من هناك
07-04-2007, 03:47 AM
الاعتدال الشِّيعيّ لا الفصال مع الشِّيعة
هاني فحص
لا يقلُّ عدد الشِّيعة الإماميّة الإثنا عشريّة في العالَم عن 150 مليون نسمة، يتعاطف أو يلتقي معهم بنسبة أو بأخرى عشرات الملايين من الإسماعيليّة والزيديّة... وهم جميعاً، ما عدا شيعة إيران يشكون، وربَّما بالغوا في شكواهم أحياناً، من تهميشهم، الذي جعلهم يراوحون بين الرَّغبة في الاندماج طموحاً إلى المشاركة، وبين خيبة الأمل والعودة إلى التَّماسُّك الدَّاخليّ إلى الحدِّ الّذي يؤشِّر على احتمال الانغلاق، أي أنَّ اندماجهم، سواءً من خلال القبول النِّسبـي، عالي النِّسبة أحياناً، والمتدرِّج لدولهم ومجتمعاتهم، وتظهير ذلك في الانحياز إلى القضايا الّتي تهمُّ هذه الدُّول والمجتمعات، باعتبارها قضايا مشتركة تحت سقف الانتماء إلى الإسلام أو العروبة، أو إلى كليهما معاً (فلسطين ـ الوحدة ـ معاداة الاستعمار) أو من خلال الاحتجاج الّذي يهدف إلى تحقيق نصاب المواطنة جامعاً لكل المواطنين من دون تمييز بين مذهبٍ ومذهب، أو بقليل من التَّمييز على أمل المساواة على المدى البعيد... ومعلوم أنَّ هذا التَّظهير لا يكون صافياً، أو وطنياً أي محلياً دائماً، بل ينفتح أحياناً على مؤثِّرات خارجيّة، ليس بالضَّرورة أن تكون غاياتها الوطنية الخاصَّة متطابقة تماماً مع التَّطلُّعات الوطنية الأخرى للشيعة في أماكن حراكهم المطلبـي، الّذي لا يلبث العنف الّذي يقابل به من قبل السُّلطات الحاكمة، أن يجره إلى عنف مضاد وعشوائي غير مفاجئ لأنَّ له أسباباً مكبوتة ومتراكمة، يأتـي حدث ما، داخليّ أو خارجيّ ليفجِّرها.. وعلى الرَّغم من أنَّ طرفاً شيعياً قوياً وحيوياً وطموحاً، كإيران، تبدي تعاطفها مع أيِّ حراكِ شيعيّ في أيِّ بلدٍ عربـيّ أو إسلاميّ، إلاَّ أنَّ المصلحة الوطنيّة الإيرانيّة، تبقى هي ضابط الإيقاع الأساس في علاقة إيران بالدَّولة المعنية والشِّيعة المعنيين معاً، بحيث أنَّ طهران مثلاً، وفي لحظات احتدام المواجهة بين شيعة البحرين والسُّلطة البحرينية، كانت تتواصل مع حكومة البحرين معبِّرة عن رغبتها في حماية العلاقات والمصالح المشتركة بين الجمهوريّة الإسلاميّة ومملكة البحرين، من أيِّ عاصفة أو رياح احتجاج شيعيّة..
وفي مفاصل معيّنة تحرص طهران على إبلاغ دولة البحرين، وسائر دول الخليج الّتي تضمُّ أعداداً من الشِّيعة، بأنَّ ميلها أو رجاءها ـ أي طهران ـ أن يكون الشِّيعة مسهمين فعلياً لا في استقرار مجتمعاتهم فقط وبل ودولهم أيضاً أو أوَّلاً.
وتصل المسألة مع المملكة العربيّة السَّعوديّة إلى حدِّ إبلاغها بقلق طهران من أنَّ هناك مبالغ ماليّة كبيرة مرصودة من أجل تحريض الشِّيعة في المملكة على السُّلطة والدَّولة، وأنَّ هذا الأمر لا يصبُّ في مصلحة الدَّولة السَّعوديّة ولا الشِّيعة ولا إيران.
وأكثر من ذلك أنَّ طهران تحرص على إفهام المملكة العربيّة السَّعوديّة بأنَّها لن تقضي أمراً من دونها، من العراق إلى لبنان إلى غيره، ومن دون أن يكون ذلك على حساب أيٍّ من دول الخليج.. وحتَّى مصر... ويأتـي الرَّدُّ السَّعوديّ هادئاً وميالاً إلى القبول معتمداً إلى حدٍّ بعيد على هدوء الشِّيعة في المنطقة الشَّرقيّة من السَّعوديّة، بعد تاريخ طويل من القلاقل والمشاحنات والمواجهات، الّتي انتهت بتفاهم عميق، لَم تتأخر طهران عن التَّعبير عن رضاها عنه، في عهد المرحوم الملك فهد وبعده. وكانت مناسبة حرب الخليج الثَّانية، ووقوع المملكة تحت تهديد النِّظام العراقي السَّابق، لتصدر الفتاوى والمواقف الشِّيعيّة في المنطقة الشَّرقيّة، منحازة بوضوح شديد إلى جانب المملكة مع إظهار النِّية والاستعداد للانخراط في مواجهة أيِّ عدوان على المملكة.
