من هناك
07-15-2007, 06:00 AM
يوميات حرب معلنة: "الناس اللي تحت"
المستقبل - الاحد 15 تموز 2007 - العدد 2674 - نوافذ - صفحة 9
فالح عبد الجبار
في السبعينات كانت اقذع شتيمة للخليج انه مجتمع خدم، أما لبنان (في وصفه لنفسه) فهو مجتمع خدمات واقتصاد حر، أي مجتمع ينتج الثروة بالكد والمعرفة، ولا يتلقاها حاضرة على طبق من فضة او ذهب نفطي. اليوم يحذو لبنان حذو الخليج. ثمة جيل كامل من خدم العالم الثالث: سري لانكا، الفلبين، بنغلادش، يملأ شوارع بيروت. قبيل اغتيال الحريري، مررت ببيروت بحثاً عن دارة بين جبل وبحر نكتريها للابحار مجدداً عبر القنال الانجليزي، والبحر المتوسط، صوب الشرق. افتقد بيروت اكثر بعد ان ضاعت بغداد.
عند نزلة بربر تزكم انفي رائحة الشواء، والخبز.
النادل يرمقني بنظرة استغراب، لم ادرك مغزاها. ثمة غرابة في المشهد. ثمة شيء ناقص. او ثمة شيء زائد.
العوائل البيروتية في الآحاد ترتاد المطاعم. هو تقليد متوسطي بهيج. لكن بربر يخلو من اية سحنة لبنانية. ها أنذا محاط بسديم من بربرة آسيوية، فيليبينية بالأحرى. كنت العربي الوحيد. جائعات الفلبين يحتفين بآحادهن على غرار البيروتيين. ثمة طابور كامل منهن ينتظر دوره لمكالمات هاتفية بسعر زهيد عند احد الدكاكين.
قاعة الانترنت التي خلت هي الاخرى من طلبة وطالبات الجامعة الاميركية، تمتلىء الآن بالفيلبينيات اللواتي يجرين المهاتفات عبر الانترنت بأقل من دولار.
هذا الجيل سيحل محل الشوفير البيروتي الفقير خلال العقد القادم، هكذا قلت في دخيلتي. الرعيل الاول من الشوفيريه كان مسيحياً، والثاني سنياً، والثالث شيعياً، اما الرابع فسيكون فيلبينياً. وحين يرتقي هذا سيلصق السريلانكي بهذه المهنة. ولعل البيروتي المفقر سيجد تعويضه في الليموزين الفاره في خدمة اساطين المال.
يفقأ العالم الثالث دمامله على اعتاب اوربا قارة الثراء الجديد، منذ قرن؛ اما اليوم فإن ثآليله تهاجر الى عالم النفط منذ عقدين، وها هو لبنان، بعد سكون الحرب الاهلية، يدلف نادي المحظوظين.
ألتقي الخدم كل صباح في السوبرماركت، صار وجود الخادمة اعلاناً للوجاهة اكثر منه حاجة. في الماضي، كانت نساء الطبقة الوسطى تعلن عن الثراء بالحلي والمجوهرات. واليوم بات الاعلان وجيزاً: شفاه منتفخة بجراحة تجميلية، وافخاد نحيلة مشفوطة الدهن في دكاكين الجراحة، وخادمة.
ألتقي الخادمات ايضاً في دوائر الهجرة، وأقف في الطابور لأسجل وجودي شأنهن، مع فارق ان جواز سفري لا يفارقني، فأنا بلا سيد، بالاحرى بلا سيدة.
ثمة صمت ثقيل يحيط بوجود هذه الكائنات. برزخ اللغة يبقيهن نائيات، مغلقات، منكفئات. فالوجود المحض هنا هو اعلان صارخ عن الانتماء الى القاع.
مرة رجوت شغيل طرمبة بنزين آسيوي ان يلزم السائقين بضوابط الدور، فقال لي بانجليزية مكسّرة: "من انا لأقول لهم ان يكونوا مؤدبين، يحترمون تسلسل الدور، انا، من انا، لا أزيد عن مجرد حذاء".
كان شاباً وسيماً، في العشرين، خمري اللون، لعله من شمال الهند حيث تبدأ البشرة بالافتراق عن السمرة الداكنة، وبحكم اتقانه الانجليزية، والمرارة المهذبة التي انسابت ظننته طالباً جامعياً هجر الدراسة بأمل كسب ما يسعف على المواصلة. الارتقاء المؤجل، مرايا الاحلام المكسورة، الوضع اللابشري. اطبق علينا صمت ابي الهول، ودلفنا صحراء الكلام: مجرد حذاء!.
