السيد مهدي
03-20-2003, 11:14 AM
التقريب بين المذاهب الإسلامية- مقال لفهمي هويدي- شارك بالرأي
التقريب بين المذاهب الإسلامية
أولى من الانشغال بالتفريق بينها
* فهمي هويدي ـ مصر
ممّا نأسف له أن نفراً غير قليل من المسلمين مشغولون بالتفريق وليس بالتقريب، وليس ذلك مقصوراً على عوام المسلمين وحدهم، ولكنه ينطبق أيضاً على النخبة، من المثقّفين وأهل العلم، ولعل الجدل الذي ثار على صفحات المجلة حول تحوّل أحد رموز حركة الجهاد الإسلامي من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي يعد نموذجاً لتجليات التفريق التي مازالت مترسّبة بين أصحاب المذاهب الإسلامية.
وممّا يلاحظه المرء فيما يخصّ أهل العلم أنهم في السابق. الاربعينيات مثلاً، كانوا أكثر حماساً للتقريب بين المذاهب، من أقرانهم في التسعينات، الأمر الذي يدعونا إلى التفكير في الأسباب التي أدت إلى ذلك .
حين تراجع استقلال العلماء
لن أعمّم، لكني سأضرب مثلاً بعلماء الأزهر الشريف، الذي هو أقدم وأعرق جامعة إسلامية، حيث أزعم أنّني قريب من أجوائه في مصر، بحكم الاعتبار الجغرافي على الأقل. وإذا ألقينا السؤال، لماذا كان حماس أهله في الأربعينيات للتقريب أكبر وأوضح منه في التسعينات، فإن الإجابة الحاضرة في ذهني الآن هي: أن الفرق بين المرحلتين يكمن في اختلاف طبيعة العلاقة بين العلماء والسلطة في كلّ منهما، ففي ذلك الوقت المبكّر كان الأزهر وعلماؤه يتمتعون بقدر من الاستقلال، سمح لهم بأن يتّخذوا مواقف ويعبّروا عن آراء حرّة يبتغون بها وجه اللّه، دون أن يكون للسلطة شأن بها، وكان ذلك بعضاً من تجلّيات المرحلة اللبرالية النسبية التي عاشتها مصر آنذاك .
في التسعينات، في ظلّ استمرار تراجع الهامش الديمقراطي وتعاظم دور الدولة، لم يكن بمقدور العلماء أو الأزهر أن يتحرّكوا بعيداً عن سلطات الدولة ولا سياساتها، ولذلك فإن الخلاف السياسي مع إيران أدى تلقائياً إلى تراجع عملية التقريب، بل وفتح الباب في أقطار عربية عدّة، وليس في مصر وحدها، لتعميق التفريق، وتقديم التخاصم والتقاطع على التلاقي والتفاهم، وكانت النتيجة أن تراجعت علائق السنّة والشيعة عمّا
كانت عليه قبل نصف قرن مضى .
بكلّ المقاييس فأوضاع التسعينيات أفضل بكثير من أوضاع الأربعينيات، فهذه الأخيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كانت مسكوتة بأجواء الإحباط واليأس، كانت الخلافة الإسلامية قد ألغيت في تركيا، وكان العالم العربي كلّه تقريباً يرزح تحت الاحتلال، وبدا الغرب في أوج قوّته، منتصراً في الحرب ومستعلياً كنموذج حضاري، ومع ذلك فقد انتعشت حركة التقريب على نحو مدهش كما سنرى بعد قليل .
في الثمانينات والتسعينيات كانت المشاعر الدينية قد تعالت مؤشّراتها، وسرى الانتعاش بدرجة أكبر في المجتمعات الشيعية، التي استقبلت بحفاوة حدث الثورة الإسلامية في إيران، ورغم أنه من المفترض في هذه الأجواء أن تكون الظروف مواتية للتقريب بدرجة أكبر، إلاّ إن ذلك لم يحدث للأسف الشديد، لأن رياح السياسة وضغوطها أصبحت أقوى، الأمر الذي لم يوفّر لجهود التقريب الدفعة القوية المرجوّة .
النخبة التي تحرّكت في الأربعينيات
وسواء اتسمت جهود التقريب بالبطء والحذر الآن، أو أن أصوات دعاة التفريق مازالت تجد من ينصت إليها ويستجيب لها، فإن تجربة التقريب التي تمّت في الأربعينيات، وتواصلت حتى أوائل الستينيات، تظلّ تجربة رائدة جديرة بأن نستحضرها ونتأمّلها ملياً .
