عبد الله بوراي
04-02-2007, 08:50 PM
لما أحدثت بدعة الاحتفال بالمولد في عهد العبيديين الفاطميين مع جملة بدع أحدثوها، انتشرت هذه البدعة وتفشت بين الناس لوجود الفراغ الروحي والبدني معاً، وترك المسلمون الجهاد وتأصلت هذه البدعة في النفوس، وأصبحت جزءاً من عقيدة كثير من أهل الجهل، ولم يجد بعض أهل العلم بداً من محاربة تبريرها للبحث عن شبهة يمكن أن يستشهد بها على جواز بدعة المولد هذه، وذلك إرضاءً للعامة والخاصة أيضاً من جهة، وتبريراً لرضاء العلماء بها، وسكوتهم عن إنكارها لخوفهم من الحكام والعوام من جهة أخرى.
الشبهة الأولى:
دعوى أن في الاحتفال تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب أن يقال:
إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية، وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، كما قال عروة بن مسعود لقريش: [[أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداًُ صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له]]، ومع هذا التعظيم فإنهم -رضي الله عنهم- لم يجعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
إننا نقول: هل من تعظيمه الابتداع في دينه، والزيادة في شريعته بالاحتفال بالمولد بعد اتفاقنا على نصحه لأمته ودلالتها على كل حسن؟!
- فأي تعظيم في عمل احتفالات ساعات أو أيام ثم التقصير والإهمال في سائر العام؟!
- وأي تعظيم في الاحتفال بزمن توفي فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!
- وأي تعظيم في مشابهة دين النصارى المفتونين بالاحتفالات؟!
وأي تعظيم في التعدي على فقه الفاروق عمر حين أرخ بهجرة المصطفى رمز انتصار دينه ولم يؤرخ بمولده ووفاته، تقديماً للحقائق والمعاني على الطقوس والأشكال؟!
- وأي تعظيم في تجديد دين الدولة العبيدية الباطنية الحاقدة التي ابتدعت ذلك الاحتفال.
- وأي تعظيم في عمل لم يشرعه الحبيب صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه وأنصاره وحماة دينه وحملة رسالته رضي الله عنهم؟! أليسوا أصدق الناس تعظيماً وحباً؟!
- أليس فقه الراشدين وفهمهم وسنتهم مما أوصاكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم قائلاً: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ}.
- أليس فعل المولد مخالفة لأمره: {وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} فأي تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الموالد التي صارت ركباً للمدعين، وحجة للبطالين؟!
ألا ترون المولد -بعد هذا- تقصيراً في حق نبينا صلى الله عليه وسلم وظلماً له.
الشبهة الثانية:
يستدل دعاة الاحتفال بمولد سيد البشر بحديث سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين، فقال: (ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه)
الجواب:
أولاً: أين الدلالة في الحديث على تخصيص يوم من السنة يحتفل فيه بالمولد، وهل كل يوم فضيل أتى الخبرُ ينصُ عليه يُسن الاحتفال فيه؟
إن كان كذلك فهناك أيام فضيلة كثيرة، فهل يسن فيها احتفال أيضاً، كيوم القرّ مثلاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القر}. [سنن أبي داود رقم: (1765) وإسناده صحيح]. أو أيام العشر من ذي الحجة، أو ليلة القدر أو.......
ثانياً: أنه أمر لم يعمل به أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم ولم يعرف عند النظار: أبي حنيفة ولا عن ابن المدينة عاصمة الإسلام مالك ولا عن الأثري أحمد ولا عند غيرهم من فقهاء الأمة، مع أن المسألة حادثة منذ فجر الإسلام، بل من قبله بأربعين عاماً، ومن المعلوم لدى أي عاقل ومن باب أولى سيد الخلق المعلم الأول المؤيد بالوحي الإلهي عليه الصلاة والسلام أن يوم الثاني عشر من ربيع الذي يعظمه من يحتفل بالمولد لا يكون دائماً في كل سنة يوم الإثنين، وعليه يكون الاحتفال هذا بخلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو والله عين المخالفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على يوم من الأسبوع بعينه هو يوم الإثنين، والمحتفلون اتخذوا الثاني عشر من ربيع يوماً من السنة، وهو الذي يدور من الأسبوع دورته في كل عام!!
كذلك لم يعرف الصيام يوم الثاني عشر من ربيع، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره، وهذا معناه أن السبب الداعي للصيام هو يوم الإثنين، والذي اجتمعت فيه فضائل منها يوم مولده صلى الله عليه وسلم، ومنها:
أنه يوم ترفع الأعمال فيه كما جاء في حديث فسر فيه صلى الله عليه وسلم سبب صيامه له دون ذكر فضيلة أخرى فقال: {تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم} [سنن الترمذي رقم: (747)، وأصله عند مسلم رقم: (2565)].
ومنها: أنه أنزل فيه عليه صلى الله عليه وسلم، وهنا أشير إلى أن نعمة بعثته بالرسالة قد ميزته ورفعته على العالمين بخلاف مولده الذي شابه به غيره، وهذا كله بنص القرآن العظيم: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ))[الكهف:110].
فما كان من الصفات البشرية فهو مثل غيره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، إلا ما جاء به نص، ولا نخالف نص القرآن الذي ينص على بشريته إلا بنص شرعي ثابت يخصصه، وإن لم نعتمد هذا فيجب علينا أن نقر لمن يحتفل بعيد ميلاده أو ميلاد شيخه أو... لأن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم على فرض ثبوته لم يرد فيه التخصيص فيمكن القياس عليه.
ثالثاً: من يمنع من صيام يوم الإثنين من كل أسبوع، وهو يوم مسنون فيه الصيام وغيره، وله كثير من الفضائل، ومنها: الصيام شكراً لله على مولد نبينا صلى الله عليه وسلم فيه، وعلى قول من رأى الاحتفال، فلماذا لا نقيم احتفالاً دون الصيام في كل يوم إثنين على مر الزمان، وهو الذي جمع كل هذه الفضائل.؟
رابعاً: بناءً على عمل المولد بدلاً عن صيام أداه النبي صلى الله عليه وسلم شكراً على نعمة لماذا لا نقيم مولداً في يوم عاشوراء بدلاً من صيامه شكراً على نعمة؟
خامساً: كم من فرق بين الصيام ركن الإسلام العبادة المتعبد بها وبين الاحتفال السنوي بالمولد وهو أسمى عادة وعبادة عند النصارى وغيرهم.
