البحث العلمي
08-05-2007, 10:52 PM
البحوث العلميةفي العالم العربي غير مجدية ( مآسي الإنفاق العربي على البحث العلمي)!
محمد مسعد ياقوت *
استطاعت الدول المتقدمة أن توجد آليات وتعتمد على وسائل تمكنها من توفير الميزانياتاللازمة للإنفاق على البحث العلمي وتنويع مصادره، إضافة إلى الإنفاق عليه بسخاء منميزانياتها، بينما في البلدان العربية تواجه المؤسسات البحثية والجامعية الكثيروالكثير من المعوقات والتحديات، ومن أهمها انخفاض مستويات التمويل، وتدني إسهامالقطاع الخاص في شؤون التعليم العالي والبحث العلمي، إذ إن نسبة تمويل البحث العلميتكاد لا تصل إلى 1٪ في الموازنات العامة!
والناظر إلى واقع التمويل العربي للبحث العلمي، يجد أنه يختلف كثيرًا عن المعدلالعالمي للإنفاق على البحث العلمي، ويتخلف كثيرًا عامًا بعد عام، حتى لو تقدم معدلالإنفاق العربي على البحث العلمي في الفترة من عام 1970م وحتى عام 2005م، إذ إن هذاالتقدم حدث بشكل نسبي وضئيل جدًا مقارنة بالوضع العالمي المتسارع. فهذا الارتفاعالذي حدث خلال هذه الفترة الطويلة هو ببساطة شديدة عبارة عن ارتفاع نسبة الإنفاقعلى البحث العلمي قياسًا إلى الناتج المحلي من 0.31٪ عام 1970م إلى 0.67٪ عام 1990م. ومن ثم فلا تأثير لهذا الارتفاع الضئيل على الفجوة الكبيرة بين الأقطارالعربية والمجموعات الدولية في هذا المجال.
وتختلف الأقطار العربية فيما بينهامن حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي. والملاحظ أن نسبة الإنفاق على البحث العلميبالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد 0.5٪ في الأقطار العربية كافة لعام 1992م، وهي نسبة ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد وفرنسا حيث بلغت 2.9٪،و2.7٪ على التوالي(1).
وفي عام 1999م كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي فيمصر 0.4٪، وفي الأردن 0.33٪، وفي المغرب 0.2٪، وفي كل من سوريا ولبنان وتونسوالسعودية 0.1٪ من إجمالي الناتج القومي. وتؤكد ذلك إحصائيات اليونسكو لعام 1999م. أما إحصائيات سنة 2004م لنفس المنظمة العالمية، فتقول إن الدول العربية مجتمعة خصصتللبحث العلمي ما يعادل 1.7 مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0.3٪ من الناتج القوميالإجمالي(2).
مقارنة محرجةفي حيننلاحظ أن الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل (ما عدا العسكري) حوالي 9.8 مليارات «شيكل»، أي ما يوازي 2.6٪ من حجم إجمالي الناتج الوطني في عام 1999م، أما في عام 2004م فقد وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل إلى 4.7٪ من ناتجهاالقومي الإجمالي(3). علمًا بأن معدل ما تصرفه حكومة إسرائيل على البحث والتطويرالمدني في مؤسسات التعليم العالي ما يوازي 30.6٪ من الموازنة الحكومية المخصصةللتعليم العالي بكامله، ويصرف الباقي على التمويل الخاص بالرواتب، والمنشآت،والصيانة، والتجهيزات... على العكس تمامًا ما يحدث في البلدان العربية، إذ أغلبالموازنة المخصصة للبحث العلمي تصرف على الرواتب والمكافآت والبدلات وغيرها. والجدير بالذكر أن المؤسسات التجارية والصناعية في إسرائيل تنفق ضعفي ما تنفقهالحكومية الإسرائيلية على التعليم العالي.