وعندما ظهرت في المنطقة الشَّرقيّة وفي الوسط الشِّيعيّ حالة من الابتهاج والحماس بالمقاومة وحزب اللَّه في حرب تموز 2006 ضدَّ إسرائيل، كان ذلك من ضمن حالة عامَّة من الحماس الشَّعبـيّ العربـيّ والإسلاميّ، ومن دون نعوتٍ مذهبيّة فاصلة، وإن كانت مساحة شعبيّة سنيّة محدودة قد تجنَّبت المشاركة في التَّعبير عن هذا الأمر، أو عبَّر بعضها تعبيراً سلبياً محدوداً، فإنَّ المسؤولين في الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، ومنهم المسؤولون السَّعوديون، لَم يختاروا جانب السَّلب، بل لقد عبَّروا بطريقتهم عن موقف إيجابـيّ ما، وصل في السَّعوديّة إلى حدِّ إفصاح الملك عبد اللَّه بن عبد العزيز عن محبته للمقاومة وقائدها وقوله (إنَّهم أبناؤنا وفي قلوبنا) ولَم يتأثَّر هذا الموقف، إلاَّ جزئياً، بالكلام الاتِّهامي الّذي وجهته قيادة المقاومة أثناء الحرب وبعدها، وإعلامها، إلى الدُّول العربيَّة والمملكة خصوصاً، بل واستطاع الجانب السَّعوديّ، سواءً في حركته الحواريّة مع طهران، أو الميل إلى الهدوء في التَّعبير عن ردِّ الفعل على التَّصريحات السَّلبيّة، أو في حركة سفير المملكة في بيروت الدكتور عبد العزيز خوجه، بين حزب اللَّه والدَّولة اللبنانيّة، والسَّعوديّة، ومع حرصه الشَّديد على التَّوازن والتَّفهم لوجهات النَّظر المختلفة...
إذاً استطاع الجانب السَّعوديّ أن يتخطى كلَّ ما كانت تؤشِّر عليه التَّوترات في العلاقات السَّعوديّة الإيرانيّة أو السَّعوديّة اللبنانيّة ـ مع حزب اللَّه ـ مع ضرورة الانتباه إلى درجة من الثِّقة أو التَّفاهم مع رئيس المجلس النِّيابـيّ اللبنانـيّ السيِّد نبيه برِّي، ظهرت في التَّواصل الدَّائم بينه وبين السَّفير الخوجه وما زالت.. والمتابعون لهذا الشَّأن لاحظوا أنَّ تعبير الشِّيعة في السَّعوديّة عن تقديرهم لمقاومة حزب اللَّه قد عاد القسم الّذي ظهرت الحدَّة أو التَّشنج في خطابه إلى التَّهدئة خاصَّة بعدما حصل التَّواصل والتَّفاهم مع كبار المسؤولين السَّعوديين.
هذا في حين، أنَّ الحدث المفصلي الّذي رافق هذه الحالة في البحرين قد أعطى المعارضة الشِّيعيّة (جمعية الوفاق) مزيداً من الزَّخم، وظفته في انعطافتها من المقاطعة إلى المشاركة في الانتخابات التَّشريعيّة عام 2007 وبنسبة الأكثرية السَّاحقة في قواعدها وكوادرها، متضامنة مع تيارات وطنية ويسارية أغلبها سنيّة، في محاولة إلى رفع المعارضة إلى مستواها الوطنـي، ما جعل صقور جمعية الوفاق (بقيادة حسن مشيمع) ينفصلون عنها ويندمجون في حركة معارضة أبعد من المذهبيّة.. ما يعني أنَّ العمليّة السِّياسيّة، على مقدار وافٍ من الدِّيموقراطيّة رفع مستوى العلائق السِّياسيّة إلى مستوى المواطنة، وهذا ما انتبهت إليه السُّلطات المعنيّة في البحرين، فأتاحت نسبة أعلى من الحرية في اختيار الشِّيعة لممثليهم في البرلمان، ما مكنَّهم من تحقيق نجاح غير عادي (17 ناجحاً من 18 مرشحاً)..
هذا لا يعني أنَّ عملية الاندماج الّتي تؤشِّر عليها هذه التَّطوُّرات قد أصبحت سائرة في طريق سالكة أو خالية من المخاطر واحتمال الانتكاس... فما زال على البحرين، وغيرها من دول الخليج، أن تؤمِّن أو تصدِّق أنَّ الشِّيعة لن يدخروا فرصة للاندماج المتاح من دون اغتنامها، وأنَّها ـ أي الدَّولة ـ بقدر ما توسِّع مجالها الإداري والوظيفي والإنتاجي والتَّربوي الخ للشيعة، ولو بالتَّدرُّج البطيء، ومن دون تخيُّل لإمكان تحقيق العدل الكامل، مع إمكان وكفاية العدل النِّسبـي، قياساً على الأعداد، بقدر ما ترسخ فكرة الدَّولة وضرورتها وأهميتها وكونها الجامع الحاضن لكلِّ مكوِّنات الاجتماع الوطنـيّ... وإذا ما كان على الدَّولة في سبيل تحقيق ذلك أن تخفِّف من شكوكها أو قناعاتها بأنَّ الشِّيعة في البحرين ليسوا أكثر من جالية إيرانيّة فإنَّ على الشِّيعة أن يزيلوا هذه الشُّكوك المبالغ فيها قطعاً، وإن كان المنصفون لا ينكرون أنَّ لها أسبابها الموجبة.