وقائل يقول: ألم يصم صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء؟
لمثل هذا نقول: هذا تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لماذا لا نصوم أو نحتفل بمولد عيسى عليه الصلاة والسلام، ألسنا أحق به من النصارى، لماذا لا نصوم أو نحتفل يوم دخل يوشع عليه الصلاة والسلام أرض بني إسرائيل.
الشبهة الثالثة:
أن الاحتفال بالمولد من قبيل البدعة الحسنة لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم.
الجواب:
ليس في البدع شيء حسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} [أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697، الفتح 5/355]، وقال صلى الله عليه وسلم: {فإن كل بدعة ضلالة} [أخرجه أحمد 4/126، والترمذي رقم 2676]، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة.
قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين: " فقوله صلى الله عليه وسلم: {كل بدعة ضلالة} من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} [أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697، الفتح 5/355]، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة " انتهى [من كتاب جامع العلوم والحكم، ص233]
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه) [صحيح البخاري 2/252 رقم 2010 معلقاً، الفتح 4/294]
وقالوا أيضاً: أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف، مثل: جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع فليست محدثة.
وقول عمر: (نعمت البدعة) يريد: البدعة اللغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه، إذا قيل: إنه بدعة، فهو بدعة لغة لا شرعاً، لأن البدعة شرعاً ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه.
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن لكن كان مكتوباً متفرقاً، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظاً له.
والتروايح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تُفرض عليهم، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعاً متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلق إمام واحد كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين.
وكتابة الحديث أيضاً لها أصل في الشرع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور، لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدوّن المسلمون السنة بعد ذلك حفظاً لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين.
ويقال أيضاً: لماذا تأخر القيام بهذا الشكر على زعمكم فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراُ لله عز وجل؟ حاشا وكلا.
الشبهة الرابعة:
دعوى الإجماع على جواز مشروعية المولد.
الجواب أن يقال:
أولاً: إن الإجماع الذي يعتد به عند فقهاء المسلمين هو إجامع الصحابة وأئمة العلم والهدى من بعدهم، فأما العوام والجهال فلا عبرة بهم ولا بأقوالهم وأفعالهم.
ثانياً: إن من له أدنى مسكة من عقل لا يقول: الإجماع يؤخذ من أفعال العوام والجهال وسكوتهم على ما يفعلونه من البدع، وأن ذلك يعتبر إجماعاً سكوتياً عند فقهاء المسلمين! كلا. لا يقول ذلك من له أدنى علم ومعرفة.
وقد قال الشاطبي رحمه الله: لا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة.
الشبهة الخامسة:
دعوى أن المولد يشمل ذكر مولده الشريف وشمائله ومعجزاته وسيرته ومعرفة خصاله الكريمة ونحن مأمورون بمعرفة ذلك للاقتداء به والتأسي بأعماله والإيمان بمعجزاته.
الجواب:
أولاً: إن الاحتفال بالمولد ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان، وإنما هو من هدي الفاطميين العبيديين، فمن احتفل بالمولد فقد تأسى بالعبيديين واتبع هديهم شاء ذلك أم أبى.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده ولم يأمرهم بذكر شمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها، بل هذا من المحدثات التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: {كل محدثة ضلالة}.
ثالثاً: أن معرفة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله متيسرة لمن أراد الاطلاع عليها، في أي وقت من الأوقات، ولا يتقيد ذلك بوقت معين وعلى هيئة اجتماعية مبتدعة، كما يفعله أدعياء المولد، وهذا الاحتفال من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل في عموم قوله تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21].
رابعاً: أن الاقتداء بالرسول والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره، كما قال شيخ الإسلام: (وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..).
الشبهة السادسة:
دعوى أن المولد اجتماع لإحياء ذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو مشروع في الإسلام قياساً على أعمال الحج التي هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة.
الجواب:
أولاً: إن دعوى الاجتماع في المولد لإحياء ذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم مشروع في الإسلام من التقول على الله وعلى رسوله صلى الله علهي وسلم، فإن الله لم يشرع الاجتماع لإحياء ذكرى المصطفى لا في يوم المولد ولا في غيره من الأيام، ولم يشرع ذلك رسوله لا بقوله ولا بفعله.
ثانياً: أن الله تعالى قد رفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بما شرعه لعباده من الشهادة له بالرسالة في الصلاة والأذان والإقامة والخطب في الجمعة والعيدين والاستسقاء، وما شرعه أيضاً من الصلاة والسلام عليه في الصلاة والخطبة وبعد الأذان والدعاء وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك قد رفع الله ذكر نبيه في القرآن العظيم وعظم من شأنه في آيات كثيرة.
ثالثاً: أن قياس بدعة المولد على أعمال الحج من أفسد أنواع القياس وأقبحه، لما فيه من التسوية بين الأعمال التي شرعها الله تعالى لعباده وبين البدعة التي شرعها الشيطان.
رابعاً: أن القول بأن أعمال الحج إحياء لذكريات مشهودة مناقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى} [صحيح الترمذي].
الشبهة السابعة:
دعوى أن حدوث المولد بعد النبي وبعد عهد الصحابة ليس فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله ولا لإجماع المسلمين، فلا يقال: إنه مذموم فضلاً أن يقال: إنه منكر وبدعة سيئة.
الجواب:
أولاً: أن عيد المولد محدث في الإسلام، وفيه مخالفة ظاهرة للعيان؛ لكتاب الله وسنة رسول الله، وما كان عليه الصحابة في زمان رسول الله حتى اخترعها العبيديون، أما مخالفته للقرآن فقد قال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7]
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته أن يحتفلوا بمولده، وقد حذرهم من محدثات الأمور وبالغ في التحذير، وعيد المولد من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله، فيكون داخلاً فيما أمر الله تعالى بالانتهاء عنه.
وأما مخالفة عيد المولد للسنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} والاحتفال بالمولد لم يكن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإنما هو من محدثات الأمور، فيكون داخلاً فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته سبعة أعياد في سبعة أيام، وهي: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، ولم يشرع لهم عيداً في يوم مولده، ولا أمرهم بالاحتفال به، فدل على أنه من الأعياد المحدثة المبتدعة وإلا لدل عليه وبينه للناس.
ثالثاً: أنه من المعلوم أن عيد المولد فيه مخالفة ظاهره لما كان عليه المسلمون في القرون الأولى حتى أحدثه العبيديون، ولم يكن معروفاً عند المسلمين، ولو كان خيراً لسبق إليه الصحابة، فإنهم أحرص على الخير ممن جاء بعدهم، وكانوا أعظم الأمة محبة للنبي وأشدها تمسكاً بسنته واتباعاً لهديه.