وإذا قورن وضع إسرائيل بالدولالمتقدمة الأخرى، نجد أنها تنافس وتسبق كثيرًا من الدول الغنية والبلدان المتقدمةفي هذا الميدان، فنجد أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الناتج الوطني فيالسويد وصلت إلى 3.3٪، و2.7٪ في سويسرا واليابان، وهي تتراوح من 2 إلى 2.6٪ في كلمن فرنسا والدنمارك والولايات المتحدة، وما يتراوح بين 0.5٪ إلى 1.9٪ في بقية الدولالمتقدمة في العامين الآخيرين.
هذا، ويتبين أن إسرائيل تعتمد بشكل كبير علىالمراكز البحثية القائمة داخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وتبلغ معدلاتالإنفاق الحكومي على البحوث داخل الجامعات أعلى نسبة في العالم أي حوالي 30.6٪،بينما يصرف القطاع الخاص ما نسبته 52٪ من الإنفاق العام على الأبحاث والتطويروتحتل إسرائيل المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد «وادي السيليكون» في كاليفورنيا وبوسطن، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى فيالعالم المنتجة للأبحاث والاختراعات. أما بالنسبة إلى عدد سكانها قياسًا إلىمساحتها فهي الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية.
وفي تحقيقأجراه المحرر الاقتصادي لمجلة «ديرشبيغل» الألمانية «إريش فولات»، حول أثرالمهاجرين الروس في الاقتصاد الإسرائيلي والتقدم التكنولوجي الكبير الذي بلغتهبفضلهم(4)، يتبين أنه يتم تداول أسهم أكثر من 100 شركة إسرائيلية في البورصةالتكنولوجية تجاريها كندا فقط في هذا المجال. وأن إسرائيل تصدر اليوم من بضائعالتكنولوجيا العالية 40٪ من إجمالي صادراتها.
إن إلقاء نظرة متأنية إلى مايجري في قطاع البحث العلمي في إسرائيل ومراقبة التطور المذهل لصناعة التكنولوجياالعالية هناك، واستغلال إسرائيل، وعملها المتنامي على توسيع أسواق لمنتجاتها وجذبرؤوس أمول أجنبية، تجعلنا نعي أي تحد سوف يحمله لنا القرن المقبل في حال تحققالسلام مع إسرائيل. فالمواجهة العلمية- الاقتصادية لزمن السلم ربما قد تكون أصعببكثير من المواجهة في زمن الحرب!
في الأونة الأخيرة ظهرت بعض الدراسات(5) التيتصف واقع تمويل البحث العلمي الجامعي، موضحة أهم الأسباب المؤدية إلى ضآلة حجمالإنفاق المالي عليه، مقارنة بالواقع العالمي، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
المخصصات المالية الضعيفةيعود قصورالجامعات في البحث العلمي إلى عدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجعة للبحوث العلمية،إضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية يستغرق إجراءات طويلة ومعقدة مع قلة في الجهاتالمانحة. كما أن معظم الجامعات في الدول النامية تركز على عملية التدريس أكثر منتركيزها على البحوث العلمية لأسباب عدة. كما أن الدول المتقدمة ترصد الميزانياتالضخمة للبحوث العلمية لمعرفتها بالعوائد الضخمة التي تغطي أضعاف ما أنفقته، في حينيتراجع الإنفاق على البحوث العلمية في الدول العربية بسبب النقص في التمويل الذيتنفق نسبة كبيرة منه على الأجور والمرتبات.
هذا، ولقد أنفق العالم في عام 1990ممبلغ 450 مليار دولار على البحث العلمي والتطوير، وكان إسهام الدول النامية أقل من 4٪.
ومن جانب آخر فإن مخصصات البحث العلمي في الدول المتقدمة تزداد عامًا بعدآخر، إذ تتضاعف كل ثلاث سنوات تقريبًا، وتتجاوز نسبة مخصصات البحث العلمي في بعضالدول المتقدمة 4٪ من إجمالي الناتج القومي(6).
غياب القطاع الخاص عن المساهمةيعد القطاع الحكوميالممول الرئيس لنظم البحث العلمي في الدول العربية، حيث يبلغ حوالي 80٪ من مجموعالتمويل المخصص للبحوث والتطوير مقارنة بـ3٪ للقطاع الخاص، و7٪ من مصادر مختلفة. وذلك على عكس الدول المتقدمة وإسرائيل حيث تتراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحثالعلمي ما بين 70٪ في اليابان و52٪ في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية(7).