هذا لا يعني أن ينجرَّ الشِّيعة وجمعية الوفاق خصوصاً إلى العداء لإيران والتَّبرؤ منها، بل أن يعمدوا إلى التَّخفيف من خطاباتهم الّتي تغري من يريد أن يصنفهم تصنيفاً غير وطنـي بذلك. وإذا ما كانت الولائية قناعة لا بُدَّ من احترامها، فليس من المحرَّم أو المكروه نقدها، أو نقد التَّعبير عنها بما يؤدِّي إلى ترسيخ الانطباع بأنَّ فهمها والعمل بها مغلوط وربَّما كان مجافياً لفهم المصالح الوطنيّة وقوانين تحرُّكها من أجل تحقيقها... خاصَّة أنَّ شبكة العلاقات والمصالح الإيرانيّة الخليجيّة المشتركة، تمنع من وصول الصِّراع إلى نهايته، لِما في ذلك من هدرٍ غير مجدٍ لمصالح إيران الوطنيّة ومصالح دول الخليج وشعوبها، ما يستفيد منه أوَّلاً وبالذَّات الشَّريك القهريّ في المنطقة، أعني الولايات المتحدة تحديداً... هذا مع ضرورة أن يفرِّق الشِّيعة بين نمط توّجهات الشَّاه ونظامه نحو الخليج ونمط توجهات الدَّولة الّتي تلزم نفسها وتلتزم بقيم ومعايير إسلاميّة تجعل سلم أولوياتها مختلفاً عن سلم أولويات النِّظام الّذي قوضته، وعن سلم أولوياتها مؤيديها في أقطارٍ أخرى على طريقة الأحزاب الشِّيوعيّة مع موسكو والأحزاب القوميّة مع مراكز قرارها العربـيّ. في حين كانت موسكو مسوقة بمصالحها الوطنيّة الرّوسيّة والشَّواهد كثيرة، ولو على حساب الأحزاب الشِّيوعيّة في الأطراف.. وإلاَّ فبماذا نفسِّر انشقاق يوغسلافيا والصِّين وألبانيا عن المركز السوفياتـي ـ الروسي في النِّهاية؟ وبِماذا نفسِّر أحداث بودابست 1956 وربيع براغ ومأساة تشيكوسلوفاكيا بين دوبتشيك وهوساك؟ وبِماذا نفسِّر القفزة الإيجابيّة في العلاقات بين موسكو والخرطوم بعد أسابيع من مقتل عبد الخالق محجوب ورفاقه الشّيوعيين بيد النميري؟ وكذلك أثر صفقات الفوسفات مع المغرب على حساب اليسار والشّيوعيين المغاربة في عهد الحسن الثَّانـي؟ وبِماذا نفسِّر حضور خروتشيف مع جمال عبد النَّاصر محاطاً بكبار مسؤولي المخابرات المصريّة في أسوان، أثناء تدشين السَّد العالي، والشّيوعيين جميعاً تقريباً في سجون مصر؟
وهل كان صدَّام حسين مشغولاً بمراعاة خواطر البعثيين في الأقطار العربيّة المختلفة، أم كان يراعي علاقاته ومزاجه الخاص؟ ما عرفناه في تقلُّبات النِّظام العراقيّ أثناء الحرب في لبنان بين الحركة الوطنيّة وبين الجبهة اللبنانيّة، وبين نهج الاعتدال الفلسطينـيّ ممثلاً بحركة (فتح) والنَّهج المتطرِّف ممثلاً بالمنشقين عن فتح (المجلس الثَّوريّ) والمعارضين لها من اليسار القوميّ الفلسطينـي (الجبهة الشَّعبيّة خصوصاً) إلى حدِّ تخوين ياسر عرفات على مدَّى سنوات والإسهام في اغتيال شخصيات قياديّة فلسطينيّة. من خلال دعم جهات فلسطينيّة منشقة في ذلك الأمر لـ (عصام سرطاوي ـ سعيد حمامي ـ علي ناصر ـ وعز الدِّين القلق الخ..) لينقلب هذا الموقف بدءاً من أوَّل الثَّمانينات إلى مودَّة مع فتح وياسر عرفات تحديداً أدَّى إلى تورُّط الأخير في مواقف لَم تكن مقبولة عربيّاً (غزو الكويت) وفي كلِّ هذه الحالات كان حزب البعث العراقيّ يدير دفة مركبه ليجري وراء الغواصة الصِّداميّة أينما توجهت.
أريد أن أنتهي باختصار من كلِّ ما قلته إلى أنَّ الانقسام الاجتماعيّ والمذهبـيّ والسِّياسيّ بين شيعة وسنَّة في البلاد التَّعدُّديّة خارج إيران، وبشهادة اللوحة الجزئيّة الّتي حاولت رسمها بأمانة ودِّقة قدر المستطاع، ومن دون انحياز مسبق، وعلى ضوء تجربة طويلة خضتها بانفتاح وشفافيّة في المجالات الّتي ذكرتها في هذه المقالة.. هذا الانقسام ليس ناجزاً ولا تتعدَّى المسافة فيه وبين أطرافه المفترضين (سنَّة ـ شيعة) مسافة الانقسامات السِّياسيّة أو غيرها داخل الجماعة السُّنيَّة أو داخل الجماعة الشِّيعيّة ذاتها، لافتاً إلى أنَّ تصرُّف بعض الدُّول مع هذه المسألة بتسرع وأفكار مسبقة وجامدة، يحرج الأطراف الشِّيعيّة المعتدلة ويضطرها إلى سلوك القطيع، بينما يبقى المختارون نهائياً ومن دون تردُّد ظاهريّ أو باطنـيّ، من القوى الشِّيعيّة الوطنيّة لجانب الدَّولة وخياراتها، يبقى هؤلاء في عيون جماعتهم أقرب إلى الاتِّهام بالمروق والفصال مع هذه الجماعة.