رابعاً: أن عيد المولد النبوي قد وجد سببه في عهد رسول الله وعهد أصحابه الكرام، ولم يوجد مانع يمنع من فعله، ومع هذا لم يأمر به رسول الله ولم يفعله، ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين، وكما أن أمر رسول الله وفعله حجة، فكذلك تركه للشيء مع وجود سببه وعدم المانع من فعله يكون حجة على أنه غير جائز، وكذلك ترك الصحابة للشيء مع وجود سببه وعدم المانع من فعله يدل على أنه غير جائز.
الشبهة الثامنة:
دعوى أن المولد مشروع قياساً على صوم عاشوراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه.
الجواب:
إن من يقول بهذا القول قد غفلوا جميعاً أنهم بهذا التقرير يفتحون بابًا للأمة أن تستحدث أعيادًا لا حصر لها، فاحتفال عيد بمناسبة الهجرة النبوية، وآخر للبعثة النبوية، وثالث لذكرى الإسراء والمعراج، ورابع لانتصار المسلمين في بدر الكبرى، وخامس لفتح مكة وهكذا، فتغرق الأمة في أعياد مبتدعة.
إنّ اعتبار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء دليلاً على مشروعية المولد أمرٌ مخالفٌ لما أجمع عليه السلف من ناحية الفهم، ومن ناحية العمل، فهم لم يفهموا من تشريع النبي صلى الله عليه وسلم صوم يوم عاشوراء أنّه أراد ربط الزمان بالحوادث الدينية، ولم يتجاوزا فيه الصوم المأمور به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى.
ثم إن تخريج بدعة المولد على صيام عاشوراء إنما هو من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء والترغيب فيه وسكوته عن الاحتفال بيوم مولده كافٍ في إبطال مشروعيته بهذا الدليل؛ إذ لو كان في ذلك شيء من الفضل لبيَّن ذلك لأمته، فهو صلى الله عليه وسلم لم يترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولم يترك شرًا إلا حذَّر الأمة منه.
إن وقوف المؤمن في صيام يوم عاشوراء عند صيامه وصيام يومٍ قبله أو بعده مع عدم إحداث أي شيء آخر معه هو مقتضى الاتباع الكامل للنصوص الشرعية.
الشبهة التاسعة:
دعوى أن الاحتفال عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجواب أن يقال:
الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عموماً، وهذا منها، وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة وإن كثروا: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))[الأنعام:116]، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق.
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"، والإمام الشاطبي في "الاعتصام"، وابن الحاج في "المدخل"، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألّف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه " صيانة الإنسان "، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
الشبهة العاشرة:
تدعي الصوفية أن الاحتفال بالمولد مشروع وأنه من باب الفرح بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ))[يونس:58].
الجواب:
الرحمة الواردة في هذه الآية للسلف في تفسيرها أقوال عدَّة، فمما جاء في تفسيرها قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [[بفضل الله: القرآن، وبرحمته: أن جعلكم من أهله]]، وقول هلال بن يساف: (أما فضله فالإسلام، وأما رحمته: فالقرآن) [1].
ولم يفهم أحد من السلف أن من مظاهر هذا الفرح ومن مقتضيات امتثال الأمر به إقامة احتفال له صلى الله عليه وسلم، ومدّ موائد الطعام والشراب، والتوسعة على الناس بهما.
فالفرح به صلى الله عليه وسلم يكون باتباع هديه، وامتثال أمره، دعوة وعملاً.
أمّا الاستدلال بالآية على مشروعية الاحتفال بالمولد فهذا بلا شك من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، وهو ما نصّ الشاطبيُّ على عدم مشروعيته؛ وهو أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العلم بالنص عليه لا يقبل ممن بعدهم دلالة النص عليه.
ولا شك أن هذا المسلك الذي سلكه هؤلاء المستدلون بالآية على مشروعية إقامة الحفلات والولائم فرحًا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم مسلكُ أهل البدع والضلالة، قال الشاطبي: "وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يُحمِّلونهما مذاهبهم، ويعبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء، ولذلك أمثلة كثيرة، كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم" [2].
الشبهة الحادية عشرة:
إن الاحتفال بالمولد من قبيل السنن المؤكدة التي دلت عليها نصوص القرآن والسنة وليس من المباحات.
الجواب:
يلزم على هذا أن يقال: القول بأن الاحتفال بالمولد سنة مؤكدة عدة لوازم سيئة، منها:
أولاً: أن يكون الاحتفال بالمولد الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بالاحتفال بالمولد ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولم يفعله أحد الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، بل لم يكن معروفاً عند المسلمين إلى أن أحدثه العبيديون، حتى صار له ذكر عند الناس، وعلى هذا فمن زعم أن الاحتفال بالمولد من الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، والله تعالى يقول: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:33] وقال صلى الله عليه وسلم: {من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار}.
ثانياً: من اللوازم السيئة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، قد تركوا العمل بسنة مؤكدة، وهذا مما ينزه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
ثالثاً: من اللوازم السيئة أن يكون المحتفلون بالمولد قد حصل لهم العمل بسنة مؤكدة لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين!!
رابعاً: ظاهر من يقول هذا القول أنه لا يعرف مصطلحات أهل العلم فهو يهرف بما لا يعرف، فالسنة المؤكدة عند أهل العلم هي التي عملها الرسول صلى الله عليه وسلم وداوم عليها، فهل يقول قائل هذا القول وأمثاله أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل المولد وداوم عليه؟!
الشبهة الثانية عشرة:
الاحتفال بالمولد مشروع لأنه مقابل ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم على أطراف قدميه لينقذنا من نار جهنم.
الجواب أن يقال:
وقوف المصطفى على أطراف قدميه في الصلاة كان كما قال صلى الله عليه وسلم: {أفلا أكون عبدا شكورا} قام صلى الله عليه وسلم ليعلم أتباعه أن العبد مهما بلغ من العبادة إلا أنه ينبغي له أن يتذلل لربه وخالقه ولا يأمن مكر الله فيه، قام صلى الله عليه وسلم على قدميه الشريفتين وليس على أطراف قدميه شكراً لله عز وجل كما ذكر ذلك لعائشة حينما سألته عن ذلك، وواجب الأمة بعده الاقتداء به والتأسي به.
