من هناك
04-07-2007, 11:21 PM
تعكس أزمة منهجية لديها
الملامح السبعة للسلفية المعاصرة
بقلم -أسامة حمود (http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1175008798476&pagename=Zone-Arabic-Daawa%2FDWALayout#**1)
لقد جاء الفكر الإسلامي الأول منفتحا متكاملا، وعُني أشد العناية في انطلاقاته الإبداعية بمقاصد الشريعة الإسلامية، وقواعد أصول الفقه، ولم يقف عند النظريات، بل اشتمل على ميادين التطبيقات العملية في الاجتماع الإنساني، وضرب لهذه التطبيقات العديد من الأمثال، الأمر الذي قدم نموذجا رائعا لفقه التفكير، وفقه الواقع.
وكانت نهضة الأمة الأولى نتاجا طبيعيا للعقول السليمة والأفكار المستقيمة، فإنه يستحيل على العقول المغيَّبة الجامدة أن تقوم بنهضة، أو ترقق سلوكا، أو تمارس إصلاحا.
إن الفكر الإسلامي الصحيح الذي صنعه أسلافنا له مجالات رحبة في النشاط والتوجيه، وله تدخلات حاسمة في ضبط خُطا الإنسان ودفعه في شتى ميادين الحياة. إنه فكر لا يكتفي بتعليم عقائد الإيمان وشعائر الدين، بل يتعدى ذلك إلى دوائر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إنه بأطره الصحيحة يمكن أن يصنع حضارة تنمو مواهبها من وحي الصبغة الدينية، وتقدر على أداء رسالتها من صميم الهُوية الإسلامية، حيث تنوعت الثقافات معه بتنوع الحضارات؛ لأن أسلافنا العظام عاشوا الإسلام الواحد في أزياء متعددة.
من السلفية الأولى إلى السلفية المعاصرة
هكذا عاش أسلافنا القرون الثلاثة الأولى، فإذا يممنا وجوهنا إلى الفكر الإسلامي المعاصر، فلسوف نرى أن الجمود قد أصابه، فعدت عليه عوادي الدهر وأوهنت قواه، والعيب ليس في مرجعيتنا الفكرية، إنما العيب في طريقة الفهم والتلقي والتطبيقات التربوية.
إن الحركات الإسلامية المعاصرة تُعدّ من الفصائل المؤثرة في المجتمع وتوجهاته، والحركة السلفية بالذات تمثل تيارا لا يُستهان به.
ومسمَّى الحركة السلفية يعني المدرسة النجدية ذات الجذور الحنبلية، التي أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، لكنها أمست تيارا يمتد من المحيط إلى المحيط، فصوتها تجاوز حدود موطنها الأصلي بكثير، حتى امتد إلى كل الآفاق.
فهل تلبي تلك الحركة الأشواق الفكرية اللازمة لحركة المجتمع ونهوضه؟
وهل يصح تعميمها لتكون دليل رُشد في مؤسساتنا التربوية ومعاهدنا الدراسية؟
إن أصحاب هذه الحركة يعتبرون جماعتهم الامتداد الطبيعي للفكر الإسلامي السليم، والبعض أخذ عليها نقاطا سلبية في طريقة التفكير والتطبيق على السواء، حيث يرونها تتسم بالسطحية في الطرح والجمود في التفكير، وأنها ترى الحق حكرا عليها في آرائها الفقهية المتمذهبة، وتعمل على إحياء قضايا خلافية قديمة فات أوانها وماتت مع أصحابها، مثل خطر التأويل في الفوقية والاستواء، ومن هنا يقولون إنها تفترق عن السلف الصالح في مفاصل مهمة من الفكر الصحيح وتطبيقاته السليمة.
ونحن نقول: إن للحركة السلفية أيادي بيضاء ولا شك، فقد أحيت كثيرا من السنن، واهتمت بالأسانيد، ونوهت لبعض البدع، لكنها تورطت في أخطاء كثيرة، فالسلفية الحديثة - بحسب الشيخ محمد الغزالي - تعاني من مساوئ منهجية كبيرة في خلفيتها الفكرية وبرامجها العملية، جاء تحت عنوان "السلفية التي نعرف" في كتابه "هموم داعية": "كان سلفنا أقلَّ عددا وأفقرَ مالا، ويحيا على أرض قفر، معزولة عن الحضارات الإنسانية الكبرى، فكيف نجح وساد على حين أخفقنا وتخلفنا؟ في اعتقادي أن الثقافات المسمومة التي نتناولها، والأحوال المعوجّة التي ألفناها، هي التي أزرت بنا ... لماذا تحيون الخصومات العلمية القديمة؟ كانت هذه الخصومات ودولة الإسلام ممدودة السلطة، خفيفة الضرر، إنكم اليوم تجددونها ودولة الإسلام ضعيفة، بل لا دولة له، فلِمَ تعيدونها جَذَعة وتسكبون عليها من النفط ما يزيدها ضراما؟!".
ولا شك أن الحركة تبنت الكثير من الآراء المتشددة حول العديد من القضايا الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية، والتي تصدر عن ذهنية مولعة بالتحريم لكل شيء، ابتداءً بالديمقراطية "الكافرة" والأحزاب "الضالة"، وانتهاءً بملاعق الطعام التي كتب فيها الشيخ مقبل - أحد رموز ومؤسسي الحركة في اليمن - رسالة تحت عنوان "الصواعق في تحريم الملاعق"!.
هذه الذهنية التحريمية وتلك الآراء الجامدة المتشددة الصادرة عن رموز الحركة، في حاجة إلى دراسات ومراجعات علمية جادة، لمعرفة منطلقاتها، وتحليل رؤاها، ونقد منهجيتها، فالانتساب إلى السلف الصالح رتبة عالية، لابد لها من دراية ورعاية.
الأسس الفكرية للحركة السلفية
إن هناك شيوعا لأنواع عديدة من الطقوس اختلطت بالفكر السلفي الحديث وتم لصقها بالإسلام، وهناك أيضا مواد مهمة انتُقصت من الإسلام الأول المتكامل فشوهت صورته.
ويمكن تلخيص المحاور التي يقوم عليها المنهج السلفي المعاصر - فكرا وتطبيقا - في:
1- تضخُّم الاحتفال بالمندوبات، وتضاؤل الاهتمام بالوجبات وفرائض الوقت، ومن ثم حدث انقلاب مدوٍّ في فقه مراتب الأعمال، فقد انقلب سُلم الأولويات رأسا على عقب، ووقع تضخيم وتقزيم بغير حق، فقد يهتاج المرء (مثلاً) لسماع الموسيقى - رغم اختلاف حكم الفقهاء فيها - لكن ضميره لا يهتز لجرائم من نوعية شهادة الزور، وتزوير الانتخابات.