وهذا الإسهام الضعيف من قبل القطاع الخاص للمؤسسات البحثية يرجع إلى عدم تقديرالقطاع الخاص لقيمة البحث العلمي وجدواه. إضافة إلى عدم كفاية الميزانيات التيترصدها المراكز والجامعات ومؤسسات المجتمع للبحث العلمي، وإلى الفساد الماليوالإداري الملحوظ في الجامعات ومراكز البحوث العربية.
ومن النماذج العربيةالجيدة في دعم البحث العلمي، نموذج دولة الكويت، التي فرضت نسبة معينة من أرباحالشركات لدعم «مؤسسة الكويت للأبحاث العلمية» تقدم كمعونة من القطاع الخاص، كموردإضافي لحركة البحث العلمي في جامعاتها ومراكزها البحثية.
وينبغي هنا أن نؤكد أنالقطاع الخاص عند دعمه للبحث العلمي سيكون هو أول المستفيدين من نتائجه على المدىالطويل. وأمثلة ذلك كثيرة في العالم فكم من الشركات الكبرى التي تبنت ودعمت بحثًاما في إحدى الجامعات وعند الوصول إلى النتائج كانت هي أول المستفيدين من هذا البحث. ومن ثم يعود عليها عائد مادي كبير لامتلاكها حق الاكتشاف والتبني. ونجد في أغلبجامعات العالم أن هنالك مراكز بحثية يقوم على تمويلها ودعمها الشركات الكبرى أوالقطاع الخاص عامة. وقد توصلت هذه المراكز (نتيجة لهذا الدعم) إلى حلول لمشكلات أوطورت اختراعًا عاد بالمردود الجيد على الشركات الداعمة. كما أن هذه الشركات قد تبيعنتائج البحوث التي دعتمها لقطاعات أخرى. بل (وليس بالضرورة) امتلاك هذه الشركاتلنتائج البحث، ففي كثير من الحالات يشارك عدد من الشركات لدعم بحث ما، ولا تستفيدمن ذلك سوى أن يذكر اسمها من ضمن الداعمين. وهذا له مردود دعائي كبير على مستهلكيمنتج الشركة، وذلك على المدى الطويل، فهو يدلل على مركز الشركة الرفيع وتقديرهاللبحث العلمي ويعطيها السمعة الحسنة والمتميزة أمام عملائها.
عدم وجود استراتيجية للتسويقمن أسباب ضآلة حجمالإنفاق على البحث العلمي افتقار أغلب المؤسسات العلمية والجامعات العربية إلىأجهزة متخصصة بتسويق الأبحاث ونتائجها وفق خطة اقتصادية إلى الجهات المستفيدة ممايدل على ضعف التنسيق بين مراكز البحوث والقطاع الخاص. كذلك غياب المؤسساتالاستشارية المختصة بتوظيف نتائج البحث العلمي وتمويله من أجل تحويل تلك النتائجإلى مشروعات اقتصادية مربحة. إضافة إلى ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة واعتمادهاعلى شراء المعرفة.
غياب التعاونوالتنسيقأشارت بعض الدراسات إلى أن المؤسسات البحثية العربية تعانيمن مشكلات عديدة من بينها انفصام الصلة بين الجامعات وحقل الإنتاج، وابتعادالجامعات عن إجراء البحوث المساهمة في حل المشكلات الوطنية، إضافة إلى عدم مشاركةالمؤسسات الكبرى والشركات والأثرياء من الأفراد في نفقات البحث العلمي.
فمراكزالبحوث والجامعات العربية تعاني من انفصال شبه كامل بينها وبين المجالات التطبيقيةخارج أسوارها أو معاملها، فالبحوث التي تجري بين جدرانها من جانب أساتذتها إنما هيبحوث فردية لأساتذة يحاولون الإنتاج العلمي بغية الترقي، أو النشر، أو السمعة! وهيبحوث أضعف من أن تحل مشكلات المجتمع أو تعمل على تقدمه.
