد ، وهذا ردٌّ على من أوجب شهادة شاهدَيْن اثنين ، وهم المالكية وإسحق ابن راهُويه . والأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى وِقفة أطول .
ثانياً : النصوص المتعلقة برؤية هلال شوال :
1- عن ربعي ، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائماً لتمام الثلاثين من رمضان ، فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله وأنهما أَهَلاَّه بالأمس ، فأمرهم فأفطروا } رواه الدارَقُطني ( 2/168 ) وقال [ هذا صحيح ] ورواه أبو داود والنَّسائي وأحمد .
2- عن الحسين بن الحارث قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب يقول { إنَّا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعلمنا منهم ، وإِنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن أُغمي عليكم فعُدُّوا ثلاثين ، فإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأَفطروا وانْسُكوا } رواه الدارَقُطني ( 2/167 ) وأحمد والنَّسائي . ولفظ أحمد ( 19101 ) { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، وأنْ انسكوا لها فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثلاثين وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا }
3- عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه قال { إذا شهد رجلان ذوا عدلٍ على رؤية الهلال فأفطروا } رواه ابن أبي شيبة ( 2/482 ) .
4- عن أبي عُمَير بن أنس بن مالك قال : حدثني عمومتي من الأنصار ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا { أُغمي علينا هلالُ شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغَد } رواه ابن ماجة ( 1653 ) وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان والطحاوي . وقال الدارَقُطني [ إسناده حسن ] وكذا قال البيهقي ، وقال [ والصحابة كلهم عُدول سُمُّوا ، أو لم يُسَمَّوْا ] .
5- عن أنس رضي الله تعالى عنه { أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال ، هلالِ شوال ، فأمرهم أن يفطروا ، وأن يغدوا على عيدهم } رواه البزَّار ( 972 ) وأبو بكر القُطَيعي على مسند الإمام أحمد . قال الهيثمي [ رجاله رجال الصحيح ] .
الحديث الثاني عند الدارَقُطني وأحمد رواه الحجَّاج وهو ضعيف ، فيُترك سنداً . أما من حيث المتن فإن الزيادة ( فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا ) غير محفوظة ، وذلك أن صدر الحديث رُوي من عدة طرق في الصحاح ، ليست فيها هذه الزيادة ، فيُرَدُّ متناً . أما رواية النَّسائي فليس فيها الحجاج وإنما فيها إبراهيم بن يعقوب قال عنه الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال [ متَّهم بالكذب تالف ] فيُرَدُّ هذا الحديث أيضاً من رواية النَّسائي . أما الحديث الثالث فهو من رواية الحارث الأعور ، وهو متَّهم بالكذب ، فيُرَد الحديث . فتبقى عندنا الأحاديث ذوات الأرقام 1 ، 4 ، 5 .
الحديث الأول يقول ( فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله ، وأنهما أهَلاَّه بالأمس ، فأمرهم فأفطروا ) والرابع يقول ( فجاء ركب من آخر النهار ، فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا ) والخامس يقول ( أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال ، هلالِ شوال ، فأمرهم أن يفطروا ) بالنظر في هذه الألفاظ الثلاثة نجدها ذات نسق واحد ، هو أن الذي حصل كان وقائع أعيَانٍ ، أي وقائع حصلت مصادفةً لم تتضمَّن شرطاً أو شروطاً ، فليس في أيٍّ منها ذِكرٌ لأي اشتراط بأن يكون الشهود اثنين أو ركباً أو قوماً ، وإنما حصل أن جاء أعرابيان ، وحصل أن جاء ركْبٌ ، وحصل أن جاء قومٌ ، فلا تفيد هذه النصوص لا لغةً ولا شرعاً أن أقل من ذلك لا يُقبل ، فمن أدَّعى غير ذلك فليأتنا بالدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ شهادة شخص واحد في رؤية هلال شوال . والمعلوم أن وقائع الأعيان لا مفهوم لها ولا يقاس عليها ، ولا تدل على اشتراط أو تقييد ، وأَن كون الشهود أكثر من رجل واحد في هذه النصوص لا يعني أن شخصاً واحداً لا تكفي شهادته . فالقائل بكفاية شخص واحد إن جاءه اثنان أو خمسة أو عشرة أو مائة فإنه بلا شك سيقبلهم ، وزيادة الخير خير كما يقال ، وإنَّ الشخص الواحد الكافي ليدخل في الجموع ويتحقق المطلوب . وعليه فليس في هذه النصوص ما يدل على تقييدٍ أو اشتراطِ اثنين أو أكثر لرؤية هلال شوال .
