الصورة الكاملة
07-07-2007, 03:34 PM
وليد جنبلاط
تواجه فرقة الموحدين الدروز في لبنان تحدياً مصيرياً في هذه المرحلة التاريخية التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً؛ فعلى الرغم من شراسة الهجمة الأمريكية وهمجيتها على العالم العربي والإسلامي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتطويع شعوب المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية وتحويل بلادها إلى مجرد أسواق مفتوحة أمامها وأمام إسرائيل، والتهديد بالقضاء عسكرياً على كل من لا يزال واقفاً في وجه مشروعها الإمبراطوري، وعلى الرغم من تداعيات هذه الهجمة ووضوح أهدافها وأدواتها على الساحة اللبنانية، نجد القيادة السياسية الرئيسية لفرقة الموحدين الدروز في لبنان، تتحول إلى أداة رئيسية في هذه الهجمة، ناسفة بذلك أسس وثوابت الدور الذي قام الدروز به تاريخياً، وهي باتت تهدد بذلك بزعزعة الأركان الأساسية التي كرسها الدروز في تاريخهم السياسي في المشرق العربي على مدى ألف عام أو نحوه.
والمواقف والخيارات التي يتخذها الزعيم "الدرزي" وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة تدفعنا إلى التوقف عند تلك الشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط وعند تأثير دور تلك الشخصية في واقع الدروز السياسي في لبنان؛ وهما مسألتان يبدو من الصعب معالجة إحداهما دون الأخرى. فالشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط لا يمكن فهمها بمعزل عن الإرث السياسي للدروز وللزعامة الجنبلاطية تحديداً، منذ بدايات القرن التاسع عشر على الأقل. كما أن المكوّن السياسي للدروز، وبخاصة الجنبلاطيين منهم، لا يمكن فهمه بمعزل عن الأدوار المتعاقبة التي قامت الزعامة الجنبلاطية بها خلال المرحلة التاريخية نفسها.
هناك مجموعة محطات تاريخية تمثل محور الذاكرة الشعبية لدى الجنبلاطيين الدروز ومخيالهم السياسي، أو قُل "كربلائياتهم"؛ وهي المحاور نفسها التي تمثّل مجموعة العقد التاريخية التي تكسو المواقف وردود الفعل السياسية لدى وليد جنبلاط في كثير من الأحيان، وهي التي تفسر إلى حد بعيد التقلبات الجذرية التي يحدثها وليد جنبلاط في مواقفه وفي مواقعه وتحالفاته السياسية بين ليلة وضحاها: إنها صراع البشيرين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وحرب الـ 1860، وثورة الـ 1958، وحرب الـ 1975، واغتيال كمال جنبلاط عام 1977، وحرب الجبل عام 1982. وقد استعار جنبلاط مؤخراً، إضافة إليها، "كربلائية" اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
غير أن هذه المحطات ليست المحور الوحيد للسلوك السياسي، سواء لدى جنبلاط أم لدى جماعته، بل كثيراً ما يسعى جنبلاط لاستحضار هذه "الكربلائيات" لتغطية مواقف سياسية تعبّر عن مصالح شخصية راهنة لديه يحتاج تحقيقها إلى عملية تهييج جماهيري في وتيرة محددة وعلى إيقاع "كربلائي" محدد من تلك المحطات التاريخية. فالصراع مع الموارنة مثلاً، يستحضر "كربلائية" بشير جنبلاط وحرب الـ 1860، والصراع مع السوريين يستحضر "كربلائية" كمال جنبلاط، والصراع مع القوى والأقطاب السياسية الأخرى داخل الساحة الدرزية يستحضر "كربلائية" ثورة الـ 1958...
وإذا كانت هذه المحطات التاريخية تؤسس للمخيال السياسي للدروز الجنبلاطيين تحديداً فإن هناك محطات تاريخية أخرى كان لها دور أكبر في تأسيس أهم مرتكزات المخيال السياسي والثقافة السياسية للدروز جميعاً: قصدنا الحروب الصليبية ودور التنوخيين في صدّها ومقاومتها، الأمر الذي منح الدروز يومها شرف لقب سيف الإسلام وحماة الثغور في وجه الغزاة الفرنجة؛ ثم مواجهة المجاهدين الدروز لغزوة نابليون وحصاره عكا، وعامية عبيه عام 1799 التي أعلنت رفض الدروز للغزو الفرنسي؛ ثم الثورة العربية الكبرى، والثورة السورية التي كان سلطان باشا الأطرش أحد أبرز قادتها؛ والمقاومة العربية للمشروع الصهيوني في فلسطين، التي كان عادل أرسلان أبرز قادتها أيضاً...
عبر هذه المحطات جميعاً تكرس عبر قرون أحد ركنَي هوية الدروز الثقافية - السياسية بوصفهم فرقة عربية إسلامية احتلت موقعاً طليعياً عبر التاريخ في الدفاع عن عروبة هذه الأرض وفي صَدّ غزوات القوى الاستعمارية وحماية العمق العربي من تلك الغزوات.
أما الركن الآخر الذي تقوم عليه الهوية الثقافية - السياسية للدروز فهو الركن القيمي - الأخلاقي الذي اتسم الدروز به تاريخياً، والذي كثيراً ما تغنّى به كبار الشعراء العرب والكتاب والمؤرخين وحتى المستشرقين منهم، وهو القائم على قيم الكرم والرجولة وصدق اللسان والكرامة وعزة النفس ونبذ الخيانة وعدم الطعن في الظهر... وهي قيم تعود بجذورها إلى المنظومة العقائدية لفرقة الموحدين الدروز المستمدة بدورها من بواطن النص القرآني ومن روافد بعض الفرق الكلامية والطرق الصوفية السابقة لها في الإسلام، فضلاً عن بعض روافد الفلسفة اليونانية والشرقية.
هكذا إذاً، استمدت الثقافة السياسية للدروز سماتها من هذين المصدرين: المصدر الحدثي التاريخي الذي تأسس على مجموعة "الكربلائيات" والمحطات التاريخية التي نسجت للدروز صورة في مخيالهم السياسي كانت مصدر افتخار واعتزاز بأنفسهم بوصفهم سيف العروبة والإسلام ورأس حربة في وجه قوى الاحتلال والاستعمار؛ والمصدر العقيدي – المسلكي الذي تأسس على مجموعة الروافد العقيدية والفكرية والصوفية التي قامت عليها فرقة التوحيد الدرزية والتي نسجت للدروز صورة عن أنفسهم، لديهم ولدى الآخرين، بوصفهم أصحاب الشرف والشهامة والكرم والكرامة والشجاعة والأمانة...
غير أن هذين الركنين أخذ حضورهما يشتد أو يضعف في الثقافة السياسية الدرزية وفق المواصفات السياسية والمسلكية للزعامة السياسية السائدة، وبخاصة وسط مجتمع وراثي يعتلي الشخص فيه عرش الزعامة ليس على أساس صفاته وقدراته الشخصية بل على أساس نسبه إلى عائلة الزعامة، الأمر الذي يقيه محاسبة الجماعة أو يجعله مصدر تماهٍ لها فتجعله مؤثراً فيها ومقلَّداً من قِبَلها أكثر منه متأثراً بها معبراً عن واقعها وعاكساً صورتها، أو مصالحها.
ماذا تبقّى للدروز من هذين الركنين في ظل زعامة وليد جنبلاط؟
لم يكن ممكناً لوليد جنبلاط أن يتبنى كل هذه الخيارات التي يتبناها اليوم، سواء على المستوى السياسي أم على المستوى المسلكي، لو لم يعمل على مدى أكثر من ربع قرن في موقعه الزعامي، على تدمير هذين الركنين اللذين تقوم الهوية الثقافية - السياسية للدروز عليهما. والتغيرات الجذرية التي شهدناها في مواقف جنبلاط في الفترة الأخيرة ليست جديدة، بل هو أخذ يهيئ لها الأرض منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 على الأقل. وبالفعل، اعتمد جنبلاط منذ ذلك الحين استراتيجية مد الخطوط في كل الاتجاهات (الإقليمية والدولية)، مقابل الحفاط على خطاب علني "عروبي" يتناغم مع التحالفات المفروضة على الأرض، وخطاب استتاري يترك الأبواب مفتوحة على كل الخيارات، منطلقاً في ذلك من ذرائع مصلحية ضيقة ترى أن الدروز أقلية لا سند لها، وبالتالي عليها أن تحافظ على نفسها كيفما مالت الكفّة في موازين القوى الإقليمية والدولية.
سنحاول هنا تحليل الواقع الدرزي في ظل زعامة وليد جنبلاط على مستويين: مستوى المكوّن الشخصي لوليد جنبلاط وانعكاسه على الواقع السياسي الدرزي؛ ومستوى الثقافة السياسية في الوسط الدرزي الجنبلاطي وتأثيرها في واقع الدروز السياسي، وهو أمر مع الأسف قلّما يجري إلقاء الضوء عليه حين تجري دراسة ظاهرة سياسية محددة، في الوقت الذي تركز كل التحليلات والأدبيات السياسية عادةً على الواقع السياسي كما يبدو من "فوق".