في كل من أمور الدين والدنيا، هناك أولويات أحق بالرعاية والتقديم، فهناك أولويات في العلم - إذ ليس العلم رتبةً واحدة - وهناك أولويات في الأمر بالمعروف، وأولويات في مجال النهي، وهناك أولويات في مجال الإصلاح والتقويم، والخلل في ترتيب تلك الأولويات له نتائجه المدمرة.
2- حشو العقول بالمتون، وحفظ الشروح، واستيعاب الهوامش، والاستغراق في فقه الفروع، وهذا نتيجة طبيعية لانقلاب سُلم الأولويات، مع العلم أن هذا الاستغراق في الفروع لا يلبي حاجات الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر، ولا يجيب على الأسئلة الكبيرة والخطيرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم. فلا سبيل إلى فقه واقع الأمة بغير إحكام أمر الأدوات اللازمة، أعني الأدمغة الكبيرة، والأجهزة والمؤسسات، مع منهج علمي في التوثيق والتحقيق، يقوم على الاستيعاب والتحليل والتأمل.
لقد انخدع الناس بتلك السلعة، لأنهم أوهموهم أنهم يشرحون لهم أصول الدين وشُعب الإيمان، والأمر لا يعدو ثانويات الفروع التي لا صلة لها بعقيدة أو نهضة. فإذا استغرقتنا تلك الثانويات والشكليات، فماذا بقي لفقه النفس، وعلم التربية، وفقه التمكين في الأرض؟.
إن شَغل الناس بغير قضاياهم الإيمانية والمصيرية، نوع من التغييب الذي يكرس خطاب التخلف، ويُعين العدو على هزيمتنا.
3- الضغط على حرية الآخرين، مع إعطاء الذات حق الوصاية على الجميع، فالكل يجب أن "يدين" بالفقه السلفي الحديث وتطبيقاته.
وفي سبيل ذلك ربما استباح البعض عرض العلماء المخالفين وربما دماءهم، فحين أفتى الشيخ عائض القرني - وهو داعية عُرف بالدماثة والاعتدال، وركز في طرحه على الجانب التربوي النفسي - بعدم وجوب النقاب - تمشيا مع آراء أئمة الفقه الأربعة وكبار المفسرين - أهالوا عليه التراب واستباحوه، كما استباحوا من قبل الشيخ محمد الغزالي، والدكتور يوسف القرضاوي، وغيرهما، لمجرد مخالفتهم منهجهم ونقدهم أفكارهم.
يقول عائض القرني في قصيدة اعتزاله الشهيرة، واصفا هؤلاء:
إذا أجبنا على الجوال أمطـرَنا **** بالسبِّ مَنْ كـان نُغليه ويغلينـا
وإن أبيـنـا أتتنـا من رسـائله **** مثل السعير على الرمضاء تشوينا
قلنا لهم: هذه الأشيـاءُ حللهــا **** أبو حنيفة بل سُـقنا البراهينـا
قالوا: خرقتَ لنا الإجماع في شُبَهٍ **** مِن رأيك الفـجِّ بالنكـراءِ تأتينا!
لقد دخلت الحركة السلفية في صراعات كبيرة، والأسباب الأساسية لديناميات الصراع الهدامة تتركز حول المفاهيم الفكرية والقيم الأخلاقية لأطراف الصراع، فتميل الصراعات - بسبب التصورات الفكرية المفرطة - إلى الصعوبة والاستمرار، فهي تكون صعبة الحل طويلة البقاء؛ لأن التصورات الدينية ومعايير القيم ليس من السهل تغييرهما، بالإضافة إلى امتلاك كل خصم معايير مختلفة عن ما هو حق، فالتصورات - حسب معايير كل بيئة - تكون مستقرة تماما، كأنها الحق المطلق، ومن ثم فإن أصحابها يظنون أنهم أوصياء على الكل، ويعارضون التفاوض أو التسوية.
وهذا سببه الأول "الحرمان من الغذاء الفكري الصحي المنوع" والاكتفاء بغذاء ضعيف أو فاسد، لا يحوي المواد اللازمة لنمو العقل وتجديد ملكاته، مع السطحية والتهويل، وادعاء الإجماع في أمور الفقه الخلافية، ومن ثم فقد نقلوا معارك الفقه من أرض الجزيرة العربية، إلى أوربا وأمريكا، فهناك ضمائم رهيبة ألصقوها بأركان الإسلام الخمسة، منها الزي العربي وطريقة الأكل، مع تحريم قاطع للموسيقى والتصوير وغير ذلك، وهذا يناقض "قواعد الفقه الإسلامي" التي تنص على أن "الأمر المختلَف فيه، لا يُدعَى إليـه" هذا ما قاله الإمام السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر.
لقد أمسى تشديد النكير على العامة وكل المخالفين وتأثيمهم سمة بارزة في منهجهم، والمفروض أن تكون علاقة الدعاة بالمدعوين علاقة "عون ومساعدة" لا علاقة طرد وتفسيق وتأثيم.
4- تجزيء الإسلام، وعدم إحاطته من جميع جوانبه، والخلل في ترتيب الأولويات، وتضخيم أشياء على حساب أخرى لا تقل عنها أهمية. فقد كانت مقاومة الأضرحة والمقامات، وسحق كل من يتوسل بالأولياء ودمغه بالشرك، شيئا بارزا في الفكر الوهابي، بل كانت من الأولويات، فقد ضخموا هذه الممارسات واعتبروها فيصلا بين الحق والباطل والشرك والتوحيد، وهذه الأفكار عَدتها المراجع الوهابية بمثابة أهداف قامت الحركة الوهابية من أجلها، ويظهر من هذه الأفكار مدى بعدها عن السياسة والإصلاح والنهوض بالأمة، أو تربية الناس ورعايتهم والرأفة بهم.
جاء هذا بالتزامن مع فكرة الطاعة المطلقة للإمام في الفكر السياسي السلفي، بغض النظر عن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أو الالتزام بالقانون، مع تهميش دور الأمة في عملية الرقابة والإصلاح الاجتماعي أو المعارضة السياسية، فأصبح الإسلام في خدمة السلطان وليس العكس!!.