وإلاَّ فالشِّيعة عامَّة وفي البلاد العربيَّة خاصَّة، ومهما تكن نسبتهم متدنية في هذه البلاد، فإنَّهم ليسوا من القلَّة بحيث يُدار الظَّهر لهم ويبقون موضع اتِّهام وشكٍّ في وطنيتهم الّتي لا يتراجع تعبيرهم عنها إلاَّ متناسباً طردياً مع تخلي دولهم عنهم أو تهميشها لهم.. بالقطع أنَّ الشِّيعة في العالَم الإسلاميّ وفي الدُّول العربيّة.. أكثر بكثير من المسيحيين في العالَم الإسلاميّ والعربـيّ، وأكثر من الأكراد والأمازيغ..
ولكنّا.. من موقع إسلاميّ وعربـيّ لا نقف عند الأعداد وإن كنَّا نحترمها ونرى أنَّ الكيان الوطنـيّ والدَّولة الوطنيّة هي الدَّولة الجامعة الحاضنة لكلِّ مكوِّناتها والّتي ترفع العدد مهما يكن ضئيلاً إلى مستوى المعنى المكوَّن للوطن والدَّولة الوطنيّة، حيث يصبح أيِّ مكوَّن من مكوِّنات الاجتماع الوطنـيّ ضرورة ثقافيّة وأمنيّة ونهضويّة وحتَّى دينيّة للمكوِّنات الأخرى، من دون فرقٍ بين مكوِّن قليل العدد أو مكوِّن أكثري.. وهذا الكلام كما يطال السُّنَّة كجماعة والدَّولة كمؤسَّسة في الدُّول العربيّة، يطال الشِّيعة كأكثرية في العراق ودولتهم العتيدة، الّتي لا يمكن أن تتحقَّق إلاَّ إذا كان موقع السُّنَّة فيها أساسياً كما موقع الأشوريين والكلدان والصابئة والأيزيدية والشّبك.. والأكراد والتّركمان كذلك.
هذا الواقع وهذا السُّلوك من قبل أيِّ دولة تعانـي من مثل هذه الإشكالية الّتي تحتاج إلى حلٍّ لا إلى تعقيد يأتـي من قبل حلّ المشكلة بمشكلة أعقد.. هذا الواقع يضع حدَّاً لحالة النُّزوع إلى الاستقلال والاعتدال والوسطية الّتي تغري أجيالاً جديدة متدينة ومتنورة من الشِّيعة تصرُّ على شيعيتها من دون أن تجعلها حاجزاً بينها وبين الآخرين، في حين تلاحظ أنَّه وكأنَّ المطلوب منها لتثبت ولاءها للدولة وتمسُّكها بها أن تنتقل من مكانٍ إلى مكان بحيث تصبح في الفراغ تماماً. بينما يشتدُّ عضدها ويعلو صوتها عندما تتقدَّم الدَّولة خطوةً نحو الشِّيعة وتتخذ من ذلك دليلاً وحجَّة على ضرورة التَّعجيل بقبول الدَّولة قبولاً نهائياً من أجل مراكمة الأرباح الّتي يمكن أن يكون شكلها مذهبياً ولكن عمقها وأثرها البعيد يبقى وطنياً لأنَّه يرفع من نسبة الشُّعور بالمواطنة لدى الشِّيعة ويخفض من منسوب التَّوتر المذهبـيّ المستند إلى تاريخ من الغبن والتَّهميش لا يمكن القضاء عليه بسرعة ولكن لا بُدَّ من معالجته بحكمة وعمق وروية.
إنَّنا لا نستطيع أن ننشط تيار الاعتدال الشِّيعيّ إلاَّ باستيعاب وترسيخ الثِّقة بيننا وبينه، وإلاَّ فنحن ندفعه إلى ما يخالف فقهه وتراثه ومصلحته ومصلحتنا، أي التَّأثُّر بتيار التَّطرُّف ممثلاً بالقاعدة ومشتقاتها، بل لعلَّ تنشيطنا لتيار الاعتدال الشِّيعيّ بواقعيّة وعقلانيّة، يؤدِّي إلى توسعة مساحته بحيث يدخل فيه قطاع واسع جدَّاً من الشِّيعة الّذين تغازلهم الآن إغراءات التَّطرُّف ولكنَّهم مشدودون إلى اتِّجاه معاكس لها. ومن المهم جدَّاً أن لا نحصر مفهومنا للاعتدال في النَّماذج المحدودة الّتي يمكن أن تكون منحازة لنا ـ للدولة أو للجماعة السُّنيَّة ـ في مقابل ما يمكن أن يعتبر متطرِّفاً أو منفصلاً من الشِّيعة، لأنَّ فضاء خيارنا أوسع من الحالات المزاجيّة غير المضمونة ولا المأمونة.. هذا حتَّى لا يضطر من يريد من الشِّيعة أن يتمايز عن السَّائد الشِّيعيّ أن يزايد على هذا السَّائد حذراً من أن يفقد موقعه وتأثيره في جماعته.