ندرة الباحثينإن أنشطة البحث العلمي التي تجري فيإطار المراكز والجامعات العربية من أضعف الأنشطة البحثية في العالم، بسبب قلة عددالباحثين والمختصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة، وانشعال عدد كبير من أعضاءهيئة التدريس في العمل الإضافي. وكذلك استحواذ الميزانيات الإدارية على النصيبالأوفر من المخصصات الجامعية.
انخفاض معدلالإنتاجية العلميةأظهرت إحدى الدراسات أن ما ينشر سنويًا من البحوثفي الوطن العربي لا يتعدى 15 ألف بحث. ولما كان عدد أعضاء هيئة التدريس نحو 55ألفًا، فإن معدل الإنتاجية هو في حدود 0.3 وهو وضع يرثى له من حيث الإمكاناتالعلمية والتكنولوجية في مجال الإنتاجية العربية، إذ يبلغ 10٪ من معدلات الإنتاجيةفي الدول المتقدمة(8).
وهذا من الأمور التي تجعل من الحكومات العربية غير مهتمةبدعم البحث العلمي بالشكل اللائق، ولعلك تسمع بعض المسؤولين يبررون إخفاقهم في دعمالبحث العلمي بقلة إنتاج الباحثين، وضعف همتهم العلمية.
نظرة المجتمعينظر المجتمع العربي الحالي نظرة لاتليق بالبحث العلمي من حيث أولويته على كثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلكبالتنشئة الاجتاعية التي أكسبت الجماهير العربية الحالية هذه النظرة السالبة نحوالبحث العلمي، وأصبح الناس غير مدركين لخطورة تدهور البحث العلمي العربي، وتأخره عنركب الحضارةإن المجتمعات في الدول المتقدمة تدعم المؤسسات البحثية ماديًاومعنويًا، ولا يمكن أن تبخل عليها بالمال أو الإمكانات، أو حتى الدعم اللفظي، حتىإنه في كثير من الأحيان تنظم المسيرات والتجمعات مطالبة الحكومة بالإنفاق بسخاءلإجراء المزيد من البحوث العلمية في مجالات التنمية التي ينشدها الوطن.
الهوامش
1- انظر: صحيفة «المجد» الأردنية، العدد «150» 17 شوال 1417هـ/ 24 شباط/فبراير 1997م، ص1. وأنطوان زحلان،التحدي والاستجابة، مساهمة العلوم والتقانة العربية في تحديث الوطن العربي، «المستقبل العربي»، السنة الثالثة عشرة، العدد 146 (أبريل 1991م)، ص4-17.
2- عنموقع مؤسسة تنمية، بتاريخ 5/8/2005م.
3- انظر: المصدرالسابق، وانظر . yakut.blogspot.com
4-انظر: عصام الجوهري: «تحقيق.. عن التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل» (مقال مترجم عن الألمانية)، صحيفة «النهار»، 15 أيلول/سبتمبر 1999م، ص12.
5- انظر: منصور بن عوض القحطاني: الإنفاق على البحث العلمي الجامعي: الواقع والمأمول،بحث مقدم لورشة عمل «طرق تفعيل وثيقة الآراء للملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعودحول التعليم العالي»، المنعقدة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة في الفترة من 19-21 ذوالحجة 1425هـ الموافق 30 يناير-1فبراير 2005م.
6-انظر: المصدر السابق.
7- انظر: عبدالحسن الحسيني، «الأبحاث في القطاعات المدنية الإسرائيلية والعربية»، فيصحيفة النهار، (23سبتمبر/ 1999م)، ص12.