مثّل المحك السياسي الأهم لوليد جنبلاط في ظل زعامته السياسية التي بدأت عام 1977 الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما تلاه من حروب داخلية اتخذت عدة أوجه وأبعاد. فالمرحلة التي امتدت من عام 1977، تاريخ إلباس وليد جنبلاط عباءة الزعامة، إلى عام 1982 تاريخ الاجتياح، لم تحمل الكثير من الأحداث السياسية التي كانت تتطلب من جنبلاط اتخاذ قرارات كبرى أو أن يكون مشاركاً فاعلاً في اللعبة السياسية، على الرغم مما حملته تلك الفترة من بعض المؤشرات التفصيلية التي أخذت توضح بعض ملامح شخصيته السياسية والمسلكية، كتقليص هامش الديمقراطية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي وتعزيز العلاقات الزبونية داخل الحزب، والتخلص رويداً رويداً من نهج كمال جنبلاط وأخلاقياته السائدة فيه.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبدأت تتضح معه أكثر فأكثر المكونات الشخصية والخيارات السياسية لوليد جنبلاط. وهذا أمر يتطلب توضيحه الاستشهاد ببعض المحطات التاريخية:
منذ اليوم الأول لذلك الاجتياح عمّت أجواء الاستنفارات العسكرية في أوساط شبان ومقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي والأحزاب الوطنية الأخرى في مناطق نفوذ وليد جنبلاط كما في معظم المناطق اللبنانية التي شملها الغزو الإسرائيلي. وحدث المنعطف الأول في الهوية السياسية للدروز الجنبلاطيين عقب تعميم قرار حزبي من رئيس الحزب على معظم القرى والمناطق التي يوجد فيها مقاتلون للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم التصدي للاجتياح الإسرائيلي، على الرغم من استعداد وحماسة الكثيرين منهم يومها لمواجهة القوات الإسرائيلية؛ وهكذا انكفأ الجنبلاطيون عن مواجهة الاجتياح، في حين راح مقاتلون من الأحزاب الوطنية الأخرى ينظمون أنفسهم بمجموعات ويواجهون جحافل الغزو إلى جانب بعض مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ولو مواجهة رمزية في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من تدفق التبريرات حينها القائلة إن وليد جنبلاط يريد تجنيب القرى الدرزية عمليات تدمير واسعة يمكن أن تقوم إسرائيل بها، فإن الأيام والشهور التي تلت الاجتياح أظهرت أن السياسة التي ينتهجها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط هي، على الأقل، سياسة غير معادية لإسرائيل، وقد جرت ترجمتها، في أثناء حرب الجبل - التي بادر إليها واتخذ قرارها بعض الرموز التقدمية الاشتراكية والوطنية الميدانية وليس وليد جنبلاط نفسه - بعمليات تنسيق أمني بين بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي وجيش "الدفاع" الإسرائيلي إلى حد أن عدداً من المسؤولين الحزبيين باتوا يعرّفون عن أنفسهم على الحواجز الإسرائيلية بواسطة بطاقات تعريف إسرائيلية كانوا يحملونها، إضافة إلى بعض المجموعات التي نظمت برعاية الحزب التقدمي الاشتراكي وكان هدفها ملاحقة "المخربين" (أي المقاومين) وتسليمهم للإسرائيليين. حتى إن حالة "اللاعداء" هذه كان يجري التعبير عنها بمظاهر أوضح، كتنقل بعض مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بين جبهات القتال في منطقة "عاليه" وبين قراهم وبلداتهم في منطقة حاصبيا عبر حواجز جيش لبنان الجنوبي وهم يرتدون بزاتهم العسكرية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي؛ دع عنك الزيارات التي كان يقوم بها بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي أو بعض الشخصيات الدرزية لإسرائيل بتكليف من وليد جنبلاط أحياناً. مع العلم أن هذه الزيارات عادت لتتجدد على ما يبدو منذ عام 2005 من قبل بعض الرموز الجنبلاطية الأخرى.
كل هذه الممارسات ساهمت في خلق جوّ في وسط الجنبلاطيين الدروز غير معادٍ لإسرائيل وغير معني بالاحتلال الإسرائيلي بل متكيّف معه، الأمر الذي أسقط رويداً رويداً مقولة إسرائيل العدو من مكونات الثقافة السياسية لدى هذه الجماعة.
وفي هذا السياق توّج هذا التوجه غير المعادي لإسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لإسرائيل داخل الحزب التقدمي الاشتراكي أو خارجه، حتى إن بعض رموز هذا التيار جرت تصفيته جسدياً.
على صعيد آخر، ساهم وليد جنبلاط على مدى أكثر من ربع قرن في وجوده على عرش الزعامة، في إضعاف أو تهميش نظام القيم الأخلاقية وسط الدروز الجنبلاطيين. وقد كانت سنوات الحرب لها وسائلها في ذلك وسنوات ما بعد الحرب وسائلها الأخرى. ففي سنوات الحرب نشأت في أوساط الحزبيين، وتحديداً وسط القيادات الوسطى، طبقة من أغنياء الحرب الذين أباحوا لأنفسهم شتى ضروب النهب والفساد والتعدّي على أملاك الغير. وإذا كان طبيعياً أن تشهد أي حرب نمو هذه المظاهر فإن ما هو ليس طبيعياً في الحالة التي نتحدث عنها هو أن يكون الزعيم السياسي مشرفاً على هذه الظاهرة وراعياً لها، بل ربما مشاركاً فيها. وهذا ما عبّر عنه جنبلاط مباشرة وعلناً في أحد لقاءاته بمحازبيه ومسؤولي حزبه في بيروت يوم اجتمع بهم في إحدى صالات السينما في "الحمرا" في منتصف الثمانينات موعزاً إليهم: "بدّي مصاري من بيروت، دبروا حالكم"، الأمر الذي كان بمنزلة إيذان لهؤلاء الأبَوَات لكي يعيثوا ببيروت فساداً ونهباً وهتكاً بكرامات أهلها. كل ذلك كان يحدث تحت تبرير: "بيروت بدها زعران". هكذا تحول الحزب التقدمي الاشتراكي آنذاك إلى مدرسة لتخريج الشبّيحة واللصوص والفاسدين الذين ما لبثوا أن راحوا يعمّمون ثقافة الفساد في أوساط الدروز الجنبلاطيين عموماً.
ولم تكن عملية تعميم ثقافة الفساد أقل وضوحاً في سياسة جنبلاط في مرحلة ما بعد الحرب. فجنبلاط كان واحداً من رموز الحرب الذين عادوا إلى السلطة بعد اتفاق الطائف، فتسلم في تلك الفترة عدّة وزارات شهدت جميعها في عهده عمليات فساد وهدر وتلاعب بالمال العام. ولأسباب سياسية تتعلق بـ"المصالحة الوطنية"، كما قيل، تسنى لجنبلاط أن يتسلّم وزارة شؤون المهجّرين أو أن يشرف عليها. فكانت تجربته في تلك الوزارة نموذجاً "مثالياً" لعمليات التزوير المنظم ونهب المال العام وتعميم ثقافة الفساد في أوساط الكثير من الفئات الشعبية، وبخاصة وسط الدروز الجنبلاطيين. كما استخدمت أموال وزارة المهجرين منذ منتصف التسعينات رُشى لشراء أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية والبلدية. وعملياً مثل المسؤولون الحزبيون الجنبلاطيون في القرى والمناطق دور الوسطاء بين المواطنين ووزارة شؤون المهجرين. وعبرهم جرى تعميم كل وسائل التزوير والعمولة وسرقة المال العام، بل جرى تعميم استخدام هذه الوسائل لشراء الضمائر ولتدمير نظم القيم لدى المواطنين، فغابت معايير الحلال والحرام لديهم على الرغم من قوة حضورها في نظام القيم وفي الثقافة الشعبية لدى المواطنين الدروز تاريخياً.
هذا التحول على المستويين السياسي والمسلكي داخل الحزب التقدمي الاشتراكي منذ بدايات الثمانينات أسّس لنزعة يمينية وإفسادية في الثقافة السياسية الجنبلاطية، بدءاً من المستوى الجماهيري وصولاً إلى رأس القمة، مع العلم أن جنبلاط نفسه هو الذي كان يدفع في هذا الاتجاه. ولم تكن مصادفة أن تلك الطبقة من "أغنياء الحرب" والشبيحة التي نشأت داخل الحزب هي نفسها الفئة غير المعادية لإسرائيل، وهي نفسها الفئة التي كان وليد جنبلاط يرعاها ويقف في صفها كلما حدث خلاف داخل الحزب بينها وبين الفئات المعترضة على نهجها السياسي والمسلكي. إلى أن أمسكت هذه الطبقة عملياً، وبإدارة جنبلاط، بكل مفاصل العمل الحزبي والعسكري والجماهيري، بدءاً من مسؤولي القرى وصولاً إلى مجلس قيادة الحزب.
وقد أخذ النهج اليميني والفاسد يظهر واضحاً منذ منتصف الثمانينات، حين راح الموقع الطبقي للحزب التقدمي الاشتراكي يتبدل، وأخذ مسؤولوه يتدخلون لقمع التحركات العمالية المطلبية في العديد من المصانع والمؤسسات القائمة في مناطق سيطرتهم، مقابل حفنة من الأموال كانوا يرتشون بها من قبل أرباب العمل. وخلال حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة، كثيراً ما دفع الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطيين الدروز إلى اتخاذ مواقف مناهضة للحركة النقابية والمطلبية، حتى إن مسؤولي الحزب في مناطق الشوف وعاليه وبعبدا على الأقل، كانوا حين تكون هناك دعوة إلى الإضراب العام من قبل الاتحاد العمالي، يجولون على أصحاب المحال التجارية والمؤسسات في تلك المناطق طالبين منهم عدم التقيد بالإضراب. فما بالك بالمواقف التي كان وليد جنبلاط وكتلته النيابية يتخذونها حيال السياسة الاقتصادية والمالية خلال تلك الفترة، على الرغم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، من أن تلك السياسات اليمينية التي ينتهجها وليد جنبلاط وحزبه، متسلحين بالقواعد "الشعبية" للدروز الجنبلاطيين، هي سياسات مناقضة تماماً للمصالح الفعلية لتلك القواعد الشعبية البائسة، التي تأسس الحزب التقدمي الاشتراكي من أجلها أصلاً؛ فضلاً عن أنها ساهمت في إفقار وتجويع هذه القواعد.
كيف يمكن تفسير هذه الدوافع لدى وليد جنبلاط؟
إن وليد جنبلاط لم ينشأ نشأة يسارية أساساً، وهو لم يكن على علاقة منسجمة سياسياً بكمال جنبلاط، على الرغم من كل الإدعاءات التحريضية المضللة التي يمارسها اليوم عبر إثارة موضوع قتل هذا القائد العربي؛ لأن وليد جنبلاط في الواقع ليس حريصاً على مبادئ وأخلاقيات كمال جنبلاط ولا على ثوابته السياسية والطبقية، فوليد جنبلاط هو من حيث مكوناته الشخصية امتداد لبشير جنبلاط، الإقطاعي، المستبد، البراغماتي، غير المتمسك بالثوابت، محب المال والسلطة، الذي لا يجيد احترام جماعته، الطامح إلى الاستفراد بالزعامة حتى لو عبر القضاء على كل منافسيه، أضف إلى ذلك دفاع وليد جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية التي هو أحد رموزها، مقابل كمال جنبلاط، المبدئي، الأخلاقي، الاشتراكي، المتواضع، الذي يجيد احترام الآخرين، الزاهد، المتعالي على المال والثروة، المدافع عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء، الذي إذا رفع شعاراً عمل على تطبيقه على نفسه قبل أن يطلب من الآخرين تطبيقه... والمفارقة الكبرى بين الرجلين هي أن كمالاً انطلق في حياته السياسية من موقع تقليدي إقطاعي يميني صديق للاستعمار، حاولت الست نظيرة (والدته) أن تزجّه فيه، غير أنه انقلب على ذلك الموقع وانتهى قائداً وطنياً وعربياً، يسارياً، معادياً للاستعمار، ساعياً لتغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة في لبنان. أما وليد فهو على العكس تماماً، انطلق في حياته السياسية من موقع وطني تقدمي، قائداً للحركة الوطوليد جنبلاط
تواجه فرقة الموحدين الدروز في لبنان تحدياً مصيرياً في هذه المرحلة التاريخية التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً؛ فعلى الرغم من شراسة الهجمة الأمريكية وهمجيتها على العالم العربي والإسلامي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتطويع شعوب المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية وتحويل بلادها إلى مجرد أسواق مفتوحة أمامها وأمام إسرائيل، والتهديد بالقضاء عسكرياً على كل من لا يزال واقفاً في وجه مشروعها الإمبراطوري، وعلى الرغم من تداعيات هذه الهجمة ووضوح أهدافها وأدواتها على الساحة اللبنانية، نجد القيادة السياسية الرئيسية لفرقة الموحدين الدروز في لبنان، تتحول إلى أداة رئيسية في هذه الهجمة، ناسفة بذلك أسس وثوابت الدور الذي قام الدروز به تاريخياً، وهي باتت تهدد بذلك بزعزعة الأركان الأساسية التي كرسها الدروز في تاريخهم السياسي في المشرق العربي على مدى ألف عام أو نحوه.