لا أن نستدل بذلك على أنفسنا، فعمله صلى الله عليه وسلم لنفسه وعمل أتباعه لأنفسهم، كما قال تعالى: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى))[النجم:39] فهل يقول قائل: إن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه ينفع أتباعه فيزاد من حسناتهم وينجيهم من الحساب والجزاء؟! لا أظن عاقلاً يقول ذلك، وما أشبه هذه المقولة بمقولة النصارى: إن عيسى عليه السلام صلب لينقذ البشرية ويكون فداء لها.
ثم إن مقولة: (إنا النبي صلى الله عليه وسلم: ينقذنا من النار)، فنقول: نعم الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله وبشيراً ونذيراً من عند الله سبحانه وتعالى، من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، أما أن نقول: قام على قدميه لينقذنا من النار.. فهذا غلط عظيم وإلا ترتب على ذلك عدم قيامنا بما أوجب الله علينا من شرائع الدين اعتماداً على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (دلني على عمل، إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضه، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) هذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الثالثة عشرة:
أن الموالد فيها إحياء للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[الأحزاب:56].
الجواب:
أولاً: ليس في الآية إطلاق الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بغير الصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
ثانياً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى الدعاء له، والدعاء من العبادة التي ينبغي أن تكون خفية لا معلنة، كما قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً))[الأعراف:55] والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ذلك، هذا من جانب، ومن جانب آخر: الاجتماع للدعاء بصوت واحد مرتب بدعة لم يرد بها النص.
ثالثاً: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في كل وقت ولا شك في ذلك لكن تخصيصها في المولد بدعة مردودة.
رابعاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده ولم يأمرهم بذكر مولده وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصائله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها، بل هذا من البدع التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
خامساً: أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره، فالإسلام مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما:- أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا.
الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعبده بالأهواء والبدع. كما قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))[الجاثية:18] * ((إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))[الجاثية:19] فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب ولا يعبده بالأمور المبتدعة.
الشبهة الرابعة عشرة:
أن يوم المولد فيه زيادة عبادة عن بقية الأيام، فيشرع الاحتفال به.
الجواب أن يقال:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين، ولم يسأل عن صيام يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فالعلة إذًا: تخصيص يوم الإثنين، بالصيام، وليس تخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بالصيام، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وهو المشرّع، لم يخصص يوم الثاني عشر بالصيام، بل خصص يوم الإثنين بالصيام، وفرق كبير بين السببين، فالصواب أن العلة هي كون يوم الإثنين، يوم مولده، ويوم بعثه فيه، ويوم إنزال القرآن عليه.
ثانياً: لو قال قائل: فأنتم تقرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى ميلاده، واعتبره مؤثرًا في الحكم، حيث قال: {ذلك يوم ولدت فيه} فنقول: نعم هذا صواب، لقد نظر إلى يوم ميلاده وجعله مؤثرًا في الحكم، ولكن بقي النظر في يوم الميلاد ما هو: هل هو الإثنين، أم الثاني عشر من ربيع الأول؟ ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الميزة لكونه يوم الإثنين، لا لكونه الثاني عشر من ربيع الأول، ولو نظر النبي صلى الله عليه وسلم للأخير، لخصّه عينَه بذلك الصيام، ولرأينا النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى في كل سنة شهر ربيع الأول، بل يتحرى يوم الثاني عشر منه، بصرف النظر، هل كان يوم إثنين، أو جمعة، أو غيرها، وهذا لم يرد حسب ما قرأنا، في حديث صحيح، بل ولا وضعيف أيضاً.
ومما يؤكد هذا أن العلماء أنفسهم، اختلفوا في تحديد يوم مولده صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو يوم الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر...إلى غير ذلك من الأقوال التي حكاها جمع من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية والقسطلاني في المواهب اللدنية.
وهذا الاختلاف الكبير في تاريخ المولد دليل قطعي على أن النبي وأصحابه لم يعيروا هذا اليوم أي اهتمام عندما تمر كل سنة، فضلاً عن أن يخصها النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه بمزيد عباده.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين سبب صيامه لذلك اليوم، جعل السبب أو العلة مركبة، فقال: {ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ} فذكر ثلاثة أسباب، أو بتعبير أصولي: ذكر علة مركبة من ثلاث أوصاف، ميلاده، ومبعثه، وإنزال القرآن، والصواب صحة التعليل بالعلة المركبة، وأنها لا تؤثر إلا إذا اجتمعت الأوصاف المركبة منها كلها، وعندئذ فلا تجتمع هذه الأوصاف لتكون علة الحكم إلا في يوم الإثنين، فلا تنطبق ألبتة على يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فإنزال القرآن حدث في ليلة القدر، من شهر رمضان المبارك بالإجماع كما هو نص القرآن، فهي علة قاصرة على هذا اليوم، فلا تتعدى إلى غيره.
رابعاً: وجوب اتباع فهم السلف الصالح لدين الإسلام، وأدلة وجوب اتباع فهم السلف الصالح كثيرة جدًا، أهمها أن فهم السلف الصالح نفسه إجماع منهم على أن الدين يفهم بهذه الطريقة، فمن فهم الدين بغير هذه الطريقة فقد خالف الإجماع، ومنها أن الأخذ بغير فهمهم، مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} متفق عليه.
فجعل خير القرون، صحابته، فخيريتهم تتضمن خيرية فهمهم، فلا يجوز العدول عن خير فهم للدين إلى غيره.
وعليه، فيجب علينا عند النظر والاستدلال لاسيما عند طروء شبهة، أن لا نغفل فهم عن السلف الصالح للأدلة، وكيف عملوا بها، وما أجمل العبارة التي تقول: لو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قوله: [[من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم]].
فلو كان القول بتخصيص يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول بعبادة زائدة لسبقنا إليه السلف الصالح، الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، لكن لما لم يفعلوا ذلك، علم أنه لا خير فيه، وهذا لا يحتاج إلى مزيد استدلال.
الشبهة الخامسة عشرة:
أن شعراء الصحابة كانوا ينشدون قصائد المدح في الرسول صلى الله عليه وسلم مثل كعب بن زهير وغيره فكان يرضى عملهم، ويكافئهم على ذلك بالصلات والطيبات.
والجواب أن يقال:
لم يذكر عن أحد من شعراء الصحابة أنه كان يتقرب إلى الله بإنشاد القصائد في ليلة المولد، وإنما كان إنشادهم في الغالب عند وقوع الفتوح والظفر بالأعداء، وعلى هذا فليس إنشاد كعب بن زهير وحسان وغيرهما من شعراء الصحابة بين يدي رسول الله ما يتعلق به أحد في تأييد بدعةالمولد.