8- انظر: مكتب التربية لدول الخليجالعربية: «واقع البحث العلمي في الوطن العربي»، وقائع ندوة: «تطبيق نتائج البحوثلتنمية المجتمع العربي»، مكتب التربية العربي، الرياض، 1990م، ص88* كاتب وباحث مصري مهتم بأزمة البحث العلمي في العالم العربيوله كتاب عنهذا الموضوع تحت عنوان" أزمة البحث العلمي في مصر والوطن العربي"، ويمكنالتواصل مع الكاتب عبر البريد الإلكتروني[email protected] ([email protected])
yakut.blogspot.com
المصدر : مجلة المعرفة، الرياض، العدد 136
محمد مسعد ياقوت *
استطاعت الدول المتقدمة أن توجد آليات وتعتمد على وسائل تمكنها من توفير الميزانياتاللازمة للإنفاق على البحث العلمي وتنويع مصادره، إضافة إلى الإنفاق عليه بسخاء منميزانياتها، بينما في البلدان العربية تواجه المؤسسات البحثية والجامعية الكثيروالكثير من المعوقات والتحديات، ومن أهمها انخفاض مستويات التمويل، وتدني إسهامالقطاع الخاص في شؤون التعليم العالي والبحث العلمي، إذ إن نسبة تمويل البحث العلميتكاد لا تصل إلى 1٪ في الموازنات العامة!
والناظر إلى واقع التمويل العربي للبحث العلمي، يجد أنه يختلف كثيرًا عن المعدلالعالمي للإنفاق على البحث العلمي، ويتخلف كثيرًا عامًا بعد عام، حتى لو تقدم معدلالإنفاق العربي على البحث العلمي في الفترة من عام 1970م وحتى عام 2005م، إذ إن هذاالتقدم حدث بشكل نسبي وضئيل جدًا مقارنة بالوضع العالمي المتسارع. فهذا الارتفاعالذي حدث خلال هذه الفترة الطويلة هو ببساطة شديدة عبارة عن ارتفاع نسبة الإنفاقعلى البحث العلمي قياسًا إلى الناتج المحلي من 0.31٪ عام 1970م إلى 0.67٪ عام 1990م. ومن ثم فلا تأثير لهذا الارتفاع الضئيل على الفجوة الكبيرة بين الأقطارالعربية والمجموعات الدولية في هذا المجال.
وتختلف الأقطار العربية فيما بينهامن حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي. والملاحظ أن نسبة الإنفاق على البحث العلميبالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد 0.5٪ في الأقطار العربية كافة لعام 1992م، وهي نسبة ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد وفرنسا حيث بلغت 2.9٪،و2.7٪ على التوالي(1).
وفي عام 1999م كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي فيمصر 0.4٪، وفي الأردن 0.33٪، وفي المغرب 0.2٪، وفي كل من سوريا ولبنان وتونسوالسعودية 0.1٪ من إجمالي الناتج القومي. وتؤكد ذلك إحصائيات اليونسكو لعام 1999م. أما إحصائيات سنة 2004م لنفس المنظمة العالمية، فتقول إن الدول العربية مجتمعة خصصتللبحث العلمي ما يعادل 1.7 مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0.3٪ من الناتج القوميالإجمالي(2).
مقارنة محرجةفي حيننلاحظ أن الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل (ما عدا العسكري) حوالي 9.8 مليارات «شيكل»، أي ما يوازي 2.6٪ من حجم إجمالي الناتج الوطني في عام 1999م، أما في عام 2004م فقد وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل إلى 4.7٪ من ناتجهاالقومي الإجمالي(3). علمًا بأن معدل ما تصرفه حكومة إسرائيل على البحث والتطويرالمدني في مؤسسات التعليم العالي ما يوازي 30.6٪ من الموازنة الحكومية المخصصةللتعليم العالي بكامله، ويصرف الباقي على التمويل الخاص بالرواتب، والمنشآت،والصيانة، والتجهيزات... على العكس تمامًا ما يحدث في البلدان العربية، إذ أغلبالموازنة المخصصة للبحث العلمي تصرف على الرواتب والمكافآت والبدلات وغيرها. والجدير بالذكر أن المؤسسات التجارية والصناعية في إسرائيل تنفق ضعفي ما تنفقهالحكومية الإسرائيلية على التعليم العالي.
وإذا قورن وضع إسرائيل بالدولالمتقدمة الأخرى، نجد أنها تنافس وتسبق كثيرًا من الدول الغنية والبلدان المتقدمةفي هذا الميدان، فنجد أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الناتج الوطني فيالسويد وصلت إلى 3.3٪، و2.7٪ في سويسرا واليابان، وهي تتراوح من 2 إلى 2.6٪ في كلمن فرنسا والدنمارك والولايات المتحدة، وما يتراوح بين 0.5٪ إلى 1.9٪ في بقية الدولالمتقدمة في العامين الآخيرين.