والمواقف والخيارات التي يتخذها الزعيم "الدرزي" وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة تدفعنا إلى التوقف عند تلك الشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط وعند تأثير دور تلك الشخصية في واقع الدروز السياسي في لبنان؛ وهما مسألتان يبدو من الصعب معالجة إحداهما دون الأخرى. فالشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط لا يمكن فهمها بمعزل عن الإرث السياسي للدروز وللزعامة الجنبلاطية تحديداً، منذ بدايات القرن التاسع عشر على الأقل. كما أن المكوّن السياسي للدروز، وبخاصة الجنبلاطيين منهم، لا يمكن فهمه بمعزل عن الأدوار المتعاقبة التي قامت الزعامة الجنبلاطية بها خلال المرحلة التاريخية نفسها.
هناك مجموعة محطات تاريخية تمثل محور الذاكرة الشعبية لدى الجنبلاطيين الدروز ومخيالهم السياسي، أو قُل "كربلائياتهم"؛ وهي المحاور نفسها التي تمثّل مجموعة العقد التاريخية التي تكسو المواقف وردود الفعل السياسية لدى وليد جنبلاط في كثير من الأحيان، وهي التي تفسر إلى حد بعيد التقلبات الجذرية التي يحدثها وليد جنبلاط في مواقفه وفي مواقعه وتحالفاته السياسية بين ليلة وضحاها: إنها صراع البشيرين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وحرب الـ 1860، وثورة الـ 1958، وحرب الـ 1975، واغتيال كمال جنبلاط عام 1977، وحرب الجبل عام 1982. وقد استعار جنبلاط مؤخراً، إضافة إليها، "كربلائية" اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
غير أن هذه المحطات ليست المحور الوحيد للسلوك السياسي، سواء لدى جنبلاط أم لدى جماعته، بل كثيراً ما يسعى جنبلاط لاستحضار هذه "الكربلائيات" لتغطية مواقف سياسية تعبّر عن مصالح شخصية راهنة لديه يحتاج تحقيقها إلى عملية تهييج جماهيري في وتيرة محددة وعلى إيقاع "كربلائي" محدد من تلك المحطات التاريخية. فالصراع مع الموارنة مثلاً، يستحضر "كربلائية" بشير جنبلاط وحرب الـ 1860، والصراع مع السوريين يستحضر "كربلائية" كمال جنبلاط، والصراع مع القوى والأقطاب السياسية الأخرى داخل الساحة الدرزية يستحضر "كربلائية" ثورة الـ 1958...
وإذا كانت هذه المحطات التاريخية تؤسس للمخيال السياسي للدروز الجنبلاطيين تحديداً فإن هناك محطات تاريخية أخرى كان لها دور أكبر في تأسيس أهم مرتكزات المخيال السياسي والثقافة السياسية للدروز جميعاً: قصدنا الحروب الصليبية ودور التنوخيين في صدّها ومقاومتها، الأمر الذي منح الدروز يومها شرف لقب سيف الإسلام وحماة الثغور في وجه الغزاة الفرنجة؛ ثم مواجهة المجاهدين الدروز لغزوة نابليون وحصاره عكا، وعامية عبيه عام 1799 التي أعلنت رفض الدروز للغزو الفرنسي؛ ثم الثورة العربية الكبرى، والثورة السورية التي كان سلطان باشا الأطرش أحد أبرز قادتها؛ والمقاومة العربية للمشروع الصهيوني في فلسطين، التي كان عادل أرسلان أبرز قادتها أيضاً...
عبر هذه المحطات جميعاً تكرس عبر قرون أحد ركنَي هوية الدروز الثقافية - السياسية بوصفهم فرقة عربية إسلامية احتلت موقعاً طليعياً عبر التاريخ في الدفاع عن عروبة هذه الأرض وفي صَدّ غزوات القوى الاستعمارية وحماية العمق العربي من تلك الغزوات.
أما الركن الآخر الذي تقوم عليه الهوية الثقافية - السياسية للدروز فهو الركن القيمي - الأخلاقي الذي اتسم الدروز به تاريخياً، والذي كثيراً ما تغنّى به كبار الشعراء العرب والكتاب والمؤرخين وحتى المستشرقين منهم، وهو القائم على قيم الكرم والرجولة وصدق اللسان والكرامة وعزة النفس ونبذ الخيانة وعدم الطعن في الظهر... وهي قيم تعود بجذورها إلى المنظومة العقائدية لفرقة الموحدين الدروز المستمدة بدورها من بواطن النص القرآني ومن روافد بعض الفرق الكلامية والطرق الصوفية السابقة لها في الإسلام، فضلاً عن بعض روافد الفلسفة اليونانية والشرقية.
هكذا إذاً، استمدت الثقافة السياسية للدروز سماتها من هذين المصدرين: المصدر الحدثي التاريخي الذي تأسس على مجموعة "الكربلائيات" والمحطات التاريخية التي نسجت للدروز صورة في مخيالهم السياسي كانت مصدر افتخار واعتزاز بأنفسهم بوصفهم سيف العروبة والإسلام ورأس حربة في وجه قوى الاحتلال والاستعمار؛ والمصدر العقيدي – المسلكي الذي تأسس على مجموعة الروافد العقيدية والفكرية والصوفية التي قامت عليها فرقة التوحيد الدرزية والتي نسجت للدروز صورة عن أنفسهم، لديهم ولدى الآخرين، بوصفهم أصحاب الشرف والشهامة والكرم والكرامة والشجاعة والأمانة...
غير أن هذين الركنين أخذ حضورهما يشتد أو يضعف في الثقافة السياسية الدرزية وفق المواصفات السياسية والمسلكية للزعامة السياسية السائدة، وبخاصة وسط مجتمع وراثي يعتلي الشخص فيه عرش الزعامة ليس على أساس صفاته وقدراته الشخصية بل على أساس نسبه إلى عائلة الزعامة، الأمر الذي يقيه محاسبة الجماعة أو يجعله مصدر تماهٍ لها فتجعله مؤثراً فيها ومقلَّداً من قِبَلها أكثر منه متأثراً بها معبراً عن واقعها وعاكساً صورتها، أو مصالحها.
ماذا تبقّى للدروز من هذين الركنين في ظل زعامة وليد جنبلاط؟
لم يكن ممكناً لوليد جنبلاط أن يتبنى كل هذه الخيارات التي يتبناها اليوم، سواء على المستوى السياسي أم على المستوى المسلكي، لو لم يعمل على مدى أكثر من ربع قرن في موقعه الزعامي، على تدمير هذين الركنين اللذين تقوم الهوية الثقافية - السياسية للدروز عليهما. والتغيرات الجذرية التي شهدناها في مواقف جنبلاط في الفترة الأخيرة ليست جديدة، بل هو أخذ يهيئ لها الأرض منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 على الأقل. وبالفعل، اعتمد جنبلاط منذ ذلك الحين استراتيجية مد الخطوط في كل الاتجاهات (الإقليمية والدولية)، مقابل الحفاط على خطاب علني "عروبي" يتناغم مع التحالفات المفروضة على الأرض، وخطاب استتاري يترك الأبواب مفتوحة على كل الخيارات، منطلقاً في ذلك من ذرائع مصلحية ضيقة ترى أن الدروز أقلية لا سند لها، وبالتالي عليها أن تحافظ على نفسها كيفما مالت الكفّة في موازين القوى الإقليمية والدولية.
سنحاول هنا تحليل الواقع الدرزي في ظل زعامة وليد جنبلاط على مستويين: مستوى المكوّن الشخصي لوليد جنبلاط وانعكاسه على الواقع السياسي الدرزي؛ ومستوى الثقافة السياسية في الوسط الدرزي الجنبلاطي وتأثيرها في واقع الدروز السياسي، وهو أمر مع الأسف قلّما يجري إلقاء الضوء عليه حين تجري دراسة ظاهرة سياسية محددة، في الوقت الذي تركز كل التحليلات والأدبيات السياسية عادةً على الواقع السياسي كما يبدو من "فوق".