إن معادلة المسلمين الصعبة اليوم، تكمن في عدم قدرتهم على الارتفاع بخطابهم ودعوتهم إلى مستوى إسلامهم وعصرهم وعالميتهم، وبدلاً من أن يكونوا شهداء وحُجة للإسلام، أمسوا حجة على الإسلام البريء.
إن ربعي بن عامر لم يتخرج من جامعة؛ لكنه علمنا كيف ننشر فطرة الإسلام الصحيحة لدى الغير، فهو يحدث قائد الفرس عن مفاصل الإسلام الإيمانية والأخلاقية، يقول: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة".
كان خطابُه سلسبيلا من فقه وحكمة الإسلام، فأقبلت الشعوب عليه وقد كانوا من قبل يجتهدون في البعد عنه، وانعقدت قلوبهم على نصرته وقد كانوا من قبل يجتهدون في الصد عنه.
لقد كانوا أذكياء وهم يقدمون الإسلام للناس على أنه فِكاك لأعناقهم من ضروب الوثنيات الدينية والسياسية والاجتماعية، فأناروا العالم بعد ظلمَة، وسوّوا بين الأمم بعد أن بذروا في الأرض أصول العدالة والمرحمة، والواجب هو كيف نتعلم منهم تلك الحكمة وذلك العمق، حتى يحق لنا الانتماء إليهم.
5- الالتباس الحاد في المرجعية ومصادر الشريعة، فالهيام في التاريخ القديم، وتقديس التاريخ والأشخاص، أدى بالضرورة إلى اختلاط مصادر التشريع، مما أدى إلى ظهور حُجب كثيفة على القدرة العقلية، وتعطيل النظرة الشاملة والعميقة لحاجاتنا ومشكلاتنا، فالإسراف في تقدير التاريخ والأشخاص، يجعل النتائج مختلة، والفكر مُحمّلا بالمغالاة والشطط.
إن الخلط بين الوحي والأشخاص في المرجعية، لا يقول به عالم، فهو يؤدي إلى داء التجسيد، أي تجسيد المبادئ في أشخاص، والأشخاص -وإن علوا- غير معصومين؛ لأنهم بشر، يجري عليهم - في اجتهادهم وعملهم - تجربة الصواب والخطأ.
والذي يتأمل نصوص الشرع يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوأ الأدواء الفكرية والعملية، فعالم الأفكار هو عالم الرسالة، فإذا ماتت الأفكار وتضخم الأشخاص ماتت الرسالة، لذا قالوا قديما: إن العقول الصغيرة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء، والعقول الكبيرة تناقش الأفكار.
6- الإلحاح على النسك والشعائر مع توهين أمور الدنيا والسيادة فيها، حتى بدت الدنيا كأنها تعبير عن الفتنة، فالدين ضد الدنيا، ومن يعمل للدين لا يعمل للدنيا، ومن يعمل للدنيا لا يعمل للدين!!.
ومن ناحية الصحة النفسية وتفسيراتها، فإن الاستغراق في النسك والمندوبات، ونسيان المجتمع وواجبات الالتحام والنهوض به، هو تعبير عن إحدى الحيل النفسية، والتي تُدعى "التعويض" وهي حيلة دفاعية لا شعورية يلجأ إليها الإنسان حينما يبتغي سلوكا يعوض فيه شعورا بالعجز أو النقص، سواء كان جسميا أو نفسيا. والتعويض محاولة لا شعورية تهدف للارتقاء إلى المستوى الذي وضعه الإنسان لنفسه، أو الذي فُرض عليه، أو ربما لكي يعزز موقعه في المجتمع الذي يعيش فيه.
7- تعطيل عمل العقل خوفا على الوحي، فالعقل والوحي خصمان متغالبان، نعم لا اجتهاد مع النص، لكن هناك اجتهاد في النص، ومن هنا نشأ الجمود وتكاملت حلقاته.
فإذا كان للقرآن الدور الأصيل في ثقافتنا الإسلامية، فلا بد أن يكون هو المصدر الأساس في مفاهيمنا في العقيدة والشريعة والحياة، لنرجع إليه، بحيث ننفتح عليه في كل مرحلة من مراحلنا الثقافية.
لقد جاء الوحي بتصور شامل ومتكامل للحياة البشرية بكل أبعادها ونواحيها، وهو يسعى بذلك إلى التأسيس لواقع اجتماعي إنساني ينسجم مع نظرته إلى الوجود والإنسان، ولكن الوحي لا ينظر إلى الواقع نظرة نمطية واحدة، بل يعطي تصورات ومقاصد عامة، ثم يطلب من الناس التعايش معها والبناء عليها، وبما أن الإنسان -في التصور الإسلامي - هو ذلك العاقل المكلف، فقد أمسى ذلك الإنسان مكلفا شرعا بتنزيل تصور الوحي للحياة البشرية في الواقع، والإبحار به من حيز النظر إلى حيز الفعل، ولن يتأتى ذلك إلا بفقه العقل للوحي فقها عميقا، وتمثُّل العقل للواقع تمثلاً صحيحا ومستوعبا، ثم نجاح العقل في حسن تنزيل الوحي على الواقع، وحسن تصريفه فيه.
فلابد لنا – إن أردنا نجاحا - من اعتبار الثقافة القرآنية ثقافة متحركة في المسألة الفكرية في كل جوانبها وتعقيداتها، فلا يكون القرآن غريبا عن مواجهتها ومعالجتها، تماما كما لو كان القرآن نزل في هذا العصر، وهذا يطلب منا أن تكون حركة الاجتهاد في فهم القرآن حيّة ومنفتحة على كل جديد، فمعانقة مشكلات الناس واستخراج حلولها من ينابيع القرآن الكريم هي وظيفة المجددين الآن.
المراجعة والتجديد .. فضيلة وفريضة
يمكن القول إن إجماعا يكاد ينعقد على أن الحركة السلفية المعاصرة تعيش أزمة منهجية، وعلى أن هذه الأزمة قد أوقعت هذا الفكر في مأزق حضاري، فالمفكرون يسلِّمون بذلك مع اختلافهم في تحديد أسباب هذه الأزمة، وفي تعيين سبل الخروج منها.