هذا، ويتبين أن إسرائيل تعتمد بشكل كبير علىالمراكز البحثية القائمة داخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وتبلغ معدلاتالإنفاق الحكومي على البحوث داخل الجامعات أعلى نسبة في العالم أي حوالي 30.6٪،بينما يصرف القطاع الخاص ما نسبته 52٪ من الإنفاق العام على الأبحاث والتطويروتحتل إسرائيل المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد «وادي السيليكون» في كاليفورنيا وبوسطن، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى فيالعالم المنتجة للأبحاث والاختراعات. أما بالنسبة إلى عدد سكانها قياسًا إلىمساحتها فهي الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية.
وفي تحقيقأجراه المحرر الاقتصادي لمجلة «ديرشبيغل» الألمانية «إريش فولات»، حول أثرالمهاجرين الروس في الاقتصاد الإسرائيلي والتقدم التكنولوجي الكبير الذي بلغتهبفضلهم(4)، يتبين أنه يتم تداول أسهم أكثر من 100 شركة إسرائيلية في البورصةالتكنولوجية تجاريها كندا فقط في هذا المجال. وأن إسرائيل تصدر اليوم من بضائعالتكنولوجيا العالية 40٪ من إجمالي صادراتها.
إن إلقاء نظرة متأنية إلى مايجري في قطاع البحث العلمي في إسرائيل ومراقبة التطور المذهل لصناعة التكنولوجياالعالية هناك، واستغلال إسرائيل، وعملها المتنامي على توسيع أسواق لمنتجاتها وجذبرؤوس أمول أجنبية، تجعلنا نعي أي تحد سوف يحمله لنا القرن المقبل في حال تحققالسلام مع إسرائيل. فالمواجهة العلمية- الاقتصادية لزمن السلم ربما قد تكون أصعببكثير من المواجهة في زمن الحرب!
في الأونة الأخيرة ظهرت بعض الدراسات(5) التيتصف واقع تمويل البحث العلمي الجامعي، موضحة أهم الأسباب المؤدية إلى ضآلة حجمالإنفاق المالي عليه، مقارنة بالواقع العالمي، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
المخصصات المالية الضعيفةيعود قصورالجامعات في البحث العلمي إلى عدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجعة للبحوث العلمية،إضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية يستغرق إجراءات طويلة ومعقدة مع قلة في الجهاتالمانحة. كما أن معظم الجامعات في الدول النامية تركز على عملية التدريس أكثر منتركيزها على البحوث العلمية لأسباب عدة. كما أن الدول المتقدمة ترصد الميزانياتالضخمة للبحوث العلمية لمعرفتها بالعوائد الضخمة التي تغطي أضعاف ما أنفقته، في حينيتراجع الإنفاق على البحوث العلمية في الدول العربية بسبب النقص في التمويل الذيتنفق نسبة كبيرة منه على الأجور والمرتبات.
هذا، ولقد أنفق العالم في عام 1990ممبلغ 450 مليار دولار على البحث العلمي والتطوير، وكان إسهام الدول النامية أقل من 4٪.
ومن جانب آخر فإن مخصصات البحث العلمي في الدول المتقدمة تزداد عامًا بعدآخر، إذ تتضاعف كل ثلاث سنوات تقريبًا، وتتجاوز نسبة مخصصات البحث العلمي في بعضالدول المتقدمة 4٪ من إجمالي الناتج القومي(6).
غياب القطاع الخاص عن المساهمةيعد القطاع الحكوميالممول الرئيس لنظم البحث العلمي في الدول العربية، حيث يبلغ حوالي 80٪ من مجموعالتمويل المخصص للبحوث والتطوير مقارنة بـ3٪ للقطاع الخاص، و7٪ من مصادر مختلفة. وذلك على عكس الدول المتقدمة وإسرائيل حيث تتراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحثالعلمي ما بين 70٪ في اليابان و52٪ في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية(7).