هاني فحص
لا يقلُّ عدد الشِّيعة الإماميّة الإثنا عشريّة في العالَم عن 150 مليون نسمة، يتعاطف أو يلتقي معهم بنسبة أو بأخرى عشرات الملايين من الإسماعيليّة والزيديّة... وهم جميعاً، ما عدا شيعة إيران يشكون، وربَّما بالغوا في شكواهم أحياناً، من تهميشهم، الذي جعلهم يراوحون بين الرَّغبة في الاندماج طموحاً إلى المشاركة، وبين خيبة الأمل والعودة إلى التَّماسُّك الدَّاخليّ إلى الحدِّ الّذي يؤشِّر على احتمال الانغلاق، أي أنَّ اندماجهم، سواءً من خلال القبول النِّسبـي، عالي النِّسبة أحياناً، والمتدرِّج لدولهم ومجتمعاتهم، وتظهير ذلك في الانحياز إلى القضايا الّتي تهمُّ هذه الدُّول والمجتمعات، باعتبارها قضايا مشتركة تحت سقف الانتماء إلى الإسلام أو العروبة، أو إلى كليهما معاً (فلسطين ـ الوحدة ـ معاداة الاستعمار) أو من خلال الاحتجاج الّذي يهدف إلى تحقيق نصاب المواطنة جامعاً لكل المواطنين من دون تمييز بين مذهبٍ ومذهب، أو بقليل من التَّمييز على أمل المساواة على المدى البعيد... ومعلوم أنَّ هذا التَّظهير لا يكون صافياً، أو وطنياً أي محلياً دائماً، بل ينفتح أحياناً على مؤثِّرات خارجيّة، ليس بالضَّرورة أن تكون غاياتها الوطنية الخاصَّة متطابقة تماماً مع التَّطلُّعات الوطنية الأخرى للشيعة في أماكن حراكهم المطلبـي، الّذي لا يلبث العنف الّذي يقابل به من قبل السُّلطات الحاكمة، أن يجره إلى عنف مضاد وعشوائي غير مفاجئ لأنَّ له أسباباً مكبوتة ومتراكمة، يأتـي حدث ما، داخليّ أو خارجيّ ليفجِّرها.. وعلى الرَّغم من أنَّ طرفاً شيعياً قوياً وحيوياً وطموحاً، كإيران، تبدي تعاطفها مع أيِّ حراكِ شيعيّ في أيِّ بلدٍ عربـيّ أو إسلاميّ، إلاَّ أنَّ المصلحة الوطنيّة الإيرانيّة، تبقى هي ضابط الإيقاع الأساس في علاقة إيران بالدَّولة المعنية والشِّيعة المعنيين معاً، بحيث أنَّ طهران مثلاً، وفي لحظات احتدام المواجهة بين شيعة البحرين والسُّلطة البحرينية، كانت تتواصل مع حكومة البحرين معبِّرة عن رغبتها في حماية العلاقات والمصالح المشتركة بين الجمهوريّة الإسلاميّة ومملكة البحرين، من أيِّ عاصفة أو رياح احتجاج شيعيّة..
وفي مفاصل معيّنة تحرص طهران على إبلاغ دولة البحرين، وسائر دول الخليج الّتي تضمُّ أعداداً من الشِّيعة، بأنَّ ميلها أو رجاءها ـ أي طهران ـ أن يكون الشِّيعة مسهمين فعلياً لا في استقرار مجتمعاتهم فقط وبل ودولهم أيضاً أو أوَّلاً.
وتصل المسألة مع المملكة العربيّة السَّعوديّة إلى حدِّ إبلاغها بقلق طهران من أنَّ هناك مبالغ ماليّة كبيرة مرصودة من أجل تحريض الشِّيعة في المملكة على السُّلطة والدَّولة، وأنَّ هذا الأمر لا يصبُّ في مصلحة الدَّولة السَّعوديّة ولا الشِّيعة ولا إيران.
وأكثر من ذلك أنَّ طهران تحرص على إفهام المملكة العربيّة السَّعوديّة بأنَّها لن تقضي أمراً من دونها، من العراق إلى لبنان إلى غيره، ومن دون أن يكون ذلك على حساب أيٍّ من دول الخليج.. وحتَّى مصر... ويأتـي الرَّدُّ السَّعوديّ هادئاً وميالاً إلى القبول معتمداً إلى حدٍّ بعيد على هدوء الشِّيعة في المنطقة الشَّرقيّة من السَّعوديّة، بعد تاريخ طويل من القلاقل والمشاحنات والمواجهات، الّتي انتهت بتفاهم عميق، لَم تتأخر طهران عن التَّعبير عن رضاها عنه، في عهد المرحوم الملك فهد وبعده. وكانت مناسبة حرب الخليج الثَّانية، ووقوع المملكة تحت تهديد النِّظام العراقي السَّابق، لتصدر الفتاوى والمواقف الشِّيعيّة في المنطقة الشَّرقيّة، منحازة بوضوح شديد إلى جانب المملكة مع إظهار النِّية والاستعداد للانخراط في مواجهة أيِّ عدوان على المملكة.