ومن الإنصاف أن نقول إن علماء خرجوا من الفكر السلفي قد طوروا أنفسهم، وأمسوا من مجددي الإسلام، لكن بصفة عامة فإن عقل السواد العام لهذا التيار قد فقد قدراته الأولى المتوهجة، فأمسى عاجزا عن فهم السنن الكونية والتاريخية والاجتماعية، إنه لا يرى الدنيا من حوله بحرا يموج بأحداث متلاطمة، تضرب شواطئ بلاد العرب والمسلمين بأمثال الجبال، ولا يحس بالنار المضطرمة وهي تحتدم، ومن حولها الأعداء ينفخون فيها لتحرق أخضرنا ويابسنا، فماذا نقول في عقل لا يعي ما حوله من الحريق والغرق؟.
إن تحديا كبيرا يواجه علماء الأمة اليوم بأسئلة مُلحة ومتتابعة:
- كيف نوجه الطاقات العقلية لتكون لبنات سويّة في العمران البشري؟.
- كيف يمكن إنقاذ الشخصية المسلمة من حالة التردي والتخبط والإحباط؟
- هل ساهمت الحركة السلفية في علاج تلك الإشكاليات؟ أم أنها أمست جزءا من المشكلة؟
إن الإجابات الشافية على تلك التساؤلات تمثل الفريضة الكبرى في يومنا وغدنا، وكل عمل يَقصُر بنا عن تلك الإجابات - بصورة لا لبس فيها وطريقة لا غَيم معها - هو عمل ناقص في حاجة إلى استكمال.
واستجابة لثقافة القرآن التي تجعل الإنسان المسئول الأول عن أخطائه - مهما كانت معاذيره - فلابد من المراجعات الصادقة الغيورة، ولا شك أن الإنسان يزداد عقلاً وتهذيبا وصقلاً بازدياد المعارف والعلوم، ويزداد خبرة وصوابا بزيادة التجارب ومعاشرة الناس، مع دوام المحاسبة والمراجعة.
ويشير ابن خلدون في مقدمته إلى أن "النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة، وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات، والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملَكة، فلذلك كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً، والملَكات الصناعية تفيد عقلاً، والحضارة الكاملة تفيد عقلاً، ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها، وهذه كلها قوانين تنتظم علوما، فيحصل منها زيادة عقل".
فيجب ألا يقعدنا التعويل على مفاهيم قديمة عن المراجعات في ضوء البلاءات الجديدة، بل يجب أن تنشرح صدورنا بالاجتهاد المتجدد الممتد الذي لا تنسد أبوابه، ولا تبلى صحائفه، فحينئذ تُصفَّى نفوسنا من ركام العصبية الموروثة، وتتخلص من قيود وأغلال المذهبية الضيقة.
وبحسب الأستاذ عمر عبيد حسنة، في كتابه "مراجعات في الفكر والحركة والدعوة"، فإن "الفكر الإسلامي اليوم، بعد هذه الرحلة الطويلة من تحقيق الوعي بالذات، وإعادة الاعتزاز بالإسلام، والولاء لرسالته، مدعو للقيام بالمراجعات التي تمكنه من التعرف على أخطائه، وتصحيح مساره، وإيجاد البرامج والأوعية الشرعية لحركة الأمة، حتى تكون مؤسساته مواقع متقدمة تحيي المعاني الغائبة، وتحاول تمثلها وتحقيقها في الحياة، بشكل يثير الاقتداء، وأن يعاود المراجعة بين حين وآخر لخطابه، وطروحاته، ووسائله، ويضع الخطط المدروسة، ويختبر الجدوى، ويقوِّم المراحل، ويحدد بجرأة مواطن الخطأ وأسبابه.
ونعتقد أن النقد والمراجعة مؤشر صحة، ودليل خلود كامن في قدرة الأمة على التجدد والتصوب، وأنه - أولاً وقبل كل شيء – منهج قرآني، وتطبيق نبوي، رافق الدعوة في خطواتها الأولى، وعلى الرغم من عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، المسدد بالوحي، المؤيد به، فقد كانت بعض الاجتهادات في مواقف النبوة محلاً لتصويب الوحي، وعتابه، وتنبيهه لتكون وسائل إيضاح، وبصائر معينة على الإدراك، وسنة جارية، للتدليل على أهمية هذا المنهج، وضرورة تطبيقه، لتسديد المسيرة، والإفادة من تجارب واجتهادات الخطأ، للوصول إلى فقه الحقيقة والصواب، وامتلاك القدرة على النهوض، وتحريك آليات التغيير الاجتماعي، وتوجيه نشاطات الإنسان كلها، وفق المنهج الرباني، شكرا لله الأكرم".
إذن، المراجعة والتجديد هما طوق النجاة، فلا شك أن الإسلام الحركي المتجدد لا يزال في سن المراهقة؛ لأنه لم ينضج بعد عند كثير من الدعاة، مع الجهود المشكورة طوال القرنين الماضي والحالي لعلماء الإسلام ومفكريه.
وقد روى أبو داود والبيهقي والحاكم في مستدركه، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها"، إذن فتجديد الدين مشروع ومأمور به، وهو واحدة من المهام التي يجند الله لها العلماء الراسخين، بعد أن خُتمت الرسالات وأُكملت الديانات ببعثة خاتم الرسل، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ويُحمل التجديد على معنيين:
الأول: عملية حسن فهم النص وتنزيله على الواقع بما يناسبه، أي حسن الربط بين النص والواقع، أي عقد قران بين فقه التراث، وفقه الواقع.
المعنى الثاني: عملية إحياء الاستجابة عند الناس من جديد، أي عملية كسـر الأقفال، فهو يأتي على القلوب فيكسر أقفالها، وعلى العقول فيحل عِقالها.
إن المجدد الآن هو من القلة القليلة التي تتقن تقديم الإسلام بوصفه منظومة فكرية وأخلاقية تصلح للجميع، ثم هو يشتمل في خطابه على أعلى درجات التعبئة الفكرية والاجتماعية.
فإذا بلغ بنا الجمود مبلغ الغياب عن الحوادث العظام التي تحيط بنا، فعندئذ يصبح الزمان ركاما من الشهور والأعوام، وهنا قد يكون من أكبر الجهل أن نسمي هذا "غفلة"، إنما هو ضرب من الموت يصيب الأحياء لينقلهم إلى لحدٍ مظلم، فالحياة اليوم ليست مجالاً مفتوحا أبد الدهر للتجارب، بل هي حياة مضطربة شديدة الغوائل، مخوّفة الساعات، فمن أخذها بجدها فقد نجا ونجا الناس جميعا، ومن فرّط فيها فقد هلك وأهلك الناس معه.