وهذا الإسهام الضعيف من قبل القطاع الخاص للمؤسسات البحثية يرجع إلى عدم تقديرالقطاع الخاص لقيمة البحث العلمي وجدواه. إضافة إلى عدم كفاية الميزانيات التيترصدها المراكز والجامعات ومؤسسات المجتمع للبحث العلمي، وإلى الفساد الماليوالإداري الملحوظ في الجامعات ومراكز البحوث العربية.
ومن النماذج العربيةالجيدة في دعم البحث العلمي، نموذج دولة الكويت، التي فرضت نسبة معينة من أرباحالشركات لدعم «مؤسسة الكويت للأبحاث العلمية» تقدم كمعونة من القطاع الخاص، كموردإضافي لحركة البحث العلمي في جامعاتها ومراكزها البحثية.
وينبغي هنا أن نؤكد أنالقطاع الخاص عند دعمه للبحث العلمي سيكون هو أول المستفيدين من نتائجه على المدىالطويل. وأمثلة ذلك كثيرة في العالم فكم من الشركات الكبرى التي تبنت ودعمت بحثًاما في إحدى الجامعات وعند الوصول إلى النتائج كانت هي أول المستفيدين من هذا البحث. ومن ثم يعود عليها عائد مادي كبير لامتلاكها حق الاكتشاف والتبني. ونجد في أغلبجامعات العالم أن هنالك مراكز بحثية يقوم على تمويلها ودعمها الشركات الكبرى أوالقطاع الخاص عامة. وقد توصلت هذه المراكز (نتيجة لهذا الدعم) إلى حلول لمشكلات أوطورت اختراعًا عاد بالمردود الجيد على الشركات الداعمة. كما أن هذه الشركات قد تبيعنتائج البحوث التي دعتمها لقطاعات أخرى. بل (وليس بالضرورة) امتلاك هذه الشركاتلنتائج البحث، ففي كثير من الحالات يشارك عدد من الشركات لدعم بحث ما، ولا تستفيدمن ذلك سوى أن يذكر اسمها من ضمن الداعمين. وهذا له مردود دعائي كبير على مستهلكيمنتج الشركة، وذلك على المدى الطويل، فهو يدلل على مركز الشركة الرفيع وتقديرهاللبحث العلمي ويعطيها السمعة الحسنة والمتميزة أمام عملائها.
عدم وجود استراتيجية للتسويقمن أسباب ضآلة حجمالإنفاق على البحث العلمي افتقار أغلب المؤسسات العلمية والجامعات العربية إلىأجهزة متخصصة بتسويق الأبحاث ونتائجها وفق خطة اقتصادية إلى الجهات المستفيدة ممايدل على ضعف التنسيق بين مراكز البحوث والقطاع الخاص. كذلك غياب المؤسساتالاستشارية المختصة بتوظيف نتائج البحث العلمي وتمويله من أجل تحويل تلك النتائجإلى مشروعات اقتصادية مربحة. إضافة إلى ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة واعتمادهاعلى شراء المعرفة.
غياب التعاونوالتنسيقأشارت بعض الدراسات إلى أن المؤسسات البحثية العربية تعانيمن مشكلات عديدة من بينها انفصام الصلة بين الجامعات وحقل الإنتاج، وابتعادالجامعات عن إجراء البحوث المساهمة في حل المشكلات الوطنية، إضافة إلى عدم مشاركةالمؤسسات الكبرى والشركات والأثرياء من الأفراد في نفقات البحث العلمي.
فمراكزالبحوث والجامعات العربية تعاني من انفصال شبه كامل بينها وبين المجالات التطبيقيةخارج أسوارها أو معاملها، فالبحوث التي تجري بين جدرانها من جانب أساتذتها إنما هيبحوث فردية لأساتذة يحاولون الإنتاج العلمي بغية الترقي، أو النشر، أو السمعة! وهيبحوث أضعف من أن تحل مشكلات المجتمع أو تعمل على تقدمه.