وقبل استحضار تلك التجربة فإنني ألفت النظر إلى أن ما ذكرته عن أوضاع التقريب في الوقت الحاضر يصف الوضع على جملته، الأمر الذي لا ينبغي أن يصادر أصواتاً وجهوداً دافعت بإخلاص عن التقريب، وعنوحدة الاُمّة الإسلامية، غير أن هذه الجهود ظلّت استثنائية، وتعبّر عن مواقف أفراد لا مؤسّسات، وبالتالي فإن ثمارها ظلّت محدودة الأثر والنطاق.
يستوقفنا في تجربة الأربعينيات أنها بدأت بجهود أحد العلماء الإيرانيين هو محمد تقي الدين القمي، الذي كان قد هاجر من بلاده إلى مصر في عام 1937م، ورغم أن سيرته أو رحلته العلمية لم تسجّل، إلاّ إننا نعرف أنه جعل من التقريب بين السنّة والشيعة قضيته الأساسية، وأنه لم يكتف بالاتصال مع علماء الأزهر وشيوخه لهذا الغرض، وإنما مدّ جسوره مع مختلف التيارات والرموز المعنية بالوحدة الإسلامية وبمستقبل الاُمّة، ولذلك فإننا نلاحظ أن أوّل مجلس إدارة لجمعية التقريب، الذي تشكّل في عام 1947م جاء تجسيداً لتلك الجهود التي أشرت إليها، فقد اجتمع في المجلس نخبة من أبرز وألمع الفقهاء وأهل العلم في مصر، الذين اشترك معهم عدد من العلماء يمثّلون الشيعة الإمامية والزيدية .
صوت التقريب في رسالة الإسلام
ما الذي فعلته هذه الكوكبة من الرجال الذين التقوا على فكرة التقريب بين المذاهب، وراودهم حلم توحيد الاُمة وجمع كلمتها؟
إن كلّ من تحدّث في موضوع التقريب لابد أن يتوقف أو ينطلق من الفتوى التي أصدرها الشيخ محمود شلتوت بعدما صار شيخاً للأزهر، وهي الاُولى من نوعها في حدود علمي. التي أجازت التعبّد على مذهب الشيعة الإمامية والزيدية، وكثيرون ينسون أن الشيخ شلتوت(رحمه الله) كان من مؤسّسي جماعة التقريب بين المذاهب، وأن الفتوى من ثمار جهد
علمائها الذي تواصل حثيثاً لمدة عشرين عاماً تقريباً .
إلى جانب الفتوى، فإن جماعة التقريب أصدرت مجلة جامعة باسم «رسالة الإسلام» ظلّت تصدر طيلة أربعة عشر عاماً، كما أنها اعتمدت تفسيراً للقرآن اجتمع عليه علماء السنّة والشيعة هو تفسير «مجمع البيان لعلوم القرآن» للطبرسي، الذي استغرقت تهيئة نشره مدة عشرين عاماً، وأشرف على هذه العملية ثلاثة من أكابر علماء الأزهر هم الشيوخ: عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت ومحمد المدني، وفي حدود علمي فإنهم شرعوا في تجميع الأحاديث النبوية المتّفق عليها بين السنّة والشيعة، وقطعوا شوطاً طيّباً في هذا الصدد، رغم أن هذا الجهد لم ير النور بعد.
وإذا ألقينا نظرة ثاقبة على ما حقّقته اللجنة في عمرها القصير، نلاحظ ما يلي:
? إنّها أحيت فكرة التقريب، وجمعت من حولها كبار علماء السنّة والشيعة، وكان عملها هذا أهلياً محضاً، حركته الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولم تكن لهذا العمل علاقة بأيّ نظام سياسي أو مؤسّسة رسمية.
? إنها طرحت مشروعها من خلال مجلة «رسالة الإسلام» التي ظلّت تخاطب المسلمين كافة طيلة أربعة عشر عاماً .
? إنها نجحت في ضم الفقه الشيعي إلى المذاهب الإسلامية الاُخرى التي تخضع للدراسة في منهج الفقه المقارن بالأزهر الشريف .
? إنها قطعت شوطاً كبيراً بإصدار تفسير للقرآن متّفق عليه، وسعت إلى تحقيق نفس الفكرة عن طريق تجميع الأحاديث النبوية المتّفق عليها أيضاً .