مثّل المحك السياسي الأهم لوليد جنبلاط في ظل زعامته السياسية التي بدأت عام 1977 الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما تلاه من حروب داخلية اتخذت عدة أوجه وأبعاد. فالمرحلة التي امتدت من عام 1977، تاريخ إلباس وليد جنبلاط عباءة الزعامة، إلى عام 1982 تاريخ الاجتياح، لم تحمل الكثير من الأحداث السياسية التي كانت تتطلب من جنبلاط اتخاذ قرارات كبرى أو أن يكون مشاركاً فاعلاً في اللعبة السياسية، على الرغم مما حملته تلك الفترة من بعض المؤشرات التفصيلية التي أخذت توضح بعض ملامح شخصيته السياسية والمسلكية، كتقليص هامش الديمقراطية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي وتعزيز العلاقات الزبونية داخل الحزب، والتخلص رويداً رويداً من نهج كمال جنبلاط وأخلاقياته السائدة فيه.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبدأت تتضح معه أكثر فأكثر المكونات الشخصية والخيارات السياسية لوليد جنبلاط. وهذا أمر يتطلب توضيحه الاستشهاد ببعض المحطات التاريخية:
منذ اليوم الأول لذلك الاجتياح عمّت أجواء الاستنفارات العسكرية في أوساط شبان ومقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي والأحزاب الوطنية الأخرى في مناطق نفوذ وليد جنبلاط كما في معظم المناطق اللبنانية التي شملها الغزو الإسرائيلي. وحدث المنعطف الأول في الهوية السياسية للدروز الجنبلاطيين عقب تعميم قرار حزبي من رئيس الحزب على معظم القرى والمناطق التي يوجد فيها مقاتلون للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم التصدي للاجتياح الإسرائيلي، على الرغم من استعداد وحماسة الكثيرين منهم يومها لمواجهة القوات الإسرائيلية؛ وهكذا انكفأ الجنبلاطيون عن مواجهة الاجتياح، في حين راح مقاتلون من الأحزاب الوطنية الأخرى ينظمون أنفسهم بمجموعات ويواجهون جحافل الغزو إلى جانب بعض مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ولو مواجهة رمزية في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من تدفق التبريرات حينها القائلة إن وليد جنبلاط يريد تجنيب القرى الدرزية عمليات تدمير واسعة يمكن أن تقوم إسرائيل بها، فإن الأيام والشهور التي تلت الاجتياح أظهرت أن السياسة التي ينتهجها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط هي، على الأقل، سياسة غير معادية لإسرائيل، وقد جرت ترجمتها، في أثناء حرب الجبل - التي بادر إليها واتخذ قرارها بعض الرموز التقدمية الاشتراكية والوطنية الميدانية وليس وليد جنبلاط نفسه - بعمليات تنسيق أمني بين بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي وجيش "الدفاع" الإسرائيلي إلى حد أن عدداً من المسؤولين الحزبيين باتوا يعرّفون عن أنفسهم على الحواجز الإسرائيلية بواسطة بطاقات تعريف إسرائيلية كانوا يحملونها، إضافة إلى بعض المجموعات التي نظمت برعاية الحزب التقدمي الاشتراكي وكان هدفها ملاحقة "المخربين" (أي المقاومين) وتسليمهم للإسرائيليين. حتى إن حالة "اللاعداء" هذه كان يجري التعبير عنها بمظاهر أوضح، كتنقل بعض مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بين جبهات القتال في منطقة "عاليه" وبين قراهم وبلداتهم في منطقة حاصبيا عبر حواجز جيش لبنان الجنوبي وهم يرتدون بزاتهم العسكرية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي؛ دع عنك الزيارات التي كان يقوم بها بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي أو بعض الشخصيات الدرزية لإسرائيل بتكليف من وليد جنبلاط أحياناً. مع العلم أن هذه الزيارات عادت لتتجدد على ما يبدو منذ عام 2005 من قبل بعض الرموز الجنبلاطية الأخرى.
كل هذه الممارسات ساهمت في خلق جوّ في وسط الجنبلاطيين الدروز غير معادٍ لإسرائيل وغير معني بالاحتلال الإسرائيلي بل متكيّف معه، الأمر الذي أسقط رويداً رويداً مقولة إسرائيل العدو من مكونات الثقافة السياسية لدى هذه الجماعة.
وفي هذا السياق توّج هذا التوجه غير المعادي لإسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لإسرائيل داخل الحزب التقدمي الاشتراكي أو خارجه، حتى إن بعض رموز هذا التيار جرت تصفيته جسدياً.
على صعيد آخر، ساهم وليد جنبلاط على مدى أكثر من ربع قرن في وجوده على عرش الزعامة، في إضعاف أو تهميش نظام القيم الأخلاقية وسط الدروز الجنبلاطيين. وقد كانت سنوات الحرب لها وسائلها في ذلك وسنوات ما بعد الحرب وسائلها الأخرى. ففي سنوات الحرب نشأت في أوساط الحزبيين، وتحديداً وسط القيادات الوسطى، طبقة من أغنياء الحرب الذين أباحوا لأنفسهم شتى ضروب النهب والفساد والتعدّي على أملاك الغير. وإذا كان طبيعياً أن تشهد أي حرب نمو هذه المظاهر فإن ما هو ليس طبيعياً في الحالة التي نتحدث عنها هو أن يكون الزعيم السياسي مشرفاً على هذه الظاهرة وراعياً لها، بل ربما مشاركاً فيها. وهذا ما عبّر عنه جنبلاط مباشرة وعلناً في أحد لقاءاته بمحازبيه ومسؤولي حزبه في بيروت يوم اجتمع بهم في إحدى صالات السينما في "الحمرا" في منتصف الثمانينات موعزاً إليهم: "بدّي مصاري من بيروت، دبروا حالكم"، الأمر الذي كان بمنزلة إيذان لهؤلاء الأبَوَات لكي يعيثوا ببيروت فساداً ونهباً وهتكاً بكرامات أهلها. كل ذلك كان يحدث تحت تبرير: "بيروت بدها زعران". هكذا تحول الحزب التقدمي الاشتراكي آنذاك إلى مدرسة لتخريج الشبّيحة واللصوص والفاسدين الذين ما لبثوا أن راحوا يعمّمون ثقافة الفساد في أوساط الدروز الجنبلاطيين عموماً.
ولم تكن عملية تعميم ثقافة الفساد أقل وضوحاً في سياسة جنبلاط في مرحلة ما بعد الحرب. فجنبلاط كان واحداً من رموز الحرب الذين عادوا إلى السلطة بعد اتفاق الطائف، فتسلم في تلك الفترة عدّة وزارات شهدت جميعها في عهده عمليات فساد وهدر وتلاعب بالمال العام. ولأسباب سياسية تتعلق بـ"المصالحة الوطنية"، كما قيل، تسنى لجنبلاط أن يتسلّم وزارة شؤون المهجّرين أو أن يشرف عليها. فكانت تجربته في تلك الوزارة نموذجاً "مثالياً" لعمليات التزوير المنظم ونهب المال العام وتعميم ثقافة الفساد في أوساط الكثير من الفئات الشعبية، وبخاصة وسط الدروز الجنبلاطيين. كما استخدمت أموال وزارة المهجرين منذ منتصف التسعينات رُشى لشراء أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية والبلدية. وعملياً مثل المسؤولون الحزبيون الجنبلاطيون في القرى والمناطق دور الوسطاء بين المواطنين ووزارة شؤون المهجرين. وعبرهم جرى تعميم كل وسائل التزوير والعمولة وسرقة المال العام، بل جرى تعميم استخدام هذه الوسائل لشراء الضمائر ولتدمير نظم القيم لدى المواطنين، فغابت معايير الحلال والحرام لديهم على الرغم من قوة حضورها في نظام القيم وفي الثقافة الشعبية لدى المواطنين الدروز تاريخياً.
هذا التحول على المستويين السياسي والمسلكي داخل الحزب التقدمي الاشتراكي منذ بدايات الثمانينات أسّس لنزعة يمينية وإفسادية في الثقافة السياسية الجنبلاطية، بدءاً من المستوى الجماهيري وصولاً إلى رأس القمة، مع العلم أن جنبلاط نفسه هو الذي كان يدفع في هذا الاتجاه. ولم تكن مصادفة أن تلك الطبقة من "أغنياء الحرب" والشبيحة التي نشأت داخل الحزب هي نفسها الفئة غير المعادية لإسرائيل، وهي نفسها الفئة التي كان وليد جنبلاط يرعاها ويقف في صفها كلما حدث خلاف داخل الحزب بينها وبين الفئات المعترضة على نهجها السياسي والمسلكي. إلى أن أمسكت هذه الطبقة عملياً، وبإدارة جنبلاط، بكل مفاصل العمل الحزبي والعسكري والجماهيري، بدءاً من مسؤولي القرى وصولاً إلى مجلس قيادة الحزب.
وقد أخذ النهج اليميني والفاسد يظهر واضحاً منذ منتصف الثمانينات، حين راح الموقع الطبقي للحزب التقدمي الاشتراكي يتبدل، وأخذ مسؤولوه يتدخلون لقمع التحركات العمالية المطلبية في العديد من المصانع والمؤسسات القائمة في مناطق سيطرتهم، مقابل حفنة من الأموال كانوا يرتشون بها من قبل أرباب العمل. وخلال حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة، كثيراً ما دفع الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطيين الدروز إلى اتخاذ مواقف مناهضة للحركة النقابية والمطلبية، حتى إن مسؤولي الحزب في مناطق الشوف وعاليه وبعبدا على الأقل، كانوا حين تكون هناك دعوة إلى الإضراب العام من قبل الاتحاد العمالي، يجولون على أصحاب المحال التجارية والمؤسسات في تلك المناطق طالبين منهم عدم التقيد بالإضراب. فما بالك بالمواقف التي كان وليد جنبلاط وكتلته النيابية يتخذونها حيال السياسة الاقتصادية والمالية خلال تلك الفترة، على الرغم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، من أن تلك السياسات اليمينية التي ينتهجها وليد جنبلاط وحزبه، متسلحين بالقواعد "الشعبية" للدروز الجنبلاطيين، هي سياسات مناقضة تماماً للمصالح الفعلية لتلك القواعد الشعبية البائسة، التي تأسس الحزب التقدمي الاشتراكي من أجلها أصلاً؛ فضلاً عن أنها ساهمت في إفقار وتجويع هذه القواعد.
كيف يمكن تفسير هذه الدوافع لدى وليد جنبلاط؟
إن وليد جنبلاط لم ينشأ نشأة يسارية أساساً، وهو لم يكن على علاقة منسجمة سياسياً بكمال جنبلاط، على الرغم من كل الإدعاءات التحريضية المضللة التي يمارسها اليوم عبر إثارة موضوع قتل هذا القائد العربي؛ لأن وليد جنبلاط في الواقع ليس حريصاً على مبادئ وأخلاقيات كمال جنبلاط ولا على ثوابته السياسية والطبقية، فوليد جنبلاط هو من حيث مكوناته الشخصية امتداد لبشير جنبلاط، الإقطاعي، المستبد، البراغماتي، غير المتمسك بالثوابت، محب المال والسلطة، الذي لا يجيد احترام جماعته، الطامح إلى الاستفراد بالزعامة حتى لو عبر القضاء على كل منافسيه، أضف إلى ذلك دفاع وليد جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية التي هو أحد رموزها، مقابل كمال جنبلاط، المبدئي، الأخلاقي، الاشتراكي، المتواضع، الذي يجيد احترام الآخرين، الزاهد، المتعالي على المال والثروة، المدافع عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء، الذي إذا رفع شعاراً عمل على تطبيقه على نفسه قبل أن يطلب من الآخرين تطبيقه... والمفارقة الكبرى بين الرجلين هي أن كمالاً انطلق في حياته السياسية من موقع تقليدي إقطاعي يميني صديق للاستعمار، حاولت الست نظيرة (والدته) أن تزجّه فيه، غير أنه انقلب على ذلك الموقع وانتهى قائداً وطنياً وعربياً، يسارياً، معادياً للاستعمار، ساعياً لتغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة في لبنان. أما وليد فهو على العكس تماماً، انطلق في حياته السياسية من موقع وطني تقدمي، قائداً للحركة الوطنية، و"انتهى" زعيماً طائفياً يمينياً لبنانوياً، جبلياً، صديقاً للاستعمار، بل أداة في يده.
نية، و"انتهى" زعيماً طائفياً يمينياً لبنانوياً، جبلياً، صديقاً للاستعمار، بل أداة في يده.