داعية وباحث تربوي مصري.
الملامح السبعة للسلفية المعاصرة
بقلم -أسامة حمود (http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1175008798476&pagename=Zone-Arabic-Daawa%2FDWALayout#**1)
لقد جاء الفكر الإسلامي الأول منفتحا متكاملا، وعُني أشد العناية في انطلاقاته الإبداعية بمقاصد الشريعة الإسلامية، وقواعد أصول الفقه، ولم يقف عند النظريات، بل اشتمل على ميادين التطبيقات العملية في الاجتماع الإنساني، وضرب لهذه التطبيقات العديد من الأمثال، الأمر الذي قدم نموذجا رائعا لفقه التفكير، وفقه الواقع.
وكانت نهضة الأمة الأولى نتاجا طبيعيا للعقول السليمة والأفكار المستقيمة، فإنه يستحيل على العقول المغيَّبة الجامدة أن تقوم بنهضة، أو ترقق سلوكا، أو تمارس إصلاحا.
إن الفكر الإسلامي الصحيح الذي صنعه أسلافنا له مجالات رحبة في النشاط والتوجيه، وله تدخلات حاسمة في ضبط خُطا الإنسان ودفعه في شتى ميادين الحياة. إنه فكر لا يكتفي بتعليم عقائد الإيمان وشعائر الدين، بل يتعدى ذلك إلى دوائر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إنه بأطره الصحيحة يمكن أن يصنع حضارة تنمو مواهبها من وحي الصبغة الدينية، وتقدر على أداء رسالتها من صميم الهُوية الإسلامية، حيث تنوعت الثقافات معه بتنوع الحضارات؛ لأن أسلافنا العظام عاشوا الإسلام الواحد في أزياء متعددة.
من السلفية الأولى إلى السلفية المعاصرة
هكذا عاش أسلافنا القرون الثلاثة الأولى، فإذا يممنا وجوهنا إلى الفكر الإسلامي المعاصر، فلسوف نرى أن الجمود قد أصابه، فعدت عليه عوادي الدهر وأوهنت قواه، والعيب ليس في مرجعيتنا الفكرية، إنما العيب في طريقة الفهم والتلقي والتطبيقات التربوية.
إن الحركات الإسلامية المعاصرة تُعدّ من الفصائل المؤثرة في المجتمع وتوجهاته، والحركة السلفية بالذات تمثل تيارا لا يُستهان به.
ومسمَّى الحركة السلفية يعني المدرسة النجدية ذات الجذور الحنبلية، التي أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، لكنها أمست تيارا يمتد من المحيط إلى المحيط، فصوتها تجاوز حدود موطنها الأصلي بكثير، حتى امتد إلى كل الآفاق.
فهل تلبي تلك الحركة الأشواق الفكرية اللازمة لحركة المجتمع ونهوضه؟
وهل يصح تعميمها لتكون دليل رُشد في مؤسساتنا التربوية ومعاهدنا الدراسية؟
إن أصحاب هذه الحركة يعتبرون جماعتهم الامتداد الطبيعي للفكر الإسلامي السليم، والبعض أخذ عليها نقاطا سلبية في طريقة التفكير والتطبيق على السواء، حيث يرونها تتسم بالسطحية في الطرح والجمود في التفكير، وأنها ترى الحق حكرا عليها في آرائها الفقهية المتمذهبة، وتعمل على إحياء قضايا خلافية قديمة فات أوانها وماتت مع أصحابها، مثل خطر التأويل في الفوقية والاستواء، ومن هنا يقولون إنها تفترق عن السلف الصالح في مفاصل مهمة من الفكر الصحيح وتطبيقاته السليمة.
ونحن نقول: إن للحركة السلفية أيادي بيضاء ولا شك، فقد أحيت كثيرا من السنن، واهتمت بالأسانيد، ونوهت لبعض البدع، لكنها تورطت في أخطاء كثيرة، فالسلفية الحديثة - بحسب الشيخ محمد الغزالي - تعاني من مساوئ منهجية كبيرة في خلفيتها الفكرية وبرامجها العملية، جاء تحت عنوان "السلفية التي نعرف" في كتابه "هموم داعية": "كان سلفنا أقلَّ عددا وأفقرَ مالا، ويحيا على أرض قفر، معزولة عن الحضارات الإنسانية الكبرى، فكيف نجح وساد على حين أخفقنا وتخلفنا؟ في اعتقادي أن الثقافات المسمومة التي نتناولها، والأحوال المعوجّة التي ألفناها، هي التي أزرت بنا ... لماذا تحيون الخصومات العلمية القديمة؟ كانت هذه الخصومات ودولة الإسلام ممدودة السلطة، خفيفة الضرر، إنكم اليوم تجددونها ودولة الإسلام ضعيفة، بل لا دولة له، فلِمَ تعيدونها جَذَعة وتسكبون عليها من النفط ما يزيدها ضراما؟!".
ولا شك أن الحركة تبنت الكثير من الآراء المتشددة حول العديد من القضايا الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية، والتي تصدر عن ذهنية مولعة بالتحريم لكل شيء، ابتداءً بالديمقراطية "الكافرة" والأحزاب "الضالة"، وانتهاءً بملاعق الطعام التي كتب فيها الشيخ مقبل - أحد رموز ومؤسسي الحركة في اليمن - رسالة تحت عنوان "الصواعق في تحريم الملاعق"!.
هذه الذهنية التحريمية وتلك الآراء الجامدة المتشددة الصادرة عن رموز الحركة، في حاجة إلى دراسات ومراجعات علمية جادة، لمعرفة منطلقاتها، وتحليل رؤاها، ونقد منهجيتها، فالانتساب إلى السلف الصالح رتبة عالية، لابد لها من دراية ورعاية.
الأسس الفكرية للحركة السلفية
إن هناك شيوعا لأنواع عديدة من الطقوس اختلطت بالفكر السلفي الحديث وتم لصقها بالإسلام، وهناك أيضا مواد مهمة انتُقصت من الإسلام الأول المتكامل فشوهت صورته.
ويمكن تلخيص المحاور التي يقوم عليها المنهج السلفي المعاصر - فكرا وتطبيقا - في:
1- تضخُّم الاحتفال بالمندوبات، وتضاؤل الاهتمام بالوجبات وفرائض الوقت، ومن ثم حدث انقلاب مدوٍّ في فقه مراتب الأعمال، فقد انقلب سُلم الأولويات رأسا على عقب، ووقع تضخيم وتقزيم بغير حق، فقد يهتاج المرء (مثلاً) لسماع الموسيقى - رغم اختلاف حكم الفقهاء فيها - لكن ضميره لا يهتز لجرائم من نوعية شهادة الزور، وتزوير الانتخابات.