? معنى ذلك أن جماعة التقريب أنجزت خطى بالغة الأهمية
على صعيد تحويل التقريب من حلم وفكرة، إلى عمل مشترك جاد، تبلور في مجموعة من الآثار العلمية التي بقيت لأجيال المسلمين إلى يوم الدين .
إعلان الحرب ضدّ الفرقة
إذا كان تفسير الطبرسي نموذجاً للعمل العلمي الذي ترجم عملية التقريب، فإن الأفكار التي طرحتها مجلة «رسالة الإسلام» تمثّل صلب المشروع، وتعكس كيفية رؤية أصحابه له، ولذلك فإنها تعدّ بحق صوت التقريب، الأمر الذي يجعلها جديرة بأن تصبح مادة للدراسة المعمَّقة، ولذلك فهي بحاجة إلى وقفة أطول .
إن قارئ أعداد المجلّة يلاحظ أنها ظلّت طيلة الأربعة عشر عاماً تتحرّك على محاور عدّة، في مقدّمتها خمسة سنعرض لها بالتوالي هي: استنكار فرقة المسلمين، الدفاع عن الحقّ في الاختلاف، رفض توحيد المذاهب، الاُصول المتّفق عليها بين أهل السنّة والشيعة، ومن ثم السعي الدؤوب للتنبيه إلى مساحة المشترك بين الطرفين ردّ الشبهات التي تتردّد في أوساط أهل السنّة بشأن الشيعة ومذهبهم .
فيما يتعلّق باستنكار فرقة المسلمين وتمزّقهم، فإنه لا يكاد نصّ في المجلة يخلو من تعبير عنه، وقد توقفت عند مقالة في الموضوع نشرها الشيخ محمّد الغزالي تحت عنوان «على أوائل الطريق» استهلّها بكلام للمستشرق المجري جولد تسيهر ذكر فيه أن الملك «نادر شاه» (المتوفى سنة 1747م) سعى جاداً كي يعقد مع الأتراك صلحاً فبقي الجوّ بين الشيعة والسنّة، ويضع حدّاً للخلاف القائم بين الفريقين، ووضع لذلك مشروعاً جيداً كاد يخرج إلى حيز التنفيذ، لولا أن المنية عاجلته فمات دون أن تتحقق اُمنيته، وقد أشارت كتابات الفقيه السُّني عبد اللّه بن حسين السويدي، الذي كان معاصراً لتلك الفترة، إلى أن نادر شاه عقد مجمعاً دينياً جمع فيه فقهاء الفريقين، وقد اتفق هؤلاء الفقهاء على ضم التشيع إلى المذاهب السنّية الأربعة وجعله مذهباً خامساً يقبل به كافة المسلمين، وقد صار من السهل بعد قليل، بموجب هذا الاتفاق. أن يخصّص مقام خامس للمذهب الجعفري في دائرة الحرم المكي بجواز مقامات المذاهب الأربعة السنّية، وصار لزاماً منذ ذلك الوقت الاقرار بسنّية هذا المذهب .
امتدح المستشرق المجري هذه الخطوة، لكنّه قال: إن حلم التوفيق بين الطرفين كان أمنية بعيدة، ذلك أن «الحقد المتوارث الذي يحمله كلا الفريقين للآخر والضغائن التي شطرت فقهاء المذهبين شطرين. جعلتهم بعد موت نادر شاه لا يتصوبون سياسة التسامح والوفاق» .
علّق الشيخ الغزالي على ما كتبه جولد تسيهر قائلا: لقد أحسست وخزاً في فؤادي وأنا أقرأ كلمة الإسلام الشيعي والإسلام السنّي، التي تردّدت على لسان المستشرق المجري مراراً، وتساءل: ما الذي حدث حتى نكب الإسلام بهذه الفرقة؟ في ردّه قال: الحقيقة أن هناك اُناساً لا يتّقون اللّه في دينهم ولا في اُمّتهم، أطلقوا غيوماً داكنة من الإشاعات والظنون، كانت العملة الدفينة في تمزيق الشمل، وملء الرؤوس بطائفة من التصورات الباطلة والمشاعر المنحرفة، وجماهير العامّة. للأسف الشديد ضحايا لتجاذب متبادل لا أساس له، ويوم ينكشف الغطاء عن الحقيقة، سيحزن كثيرون لما أرسلوا من أحكام وأطلقوا من عبارات .