وأقول لمن يرى في هذه النصوص أنها دالة على تقييدٍ أو اشتراطٍ : إنَّ الأخذَ بالحديث الرابع والحديث الخامس ، حسب فهمهم ، يعني أنه لا يصح قبول الشاهدَيْن فقط كما ورد في الحديث الأول ، فالقائلون بأن هذه النصوص توجب التقيد بالعدد يصبحون في حيرةٍ ، مالهم منها من خلاصٍ ، فهم إما أن يُعمِلوا النصوصَ الثلاثة ، وبذلك ينفون جواز الاثنين لأنهما أقل من الرَّكب ومن القوم ، وإما أن يعتبروها متعارضة فيأخذ من شاء منهم بالاثنين ويرُدُّ الرَّكب والقوم ، ويأخذ من شاء منهم بالرَّكب والقوم ويرد الاثنين !!
إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) فاشترطَ الرؤيةَ عمومَ الرؤيةِ ، لرؤية هلال رمضان ولرؤية هلال شوال ، ولم يفرِّق هذا النص البالغ الصحة بين الصوم والإفطار ، فوجب القول بالتساوي بينهما نصوم للرؤية على عمومها ، ونفطر للرؤية على عمومها ، دون أن نجد مخصِّصاً واحداً لهذه الرؤية ، وإنما وجدنا نصوصاً تذكر قبول الشاهد الواحد على الصيام ، فنعمِّمُ القولَ بالشاهد الواحد كإثباتٍ على حصول الرؤية ، وحيث أن الرؤية لهلال الصوم كالرؤية لهلال الإفطار فإن شاهداً واحداً قد ثبت قبولُه في أحدهما يجب أن يُقبَل في الآخر إلا أن تأتي نصوصٌ تستثني الآخَر من العموم ، ولا نصوصَ مطلقاً .
وثمةَ نقطةٌ مهمة أذكرها هنا هي أن القول بقبول رؤية الشاهد الواحد لهلال رمضان يستلزم الإفطارَ عند تمام الشهر استناداً إلى قوله ، وهذه الحالة تعني قبولَ رؤيةِ هذا الشاهد الواحد في ثبوت شهر شوال . وبذلك يظهر أنَّ الأئمة الأربعة أخطأوا في اشتراط الشاهدَيْن للإِفطار ، ويظهر صواب رأي أبي ثور وابن المنذر وابن رشد والشوكاني القائلين بالمساواة بين رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال .
وأما التفريعات المذكورة في ثنايا صدر البحث من حيث الحُرُّ والعبدُ والذكرُ والأنثى والغيومُ فلا محل لها هنا ولا دليل عليها . أما العبد فلم يعد له وجود فلا نُشغِلُ أنفسَنا به ، وأما الذَّكَر والأنثى فإن العَدْل منهما تُقبل شهادته ، فالعدالة في الإسلام لم تُعطَ للذكر فقط ولا للأنثى فقط ، وإنما هما مشتركان فيها ، وما جاء في النصوص من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين فإنما يُقصَر على الموضوعات الواردة فيه ، ولا يُعمَّم .
عن كتاب الجامع لاحكام الصيام للشيخ أبو إياس محمود بن عبد اللطيف بن محمود ( عويضة )
يتبع