وعندما ظهرت في المنطقة الشَّرقيّة وفي الوسط الشِّيعيّ حالة من الابتهاج والحماس بالمقاومة وحزب اللَّه في حرب تموز 2006 ضدَّ إسرائيل، كان ذلك من ضمن حالة عامَّة من الحماس الشَّعبـيّ العربـيّ والإسلاميّ، ومن دون نعوتٍ مذهبيّة فاصلة، وإن كانت مساحة شعبيّة سنيّة محدودة قد تجنَّبت المشاركة في التَّعبير عن هذا الأمر، أو عبَّر بعضها تعبيراً سلبياً محدوداً، فإنَّ المسؤولين في الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، ومنهم المسؤولون السَّعوديون، لَم يختاروا جانب السَّلب، بل لقد عبَّروا بطريقتهم عن موقف إيجابـيّ ما، وصل في السَّعوديّة إلى حدِّ إفصاح الملك عبد اللَّه بن عبد العزيز عن محبته للمقاومة وقائدها وقوله (إنَّهم أبناؤنا وفي قلوبنا) ولَم يتأثَّر هذا الموقف، إلاَّ جزئياً، بالكلام الاتِّهامي الّذي وجهته قيادة المقاومة أثناء الحرب وبعدها، وإعلامها، إلى الدُّول العربيَّة والمملكة خصوصاً، بل واستطاع الجانب السَّعوديّ، سواءً في حركته الحواريّة مع طهران، أو الميل إلى الهدوء في التَّعبير عن ردِّ الفعل على التَّصريحات السَّلبيّة، أو في حركة سفير المملكة في بيروت الدكتور عبد العزيز خوجه، بين حزب اللَّه والدَّولة اللبنانيّة، والسَّعوديّة، ومع حرصه الشَّديد على التَّوازن والتَّفهم لوجهات النَّظر المختلفة...
إذاً استطاع الجانب السَّعوديّ أن يتخطى كلَّ ما كانت تؤشِّر عليه التَّوترات في العلاقات السَّعوديّة الإيرانيّة أو السَّعوديّة اللبنانيّة ـ مع حزب اللَّه ـ مع ضرورة الانتباه إلى درجة من الثِّقة أو التَّفاهم مع رئيس المجلس النِّيابـيّ اللبنانـيّ السيِّد نبيه برِّي، ظهرت في التَّواصل الدَّائم بينه وبين السَّفير الخوجه وما زالت.. والمتابعون لهذا الشَّأن لاحظوا أنَّ تعبير الشِّيعة في السَّعوديّة عن تقديرهم لمقاومة حزب اللَّه قد عاد القسم الّذي ظهرت الحدَّة أو التَّشنج في خطابه إلى التَّهدئة خاصَّة بعدما حصل التَّواصل والتَّفاهم مع كبار المسؤولين السَّعوديين.
هذا في حين، أنَّ الحدث المفصلي الّذي رافق هذه الحالة في البحرين قد أعطى المعارضة الشِّيعيّة (جمعية الوفاق) مزيداً من الزَّخم، وظفته في انعطافتها من المقاطعة إلى المشاركة في الانتخابات التَّشريعيّة عام 2007 وبنسبة الأكثرية السَّاحقة في قواعدها وكوادرها، متضامنة مع تيارات وطنية ويسارية أغلبها سنيّة، في محاولة إلى رفع المعارضة إلى مستواها الوطنـي، ما جعل صقور جمعية الوفاق (بقيادة حسن مشيمع) ينفصلون عنها ويندمجون في حركة معارضة أبعد من المذهبيّة.. ما يعني أنَّ العمليّة السِّياسيّة، على مقدار وافٍ من الدِّيموقراطيّة رفع مستوى العلائق السِّياسيّة إلى مستوى المواطنة، وهذا ما انتبهت إليه السُّلطات المعنيّة في البحرين، فأتاحت نسبة أعلى من الحرية في اختيار الشِّيعة لممثليهم في البرلمان، ما مكنَّهم من تحقيق نجاح غير عادي (17 ناجحاً من 18 مرشحاً)..
هذا لا يعني أنَّ عملية الاندماج الّتي تؤشِّر عليها هذه التَّطوُّرات قد أصبحت سائرة في طريق سالكة أو خالية من المخاطر واحتمال الانتكاس... فما زال على البحرين، وغيرها من دول الخليج، أن تؤمِّن أو تصدِّق أنَّ الشِّيعة لن يدخروا فرصة للاندماج المتاح من دون اغتنامها، وأنَّها ـ أي الدَّولة ـ بقدر ما توسِّع مجالها الإداري والوظيفي والإنتاجي والتَّربوي الخ للشيعة، ولو بالتَّدرُّج البطيء، ومن دون تخيُّل لإمكان تحقيق العدل الكامل، مع إمكان وكفاية العدل النِّسبـي، قياساً على الأعداد، بقدر ما ترسخ فكرة الدَّولة وضرورتها وأهميتها وكونها الجامع الحاضن لكلِّ مكوِّنات الاجتماع الوطنـيّ... وإذا ما كان على الدَّولة في سبيل تحقيق ذلك أن تخفِّف من شكوكها أو قناعاتها بأنَّ الشِّيعة في البحرين ليسوا أكثر من جالية إيرانيّة فإنَّ على الشِّيعة أن يزيلوا هذه الشُّكوك المبالغ فيها قطعاً، وإن كان المنصفون لا ينكرون أنَّ لها أسبابها الموجبة.