للمقال صلة
______
التقريب بين المذاهب الإسلامية
أولى من الانشغال بالتفريق بينها
* فهمي هويدي ـ مصر
ممّا نأسف له أن نفراً غير قليل من المسلمين مشغولون بالتفريق وليس بالتقريب، وليس ذلك مقصوراً على عوام المسلمين وحدهم، ولكنه ينطبق أيضاً على النخبة، من المثقّفين وأهل العلم، ولعل الجدل الذي ثار على صفحات المجلة حول تحوّل أحد رموز حركة الجهاد الإسلامي من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي يعد نموذجاً لتجليات التفريق التي مازالت مترسّبة بين أصحاب المذاهب الإسلامية.
وممّا يلاحظه المرء فيما يخصّ أهل العلم أنهم في السابق. الاربعينيات مثلاً، كانوا أكثر حماساً للتقريب بين المذاهب، من أقرانهم في التسعينات، الأمر الذي يدعونا إلى التفكير في الأسباب التي أدت إلى ذلك .
حين تراجع استقلال العلماء
لن أعمّم، لكني سأضرب مثلاً بعلماء الأزهر الشريف، الذي هو أقدم وأعرق جامعة إسلامية، حيث أزعم أنّني قريب من أجوائه في مصر، بحكم الاعتبار الجغرافي على الأقل. وإذا ألقينا السؤال، لماذا كان حماس أهله في الأربعينيات للتقريب أكبر وأوضح منه في التسعينات، فإن الإجابة الحاضرة في ذهني الآن هي: أن الفرق بين المرحلتين يكمن في اختلاف طبيعة العلاقة بين العلماء والسلطة في كلّ منهما، ففي ذلك الوقت المبكّر كان الأزهر وعلماؤه يتمتعون بقدر من الاستقلال، سمح لهم بأن يتّخذوا مواقف ويعبّروا عن آراء حرّة يبتغون بها وجه اللّه، دون أن يكون للسلطة شأن بها، وكان ذلك بعضاً من تجلّيات المرحلة اللبرالية النسبية التي عاشتها مصر آنذاك .
في التسعينات، في ظلّ استمرار تراجع الهامش الديمقراطي وتعاظم دور الدولة، لم يكن بمقدور العلماء أو الأزهر أن يتحرّكوا بعيداً عن سلطات الدولة ولا سياساتها، ولذلك فإن الخلاف السياسي مع إيران أدى تلقائياً إلى تراجع عملية التقريب، بل وفتح الباب في أقطار عربية عدّة، وليس في مصر وحدها، لتعميق التفريق، وتقديم التخاصم والتقاطع على التلاقي والتفاهم، وكانت النتيجة أن تراجعت علائق السنّة والشيعة عمّا
كانت عليه قبل نصف قرن مضى .
بكلّ المقاييس فأوضاع التسعينيات أفضل بكثير من أوضاع الأربعينيات، فهذه الأخيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كانت مسكوتة بأجواء الإحباط واليأس، كانت الخلافة الإسلامية قد ألغيت في تركيا، وكان العالم العربي كلّه تقريباً يرزح تحت الاحتلال، وبدا الغرب في أوج قوّته، منتصراً في الحرب ومستعلياً كنموذج حضاري، ومع ذلك فقد انتعشت حركة التقريب على نحو مدهش كما سنرى بعد قليل .
في الثمانينات والتسعينيات كانت المشاعر الدينية قد تعالت مؤشّراتها، وسرى الانتعاش بدرجة أكبر في المجتمعات الشيعية، التي استقبلت بحفاوة حدث الثورة الإسلامية في إيران، ورغم أنه من المفترض في هذه الأجواء أن تكون الظروف مواتية للتقريب بدرجة أكبر، إلاّ إن ذلك لم يحدث للأسف الشديد، لأن رياح السياسة وضغوطها أصبحت أقوى، الأمر الذي لم يوفّر لجهود التقريب الدفعة القوية المرجوّة .
النخبة التي تحرّكت في الأربعينيات
وسواء اتسمت جهود التقريب بالبطء والحذر الآن، أو أن أصوات دعاة التفريق مازالت تجد من ينصت إليها ويستجيب لها، فإن تجربة التقريب التي تمّت في الأربعينيات، وتواصلت حتى أوائل الستينيات، تظلّ تجربة رائدة جديرة بأن نستحضرها ونتأمّلها ملياً .