الشبهة السادسة عشرة:
دعوى تلقي الأوامر النبوية بالاحتفال بذلك اليوم في المنام.
والجواب أن يقال:
إن الاعتماد على دعوى تلقي أوامر نبوية في المنام بالاحتفال بالمولد النبوي لا يعتبر؛ لأن الرؤيا في المنام لا تثبت بها سنة لم تثبت ولا تبطل بها ....
منقول
الشبهة الأولى:
دعوى أن في الاحتفال تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب أن يقال:
إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية، وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، كما قال عروة بن مسعود لقريش: [[أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداًُ صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له]]، ومع هذا التعظيم فإنهم -رضي الله عنهم- لم يجعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
إننا نقول: هل من تعظيمه الابتداع في دينه، والزيادة في شريعته بالاحتفال بالمولد بعد اتفاقنا على نصحه لأمته ودلالتها على كل حسن؟!
- فأي تعظيم في عمل احتفالات ساعات أو أيام ثم التقصير والإهمال في سائر العام؟!
- وأي تعظيم في الاحتفال بزمن توفي فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!
- وأي تعظيم في مشابهة دين النصارى المفتونين بالاحتفالات؟!
وأي تعظيم في التعدي على فقه الفاروق عمر حين أرخ بهجرة المصطفى رمز انتصار دينه ولم يؤرخ بمولده ووفاته، تقديماً للحقائق والمعاني على الطقوس والأشكال؟!
- وأي تعظيم في تجديد دين الدولة العبيدية الباطنية الحاقدة التي ابتدعت ذلك الاحتفال.
- وأي تعظيم في عمل لم يشرعه الحبيب صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه وأنصاره وحماة دينه وحملة رسالته رضي الله عنهم؟! أليسوا أصدق الناس تعظيماً وحباً؟!
- أليس فقه الراشدين وفهمهم وسنتهم مما أوصاكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم قائلاً: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ}.
- أليس فعل المولد مخالفة لأمره: {وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} فأي تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الموالد التي صارت ركباً للمدعين، وحجة للبطالين؟!
ألا ترون المولد -بعد هذا- تقصيراً في حق نبينا صلى الله عليه وسلم وظلماً له.
الشبهة الثانية:
يستدل دعاة الاحتفال بمولد سيد البشر بحديث سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين، فقال: (ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه)
الجواب:
أولاً: أين الدلالة في الحديث على تخصيص يوم من السنة يحتفل فيه بالمولد، وهل كل يوم فضيل أتى الخبرُ ينصُ عليه يُسن الاحتفال فيه؟
إن كان كذلك فهناك أيام فضيلة كثيرة، فهل يسن فيها احتفال أيضاً، كيوم القرّ مثلاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القر}. [سنن أبي داود رقم: (1765) وإسناده صحيح]. أو أيام العشر من ذي الحجة، أو ليلة القدر أو.......
ثانياً: أنه أمر لم يعمل به أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم ولم يعرف عند النظار: أبي حنيفة ولا عن ابن المدينة عاصمة الإسلام مالك ولا عن الأثري أحمد ولا عند غيرهم من فقهاء الأمة، مع أن المسألة حادثة منذ فجر الإسلام، بل من قبله بأربعين عاماً، ومن المعلوم لدى أي عاقل ومن باب أولى سيد الخلق المعلم الأول المؤيد بالوحي الإلهي عليه الصلاة والسلام أن يوم الثاني عشر من ربيع الذي يعظمه من يحتفل بالمولد لا يكون دائماً في كل سنة يوم الإثنين، وعليه يكون الاحتفال هذا بخلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو والله عين المخالفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على يوم من الأسبوع بعينه هو يوم الإثنين، والمحتفلون اتخذوا الثاني عشر من ربيع يوماً من السنة، وهو الذي يدور من الأسبوع دورته في كل عام!!
كذلك لم يعرف الصيام يوم الثاني عشر من ربيع، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره، وهذا معناه أن السبب الداعي للصيام هو يوم الإثنين، والذي اجتمعت فيه فضائل منها يوم مولده صلى الله عليه وسلم، ومنها:
أنه يوم ترفع الأعمال فيه كما جاء في حديث فسر فيه صلى الله عليه وسلم سبب صيامه له دون ذكر فضيلة أخرى فقال: {تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم} [سنن الترمذي رقم: (747)، وأصله عند مسلم رقم: (2565)].
ومنها: أنه أنزل فيه عليه صلى الله عليه وسلم، وهنا أشير إلى أن نعمة بعثته بالرسالة قد ميزته ورفعته على العالمين بخلاف مولده الذي شابه به غيره، وهذا كله بنص القرآن العظيم: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ))[الكهف:110].
فما كان من الصفات البشرية فهو مثل غيره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، إلا ما جاء به نص، ولا نخالف نص القرآن الذي ينص على بشريته إلا بنص شرعي ثابت يخصصه، وإن لم نعتمد هذا فيجب علينا أن نقر لمن يحتفل بعيد ميلاده أو ميلاد شيخه أو... لأن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم على فرض ثبوته لم يرد فيه التخصيص فيمكن القياس عليه.
ثالثاً: من يمنع من صيام يوم الإثنين من كل أسبوع، وهو يوم مسنون فيه الصيام وغيره، وله كثير من الفضائل، ومنها: الصيام شكراً لله على مولد نبينا صلى الله عليه وسلم فيه، وعلى قول من رأى الاحتفال، فلماذا لا نقيم احتفالاً دون الصيام في كل يوم إثنين على مر الزمان، وهو الذي جمع كل هذه الفضائل.؟
رابعاً: بناءً على عمل المولد بدلاً عن صيام أداه النبي صلى الله عليه وسلم شكراً على نعمة لماذا لا نقيم مولداً في يوم عاشوراء بدلاً من صيامه شكراً على نعمة؟
خامساً: كم من فرق بين الصيام ركن الإسلام العبادة المتعبد بها وبين الاحتفال السنوي بالمولد وهو أسمى عادة وعبادة عند النصارى وغيرهم.
وقائل يقول: ألم يصم صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء؟
لمثل هذا نقول: هذا تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لماذا لا نصوم أو نحتفل بمولد عيسى عليه الصلاة والسلام، ألسنا أحق به من النصارى، لماذا لا نصوم أو نحتفل يوم دخل يوشع عليه الصلاة والسلام أرض بني إسرائيل.
الشبهة الثالثة:
أن الاحتفال بالمولد من قبيل البدعة الحسنة لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم.