هذا لا يعني أن ينجرَّ الشِّيعة وجمعية الوفاق خصوصاً إلى العداء لإيران والتَّبرؤ منها، بل أن يعمدوا إلى التَّخفيف من خطاباتهم الّتي تغري من يريد أن يصنفهم تصنيفاً غير وطنـي بذلك. وإذا ما كانت الولائية قناعة لا بُدَّ من احترامها، فليس من المحرَّم أو المكروه نقدها، أو نقد التَّعبير عنها بما يؤدِّي إلى ترسيخ الانطباع بأنَّ فهمها والعمل بها مغلوط وربَّما كان مجافياً لفهم المصالح الوطنيّة وقوانين تحرُّكها من أجل تحقيقها... خاصَّة أنَّ شبكة العلاقات والمصالح الإيرانيّة الخليجيّة المشتركة، تمنع من وصول الصِّراع إلى نهايته، لِما في ذلك من هدرٍ غير مجدٍ لمصالح إيران الوطنيّة ومصالح دول الخليج وشعوبها، ما يستفيد منه أوَّلاً وبالذَّات الشَّريك القهريّ في المنطقة، أعني الولايات المتحدة تحديداً... هذا مع ضرورة أن يفرِّق الشِّيعة بين نمط توّجهات الشَّاه ونظامه نحو الخليج ونمط توجهات الدَّولة الّتي تلزم نفسها وتلتزم بقيم ومعايير إسلاميّة تجعل سلم أولوياتها مختلفاً عن سلم أولويات النِّظام الّذي قوضته، وعن سلم أولوياتها مؤيديها في أقطارٍ أخرى على طريقة الأحزاب الشِّيوعيّة مع موسكو والأحزاب القوميّة مع مراكز قرارها العربـيّ. في حين كانت موسكو مسوقة بمصالحها الوطنيّة الرّوسيّة والشَّواهد كثيرة، ولو على حساب الأحزاب الشِّيوعيّة في الأطراف.. وإلاَّ فبماذا نفسِّر انشقاق يوغسلافيا والصِّين وألبانيا عن المركز السوفياتـي ـ الروسي في النِّهاية؟ وبِماذا نفسِّر أحداث بودابست 1956 وربيع براغ ومأساة تشيكوسلوفاكيا بين دوبتشيك وهوساك؟ وبِماذا نفسِّر القفزة الإيجابيّة في العلاقات بين موسكو والخرطوم بعد أسابيع من مقتل عبد الخالق محجوب ورفاقه الشّيوعيين بيد النميري؟ وكذلك أثر صفقات الفوسفات مع المغرب على حساب اليسار والشّيوعيين المغاربة في عهد الحسن الثَّانـي؟ وبِماذا نفسِّر حضور خروتشيف مع جمال عبد النَّاصر محاطاً بكبار مسؤولي المخابرات المصريّة في أسوان، أثناء تدشين السَّد العالي، والشّيوعيين جميعاً تقريباً في سجون مصر؟
وهل كان صدَّام حسين مشغولاً بمراعاة خواطر البعثيين في الأقطار العربيّة المختلفة، أم كان يراعي علاقاته ومزاجه الخاص؟ ما عرفناه في تقلُّبات النِّظام العراقيّ أثناء الحرب في لبنان بين الحركة الوطنيّة وبين الجبهة اللبنانيّة، وبين نهج الاعتدال الفلسطينـيّ ممثلاً بحركة (فتح) والنَّهج المتطرِّف ممثلاً بالمنشقين عن فتح (المجلس الثَّوريّ) والمعارضين لها من اليسار القوميّ الفلسطينـي (الجبهة الشَّعبيّة خصوصاً) إلى حدِّ تخوين ياسر عرفات على مدَّى سنوات والإسهام في اغتيال شخصيات قياديّة فلسطينيّة. من خلال دعم جهات فلسطينيّة منشقة في ذلك الأمر لـ (عصام سرطاوي ـ سعيد حمامي ـ علي ناصر ـ وعز الدِّين القلق الخ..) لينقلب هذا الموقف بدءاً من أوَّل الثَّمانينات إلى مودَّة مع فتح وياسر عرفات تحديداً أدَّى إلى تورُّط الأخير في مواقف لَم تكن مقبولة عربيّاً (غزو الكويت) وفي كلِّ هذه الحالات كان حزب البعث العراقيّ يدير دفة مركبه ليجري وراء الغواصة الصِّداميّة أينما توجهت.
أريد أن أنتهي باختصار من كلِّ ما قلته إلى أنَّ الانقسام الاجتماعيّ والمذهبـيّ والسِّياسيّ بين شيعة وسنَّة في البلاد التَّعدُّديّة خارج إيران، وبشهادة اللوحة الجزئيّة الّتي حاولت رسمها بأمانة ودِّقة قدر المستطاع، ومن دون انحياز مسبق، وعلى ضوء تجربة طويلة خضتها بانفتاح وشفافيّة في المجالات الّتي ذكرتها في هذه المقالة.. هذا الانقسام ليس ناجزاً ولا تتعدَّى المسافة فيه وبين أطرافه المفترضين (سنَّة ـ شيعة) مسافة الانقسامات السِّياسيّة أو غيرها داخل الجماعة السُّنيَّة أو داخل الجماعة الشِّيعيّة ذاتها، لافتاً إلى أنَّ تصرُّف بعض الدُّول مع هذه المسألة بتسرع وأفكار مسبقة وجامدة، يحرج الأطراف الشِّيعيّة المعتدلة ويضطرها إلى سلوك القطيع، بينما يبقى المختارون نهائياً ومن دون تردُّد ظاهريّ أو باطنـيّ، من القوى الشِّيعيّة الوطنيّة لجانب الدَّولة وخياراتها، يبقى هؤلاء في عيون جماعتهم أقرب إلى الاتِّهام بالمروق والفصال مع هذه الجماعة.