وقبل استحضار تلك التجربة فإنني ألفت النظر إلى أن ما ذكرته عن أوضاع التقريب في الوقت الحاضر يصف الوضع على جملته، الأمر الذي لا ينبغي أن يصادر أصواتاً وجهوداً دافعت بإخلاص عن التقريب، وعنوحدة الاُمّة الإسلامية، غير أن هذه الجهود ظلّت استثنائية، وتعبّر عن مواقف أفراد لا مؤسّسات، وبالتالي فإن ثمارها ظلّت محدودة الأثر والنطاق.
يستوقفنا في تجربة الأربعينيات أنها بدأت بجهود أحد العلماء الإيرانيين هو محمد تقي الدين القمي، الذي كان قد هاجر من بلاده إلى مصر في عام 1937م، ورغم أن سيرته أو رحلته العلمية لم تسجّل، إلاّ إننا نعرف أنه جعل من التقريب بين السنّة والشيعة قضيته الأساسية، وأنه لم يكتف بالاتصال مع علماء الأزهر وشيوخه لهذا الغرض، وإنما مدّ جسوره مع مختلف التيارات والرموز المعنية بالوحدة الإسلامية وبمستقبل الاُمّة، ولذلك فإننا نلاحظ أن أوّل مجلس إدارة لجمعية التقريب، الذي تشكّل في عام 1947م جاء تجسيداً لتلك الجهود التي أشرت إليها، فقد اجتمع في المجلس نخبة من أبرز وألمع الفقهاء وأهل العلم في مصر، الذين اشترك معهم عدد من العلماء يمثّلون الشيعة الإمامية والزيدية .
صوت التقريب في رسالة الإسلام
ما الذي فعلته هذه الكوكبة من الرجال الذين التقوا على فكرة التقريب بين المذاهب، وراودهم حلم توحيد الاُمة وجمع كلمتها؟
إن كلّ من تحدّث في موضوع التقريب لابد أن يتوقف أو ينطلق من الفتوى التي أصدرها الشيخ محمود شلتوت بعدما صار شيخاً للأزهر، وهي الاُولى من نوعها في حدود علمي. التي أجازت التعبّد على مذهب الشيعة الإمامية والزيدية، وكثيرون ينسون أن الشيخ شلتوت(رحمه الله) كان من مؤسّسي جماعة التقريب بين المذاهب، وأن الفتوى من ثمار جهد
علمائها الذي تواصل حثيثاً لمدة عشرين عاماً تقريباً .
إلى جانب الفتوى، فإن جماعة التقريب أصدرت مجلة جامعة باسم «رسالة الإسلام» ظلّت تصدر طيلة أربعة عشر عاماً، كما أنها اعتمدت تفسيراً للقرآن اجتمع عليه علماء السنّة والشيعة هو تفسير «مجمع البيان لعلوم القرآن» للطبرسي، الذي استغرقت تهيئة نشره مدة عشرين عاماً، وأشرف على هذه العملية ثلاثة من أكابر علماء الأزهر هم الشيوخ: عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت ومحمد المدني، وفي حدود علمي فإنهم شرعوا في تجميع الأحاديث النبوية المتّفق عليها بين السنّة والشيعة، وقطعوا شوطاً طيّباً في هذا الصدد، رغم أن هذا الجهد لم ير النور بعد.
وإذا ألقينا نظرة ثاقبة على ما حقّقته اللجنة في عمرها القصير، نلاحظ ما يلي:
? إنّها أحيت فكرة التقريب، وجمعت من حولها كبار علماء السنّة والشيعة، وكان عملها هذا أهلياً محضاً، حركته الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولم تكن لهذا العمل علاقة بأيّ نظام سياسي أو مؤسّسة رسمية.
? إنها طرحت مشروعها من خلال مجلة «رسالة الإسلام» التي ظلّت تخاطب المسلمين كافة طيلة أربعة عشر عاماً .
? إنها نجحت في ضم الفقه الشيعي إلى المذاهب الإسلامية الاُخرى التي تخضع للدراسة في منهج الفقه المقارن بالأزهر الشريف .
? إنها قطعت شوطاً كبيراً بإصدار تفسير للقرآن متّفق عليه، وسعت إلى تحقيق نفس الفكرة عن طريق تجميع الأحاديث النبوية المتّفق عليها أيضاً .