الجواب:
ليس في البدع شيء حسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} [أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697، الفتح 5/355]، وقال صلى الله عليه وسلم: {فإن كل بدعة ضلالة} [أخرجه أحمد 4/126، والترمذي رقم 2676]، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة.
قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين: " فقوله صلى الله عليه وسلم: {كل بدعة ضلالة} من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} [أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697، الفتح 5/355]، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة " انتهى [من كتاب جامع العلوم والحكم، ص233]
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه) [صحيح البخاري 2/252 رقم 2010 معلقاً، الفتح 4/294]
وقالوا أيضاً: أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف، مثل: جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع فليست محدثة.
وقول عمر: (نعمت البدعة) يريد: البدعة اللغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه، إذا قيل: إنه بدعة، فهو بدعة لغة لا شرعاً، لأن البدعة شرعاً ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه.
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن لكن كان مكتوباً متفرقاً، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظاً له.
والتروايح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تُفرض عليهم، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعاً متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلق إمام واحد كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين.
وكتابة الحديث أيضاً لها أصل في الشرع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور، لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدوّن المسلمون السنة بعد ذلك حفظاً لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين.
ويقال أيضاً: لماذا تأخر القيام بهذا الشكر على زعمكم فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراُ لله عز وجل؟ حاشا وكلا.
الشبهة الرابعة:
دعوى الإجماع على جواز مشروعية المولد.
الجواب أن يقال:
أولاً: إن الإجماع الذي يعتد به عند فقهاء المسلمين هو إجامع الصحابة وأئمة العلم والهدى من بعدهم، فأما العوام والجهال فلا عبرة بهم ولا بأقوالهم وأفعالهم.
ثانياً: إن من له أدنى مسكة من عقل لا يقول: الإجماع يؤخذ من أفعال العوام والجهال وسكوتهم على ما يفعلونه من البدع، وأن ذلك يعتبر إجماعاً سكوتياً عند فقهاء المسلمين! كلا. لا يقول ذلك من له أدنى علم ومعرفة.
وقد قال الشاطبي رحمه الله: لا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة.
الشبهة الخامسة:
دعوى أن المولد يشمل ذكر مولده الشريف وشمائله ومعجزاته وسيرته ومعرفة خصاله الكريمة ونحن مأمورون بمعرفة ذلك للاقتداء به والتأسي بأعماله والإيمان بمعجزاته.
الجواب:
أولاً: إن الاحتفال بالمولد ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان، وإنما هو من هدي الفاطميين العبيديين، فمن احتفل بالمولد فقد تأسى بالعبيديين واتبع هديهم شاء ذلك أم أبى.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده ولم يأمرهم بذكر شمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها، بل هذا من المحدثات التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: {كل محدثة ضلالة}.
ثالثاً: أن معرفة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله متيسرة لمن أراد الاطلاع عليها، في أي وقت من الأوقات، ولا يتقيد ذلك بوقت معين وعلى هيئة اجتماعية مبتدعة، كما يفعله أدعياء المولد، وهذا الاحتفال من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل في عموم قوله تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21].
رابعاً: أن الاقتداء بالرسول والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره، كما قال شيخ الإسلام: (وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..).
الشبهة السادسة:
دعوى أن المولد اجتماع لإحياء ذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو مشروع في الإسلام قياساً على أعمال الحج التي هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة.
الجواب:
أولاً: إن دعوى الاجتماع في المولد لإحياء ذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم مشروع في الإسلام من التقول على الله وعلى رسوله صلى الله علهي وسلم، فإن الله لم يشرع الاجتماع لإحياء ذكرى المصطفى لا في يوم المولد ولا في غيره من الأيام، ولم يشرع ذلك رسوله لا بقوله ولا بفعله.
ثانياً: أن الله تعالى قد رفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بما شرعه لعباده من الشهادة له بالرسالة في الصلاة والأذان والإقامة والخطب في الجمعة والعيدين والاستسقاء، وما شرعه أيضاً من الصلاة والسلام عليه في الصلاة والخطبة وبعد الأذان والدعاء وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك قد رفع الله ذكر نبيه في القرآن العظيم وعظم من شأنه في آيات كثيرة.
ثالثاً: أن قياس بدعة المولد على أعمال الحج من أفسد أنواع القياس وأقبحه، لما فيه من التسوية بين الأعمال التي شرعها الله تعالى لعباده وبين البدعة التي شرعها الشيطان.
رابعاً: أن القول بأن أعمال الحج إحياء لذكريات مشهودة مناقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى} [صحيح الترمذي].
الشبهة السابعة:
دعوى أن حدوث المولد بعد النبي وبعد عهد الصحابة ليس فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله ولا لإجماع المسلمين، فلا يقال: إنه مذموم فضلاً أن يقال: إنه منكر وبدعة سيئة.
الجواب:
أولاً: أن عيد المولد محدث في الإسلام، وفيه مخالفة ظاهرة للعيان؛ لكتاب الله وسنة رسول الله، وما كان عليه الصحابة في زمان رسول الله حتى اخترعها العبيديون، أما مخالفته للقرآن فقد قال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7]
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته أن يحتفلوا بمولده، وقد حذرهم من محدثات الأمور وبالغ في التحذير، وعيد المولد من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله، فيكون داخلاً فيما أمر الله تعالى بالانتهاء عنه.
وأما مخالفة عيد المولد للسنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} والاحتفال بالمولد لم يكن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإنما هو من محدثات الأمور، فيكون داخلاً فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته سبعة أعياد في سبعة أيام، وهي: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، ولم يشرع لهم عيداً في يوم مولده، ولا أمرهم بالاحتفال به، فدل على أنه من الأعياد المحدثة المبتدعة وإلا لدل عليه وبينه للناس.
ثالثاً: أنه من المعلوم أن عيد المولد فيه مخالفة ظاهره لما كان عليه المسلمون في القرون الأولى حتى أحدثه العبيديون، ولم يكن معروفاً عند المسلمين، ولو كان خيراً لسبق إليه الصحابة، فإنهم أحرص على الخير ممن جاء بعدهم، وكانوا أعظم الأمة محبة للنبي وأشدها تمسكاً بسنته واتباعاً لهديه.
رابعاً: أن عيد المولد النبوي قد وجد سببه في عهد رسول الله وعهد أصحابه الكرام، ولم يوجد مانع يمنع من فعله، ومع هذا لم يأمر به رسول الله ولم يفعله، ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين، وكما أن أمر رسول الله وفعله حجة، فكذلك تركه للشيء مع وجود سببه وعدم المانع من فعله يكون حجة على أنه غير جائز، وكذلك ترك الصحابة للشيء مع وجود سببه وعدم المانع من فعله يدل على أنه غير جائز.