وإلاَّ فالشِّيعة عامَّة وفي البلاد العربيَّة خاصَّة، ومهما تكن نسبتهم متدنية في هذه البلاد، فإنَّهم ليسوا من القلَّة بحيث يُدار الظَّهر لهم ويبقون موضع اتِّهام وشكٍّ في وطنيتهم الّتي لا يتراجع تعبيرهم عنها إلاَّ متناسباً طردياً مع تخلي دولهم عنهم أو تهميشها لهم.. بالقطع أنَّ الشِّيعة في العالَم الإسلاميّ وفي الدُّول العربيّة.. أكثر بكثير من المسيحيين في العالَم الإسلاميّ والعربـيّ، وأكثر من الأكراد والأمازيغ..
ولكنّا.. من موقع إسلاميّ وعربـيّ لا نقف عند الأعداد وإن كنَّا نحترمها ونرى أنَّ الكيان الوطنـيّ والدَّولة الوطنيّة هي الدَّولة الجامعة الحاضنة لكلِّ مكوِّناتها والّتي ترفع العدد مهما يكن ضئيلاً إلى مستوى المعنى المكوَّن للوطن والدَّولة الوطنيّة، حيث يصبح أيِّ مكوَّن من مكوِّنات الاجتماع الوطنـيّ ضرورة ثقافيّة وأمنيّة ونهضويّة وحتَّى دينيّة للمكوِّنات الأخرى، من دون فرقٍ بين مكوِّن قليل العدد أو مكوِّن أكثري.. وهذا الكلام كما يطال السُّنَّة كجماعة والدَّولة كمؤسَّسة في الدُّول العربيّة، يطال الشِّيعة كأكثرية في العراق ودولتهم العتيدة، الّتي لا يمكن أن تتحقَّق إلاَّ إذا كان موقع السُّنَّة فيها أساسياً كما موقع الأشوريين والكلدان والصابئة والأيزيدية والشّبك.. والأكراد والتّركمان كذلك.
هذا الواقع وهذا السُّلوك من قبل أيِّ دولة تعانـي من مثل هذه الإشكالية الّتي تحتاج إلى حلٍّ لا إلى تعقيد يأتـي من قبل حلّ المشكلة بمشكلة أعقد.. هذا الواقع يضع حدَّاً لحالة النُّزوع إلى الاستقلال والاعتدال والوسطية الّتي تغري أجيالاً جديدة متدينة ومتنورة من الشِّيعة تصرُّ على شيعيتها من دون أن تجعلها حاجزاً بينها وبين الآخرين، في حين تلاحظ أنَّه وكأنَّ المطلوب منها لتثبت ولاءها للدولة وتمسُّكها بها أن تنتقل من مكانٍ إلى مكان بحيث تصبح في الفراغ تماماً. بينما يشتدُّ عضدها ويعلو صوتها عندما تتقدَّم الدَّولة خطوةً نحو الشِّيعة وتتخذ من ذلك دليلاً وحجَّة على ضرورة التَّعجيل بقبول الدَّولة قبولاً نهائياً من أجل مراكمة الأرباح الّتي يمكن أن يكون شكلها مذهبياً ولكن عمقها وأثرها البعيد يبقى وطنياً لأنَّه يرفع من نسبة الشُّعور بالمواطنة لدى الشِّيعة ويخفض من منسوب التَّوتر المذهبـيّ المستند إلى تاريخ من الغبن والتَّهميش لا يمكن القضاء عليه بسرعة ولكن لا بُدَّ من معالجته بحكمة وعمق وروية.
إنَّنا لا نستطيع أن ننشط تيار الاعتدال الشِّيعيّ إلاَّ باستيعاب وترسيخ الثِّقة بيننا وبينه، وإلاَّ فنحن ندفعه إلى ما يخالف فقهه وتراثه ومصلحته ومصلحتنا، أي التَّأثُّر بتيار التَّطرُّف ممثلاً بالقاعدة ومشتقاتها، بل لعلَّ تنشيطنا لتيار الاعتدال الشِّيعيّ بواقعيّة وعقلانيّة، يؤدِّي إلى توسعة مساحته بحيث يدخل فيه قطاع واسع جدَّاً من الشِّيعة الّذين تغازلهم الآن إغراءات التَّطرُّف ولكنَّهم مشدودون إلى اتِّجاه معاكس لها. ومن المهم جدَّاً أن لا نحصر مفهومنا للاعتدال في النَّماذج المحدودة الّتي يمكن أن تكون منحازة لنا ـ للدولة أو للجماعة السُّنيَّة ـ في مقابل ما يمكن أن يعتبر متطرِّفاً أو منفصلاً من الشِّيعة، لأنَّ فضاء خيارنا أوسع من الحالات المزاجيّة غير المضمونة ولا المأمونة.. هذا حتَّى لا يضطر من يريد من الشِّيعة أن يتمايز عن السَّائد الشِّيعيّ أن يزايد على هذا السَّائد حذراً من أن يفقد موقعه وتأثيره في جماعته.