? معنى ذلك أن جماعة التقريب أنجزت خطى بالغة الأهمية
على صعيد تحويل التقريب من حلم وفكرة، إلى عمل مشترك جاد، تبلور في مجموعة من الآثار العلمية التي بقيت لأجيال المسلمين إلى يوم الدين .
إعلان الحرب ضدّ الفرقة
إذا كان تفسير الطبرسي نموذجاً للعمل العلمي الذي ترجم عملية التقريب، فإن الأفكار التي طرحتها مجلة «رسالة الإسلام» تمثّل صلب المشروع، وتعكس كيفية رؤية أصحابه له، ولذلك فإنها تعدّ بحق صوت التقريب، الأمر الذي يجعلها جديرة بأن تصبح مادة للدراسة المعمَّقة، ولذلك فهي بحاجة إلى وقفة أطول .
إن قارئ أعداد المجلّة يلاحظ أنها ظلّت طيلة الأربعة عشر عاماً تتحرّك على محاور عدّة، في مقدّمتها خمسة سنعرض لها بالتوالي هي: استنكار فرقة المسلمين، الدفاع عن الحقّ في الاختلاف، رفض توحيد المذاهب، الاُصول المتّفق عليها بين أهل السنّة والشيعة، ومن ثم السعي الدؤوب للتنبيه إلى مساحة المشترك بين الطرفين ردّ الشبهات التي تتردّد في أوساط أهل السنّة بشأن الشيعة ومذهبهم .
فيما يتعلّق باستنكار فرقة المسلمين وتمزّقهم، فإنه لا يكاد نصّ في المجلة يخلو من تعبير عنه، وقد توقفت عند مقالة في الموضوع نشرها الشيخ محمّد الغزالي تحت عنوان «على أوائل الطريق» استهلّها بكلام للمستشرق المجري جولد تسيهر ذكر فيه أن الملك «نادر شاه» (المتوفى سنة 1747م) سعى جاداً كي يعقد مع الأتراك صلحاً فبقي الجوّ بين الشيعة والسنّة، ويضع حدّاً للخلاف القائم بين الفريقين، ووضع لذلك مشروعاً جيداً كاد يخرج إلى حيز التنفيذ، لولا أن المنية عاجلته فمات دون أن تتحقق اُمنيته، وقد أشارت كتابات الفقيه السُّني عبد اللّه بن حسين السويدي، الذي كان معاصراً لتلك الفترة، إلى أن نادر شاه عقد مجمعاً دينياً جمع فيه فقهاء الفريقين، وقد اتفق هؤلاء الفقهاء على ضم التشيع إلى المذاهب السنّية الأربعة وجعله مذهباً خامساً يقبل به كافة المسلمين، وقد صار من السهل بعد قليل، بموجب هذا الاتفاق. أن يخصّص مقام خامس للمذهب الجعفري في دائرة الحرم المكي بجواز مقامات المذاهب الأربعة السنّية، وصار لزاماً منذ ذلك الوقت الاقرار بسنّية هذا المذهب .
امتدح المستشرق المجري هذه الخطوة، لكنّه قال: إن حلم التوفيق بين الطرفين كان أمنية بعيدة، ذلك أن «الحقد المتوارث الذي يحمله كلا الفريقين للآخر والضغائن التي شطرت فقهاء المذهبين شطرين. جعلتهم بعد موت نادر شاه لا يتصوبون سياسة التسامح والوفاق» .
علّق الشيخ الغزالي على ما كتبه جولد تسيهر قائلا: لقد أحسست وخزاً في فؤادي وأنا أقرأ كلمة الإسلام الشيعي والإسلام السنّي، التي تردّدت على لسان المستشرق المجري مراراً، وتساءل: ما الذي حدث حتى نكب الإسلام بهذه الفرقة؟ في ردّه قال: الحقيقة أن هناك اُناساً لا يتّقون اللّه في دينهم ولا في اُمّتهم، أطلقوا غيوماً داكنة من الإشاعات والظنون، كانت العملة الدفينة في تمزيق الشمل، وملء الرؤوس بطائفة من التصورات الباطلة والمشاعر المنحرفة، وجماهير العامّة. للأسف الشديد ضحايا لتجاذب متبادل لا أساس له، ويوم ينكشف الغطاء عن الحقيقة، سيحزن كثيرون لما أرسلوا من أحكام وأطلقوا من عبارات .
للمقال صلة
______