وللخدم حكاياهم، يرويها السادة دوماً، او خدم آخرون ينوبون بها عن بوحهم الذاتي.
"نورما" (الفيليبينية) قال الناطور "تعيش مثل ملكة، سيدها يعيش في باريس ولا يأتي إلا في الصيف. وهي تدير البيت ـ بل قصر يا رجل ـ لوحدها.. مثل الملكات" أي بلا سيد. نورما ضئيلة، نحيلة، قصيرة، وايضاً، كهلة، لكنها ترتعد هلعاً حين تخدم في بيوت الآخرين طلباً لدخل إضافي.
جيرمين، الأقصر والأنحف، يافعة ما تزال، يؤويها "مالكها" في بلكونة لا تسع خروفاً، سوّرها بالزجاج لتغدو "مسكن" الخادمة. راعني ضيق المجال فقال المالك في جذل "صغار القامة تدحشهم كيفما كان".
ابتكر مالك آخر حلاً مغايراً: اكترى كوخ كلاب واقامه في ركن قصي. يشبه هذا الكوخ منازل الاقزام.
في حومة الحرب، اختفت آلاف الخادمات. هربن من بيوت السادة، تاركات مرتباتهن، وجوازات سفرهن. إجلاء بيروت على حساب الدول الراعية كانت الفرصة السانحة. ماريا الفيليبينية توارت عن الانظار. لم تأخذ حتى قطعة ثياب. كانت تهاتف شاباً في الفليبين لعله حبيبها!، تنفق كل ما تنال على هذه المكالمات الدولية المكلفة. من ارغمها على العمل المنزلي في ديار الاغتراب؟، أب عاطل، أم مترملة، أم؟ هي ذي الحرب تحررها من الاسر.
خسر المالك ثمن تذكرتها ورسوم اقامتها، شاكياً هذا المآل لجيرانه.
ثمة مصادفة ألقت بي في طريق خادمة منزل صومالية. جاءني صوتها الناعم، بانجليزية مكسرة بغمغمات كلمات لبنانية: اسمي جو. قالت: احمل لك الفي دولار من اختك في اربيل. كانت تلك مفاجأة سارة، انقلبت نكداً. فالسيدة لا تسمح لها، بالمغادرة لاستلام الرسالة. لدينا (تقصد لديها) تنظيف، وجلي، والبيت مكركب، والمكان بعيد. نحن في انطلياس، نبعد اكثر من ساعة عن بيروت. اعرف بيروت جيداً، انطلياس لا تبعد اكثر من 20 دقيقة بالتاكسي. لم لا تأتي انت. كان صوت السيدة هلعاً. فجعت اكثر بنبأ وصول "ألفي" دولار لخادمة. تعال انت. خذ اجازة من ستك. انهتك الستر. السيدة تظنني خادماً منزلياً، فما دمت اتصل بخادمة، فلا بد ان اكون في منزلتها ومن قماشتها. كيف يتأتى لخادم ان يحمل ألفي دولار لخادمة، ومن اختها التي لا بدّ ان تكون خادمة. ما بال الخدم هذه الايام يجنون ويكسبون! قلت للسيدة ان جو الصومالية ليست عبدة عندها، وان عليها ان تخلي سبيلها لاستلام الرسالة والأمانة. وزجرتها بغلاظة عراقية لكي تفهم ان الرسالة وصلتني عبر وزير في العراق. تلعثمت ورضخت. هو سحر الالقاب. جاءت جو: يافعة في العشرين، بسروال ضيق، آخر شياكة، وتبرّج بيروتي فاقع. قل لأختي سأتزوج مثلها وأهرب.
وللخدم نجاحاتهم. السريلانكية، قال الشاعر، لها حمية خاصة في تنظيف البيت، زجاجاً وأرضية، لكن لها همّة اكبر في تنظيف الجيوب. فما من ليرة تمكث لحظة واحدة في جيب أي سروال بمجرد تعليقه على الشماعة. أما البنغلاديشية المسلمة، فاطمة، فقد تزوجت من لبناني. وجهها الصبوح، أسره، ثمة مرشحات اخريات قد يلحقن بها، فالجميلات من الفلبين يتأبطن بعضاً من أوسم شباب لبنان في جل الديب! وانطلياس شمالاً، او عاليه وبحمدون شرقاً... ويتمايلن عاشقات، مولهات. فالحب عندهن مسافر كوني يعبر جسور الفقر، مثلما يجتاز برزخ الثقافات.