في كل من أمور الدين والدنيا، هناك أولويات أحق بالرعاية والتقديم، فهناك أولويات في العلم - إذ ليس العلم رتبةً واحدة - وهناك أولويات في الأمر بالمعروف، وأولويات في مجال النهي، وهناك أولويات في مجال الإصلاح والتقويم، والخلل في ترتيب تلك الأولويات له نتائجه المدمرة.
2- حشو العقول بالمتون، وحفظ الشروح، واستيعاب الهوامش، والاستغراق في فقه الفروع، وهذا نتيجة طبيعية لانقلاب سُلم الأولويات، مع العلم أن هذا الاستغراق في الفروع لا يلبي حاجات الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر، ولا يجيب على الأسئلة الكبيرة والخطيرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم. فلا سبيل إلى فقه واقع الأمة بغير إحكام أمر الأدوات اللازمة، أعني الأدمغة الكبيرة، والأجهزة والمؤسسات، مع منهج علمي في التوثيق والتحقيق، يقوم على الاستيعاب والتحليل والتأمل.
لقد انخدع الناس بتلك السلعة، لأنهم أوهموهم أنهم يشرحون لهم أصول الدين وشُعب الإيمان، والأمر لا يعدو ثانويات الفروع التي لا صلة لها بعقيدة أو نهضة. فإذا استغرقتنا تلك الثانويات والشكليات، فماذا بقي لفقه النفس، وعلم التربية، وفقه التمكين في الأرض؟.
إن شَغل الناس بغير قضاياهم الإيمانية والمصيرية، نوع من التغييب الذي يكرس خطاب التخلف، ويُعين العدو على هزيمتنا.
3- الضغط على حرية الآخرين، مع إعطاء الذات حق الوصاية على الجميع، فالكل يجب أن "يدين" بالفقه السلفي الحديث وتطبيقاته.
وفي سبيل ذلك ربما استباح البعض عرض العلماء المخالفين وربما دماءهم، فحين أفتى الشيخ عائض القرني - وهو داعية عُرف بالدماثة والاعتدال، وركز في طرحه على الجانب التربوي النفسي - بعدم وجوب النقاب - تمشيا مع آراء أئمة الفقه الأربعة وكبار المفسرين - أهالوا عليه التراب واستباحوه، كما استباحوا من قبل الشيخ محمد الغزالي، والدكتور يوسف القرضاوي، وغيرهما، لمجرد مخالفتهم منهجهم ونقدهم أفكارهم.
يقول عائض القرني في قصيدة اعتزاله الشهيرة، واصفا هؤلاء:
إذا أجبنا على الجوال أمطـرَنا **** بالسبِّ مَنْ كـان نُغليه ويغلينـا
وإن أبيـنـا أتتنـا من رسـائله **** مثل السعير على الرمضاء تشوينا
قلنا لهم: هذه الأشيـاءُ حللهــا **** أبو حنيفة بل سُـقنا البراهينـا
قالوا: خرقتَ لنا الإجماع في شُبَهٍ **** مِن رأيك الفـجِّ بالنكـراءِ تأتينا!
لقد دخلت الحركة السلفية في صراعات كبيرة، والأسباب الأساسية لديناميات الصراع الهدامة تتركز حول المفاهيم الفكرية والقيم الأخلاقية لأطراف الصراع، فتميل الصراعات - بسبب التصورات الفكرية المفرطة - إلى الصعوبة والاستمرار، فهي تكون صعبة الحل طويلة البقاء؛ لأن التصورات الدينية ومعايير القيم ليس من السهل تغييرهما، بالإضافة إلى امتلاك كل خصم معايير مختلفة عن ما هو حق، فالتصورات - حسب معايير كل بيئة - تكون مستقرة تماما، كأنها الحق المطلق، ومن ثم فإن أصحابها يظنون أنهم أوصياء على الكل، ويعارضون التفاوض أو التسوية.
وهذا سببه الأول "الحرمان من الغذاء الفكري الصحي المنوع" والاكتفاء بغذاء ضعيف أو فاسد، لا يحوي المواد اللازمة لنمو العقل وتجديد ملكاته، مع السطحية والتهويل، وادعاء الإجماع في أمور الفقه الخلافية، ومن ثم فقد نقلوا معارك الفقه من أرض الجزيرة العربية، إلى أوربا وأمريكا، فهناك ضمائم رهيبة ألصقوها بأركان الإسلام الخمسة، منها الزي العربي وطريقة الأكل، مع تحريم قاطع للموسيقى والتصوير وغير ذلك، وهذا يناقض "قواعد الفقه الإسلامي" التي تنص على أن "الأمر المختلَف فيه، لا يُدعَى إليـه" هذا ما قاله الإمام السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر.
لقد أمسى تشديد النكير على العامة وكل المخالفين وتأثيمهم سمة بارزة في منهجهم، والمفروض أن تكون علاقة الدعاة بالمدعوين علاقة "عون ومساعدة" لا علاقة طرد وتفسيق وتأثيم.
4- تجزيء الإسلام، وعدم إحاطته من جميع جوانبه، والخلل في ترتيب الأولويات، وتضخيم أشياء على حساب أخرى لا تقل عنها أهمية. فقد كانت مقاومة الأضرحة والمقامات، وسحق كل من يتوسل بالأولياء ودمغه بالشرك، شيئا بارزا في الفكر الوهابي، بل كانت من الأولويات، فقد ضخموا هذه الممارسات واعتبروها فيصلا بين الحق والباطل والشرك والتوحيد، وهذه الأفكار عَدتها المراجع الوهابية بمثابة أهداف قامت الحركة الوهابية من أجلها، ويظهر من هذه الأفكار مدى بعدها عن السياسة والإصلاح والنهوض بالأمة، أو تربية الناس ورعايتهم والرأفة بهم.
جاء هذا بالتزامن مع فكرة الطاعة المطلقة للإمام في الفكر السياسي السلفي، بغض النظر عن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أو الالتزام بالقانون، مع تهميش دور الأمة في عملية الرقابة والإصلاح الاجتماعي أو المعارضة السياسية، فأصبح الإسلام في خدمة السلطان وليس العكس!!.