تواجه فرقة الموحدين الدروز في لبنان تحدياً مصيرياً في هذه المرحلة التاريخية التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً؛ فعلى الرغم من شراسة الهجمة الأمريكية وهمجيتها على العالم العربي والإسلامي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتطويع شعوب المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية وتحويل بلادها إلى مجرد أسواق مفتوحة أمامها وأمام إسرائيل، والتهديد بالقضاء عسكرياً على كل من لا يزال واقفاً في وجه مشروعها الإمبراطوري، وعلى الرغم من تداعيات هذه الهجمة ووضوح أهدافها وأدواتها على الساحة اللبنانية، نجد القيادة السياسية الرئيسية لفرقة الموحدين الدروز في لبنان، تتحول إلى أداة رئيسية في هذه الهجمة، ناسفة بذلك أسس وثوابت الدور الذي قام الدروز به تاريخياً، وهي باتت تهدد بذلك بزعزعة الأركان الأساسية التي كرسها الدروز في تاريخهم السياسي في المشرق العربي على مدى ألف عام أو نحوه.
والمواقف والخيارات التي يتخذها الزعيم "الدرزي" وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة تدفعنا إلى التوقف عند تلك الشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط وعند تأثير دور تلك الشخصية في واقع الدروز السياسي في لبنان؛ وهما مسألتان يبدو من الصعب معالجة إحداهما دون الأخرى. فالشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط لا يمكن فهمها بمعزل عن الإرث السياسي للدروز وللزعامة الجنبلاطية تحديداً، منذ بدايات القرن التاسع عشر على الأقل. كما أن المكوّن السياسي للدروز، وبخاصة الجنبلاطيين منهم، لا يمكن فهمه بمعزل عن الأدوار المتعاقبة التي قامت الزعامة الجنبلاطية بها خلال المرحلة التاريخية نفسها.
هناك مجموعة محطات تاريخية تمثل محور الذاكرة الشعبية لدى الجنبلاطيين الدروز ومخيالهم السياسي، أو قُل "كربلائياتهم"؛ وهي المحاور نفسها التي تمثّل مجموعة العقد التاريخية التي تكسو المواقف وردود الفعل السياسية لدى وليد جنبلاط في كثير من الأحيان، وهي التي تفسر إلى حد بعيد التقلبات الجذرية التي يحدثها وليد جنبلاط في مواقفه وفي مواقعه وتحالفاته السياسية بين ليلة وضحاها: إنها صراع البشيرين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وحرب الـ 1860، وثورة الـ 1958، وحرب الـ 1975، واغتيال كمال جنبلاط عام 1977، وحرب الجبل عام 1982. وقد استعار جنبلاط مؤخراً، إضافة إليها، "كربلائية" اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
غير أن هذه المحطات ليست المحور الوحيد للسلوك السياسي، سواء لدى جنبلاط أم لدى جماعته، بل كثيراً ما يسعى جنبلاط لاستحضار هذه "الكربلائيات" لتغطية مواقف سياسية تعبّر عن مصالح شخصية راهنة لديه يحتاج تحقيقها إلى عملية تهييج جماهيري في وتيرة محددة وعلى إيقاع "كربلائي" محدد من تلك المحطات التاريخية. فالصراع مع الموارنة مثلاً، يستحضر "كربلائية" بشير جنبلاط وحرب الـ 1860، والصراع مع السوريين يستحضر "كربلائية" كمال جنبلاط، والصراع مع القوى والأقطاب السياسية الأخرى داخل الساحة الدرزية يستحضر "كربلائية" ثورة الـ 1958...
وإذا كانت هذه المحطات التاريخية تؤسس للمخيال السياسي للدروز الجنبلاطيين تحديداً فإن هناك محطات تاريخية أخرى كان لها دور أكبر في تأسيس أهم مرتكزات المخيال السياسي والثقافة السياسية للدروز جميعاً: قصدنا الحروب الصليبية ودور التنوخيين في صدّها ومقاومتها، الأمر الذي منح الدروز يومها شرف لقب سيف الإسلام وحماة الثغور في وجه الغزاة الفرنجة؛ ثم مواجهة المجاهدين الدروز لغزوة نابليون وحصاره عكا، وعامية عبيه عام 1799 التي أعلنت رفض الدروز للغزو الفرنسي؛ ثم الثورة العربية الكبرى، والثورة السورية التي كان سلطان باشا الأطرش أحد أبرز قادتها؛ والمقاومة العربية للمشروع الصهيوني في فلسطين، التي كان عادل أرسلان أبرز قادتها أيضاً...
عبر هذه المحطات جميعاً تكرس عبر قرون أحد ركنَي هوية الدروز الثقافية - السياسية بوصفهم فرقة عربية إسلامية احتلت موقعاً طليعياً عبر التاريخ في الدفاع عن عروبة هذه الأرض وفي صَدّ غزوات القوى الاستعمارية وحماية العمق العربي من تلك الغزوات.
أما الركن الآخر الذي تقوم عليه الهوية الثقافية - السياسية للدروز فهو الركن القيمي - الأخلاقي الذي اتسم الدروز به تاريخياً، والذي كثيراً ما تغنّى به كبار الشعراء العرب والكتاب والمؤرخين وحتى المستشرقين منهم، وهو القائم على قيم الكرم والرجولة وصدق اللسان والكرامة وعزة النفس ونبذ الخيانة وعدم الطعن في الظهر... وهي قيم تعود بجذورها إلى المنظومة العقائدية لفرقة الموحدين الدروز المستمدة بدورها من بواطن النص القرآني ومن روافد بعض الفرق الكلامية والطرق الصوفية السابقة لها في الإسلام، فضلاً عن بعض روافد الفلسفة اليونانية والشرقية.
هكذا إذاً، استمدت الثقافة السياسية للدروز سماتها من هذين المصدرين: المصدر الحدثي التاريخي الذي تأسس على مجموعة "الكربلائيات" والمحطات التاريخية التي نسجت للدروز صورة في مخيالهم السياسي كانت مصدر افتخار واعتزاز بأنفسهم بوصفهم سيف العروبة والإسلام ورأس حربة في وجه قوى الاحتلال والاستعمار؛ والمصدر العقيدي – المسلكي الذي تأسس على مجموعة الروافد العقيدية والفكرية والصوفية التي قامت عليها فرقة التوحيد الدرزية والتي نسجت للدروز صورة عن أنفسهم، لديهم ولدى الآخرين، بوصفهم أصحاب الشرف والشهامة والكرم والكرامة والشجاعة والأمانة...
غير أن هذين الركنين أخذ حضورهما يشتد أو يضعف في الثقافة السياسية الدرزية وفق المواصفات السياسية والمسلكية للزعامة السياسية السائدة، وبخاصة وسط مجتمع وراثي يعتلي الشخص فيه عرش الزعامة ليس على أساس صفاته وقدراته الشخصية بل على أساس نسبه إلى عائلة الزعامة، الأمر الذي يقيه محاسبة الجماعة أو يجعله مصدر تماهٍ لها فتجعله مؤثراً فيها ومقلَّداً من قِبَلها أكثر منه متأثراً بها معبراً عن واقعها وعاكساً صورتها، أو مصالحها.
ماذا تبقّى للدروز من هذين الركنين في ظل زعامة وليد جنبلاط؟
لم يكن ممكناً لوليد جنبلاط أن يتبنى كل هذه الخيارات التي يتبناها اليوم، سواء على المستوى السياسي أم على المستوى المسلكي، لو لم يعمل على مدى أكثر من ربع قرن في موقعه الزعامي، على تدمير هذين الركنين اللذين تقوم الهوية الثقافية - السياسية للدروز عليهما. والتغيرات الجذرية التي شهدناها في مواقف جنبلاط في الفترة الأخيرة ليست جديدة، بل هو أخذ يهيئ لها الأرض منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 على الأقل. وبالفعل، اعتمد جنبلاط منذ ذلك الحين استراتيجية مد الخطوط في كل الاتجاهات (الإقليمية والدولية)، مقابل الحفاط على خطاب علني "عروبي" يتناغم مع التحالفات المفروضة على الأرض، وخطاب استتاري يترك الأبواب مفتوحة على كل الخيارات، منطلقاً في ذلك من ذرائع مصلحية ضيقة ترى أن الدروز أقلية لا سند لها، وبالتالي عليها أن تحافظ على نفسها كيفما مالت الكفّة في موازين القوى الإقليمية والدولية.
سنحاول هنا تحليل الواقع الدرزي في ظل زعامة وليد جنبلاط على مستويين: مستوى المكوّن الشخصي لوليد جنبلاط وانعكاسه على الواقع السياسي الدرزي؛ ومستوى الثقافة السياسية في الوسط الدرزي الجنبلاطي وتأثيرها في واقع الدروز السياسي، وهو أمر مع الأسف قلّما يجري إلقاء الضوء عليه حين تجري دراسة ظاهرة سياسية محددة، في الوقت الذي تركز كل التحليلات والأدبيات السياسية عادةً على الواقع السياسي كما يبدو من "فوق".