ندرة الباحثينإن أنشطة البحث العلمي التي تجري فيإطار المراكز والجامعات العربية من أضعف الأنشطة البحثية في العالم، بسبب قلة عددالباحثين والمختصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة، وانشعال عدد كبير من أعضاءهيئة التدريس في العمل الإضافي. وكذلك استحواذ الميزانيات الإدارية على النصيبالأوفر من المخصصات الجامعية.
انخفاض معدلالإنتاجية العلميةأظهرت إحدى الدراسات أن ما ينشر سنويًا من البحوثفي الوطن العربي لا يتعدى 15 ألف بحث. ولما كان عدد أعضاء هيئة التدريس نحو 55ألفًا، فإن معدل الإنتاجية هو في حدود 0.3 وهو وضع يرثى له من حيث الإمكاناتالعلمية والتكنولوجية في مجال الإنتاجية العربية، إذ يبلغ 10٪ من معدلات الإنتاجيةفي الدول المتقدمة(8).
وهذا من الأمور التي تجعل من الحكومات العربية غير مهتمةبدعم البحث العلمي بالشكل اللائق، ولعلك تسمع بعض المسؤولين يبررون إخفاقهم في دعمالبحث العلمي بقلة إنتاج الباحثين، وضعف همتهم العلمية.
نظرة المجتمعينظر المجتمع العربي الحالي نظرة لاتليق بالبحث العلمي من حيث أولويته على كثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلكبالتنشئة الاجتاعية التي أكسبت الجماهير العربية الحالية هذه النظرة السالبة نحوالبحث العلمي، وأصبح الناس غير مدركين لخطورة تدهور البحث العلمي العربي، وتأخره عنركب الحضارةإن المجتمعات في الدول المتقدمة تدعم المؤسسات البحثية ماديًاومعنويًا، ولا يمكن أن تبخل عليها بالمال أو الإمكانات، أو حتى الدعم اللفظي، حتىإنه في كثير من الأحيان تنظم المسيرات والتجمعات مطالبة الحكومة بالإنفاق بسخاءلإجراء المزيد من البحوث العلمية في مجالات التنمية التي ينشدها الوطن.
الهوامش
1- انظر: صحيفة «المجد» الأردنية، العدد «150» 17 شوال 1417هـ/ 24 شباط/فبراير 1997م، ص1. وأنطوان زحلان،التحدي والاستجابة، مساهمة العلوم والتقانة العربية في تحديث الوطن العربي، «المستقبل العربي»، السنة الثالثة عشرة، العدد 146 (أبريل 1991م)، ص4-17.
2- عنموقع مؤسسة تنمية، بتاريخ 5/8/2005م.
3- انظر: المصدرالسابق، وانظر . yakut.blogspot.com
4-انظر: عصام الجوهري: «تحقيق.. عن التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل» (مقال مترجم عن الألمانية)، صحيفة «النهار»، 15 أيلول/سبتمبر 1999م، ص12.
5- انظر: منصور بن عوض القحطاني: الإنفاق على البحث العلمي الجامعي: الواقع والمأمول،بحث مقدم لورشة عمل «طرق تفعيل وثيقة الآراء للملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعودحول التعليم العالي»، المنعقدة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة في الفترة من 19-21 ذوالحجة 1425هـ الموافق 30 يناير-1فبراير 2005م.
6-انظر: المصدر السابق.
7- انظر: عبدالحسن الحسيني، «الأبحاث في القطاعات المدنية الإسرائيلية والعربية»، فيصحيفة النهار، (23سبتمبر/ 1999م)، ص12.
8- انظر: مكتب التربية لدول الخليجالعربية: «واقع البحث العلمي في الوطن العربي»، وقائع ندوة: «تطبيق نتائج البحوثلتنمية المجتمع العربي»، مكتب التربية العربي، الرياض، 1990م، ص88* كاتب وباحث مصري مهتم بأزمة البحث العلمي في العالم العربيوله كتاب عنهذا الموضوع تحت عنوان" أزمة البحث العلمي في مصر والوطن العربي"، ويمكنالتواصل مع الكاتب عبر البريد الإلكتروني[email protected] ([email protected])
yakut.blogspot.com
المصدر : مجلة المعرفة، الرياض، العدد 136