إن معادلة المسلمين الصعبة اليوم، تكمن في عدم قدرتهم على الارتفاع بخطابهم ودعوتهم إلى مستوى إسلامهم وعصرهم وعالميتهم، وبدلاً من أن يكونوا شهداء وحُجة للإسلام، أمسوا حجة على الإسلام البريء.
إن ربعي بن عامر لم يتخرج من جامعة؛ لكنه علمنا كيف ننشر فطرة الإسلام الصحيحة لدى الغير، فهو يحدث قائد الفرس عن مفاصل الإسلام الإيمانية والأخلاقية، يقول: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة".
كان خطابُه سلسبيلا من فقه وحكمة الإسلام، فأقبلت الشعوب عليه وقد كانوا من قبل يجتهدون في البعد عنه، وانعقدت قلوبهم على نصرته وقد كانوا من قبل يجتهدون في الصد عنه.
لقد كانوا أذكياء وهم يقدمون الإسلام للناس على أنه فِكاك لأعناقهم من ضروب الوثنيات الدينية والسياسية والاجتماعية، فأناروا العالم بعد ظلمَة، وسوّوا بين الأمم بعد أن بذروا في الأرض أصول العدالة والمرحمة، والواجب هو كيف نتعلم منهم تلك الحكمة وذلك العمق، حتى يحق لنا الانتماء إليهم.
5- الالتباس الحاد في المرجعية ومصادر الشريعة، فالهيام في التاريخ القديم، وتقديس التاريخ والأشخاص، أدى بالضرورة إلى اختلاط مصادر التشريع، مما أدى إلى ظهور حُجب كثيفة على القدرة العقلية، وتعطيل النظرة الشاملة والعميقة لحاجاتنا ومشكلاتنا، فالإسراف في تقدير التاريخ والأشخاص، يجعل النتائج مختلة، والفكر مُحمّلا بالمغالاة والشطط.
إن الخلط بين الوحي والأشخاص في المرجعية، لا يقول به عالم، فهو يؤدي إلى داء التجسيد، أي تجسيد المبادئ في أشخاص، والأشخاص -وإن علوا- غير معصومين؛ لأنهم بشر، يجري عليهم - في اجتهادهم وعملهم - تجربة الصواب والخطأ.
والذي يتأمل نصوص الشرع يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوأ الأدواء الفكرية والعملية، فعالم الأفكار هو عالم الرسالة، فإذا ماتت الأفكار وتضخم الأشخاص ماتت الرسالة، لذا قالوا قديما: إن العقول الصغيرة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء، والعقول الكبيرة تناقش الأفكار.
6- الإلحاح على النسك والشعائر مع توهين أمور الدنيا والسيادة فيها، حتى بدت الدنيا كأنها تعبير عن الفتنة، فالدين ضد الدنيا، ومن يعمل للدين لا يعمل للدنيا، ومن يعمل للدنيا لا يعمل للدين!!.
ومن ناحية الصحة النفسية وتفسيراتها، فإن الاستغراق في النسك والمندوبات، ونسيان المجتمع وواجبات الالتحام والنهوض به، هو تعبير عن إحدى الحيل النفسية، والتي تُدعى "التعويض" وهي حيلة دفاعية لا شعورية يلجأ إليها الإنسان حينما يبتغي سلوكا يعوض فيه شعورا بالعجز أو النقص، سواء كان جسميا أو نفسيا. والتعويض محاولة لا شعورية تهدف للارتقاء إلى المستوى الذي وضعه الإنسان لنفسه، أو الذي فُرض عليه، أو ربما لكي يعزز موقعه في المجتمع الذي يعيش فيه.
7- تعطيل عمل العقل خوفا على الوحي، فالعقل والوحي خصمان متغالبان، نعم لا اجتهاد مع النص، لكن هناك اجتهاد في النص، ومن هنا نشأ الجمود وتكاملت حلقاته.
فإذا كان للقرآن الدور الأصيل في ثقافتنا الإسلامية، فلا بد أن يكون هو المصدر الأساس في مفاهيمنا في العقيدة والشريعة والحياة، لنرجع إليه، بحيث ننفتح عليه في كل مرحلة من مراحلنا الثقافية.
لقد جاء الوحي بتصور شامل ومتكامل للحياة البشرية بكل أبعادها ونواحيها، وهو يسعى بذلك إلى التأسيس لواقع اجتماعي إنساني ينسجم مع نظرته إلى الوجود والإنسان، ولكن الوحي لا ينظر إلى الواقع نظرة نمطية واحدة، بل يعطي تصورات ومقاصد عامة، ثم يطلب من الناس التعايش معها والبناء عليها، وبما أن الإنسان -في التصور الإسلامي - هو ذلك العاقل المكلف، فقد أمسى ذلك الإنسان مكلفا شرعا بتنزيل تصور الوحي للحياة البشرية في الواقع، والإبحار به من حيز النظر إلى حيز الفعل، ولن يتأتى ذلك إلا بفقه العقل للوحي فقها عميقا، وتمثُّل العقل للواقع تمثلاً صحيحا ومستوعبا، ثم نجاح العقل في حسن تنزيل الوحي على الواقع، وحسن تصريفه فيه.
فلابد لنا – إن أردنا نجاحا - من اعتبار الثقافة القرآنية ثقافة متحركة في المسألة الفكرية في كل جوانبها وتعقيداتها، فلا يكون القرآن غريبا عن مواجهتها ومعالجتها، تماما كما لو كان القرآن نزل في هذا العصر، وهذا يطلب منا أن تكون حركة الاجتهاد في فهم القرآن حيّة ومنفتحة على كل جديد، فمعانقة مشكلات الناس واستخراج حلولها من ينابيع القرآن الكريم هي وظيفة المجددين الآن.
المراجعة والتجديد .. فضيلة وفريضة
يمكن القول إن إجماعا يكاد ينعقد على أن الحركة السلفية المعاصرة تعيش أزمة منهجية، وعلى أن هذه الأزمة قد أوقعت هذا الفكر في مأزق حضاري، فالمفكرون يسلِّمون بذلك مع اختلافهم في تحديد أسباب هذه الأزمة، وفي تعيين سبل الخروج منها.