مثّل المحك السياسي الأهم لوليد جنبلاط في ظل زعامته السياسية التي بدأت عام 1977 الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما تلاه من حروب داخلية اتخذت عدة أوجه وأبعاد. فالمرحلة التي امتدت من عام 1977، تاريخ إلباس وليد جنبلاط عباءة الزعامة، إلى عام 1982 تاريخ الاجتياح، لم تحمل الكثير من الأحداث السياسية التي كانت تتطلب من جنبلاط اتخاذ قرارات كبرى أو أن يكون مشاركاً فاعلاً في اللعبة السياسية، على الرغم مما حملته تلك الفترة من بعض المؤشرات التفصيلية التي أخذت توضح بعض ملامح شخصيته السياسية والمسلكية، كتقليص هامش الديمقراطية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي وتعزيز العلاقات الزبونية داخل الحزب، والتخلص رويداً رويداً من نهج كمال جنبلاط وأخلاقياته السائدة فيه.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبدأت تتضح معه أكثر فأكثر المكونات الشخصية والخيارات السياسية لوليد جنبلاط. وهذا أمر يتطلب توضيحه الاستشهاد ببعض المحطات التاريخية:
منذ اليوم الأول لذلك الاجتياح عمّت أجواء الاستنفارات العسكرية في أوساط شبان ومقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي والأحزاب الوطنية الأخرى في مناطق نفوذ وليد جنبلاط كما في معظم المناطق اللبنانية التي شملها الغزو الإسرائيلي. وحدث المنعطف الأول في الهوية السياسية للدروز الجنبلاطيين عقب تعميم قرار حزبي من رئيس الحزب على معظم القرى والمناطق التي يوجد فيها مقاتلون للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم التصدي للاجتياح الإسرائيلي، على الرغم من استعداد وحماسة الكثيرين منهم يومها لمواجهة القوات الإسرائيلية؛ وهكذا انكفأ الجنبلاطيون عن مواجهة الاجتياح، في حين راح مقاتلون من الأحزاب الوطنية الأخرى ينظمون أنفسهم بمجموعات ويواجهون جحافل الغزو إلى جانب بعض مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ولو مواجهة رمزية في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من تدفق التبريرات حينها القائلة إن وليد جنبلاط يريد تجنيب القرى الدرزية عمليات تدمير واسعة يمكن أن تقوم إسرائيل بها، فإن الأيام والشهور التي تلت الاجتياح أظهرت أن السياسة التي ينتهجها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط هي، على الأقل، سياسة غير معادية لإسرائيل، وقد جرت ترجمتها، في أثناء حرب الجبل - التي بادر إليها واتخذ قرارها بعض الرموز التقدمية الاشتراكية والوطنية الميدانية وليس وليد جنبلاط نفسه - بعمليات تنسيق أمني بين بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي وجيش "الدفاع" الإسرائيلي إلى حد أن عدداً من المسؤولين الحزبيين باتوا يعرّفون عن أنفسهم على الحواجز الإسرائيلية بواسطة بطاقات تعريف إسرائيلية كانوا يحملونها، إضافة إلى بعض المجموعات التي نظمت برعاية الحزب التقدمي الاشتراكي وكان هدفها ملاحقة "المخربين" (أي المقاومين) وتسليمهم للإسرائيليين. حتى إن حالة "اللاعداء" هذه كان يجري التعبير عنها بمظاهر أوضح، كتنقل بعض مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بين جبهات القتال في منطقة "عاليه" وبين قراهم وبلداتهم في منطقة حاصبيا عبر حواجز جيش لبنان الجنوبي وهم يرتدون بزاتهم العسكرية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي؛ دع عنك الزيارات التي كان يقوم بها بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي أو بعض الشخصيات الدرزية لإسرائيل بتكليف من وليد جنبلاط أحياناً. مع العلم أن هذه الزيارات عادت لتتجدد على ما يبدو منذ عام 2005 من قبل بعض الرموز الجنبلاطية الأخرى.
كل هذه الممارسات ساهمت في خلق جوّ في وسط الجنبلاطيين الدروز غير معادٍ لإسرائيل وغير معني بالاحتلال الإسرائيلي بل متكيّف معه، الأمر الذي أسقط رويداً رويداً مقولة إسرائيل العدو من مكونات الثقافة السياسية لدى هذه الجماعة.
وفي هذا السياق توّج هذا التوجه غير المعادي لإسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لإسرائيل داخل الحزب التقدمي الاشتراكي أو خارجه، حتى إن بعض رموز هذا التيار جرت تصفيته جسدياً.
على صعيد آخر، ساهم وليد جنبلاط على مدى أكثر من ربع قرن في وجوده على عرش الزعامة، في إضعاف أو تهميش نظام القيم الأخلاقية وسط الدروز الجنبلاطيين. وقد كانت سنوات الحرب لها وسائلها في ذلك وسنوات ما بعد الحرب وسائلها الأخرى. ففي سنوات الحرب نشأت في أوساط الحزبيين، وتحديداً وسط القيادات الوسطى، طبقة من أغنياء الحرب الذين أباحوا لأنفسهم شتى ضروب النهب والفساد والتعدّي على أملاك الغير. وإذا كان طبيعياً أن تشهد أي حرب نمو هذه المظاهر فإن ما هو ليس طبيعياً في الحالة التي نتحدث عنها هو أن يكون الزعيم السياسي مشرفاً على هذه الظاهرة وراعياً لها، بل ربما مشاركاً فيها. وهذا ما عبّر عنه جنبلاط مباشرة وعلناً في أحد لقاءاته بمحازبيه ومسؤولي حزبه في بيروت يوم اجتمع بهم في إحدى صالات السينما في "الحمرا" في منتصف الثمانينات موعزاً إليهم: "بدّي مصاري من بيروت، دبروا حالكم"، الأمر الذي كان بمنزلة إيذان لهؤلاء الأبَوَات لكي يعيثوا ببيروت فساداً ونهباً وهتكاً بكرامات أهلها. كل ذلك كان يحدث تحت تبرير: "بيروت بدها زعران". هكذا تحول الحزب التقدمي الاشتراكي آنذاك إلى مدرسة لتخريج الشبّيحة واللصوص والفاسدين الذين ما لبثوا أن راحوا يعمّمون ثقافة الفساد في أوساط الدروز الجنبلاطيين عموماً.
ولم تكن عملية تعميم ثقافة الفساد أقل وضوحاً في سياسة جنبلاط في مرحلة ما بعد الحرب. فجنبلاط كان واحداً من رموز الحرب الذين عادوا إلى السلطة بعد اتفاق الطائف، فتسلم في تلك الفترة عدّة وزارات شهدت جميعها في عهده عمليات فساد وهدر وتلاعب بالمال العام. ولأسباب سياسية تتعلق بـ"المصالحة الوطنية"، كما قيل، تسنى لجنبلاط أن يتسلّم وزارة شؤون المهجّرين أو أن يشرف عليها. فكانت تجربته في تلك الوزارة نموذجاً "مثالياً" لعمليات التزوير المنظم ونهب المال العام وتعميم ثقافة الفساد في أوساط الكثير من الفئات الشعبية، وبخاصة وسط الدروز الجنبلاطيين. كما استخدمت أموال وزارة المهجرين منذ منتصف التسعينات رُشى لشراء أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية والبلدية. وعملياً مثل المسؤولون الحزبيون الجنبلاطيون في القرى والمناطق دور الوسطاء بين المواطنين ووزارة شؤون المهجرين. وعبرهم جرى تعميم كل وسائل التزوير والعمولة وسرقة المال العام، بل جرى تعميم استخدام هذه الوسائل لشراء الضمائر ولتدمير نظم القيم لدى المواطنين، فغابت معايير الحلال والحرام لديهم على الرغم من قوة حضورها في نظام القيم وفي الثقافة الشعبية لدى المواطنين الدروز تاريخياً.
هذا التحول على المستويين السياسي والمسلكي داخل الحزب التقدمي الاشتراكي منذ بدايات الثمانينات أسّس لنزعة يمينية وإفسادية في الثقافة السياسية الجنبلاطية، بدءاً من المستوى الجماهيري وصولاً إلى رأس القمة، مع العلم أن جنبلاط نفسه هو الذي كان يدفع في هذا الاتجاه. ولم تكن مصادفة أن تلك الطبقة من "أغنياء الحرب" والشبيحة التي نشأت داخل الحزب هي نفسها الفئة غير المعادية لإسرائيل، وهي نفسها الفئة التي كان وليد جنبلاط يرعاها ويقف في صفها كلما حدث خلاف داخل الحزب بينها وبين الفئات المعترضة على نهجها السياسي والمسلكي. إلى أن أمسكت هذه الطبقة عملياً، وبإدارة جنبلاط، بكل مفاصل العمل الحزبي والعسكري والجماهيري، بدءاً من مسؤولي القرى وصولاً إلى مجلس قيادة الحزب.
وقد أخذ النهج اليميني والفاسد يظهر واضحاً منذ منتصف الثمانينات، حين راح الموقع الطبقي للحزب التقدمي الاشتراكي يتبدل، وأخذ مسؤولوه يتدخلون لقمع التحركات العمالية المطلبية في العديد من المصانع والمؤسسات القائمة في مناطق سيطرتهم، مقابل حفنة من الأموال كانوا يرتشون بها من قبل أرباب العمل. وخلال حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة، كثيراً ما دفع الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطيين الدروز إلى اتخاذ مواقف مناهضة للحركة النقابية والمطلبية، حتى إن مسؤولي الحزب في مناطق الشوف وعاليه وبعبدا على الأقل، كانوا حين تكون هناك دعوة إلى الإضراب العام من قبل الاتحاد العمالي، يجولون على أصحاب المحال التجارية والمؤسسات في تلك المناطق طالبين منهم عدم التقيد بالإضراب. فما بالك بالمواقف التي كان وليد جنبلاط وكتلته النيابية يتخذونها حيال السياسة الاقتصادية والمالية خلال تلك الفترة، على الرغم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، من أن تلك السياسات اليمينية التي ينتهجها وليد جنبلاط وحزبه، متسلحين بالقواعد "الشعبية" للدروز الجنبلاطيين، هي سياسات مناقضة تماماً للمصالح الفعلية لتلك القواعد الشعبية البائسة، التي تأسس الحزب التقدمي الاشتراكي من أجلها أصلاً؛ فضلاً عن أنها ساهمت في إفقار وتجويع هذه القواعد.
كيف يمكن تفسير هذه الدوافع لدى وليد جنبلاط؟
إن وليد جنبلاط لم ينشأ نشأة يسارية أساساً، وهو لم يكن على علاقة منسجمة سياسياً بكمال جنبلاط، على الرغم من كل الإدعاءات التحريضية المضللة التي يمارسها اليوم عبر إثارة موضوع قتل هذا القائد العربي؛ لأن وليد جنبلاط في الواقع ليس حريصاً على مبادئ وأخلاقيات كمال جنبلاط ولا على ثوابته السياسية والطبقية، فوليد جنبلاط هو من حيث مكوناته الشخصية امتداد لبشير جنبلاط، الإقطاعي، المستبد، البراغماتي، غير المتمسك بالثوابت، محب المال والسلطة، الذي لا يجيد احترام جماعته، الطامح إلى الاستفراد بالزعامة حتى لو عبر القضاء على كل منافسيه، أضف إلى ذلك دفاع وليد جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية التي هو أحد رموزها، مقابل كمال جنبلاط، المبدئي، الأخلاقي، الاشتراكي، المتواضع، الذي يجيد احترام الآخرين، الزاهد، المتعالي على المال والثروة، المدافع عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء، الذي إذا رفع شعاراً عمل على تطبيقه على نفسه قبل أن يطلب من الآخرين تطبيقه... والمفارقة الكبرى بين الرجلين هي أن كمالاً انطلق في حياته السياسية من موقع تقليدي إقطاعي يميني صديق للاستعمار، حاولت الست نظيرة (والدته) أن تزجّه فيه، غير أنه انقلب على ذلك الموقع وانتهى قائداً وطنياً وعربياً، يسارياً، معادياً للاستعمار، ساعياً لتغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة في لبنان. أما وليد فهو على العكس تماماً، انطلق في حياته السياسية من موقع وطني تقدمي، قائداً للحركة الوطوليد جنبلاط
تواجه فرقة الموحدين الدروز في لبنان تحدياً مصيرياً في هذه المرحلة التاريخية التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً؛ فعلى الرغم من شراسة الهجمة الأمريكية وهمجيتها على العالم العربي والإسلامي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتطويع شعوب المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية وتحويل بلادها إلى مجرد أسواق مفتوحة أمامها وأمام إسرائيل، والتهديد بالقضاء عسكرياً على كل من لا يزال واقفاً في وجه مشروعها الإمبراطوري، وعلى الرغم من تداعيات هذه الهجمة ووضوح أهدافها وأدواتها على الساحة اللبنانية، نجد القيادة السياسية الرئيسية لفرقة الموحدين الدروز في لبنان، تتحول إلى أداة رئيسية في هذه الهجمة، ناسفة بذلك أسس وثوابت الدور الذي قام الدروز به تاريخياً، وهي باتت تهدد بذلك بزعزعة الأركان الأساسية التي كرسها الدروز في تاريخهم السياسي في المشرق العربي على مدى ألف عام أو نحوه.