المستقبل - الاحد 15 تموز 2007 - العدد 2674 - نوافذ - صفحة 9
فالح عبد الجبار
في السبعينات كانت اقذع شتيمة للخليج انه مجتمع خدم، أما لبنان (في وصفه لنفسه) فهو مجتمع خدمات واقتصاد حر، أي مجتمع ينتج الثروة بالكد والمعرفة، ولا يتلقاها حاضرة على طبق من فضة او ذهب نفطي. اليوم يحذو لبنان حذو الخليج. ثمة جيل كامل من خدم العالم الثالث: سري لانكا، الفلبين، بنغلادش، يملأ شوارع بيروت. قبيل اغتيال الحريري، مررت ببيروت بحثاً عن دارة بين جبل وبحر نكتريها للابحار مجدداً عبر القنال الانجليزي، والبحر المتوسط، صوب الشرق. افتقد بيروت اكثر بعد ان ضاعت بغداد.
عند نزلة بربر تزكم انفي رائحة الشواء، والخبز.
النادل يرمقني بنظرة استغراب، لم ادرك مغزاها. ثمة غرابة في المشهد. ثمة شيء ناقص. او ثمة شيء زائد.
العوائل البيروتية في الآحاد ترتاد المطاعم. هو تقليد متوسطي بهيج. لكن بربر يخلو من اية سحنة لبنانية. ها أنذا محاط بسديم من بربرة آسيوية، فيليبينية بالأحرى. كنت العربي الوحيد. جائعات الفلبين يحتفين بآحادهن على غرار البيروتيين. ثمة طابور كامل منهن ينتظر دوره لمكالمات هاتفية بسعر زهيد عند احد الدكاكين.
قاعة الانترنت التي خلت هي الاخرى من طلبة وطالبات الجامعة الاميركية، تمتلىء الآن بالفيلبينيات اللواتي يجرين المهاتفات عبر الانترنت بأقل من دولار.
هذا الجيل سيحل محل الشوفير البيروتي الفقير خلال العقد القادم، هكذا قلت في دخيلتي. الرعيل الاول من الشوفيريه كان مسيحياً، والثاني سنياً، والثالث شيعياً، اما الرابع فسيكون فيلبينياً. وحين يرتقي هذا سيلصق السريلانكي بهذه المهنة. ولعل البيروتي المفقر سيجد تعويضه في الليموزين الفاره في خدمة اساطين المال.
يفقأ العالم الثالث دمامله على اعتاب اوربا قارة الثراء الجديد، منذ قرن؛ اما اليوم فإن ثآليله تهاجر الى عالم النفط منذ عقدين، وها هو لبنان، بعد سكون الحرب الاهلية، يدلف نادي المحظوظين.
ألتقي الخدم كل صباح في السوبرماركت، صار وجود الخادمة اعلاناً للوجاهة اكثر منه حاجة. في الماضي، كانت نساء الطبقة الوسطى تعلن عن الثراء بالحلي والمجوهرات. واليوم بات الاعلان وجيزاً: شفاه منتفخة بجراحة تجميلية، وافخاد نحيلة مشفوطة الدهن في دكاكين الجراحة، وخادمة.
ألتقي الخادمات ايضاً في دوائر الهجرة، وأقف في الطابور لأسجل وجودي شأنهن، مع فارق ان جواز سفري لا يفارقني، فأنا بلا سيد، بالاحرى بلا سيدة.
ثمة صمت ثقيل يحيط بوجود هذه الكائنات. برزخ اللغة يبقيهن نائيات، مغلقات، منكفئات. فالوجود المحض هنا هو اعلان صارخ عن الانتماء الى القاع.
مرة رجوت شغيل طرمبة بنزين آسيوي ان يلزم السائقين بضوابط الدور، فقال لي بانجليزية مكسّرة: "من انا لأقول لهم ان يكونوا مؤدبين، يحترمون تسلسل الدور، انا، من انا، لا أزيد عن مجرد حذاء".
كان شاباً وسيماً، في العشرين، خمري اللون، لعله من شمال الهند حيث تبدأ البشرة بالافتراق عن السمرة الداكنة، وبحكم اتقانه الانجليزية، والمرارة المهذبة التي انسابت ظننته طالباً جامعياً هجر الدراسة بأمل كسب ما يسعف على المواصلة. الارتقاء المؤجل، مرايا الاحلام المكسورة، الوضع اللابشري. اطبق علينا صمت ابي الهول، ودلفنا صحراء الكلام: مجرد حذاء!.