الشبهة الثامنة:
دعوى أن المولد مشروع قياساً على صوم عاشوراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه.
الجواب:
إن من يقول بهذا القول قد غفلوا جميعاً أنهم بهذا التقرير يفتحون بابًا للأمة أن تستحدث أعيادًا لا حصر لها، فاحتفال عيد بمناسبة الهجرة النبوية، وآخر للبعثة النبوية، وثالث لذكرى الإسراء والمعراج، ورابع لانتصار المسلمين في بدر الكبرى، وخامس لفتح مكة وهكذا، فتغرق الأمة في أعياد مبتدعة.
إنّ اعتبار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء دليلاً على مشروعية المولد أمرٌ مخالفٌ لما أجمع عليه السلف من ناحية الفهم، ومن ناحية العمل، فهم لم يفهموا من تشريع النبي صلى الله عليه وسلم صوم يوم عاشوراء أنّه أراد ربط الزمان بالحوادث الدينية، ولم يتجاوزا فيه الصوم المأمور به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى.
ثم إن تخريج بدعة المولد على صيام عاشوراء إنما هو من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء والترغيب فيه وسكوته عن الاحتفال بيوم مولده كافٍ في إبطال مشروعيته بهذا الدليل؛ إذ لو كان في ذلك شيء من الفضل لبيَّن ذلك لأمته، فهو صلى الله عليه وسلم لم يترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولم يترك شرًا إلا حذَّر الأمة منه.
إن وقوف المؤمن في صيام يوم عاشوراء عند صيامه وصيام يومٍ قبله أو بعده مع عدم إحداث أي شيء آخر معه هو مقتضى الاتباع الكامل للنصوص الشرعية.
الشبهة التاسعة:
دعوى أن الاحتفال عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجواب أن يقال:
الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عموماً، وهذا منها، وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة وإن كثروا: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))[الأنعام:116]، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق.
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"، والإمام الشاطبي في "الاعتصام"، وابن الحاج في "المدخل"، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألّف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه " صيانة الإنسان "، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
الشبهة العاشرة:
تدعي الصوفية أن الاحتفال بالمولد مشروع وأنه من باب الفرح بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ))[يونس:58].
الجواب:
الرحمة الواردة في هذه الآية للسلف في تفسيرها أقوال عدَّة، فمما جاء في تفسيرها قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [[بفضل الله: القرآن، وبرحمته: أن جعلكم من أهله]]، وقول هلال بن يساف: (أما فضله فالإسلام، وأما رحمته: فالقرآن) [1].
ولم يفهم أحد من السلف أن من مظاهر هذا الفرح ومن مقتضيات امتثال الأمر به إقامة احتفال له صلى الله عليه وسلم، ومدّ موائد الطعام والشراب، والتوسعة على الناس بهما.
فالفرح به صلى الله عليه وسلم يكون باتباع هديه، وامتثال أمره، دعوة وعملاً.
أمّا الاستدلال بالآية على مشروعية الاحتفال بالمولد فهذا بلا شك من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، وهو ما نصّ الشاطبيُّ على عدم مشروعيته؛ وهو أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العلم بالنص عليه لا يقبل ممن بعدهم دلالة النص عليه.
ولا شك أن هذا المسلك الذي سلكه هؤلاء المستدلون بالآية على مشروعية إقامة الحفلات والولائم فرحًا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم مسلكُ أهل البدع والضلالة، قال الشاطبي: "وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يُحمِّلونهما مذاهبهم، ويعبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء، ولذلك أمثلة كثيرة، كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم" [2].
الشبهة الحادية عشرة:
إن الاحتفال بالمولد من قبيل السنن المؤكدة التي دلت عليها نصوص القرآن والسنة وليس من المباحات.
الجواب:
يلزم على هذا أن يقال: القول بأن الاحتفال بالمولد سنة مؤكدة عدة لوازم سيئة، منها:
أولاً: أن يكون الاحتفال بالمولد الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بالاحتفال بالمولد ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولم يفعله أحد الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، بل لم يكن معروفاً عند المسلمين إلى أن أحدثه العبيديون، حتى صار له ذكر عند الناس، وعلى هذا فمن زعم أن الاحتفال بالمولد من الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، والله تعالى يقول: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:33] وقال صلى الله عليه وسلم: {من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار}.
ثانياً: من اللوازم السيئة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، قد تركوا العمل بسنة مؤكدة، وهذا مما ينزه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
ثالثاً: من اللوازم السيئة أن يكون المحتفلون بالمولد قد حصل لهم العمل بسنة مؤكدة لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين!!
رابعاً: ظاهر من يقول هذا القول أنه لا يعرف مصطلحات أهل العلم فهو يهرف بما لا يعرف، فالسنة المؤكدة عند أهل العلم هي التي عملها الرسول صلى الله عليه وسلم وداوم عليها، فهل يقول قائل هذا القول وأمثاله أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل المولد وداوم عليه؟!
الشبهة الثانية عشرة:
الاحتفال بالمولد مشروع لأنه مقابل ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم على أطراف قدميه لينقذنا من نار جهنم.
الجواب أن يقال:
وقوف المصطفى على أطراف قدميه في الصلاة كان كما قال صلى الله عليه وسلم: {أفلا أكون عبدا شكورا} قام صلى الله عليه وسلم ليعلم أتباعه أن العبد مهما بلغ من العبادة إلا أنه ينبغي له أن يتذلل لربه وخالقه ولا يأمن مكر الله فيه، قام صلى الله عليه وسلم على قدميه الشريفتين وليس على أطراف قدميه شكراً لله عز وجل كما ذكر ذلك لعائشة حينما سألته عن ذلك، وواجب الأمة بعده الاقتداء به والتأسي به.
لا أن نستدل بذلك على أنفسنا، فعمله صلى الله عليه وسلم لنفسه وعمل أتباعه لأنفسهم، كما قال تعالى: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى))[النجم:39] فهل يقول قائل: إن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه ينفع أتباعه فيزاد من حسناتهم وينجيهم من الحساب والجزاء؟! لا أظن عاقلاً يقول ذلك، وما أشبه هذه المقولة بمقولة النصارى: إن عيسى عليه السلام صلب لينقذ البشرية ويكون فداء لها.