والمواقف والخيارات التي يتخذها الزعيم "الدرزي" وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة تدفعنا إلى التوقف عند تلك الشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط وعند تأثير دور تلك الشخصية في واقع الدروز السياسي في لبنان؛ وهما مسألتان يبدو من الصعب معالجة إحداهما دون الأخرى. فالشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط لا يمكن فهمها بمعزل عن الإرث السياسي للدروز وللزعامة الجنبلاطية تحديداً، منذ بدايات القرن التاسع عشر على الأقل. كما أن المكوّن السياسي للدروز، وبخاصة الجنبلاطيين منهم، لا يمكن فهمه بمعزل عن الأدوار المتعاقبة التي قامت الزعامة الجنبلاطية بها خلال المرحلة التاريخية نفسها.
هناك مجموعة محطات تاريخية تمثل محور الذاكرة الشعبية لدى الجنبلاطيين الدروز ومخيالهم السياسي، أو قُل "كربلائياتهم"؛ وهي المحاور نفسها التي تمثّل مجموعة العقد التاريخية التي تكسو المواقف وردود الفعل السياسية لدى وليد جنبلاط في كثير من الأحيان، وهي التي تفسر إلى حد بعيد التقلبات الجذرية التي يحدثها وليد جنبلاط في مواقفه وفي مواقعه وتحالفاته السياسية بين ليلة وضحاها: إنها صراع البشيرين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وحرب الـ 1860، وثورة الـ 1958، وحرب الـ 1975، واغتيال كمال جنبلاط عام 1977، وحرب الجبل عام 1982. وقد استعار جنبلاط مؤخراً، إضافة إليها، "كربلائية" اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
غير أن هذه المحطات ليست المحور الوحيد للسلوك السياسي، سواء لدى جنبلاط أم لدى جماعته، بل كثيراً ما يسعى جنبلاط لاستحضار هذه "الكربلائيات" لتغطية مواقف سياسية تعبّر عن مصالح شخصية راهنة لديه يحتاج تحقيقها إلى عملية تهييج جماهيري في وتيرة محددة وعلى إيقاع "كربلائي" محدد من تلك المحطات التاريخية. فالصراع مع الموارنة مثلاً، يستحضر "كربلائية" بشير جنبلاط وحرب الـ 1860، والصراع مع السوريين يستحضر "كربلائية" كمال جنبلاط، والصراع مع القوى والأقطاب السياسية الأخرى داخل الساحة الدرزية يستحضر "كربلائية" ثورة الـ 1958...
وإذا كانت هذه المحطات التاريخية تؤسس للمخيال السياسي للدروز الجنبلاطيين تحديداً فإن هناك محطات تاريخية أخرى كان لها دور أكبر في تأسيس أهم مرتكزات المخيال السياسي والثقافة السياسية للدروز جميعاً: قصدنا الحروب الصليبية ودور التنوخيين في صدّها ومقاومتها، الأمر الذي منح الدروز يومها شرف لقب سيف الإسلام وحماة الثغور في وجه الغزاة الفرنجة؛ ثم مواجهة المجاهدين الدروز لغزوة نابليون وحصاره عكا، وعامية عبيه عام 1799 التي أعلنت رفض الدروز للغزو الفرنسي؛ ثم الثورة العربية الكبرى، والثورة السورية التي كان سلطان باشا الأطرش أحد أبرز قادتها؛ والمقاومة العربية للمشروع الصهيوني في فلسطين، التي كان عادل أرسلان أبرز قادتها أيضاً...
عبر هذه المحطات جميعاً تكرس عبر قرون أحد ركنَي هوية الدروز الثقافية - السياسية بوصفهم فرقة عربية إسلامية احتلت موقعاً طليعياً عبر التاريخ في الدفاع عن عروبة هذه الأرض وفي صَدّ غزوات القوى الاستعمارية وحماية العمق العربي من تلك الغزوات.
أما الركن الآخر الذي تقوم عليه الهوية الثقافية - السياسية للدروز فهو الركن القيمي - الأخلاقي الذي اتسم الدروز به تاريخياً، والذي كثيراً ما تغنّى به كبار الشعراء العرب والكتاب والمؤرخين وحتى المستشرقين منهم، وهو القائم على قيم الكرم والرجولة وصدق اللسان والكرامة وعزة النفس ونبذ الخيانة وعدم الطعن في الظهر... وهي قيم تعود بجذورها إلى المنظومة العقائدية لفرقة الموحدين الدروز المستمدة بدورها من بواطن النص القرآني ومن روافد بعض الفرق الكلامية والطرق الصوفية السابقة لها في الإسلام، فضلاً عن بعض روافد الفلسفة اليونانية والشرقية.
هكذا إذاً، استمدت الثقافة السياسية للدروز سماتها من هذين المصدرين: المصدر الحدثي التاريخي الذي تأسس على مجموعة "الكربلائيات" والمحطات التاريخية التي نسجت للدروز صورة في مخيالهم السياسي كانت مصدر افتخار واعتزاز بأنفسهم بوصفهم سيف العروبة والإسلام ورأس حربة في وجه قوى الاحتلال والاستعمار؛ والمصدر العقيدي – المسلكي الذي تأسس على مجموعة الروافد العقيدية والفكرية والصوفية التي قامت عليها فرقة التوحيد الدرزية والتي نسجت للدروز صورة عن أنفسهم، لديهم ولدى الآخرين، بوصفهم أصحاب الشرف والشهامة والكرم والكرامة والشجاعة والأمانة...
غير أن هذين الركنين أخذ حضورهما يشتد أو يضعف في الثقافة السياسية الدرزية وفق المواصفات السياسية والمسلكية للزعامة السياسية السائدة، وبخاصة وسط مجتمع وراثي يعتلي الشخص فيه عرش الزعامة ليس على أساس صفاته وقدراته الشخصية بل على أساس نسبه إلى عائلة الزعامة، الأمر الذي يقيه محاسبة الجماعة أو يجعله مصدر تماهٍ لها فتجعله مؤثراً فيها ومقلَّداً من قِبَلها أكثر منه متأثراً بها معبراً عن واقعها وعاكساً صورتها، أو مصالحها.
ماذا تبقّى للدروز من هذين الركنين في ظل زعامة وليد جنبلاط؟
لم يكن ممكناً لوليد جنبلاط أن يتبنى كل هذه الخيارات التي يتبناها اليوم، سواء على المستوى السياسي أم على المستوى المسلكي، لو لم يعمل على مدى أكثر من ربع قرن في موقعه الزعامي، على تدمير هذين الركنين اللذين تقوم الهوية الثقافية - السياسية للدروز عليهما. والتغيرات الجذرية التي شهدناها في مواقف جنبلاط في الفترة الأخيرة ليست جديدة، بل هو أخذ يهيئ لها الأرض منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 على الأقل. وبالفعل، اعتمد جنبلاط منذ ذلك الحين استراتيجية مد الخطوط في كل الاتجاهات (الإقليمية والدولية)، مقابل الحفاط على خطاب علني "عروبي" يتناغم مع التحالفات المفروضة على الأرض، وخطاب استتاري يترك الأبواب مفتوحة على كل الخيارات، منطلقاً في ذلك من ذرائع مصلحية ضيقة ترى أن الدروز أقلية لا سند لها، وبالتالي عليها أن تحافظ على نفسها كيفما مالت الكفّة في موازين القوى الإقليمية والدولية.
سنحاول هنا تحليل الواقع الدرزي في ظل زعامة وليد جنبلاط على مستويين: مستوى المكوّن الشخصي لوليد جنبلاط وانعكاسه على الواقع السياسي الدرزي؛ ومستوى الثقافة السياسية في الوسط الدرزي الجنبلاطي وتأثيرها في واقع الدروز السياسي، وهو أمر مع الأسف قلّما يجري إلقاء الضوء عليه حين تجري دراسة ظاهرة سياسية محددة، في الوقت الذي تركز كل التحليلات والأدبيات السياسية عادةً على الواقع السياسي كما يبدو من "فوق".