وللخدم حكاياهم، يرويها السادة دوماً، او خدم آخرون ينوبون بها عن بوحهم الذاتي.
"نورما" (الفيليبينية) قال الناطور "تعيش مثل ملكة، سيدها يعيش في باريس ولا يأتي إلا في الصيف. وهي تدير البيت ـ بل قصر يا رجل ـ لوحدها.. مثل الملكات" أي بلا سيد. نورما ضئيلة، نحيلة، قصيرة، وايضاً، كهلة، لكنها ترتعد هلعاً حين تخدم في بيوت الآخرين طلباً لدخل إضافي.
جيرمين، الأقصر والأنحف، يافعة ما تزال، يؤويها "مالكها" في بلكونة لا تسع خروفاً، سوّرها بالزجاج لتغدو "مسكن" الخادمة. راعني ضيق المجال فقال المالك في جذل "صغار القامة تدحشهم كيفما كان".
ابتكر مالك آخر حلاً مغايراً: اكترى كوخ كلاب واقامه في ركن قصي. يشبه هذا الكوخ منازل الاقزام.
في حومة الحرب، اختفت آلاف الخادمات. هربن من بيوت السادة، تاركات مرتباتهن، وجوازات سفرهن. إجلاء بيروت على حساب الدول الراعية كانت الفرصة السانحة. ماريا الفيليبينية توارت عن الانظار. لم تأخذ حتى قطعة ثياب. كانت تهاتف شاباً في الفليبين لعله حبيبها!، تنفق كل ما تنال على هذه المكالمات الدولية المكلفة. من ارغمها على العمل المنزلي في ديار الاغتراب؟، أب عاطل، أم مترملة، أم؟ هي ذي الحرب تحررها من الاسر.
خسر المالك ثمن تذكرتها ورسوم اقامتها، شاكياً هذا المآل لجيرانه.
ثمة مصادفة ألقت بي في طريق خادمة منزل صومالية. جاءني صوتها الناعم، بانجليزية مكسرة بغمغمات كلمات لبنانية: اسمي جو. قالت: احمل لك الفي دولار من اختك في اربيل. كانت تلك مفاجأة سارة، انقلبت نكداً. فالسيدة لا تسمح لها، بالمغادرة لاستلام الرسالة. لدينا (تقصد لديها) تنظيف، وجلي، والبيت مكركب، والمكان بعيد. نحن في انطلياس، نبعد اكثر من ساعة عن بيروت. اعرف بيروت جيداً، انطلياس لا تبعد اكثر من 20 دقيقة بالتاكسي. لم لا تأتي انت. كان صوت السيدة هلعاً. فجعت اكثر بنبأ وصول "ألفي" دولار لخادمة. تعال انت. خذ اجازة من ستك. انهتك الستر. السيدة تظنني خادماً منزلياً، فما دمت اتصل بخادمة، فلا بد ان اكون في منزلتها ومن قماشتها. كيف يتأتى لخادم ان يحمل ألفي دولار لخادمة، ومن اختها التي لا بدّ ان تكون خادمة. ما بال الخدم هذه الايام يجنون ويكسبون! قلت للسيدة ان جو الصومالية ليست عبدة عندها، وان عليها ان تخلي سبيلها لاستلام الرسالة والأمانة. وزجرتها بغلاظة عراقية لكي تفهم ان الرسالة وصلتني عبر وزير في العراق. تلعثمت ورضخت. هو سحر الالقاب. جاءت جو: يافعة في العشرين، بسروال ضيق، آخر شياكة، وتبرّج بيروتي فاقع. قل لأختي سأتزوج مثلها وأهرب.
وللخدم نجاحاتهم. السريلانكية، قال الشاعر، لها حمية خاصة في تنظيف البيت، زجاجاً وأرضية، لكن لها همّة اكبر في تنظيف الجيوب. فما من ليرة تمكث لحظة واحدة في جيب أي سروال بمجرد تعليقه على الشماعة. أما البنغلاديشية المسلمة، فاطمة، فقد تزوجت من لبناني. وجهها الصبوح، أسره، ثمة مرشحات اخريات قد يلحقن بها، فالجميلات من الفلبين يتأبطن بعضاً من أوسم شباب لبنان في جل الديب! وانطلياس شمالاً، او عاليه وبحمدون شرقاً... ويتمايلن عاشقات، مولهات. فالحب عندهن مسافر كوني يعبر جسور الفقر، مثلما يجتاز برزخ الثقافات.