ثم إن مقولة: (إنا النبي صلى الله عليه وسلم: ينقذنا من النار)، فنقول: نعم الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله وبشيراً ونذيراً من عند الله سبحانه وتعالى، من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، أما أن نقول: قام على قدميه لينقذنا من النار.. فهذا غلط عظيم وإلا ترتب على ذلك عدم قيامنا بما أوجب الله علينا من شرائع الدين اعتماداً على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (دلني على عمل، إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضه، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) هذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الثالثة عشرة:
أن الموالد فيها إحياء للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[الأحزاب:56].
الجواب:
أولاً: ليس في الآية إطلاق الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بغير الصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
ثانياً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى الدعاء له، والدعاء من العبادة التي ينبغي أن تكون خفية لا معلنة، كما قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً))[الأعراف:55] والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ذلك، هذا من جانب، ومن جانب آخر: الاجتماع للدعاء بصوت واحد مرتب بدعة لم يرد بها النص.
ثالثاً: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في كل وقت ولا شك في ذلك لكن تخصيصها في المولد بدعة مردودة.
رابعاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده ولم يأمرهم بذكر مولده وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصائله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها، بل هذا من البدع التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
خامساً: أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره، فالإسلام مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما:- أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا.
الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعبده بالأهواء والبدع. كما قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))[الجاثية:18] * ((إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))[الجاثية:19] فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب ولا يعبده بالأمور المبتدعة.
الشبهة الرابعة عشرة:
أن يوم المولد فيه زيادة عبادة عن بقية الأيام، فيشرع الاحتفال به.
الجواب أن يقال:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين، ولم يسأل عن صيام يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فالعلة إذًا: تخصيص يوم الإثنين، بالصيام، وليس تخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بالصيام، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وهو المشرّع، لم يخصص يوم الثاني عشر بالصيام، بل خصص يوم الإثنين بالصيام، وفرق كبير بين السببين، فالصواب أن العلة هي كون يوم الإثنين، يوم مولده، ويوم بعثه فيه، ويوم إنزال القرآن عليه.
ثانياً: لو قال قائل: فأنتم تقرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى ميلاده، واعتبره مؤثرًا في الحكم، حيث قال: {ذلك يوم ولدت فيه} فنقول: نعم هذا صواب، لقد نظر إلى يوم ميلاده وجعله مؤثرًا في الحكم، ولكن بقي النظر في يوم الميلاد ما هو: هل هو الإثنين، أم الثاني عشر من ربيع الأول؟ ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الميزة لكونه يوم الإثنين، لا لكونه الثاني عشر من ربيع الأول، ولو نظر النبي صلى الله عليه وسلم للأخير، لخصّه عينَه بذلك الصيام، ولرأينا النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى في كل سنة شهر ربيع الأول، بل يتحرى يوم الثاني عشر منه، بصرف النظر، هل كان يوم إثنين، أو جمعة، أو غيرها، وهذا لم يرد حسب ما قرأنا، في حديث صحيح، بل ولا وضعيف أيضاً.
ومما يؤكد هذا أن العلماء أنفسهم، اختلفوا في تحديد يوم مولده صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو يوم الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر...إلى غير ذلك من الأقوال التي حكاها جمع من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية والقسطلاني في المواهب اللدنية.
وهذا الاختلاف الكبير في تاريخ المولد دليل قطعي على أن النبي وأصحابه لم يعيروا هذا اليوم أي اهتمام عندما تمر كل سنة، فضلاً عن أن يخصها النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه بمزيد عباده.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين سبب صيامه لذلك اليوم، جعل السبب أو العلة مركبة، فقال: {ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ} فذكر ثلاثة أسباب، أو بتعبير أصولي: ذكر علة مركبة من ثلاث أوصاف، ميلاده، ومبعثه، وإنزال القرآن، والصواب صحة التعليل بالعلة المركبة، وأنها لا تؤثر إلا إذا اجتمعت الأوصاف المركبة منها كلها، وعندئذ فلا تجتمع هذه الأوصاف لتكون علة الحكم إلا في يوم الإثنين، فلا تنطبق ألبتة على يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فإنزال القرآن حدث في ليلة القدر، من شهر رمضان المبارك بالإجماع كما هو نص القرآن، فهي علة قاصرة على هذا اليوم، فلا تتعدى إلى غيره.
رابعاً: وجوب اتباع فهم السلف الصالح لدين الإسلام، وأدلة وجوب اتباع فهم السلف الصالح كثيرة جدًا، أهمها أن فهم السلف الصالح نفسه إجماع منهم على أن الدين يفهم بهذه الطريقة، فمن فهم الدين بغير هذه الطريقة فقد خالف الإجماع، ومنها أن الأخذ بغير فهمهم، مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} متفق عليه.
فجعل خير القرون، صحابته، فخيريتهم تتضمن خيرية فهمهم، فلا يجوز العدول عن خير فهم للدين إلى غيره.
وعليه، فيجب علينا عند النظر والاستدلال لاسيما عند طروء شبهة، أن لا نغفل فهم عن السلف الصالح للأدلة، وكيف عملوا بها، وما أجمل العبارة التي تقول: لو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قوله: [[من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم]].
فلو كان القول بتخصيص يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول بعبادة زائدة لسبقنا إليه السلف الصالح، الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، لكن لما لم يفعلوا ذلك، علم أنه لا خير فيه، وهذا لا يحتاج إلى مزيد استدلال.
الشبهة الخامسة عشرة:
أن شعراء الصحابة كانوا ينشدون قصائد المدح في الرسول صلى الله عليه وسلم مثل كعب بن زهير وغيره فكان يرضى عملهم، ويكافئهم على ذلك بالصلات والطيبات.
والجواب أن يقال:
لم يذكر عن أحد من شعراء الصحابة أنه كان يتقرب إلى الله بإنشاد القصائد في ليلة المولد، وإنما كان إنشادهم في الغالب عند وقوع الفتوح والظفر بالأعداء، وعلى هذا فليس إنشاد كعب بن زهير وحسان وغيرهما من شعراء الصحابة بين يدي رسول الله ما يتعلق به أحد في تأييد بدعةالمولد.
الشبهة السادسة عشرة:
دعوى تلقي الأوامر النبوية بالاحتفال بذلك اليوم في المنام.
والجواب أن يقال:
إن الاعتماد على دعوى تلقي أوامر نبوية في المنام بالاحتفال بالمولد النبوي لا يعتبر؛ لأن الرؤيا في المنام لا تثبت بها سنة لم تثبت ولا تبطل بها ....
منقول