ومن الإنصاف أن نقول إن علماء خرجوا من الفكر السلفي قد طوروا أنفسهم، وأمسوا من مجددي الإسلام، لكن بصفة عامة فإن عقل السواد العام لهذا التيار قد فقد قدراته الأولى المتوهجة، فأمسى عاجزا عن فهم السنن الكونية والتاريخية والاجتماعية، إنه لا يرى الدنيا من حوله بحرا يموج بأحداث متلاطمة، تضرب شواطئ بلاد العرب والمسلمين بأمثال الجبال، ولا يحس بالنار المضطرمة وهي تحتدم، ومن حولها الأعداء ينفخون فيها لتحرق أخضرنا ويابسنا، فماذا نقول في عقل لا يعي ما حوله من الحريق والغرق؟.
إن تحديا كبيرا يواجه علماء الأمة اليوم بأسئلة مُلحة ومتتابعة:
- كيف نوجه الطاقات العقلية لتكون لبنات سويّة في العمران البشري؟.
- كيف يمكن إنقاذ الشخصية المسلمة من حالة التردي والتخبط والإحباط؟
- هل ساهمت الحركة السلفية في علاج تلك الإشكاليات؟ أم أنها أمست جزءا من المشكلة؟
إن الإجابات الشافية على تلك التساؤلات تمثل الفريضة الكبرى في يومنا وغدنا، وكل عمل يَقصُر بنا عن تلك الإجابات - بصورة لا لبس فيها وطريقة لا غَيم معها - هو عمل ناقص في حاجة إلى استكمال.
واستجابة لثقافة القرآن التي تجعل الإنسان المسئول الأول عن أخطائه - مهما كانت معاذيره - فلابد من المراجعات الصادقة الغيورة، ولا شك أن الإنسان يزداد عقلاً وتهذيبا وصقلاً بازدياد المعارف والعلوم، ويزداد خبرة وصوابا بزيادة التجارب ومعاشرة الناس، مع دوام المحاسبة والمراجعة.
ويشير ابن خلدون في مقدمته إلى أن "النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة، وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات، والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملَكة، فلذلك كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً، والملَكات الصناعية تفيد عقلاً، والحضارة الكاملة تفيد عقلاً، ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها، وهذه كلها قوانين تنتظم علوما، فيحصل منها زيادة عقل".
فيجب ألا يقعدنا التعويل على مفاهيم قديمة عن المراجعات في ضوء البلاءات الجديدة، بل يجب أن تنشرح صدورنا بالاجتهاد المتجدد الممتد الذي لا تنسد أبوابه، ولا تبلى صحائفه، فحينئذ تُصفَّى نفوسنا من ركام العصبية الموروثة، وتتخلص من قيود وأغلال المذهبية الضيقة.
وبحسب الأستاذ عمر عبيد حسنة، في كتابه "مراجعات في الفكر والحركة والدعوة"، فإن "الفكر الإسلامي اليوم، بعد هذه الرحلة الطويلة من تحقيق الوعي بالذات، وإعادة الاعتزاز بالإسلام، والولاء لرسالته، مدعو للقيام بالمراجعات التي تمكنه من التعرف على أخطائه، وتصحيح مساره، وإيجاد البرامج والأوعية الشرعية لحركة الأمة، حتى تكون مؤسساته مواقع متقدمة تحيي المعاني الغائبة، وتحاول تمثلها وتحقيقها في الحياة، بشكل يثير الاقتداء، وأن يعاود المراجعة بين حين وآخر لخطابه، وطروحاته، ووسائله، ويضع الخطط المدروسة، ويختبر الجدوى، ويقوِّم المراحل، ويحدد بجرأة مواطن الخطأ وأسبابه.
ونعتقد أن النقد والمراجعة مؤشر صحة، ودليل خلود كامن في قدرة الأمة على التجدد والتصوب، وأنه - أولاً وقبل كل شيء – منهج قرآني، وتطبيق نبوي، رافق الدعوة في خطواتها الأولى، وعلى الرغم من عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، المسدد بالوحي، المؤيد به، فقد كانت بعض الاجتهادات في مواقف النبوة محلاً لتصويب الوحي، وعتابه، وتنبيهه لتكون وسائل إيضاح، وبصائر معينة على الإدراك، وسنة جارية، للتدليل على أهمية هذا المنهج، وضرورة تطبيقه، لتسديد المسيرة، والإفادة من تجارب واجتهادات الخطأ، للوصول إلى فقه الحقيقة والصواب، وامتلاك القدرة على النهوض، وتحريك آليات التغيير الاجتماعي، وتوجيه نشاطات الإنسان كلها، وفق المنهج الرباني، شكرا لله الأكرم".
إذن، المراجعة والتجديد هما طوق النجاة، فلا شك أن الإسلام الحركي المتجدد لا يزال في سن المراهقة؛ لأنه لم ينضج بعد عند كثير من الدعاة، مع الجهود المشكورة طوال القرنين الماضي والحالي لعلماء الإسلام ومفكريه.
وقد روى أبو داود والبيهقي والحاكم في مستدركه، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها"، إذن فتجديد الدين مشروع ومأمور به، وهو واحدة من المهام التي يجند الله لها العلماء الراسخين، بعد أن خُتمت الرسالات وأُكملت الديانات ببعثة خاتم الرسل، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ويُحمل التجديد على معنيين:
الأول: عملية حسن فهم النص وتنزيله على الواقع بما يناسبه، أي حسن الربط بين النص والواقع، أي عقد قران بين فقه التراث، وفقه الواقع.
المعنى الثاني: عملية إحياء الاستجابة عند الناس من جديد، أي عملية كسـر الأقفال، فهو يأتي على القلوب فيكسر أقفالها، وعلى العقول فيحل عِقالها.
إن المجدد الآن هو من القلة القليلة التي تتقن تقديم الإسلام بوصفه منظومة فكرية وأخلاقية تصلح للجميع، ثم هو يشتمل في خطابه على أعلى درجات التعبئة الفكرية والاجتماعية.
فإذا بلغ بنا الجمود مبلغ الغياب عن الحوادث العظام التي تحيط بنا، فعندئذ يصبح الزمان ركاما من الشهور والأعوام، وهنا قد يكون من أكبر الجهل أن نسمي هذا "غفلة"، إنما هو ضرب من الموت يصيب الأحياء لينقلهم إلى لحدٍ مظلم، فالحياة اليوم ليست مجالاً مفتوحا أبد الدهر للتجارب، بل هي حياة مضطربة شديدة الغوائل، مخوّفة الساعات، فمن أخذها بجدها فقد نجا ونجا الناس جميعا، ومن فرّط فيها فقد هلك وأهلك الناس معه.
داعية وباحث تربوي مصري.