مثّل المحك السياسي الأهم لوليد جنبلاط في ظل زعامته السياسية التي بدأت عام 1977 الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما تلاه من حروب داخلية اتخذت عدة أوجه وأبعاد. فالمرحلة التي امتدت من عام 1977، تاريخ إلباس وليد جنبلاط عباءة الزعامة، إلى عام 1982 تاريخ الاجتياح، لم تحمل الكثير من الأحداث السياسية التي كانت تتطلب من جنبلاط اتخاذ قرارات كبرى أو أن يكون مشاركاً فاعلاً في اللعبة السياسية، على الرغم مما حملته تلك الفترة من بعض المؤشرات التفصيلية التي أخذت توضح بعض ملامح شخصيته السياسية والمسلكية، كتقليص هامش الديمقراطية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي وتعزيز العلاقات الزبونية داخل الحزب، والتخلص رويداً رويداً من نهج كمال جنبلاط وأخلاقياته السائدة فيه.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبدأت تتضح معه أكثر فأكثر المكونات الشخصية والخيارات السياسية لوليد جنبلاط. وهذا أمر يتطلب توضيحه الاستشهاد ببعض المحطات التاريخية:
منذ اليوم الأول لذلك الاجتياح عمّت أجواء الاستنفارات العسكرية في أوساط شبان ومقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي والأحزاب الوطنية الأخرى في مناطق نفوذ وليد جنبلاط كما في معظم المناطق اللبنانية التي شملها الغزو الإسرائيلي. وحدث المنعطف الأول في الهوية السياسية للدروز الجنبلاطيين عقب تعميم قرار حزبي من رئيس الحزب على معظم القرى والمناطق التي يوجد فيها مقاتلون للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم التصدي للاجتياح الإسرائيلي، على الرغم من استعداد وحماسة الكثيرين منهم يومها لمواجهة القوات الإسرائيلية؛ وهكذا انكفأ الجنبلاطيون عن مواجهة الاجتياح، في حين راح مقاتلون من الأحزاب الوطنية الأخرى ينظمون أنفسهم بمجموعات ويواجهون جحافل الغزو إلى جانب بعض مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ولو مواجهة رمزية في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من تدفق التبريرات حينها القائلة إن وليد جنبلاط يريد تجنيب القرى الدرزية عمليات تدمير واسعة يمكن أن تقوم إسرائيل بها، فإن الأيام والشهور التي تلت الاجتياح أظهرت أن السياسة التي ينتهجها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط هي، على الأقل، سياسة غير معادية لإسرائيل، وقد جرت ترجمتها، في أثناء حرب الجبل - التي بادر إليها واتخذ قرارها بعض الرموز التقدمية الاشتراكية والوطنية الميدانية وليس وليد جنبلاط نفسه - بعمليات تنسيق أمني بين بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي وجيش "الدفاع" الإسرائيلي إلى حد أن عدداً من المسؤولين الحزبيين باتوا يعرّفون عن أنفسهم على الحواجز الإسرائيلية بواسطة بطاقات تعريف إسرائيلية كانوا يحملونها، إضافة إلى بعض المجموعات التي نظمت برعاية الحزب التقدمي الاشتراكي وكان هدفها ملاحقة "المخربين" (أي المقاومين) وتسليمهم للإسرائيليين. حتى إن حالة "اللاعداء" هذه كان يجري التعبير عنها بمظاهر أوضح، كتنقل بعض مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بين جبهات القتال في منطقة "عاليه" وبين قراهم وبلداتهم في منطقة حاصبيا عبر حواجز جيش لبنان الجنوبي وهم يرتدون بزاتهم العسكرية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي؛ دع عنك الزيارات التي كان يقوم بها بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي أو بعض الشخصيات الدرزية لإسرائيل بتكليف من وليد جنبلاط أحياناً. مع العلم أن هذه الزيارات عادت لتتجدد على ما يبدو منذ عام 2005 من قبل بعض الرموز الجنبلاطية الأخرى.
كل هذه الممارسات ساهمت في خلق جوّ في وسط الجنبلاطيين الدروز غير معادٍ لإسرائيل وغير معني بالاحتلال الإسرائيلي بل متكيّف معه، الأمر الذي أسقط رويداً رويداً مقولة إسرائيل العدو من مكونات الثقافة السياسية لدى هذه الجماعة.
وفي هذا السياق توّج هذا التوجه غير المعادي لإسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لإسرائيل داخل الحزب التقدمي الاشتراكي أو خارجه، حتى إن بعض رموز هذا التيار جرت تصفيته جسدياً.
على صعيد آخر، ساهم وليد جنبلاط على مدى أكثر من ربع قرن في وجوده على عرش الزعامة، في إضعاف أو تهميش نظام القيم الأخلاقية وسط الدروز الجنبلاطيين. وقد كانت سنوات الحرب لها وسائلها في ذلك وسنوات ما بعد الحرب وسائلها الأخرى. ففي سنوات الحرب نشأت في أوساط الحزبيين، وتحديداً وسط القيادات الوسطى، طبقة من أغنياء الحرب الذين أباحوا لأنفسهم شتى ضروب النهب والفساد والتعدّي على أملاك الغير. وإذا كان طبيعياً أن تشهد أي حرب نمو هذه المظاهر فإن ما هو ليس طبيعياً في الحالة التي نتحدث عنها هو أن يكون الزعيم السياسي مشرفاً على هذه الظاهرة وراعياً لها، بل ربما مشاركاً فيها. وهذا ما عبّر عنه جنبلاط مباشرة وعلناً في أحد لقاءاته بمحازبيه ومسؤولي حزبه في بيروت يوم اجتمع بهم في إحدى صالات السينما في "الحمرا" في منتصف الثمانينات موعزاً إليهم: "بدّي مصاري من بيروت، دبروا حالكم"، الأمر الذي كان بمنزلة إيذان لهؤلاء الأبَوَات لكي يعيثوا ببيروت فساداً ونهباً وهتكاً بكرامات أهلها. كل ذلك كان يحدث تحت تبرير: "بيروت بدها زعران". هكذا تحول الحزب التقدمي الاشتراكي آنذاك إلى مدرسة لتخريج الشبّيحة واللصوص والفاسدين الذين ما لبثوا أن راحوا يعمّمون ثقافة الفساد في أوساط الدروز الجنبلاطيين عموماً.
ولم تكن عملية تعميم ثقافة الفساد أقل وضوحاً في سياسة جنبلاط في مرحلة ما بعد الحرب. فجنبلاط كان واحداً من رموز الحرب الذين عادوا إلى السلطة بعد اتفاق الطائف، فتسلم في تلك الفترة عدّة وزارات شهدت جميعها في عهده عمليات فساد وهدر وتلاعب بالمال العام. ولأسباب سياسية تتعلق بـ"المصالحة الوطنية"، كما قيل، تسنى لجنبلاط أن يتسلّم وزارة شؤون المهجّرين أو أن يشرف عليها. فكانت تجربته في تلك الوزارة نموذجاً "مثالياً" لعمليات التزوير المنظم ونهب المال العام وتعميم ثقافة الفساد في أوساط الكثير من الفئات الشعبية، وبخاصة وسط الدروز الجنبلاطيين. كما استخدمت أموال وزارة المهجرين منذ منتصف التسعينات رُشى لشراء أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية والبلدية. وعملياً مثل المسؤولون الحزبيون الجنبلاطيون في القرى والمناطق دور الوسطاء بين المواطنين ووزارة شؤون المهجرين. وعبرهم جرى تعميم كل وسائل التزوير والعمولة وسرقة المال العام، بل جرى تعميم استخدام هذه الوسائل لشراء الضمائر ولتدمير نظم القيم لدى المواطنين، فغابت معايير الحلال والحرام لديهم على الرغم من قوة حضورها في نظام القيم وفي الثقافة الشعبية لدى المواطنين الدروز تاريخياً.
هذا التحول على المستويين السياسي والمسلكي داخل الحزب التقدمي الاشتراكي منذ بدايات الثمانينات أسّس لنزعة يمينية وإفسادية في الثقافة السياسية الجنبلاطية، بدءاً من المستوى الجماهيري وصولاً إلى رأس القمة، مع العلم أن جنبلاط نفسه هو الذي كان يدفع في هذا الاتجاه. ولم تكن مصادفة أن تلك الطبقة من "أغنياء الحرب" والشبيحة التي نشأت داخل الحزب هي نفسها الفئة غير المعادية لإسرائيل، وهي نفسها الفئة التي كان وليد جنبلاط يرعاها ويقف في صفها كلما حدث خلاف داخل الحزب بينها وبين الفئات المعترضة على نهجها السياسي والمسلكي. إلى أن أمسكت هذه الطبقة عملياً، وبإدارة جنبلاط، بكل مفاصل العمل الحزبي والعسكري والجماهيري، بدءاً من مسؤولي القرى وصولاً إلى مجلس قيادة الحزب.
وقد أخذ النهج اليميني والفاسد يظهر واضحاً منذ منتصف الثمانينات، حين راح الموقع الطبقي للحزب التقدمي الاشتراكي يتبدل، وأخذ مسؤولوه يتدخلون لقمع التحركات العمالية المطلبية في العديد من المصانع والمؤسسات القائمة في مناطق سيطرتهم، مقابل حفنة من الأموال كانوا يرتشون بها من قبل أرباب العمل. وخلال حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة، كثيراً ما دفع الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطيين الدروز إلى اتخاذ مواقف مناهضة للحركة النقابية والمطلبية، حتى إن مسؤولي الحزب في مناطق الشوف وعاليه وبعبدا على الأقل، كانوا حين تكون هناك دعوة إلى الإضراب العام من قبل الاتحاد العمالي، يجولون على أصحاب المحال التجارية والمؤسسات في تلك المناطق طالبين منهم عدم التقيد بالإضراب. فما بالك بالمواقف التي كان وليد جنبلاط وكتلته النيابية يتخذونها حيال السياسة الاقتصادية والمالية خلال تلك الفترة، على الرغم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، من أن تلك السياسات اليمينية التي ينتهجها وليد جنبلاط وحزبه، متسلحين بالقواعد "الشعبية" للدروز الجنبلاطيين، هي سياسات مناقضة تماماً للمصالح الفعلية لتلك القواعد الشعبية البائسة، التي تأسس الحزب التقدمي الاشتراكي من أجلها أصلاً؛ فضلاً عن أنها ساهمت في إفقار وتجويع هذه القواعد.
كيف يمكن تفسير هذه الدوافع لدى وليد جنبلاط؟
إن وليد جنبلاط لم ينشأ نشأة يسارية أساساً، وهو لم يكن على علاقة منسجمة سياسياً بكمال جنبلاط، على الرغم من كل الإدعاءات التحريضية المضللة التي يمارسها اليوم عبر إثارة موضوع قتل هذا القائد العربي؛ لأن وليد جنبلاط في الواقع ليس حريصاً على مبادئ وأخلاقيات كمال جنبلاط ولا على ثوابته السياسية والطبقية، فوليد جنبلاط هو من حيث مكوناته الشخصية امتداد لبشير جنبلاط، الإقطاعي، المستبد، البراغماتي، غير المتمسك بالثوابت، محب المال والسلطة، الذي لا يجيد احترام جماعته، الطامح إلى الاستفراد بالزعامة حتى لو عبر القضاء على كل منافسيه، أضف إلى ذلك دفاع وليد جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية التي هو أحد رموزها، مقابل كمال جنبلاط، المبدئي، الأخلاقي، الاشتراكي، المتواضع، الذي يجيد احترام الآخرين، الزاهد، المتعالي على المال والثروة، المدافع عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء، الذي إذا رفع شعاراً عمل على تطبيقه على نفسه قبل أن يطلب من الآخرين تطبيقه... والمفارقة الكبرى بين الرجلين هي أن كمالاً انطلق في حياته السياسية من موقع تقليدي إقطاعي يميني صديق للاستعمار، حاولت الست نظيرة (والدته) أن تزجّه فيه، غير أنه انقلب على ذلك الموقع وانتهى قائداً وطنياً وعربياً، يسارياً، معادياً للاستعمار، ساعياً لتغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة في لبنان. أما وليد فهو على العكس تماماً، انطلق في حياته السياسية من موقع وطني تقدمي، قائداً للحركة الوطنية، و"انتهى" زعيماً طائفياً يمينياً لبنانوياً، جبلياً، صديقاً للاستعمار، بل أداة في يده.
نية، و"انتهى" زعيماً طائفياً يمينياً لبنانوياً، جبلياً، صديقاً للاستعمار، بل أداة في يده.