من هناك
03-14-2007, 03:04 PM
المرأة الحمقاء
ذات مرةٍ كان لرجلٍ امرأةٌُ.
كانت مثل البحر، فالبحر يتغير مع كل هبة ريح، ولكنه على كل حالٍ لن يكبر ولن يصغر، كما أنه لن يتغير طعمه ، ولن يزداد مذاقه عسراً أو يسراً إذا مرّت عليه الريح ، ثم يسكن ثانيةً وهو كما هو، وكأن شيئاً لم يكن، وفي يومٍ من الأيام كان لزاماً على هذا الزوج أن يسافر.
ولمّا كان عليه أن يذهب بعيداً وأن يغيب عن البيت لمدةٍ طويلةٍ ، فقد ترك لزوجته كل ما كان يملكه؛ بيته و ورشته والحديق المحيطة بالبيت وكل المال الذي كان قد كسبه في حياته ،
وقال لها: "هذا هو كل ما أملك من مال، وهو الأن بين يديك وتحت تصرفك ، فاعتني به." ،
فتعلقت بعنقه وبكت ، وقالت له: "وكيف ينبغي لي هذا؟! فأنا امرأةُ حمقا ولا أحسن التصرف في أي شيء." ، فنظر إليها وقال :"إذا كنتِ تُحبينني حقاً فسيكون ذلك الأمر بإمكانك." ثم ودعها ومضى لشأنه.
وحيث كان على تلك المرأة أن تبقى طوال هذه المدة بمفردها ، فقد انتابها خوفٌ شديد على ما في يديها الضعفتين، وكانت قلقة جداً بسبب تلك الأمانة ، ولذلك لجأت إلى أخيها ، ولكنه كان إنساناً خبيثاً و شريراً حيث كان يغشها ويخدعها ، ولذا أخذ مالها يتناقص على الدوام ، ولمّا لاحظت ذلك أصابها اليأس والإحباط بدلاً من أن تواجه أخيها بذلك ، ولم عد لديها رغبةً في أن تأكل أي شيء حتى لاينقص المال أكثر مما يأخذه أخوها ، ولم تعد تنام الليل بأكمله حتى أصابها المرض جراء ذلك.
ولمّا وصلت إلى هذا الحال كانت ترقد طوال اليوم في حجرتها الصغيرة ، ولم يعد بإمكانها أن تلاحظ ما يدور في البيت الذي خرب ، وباع أخوها منه الحديقة والورشة، ولم يخبرها بذلك ، وهى راقدةٌ على وسادتها كما هي ، وكانت تظن: أنها إن لم تقل شئ ولم تتدخل في شئ فإن هذا من الكياسة وحسن التصرف، وإن امتنعت عن الطعام فهذا يحافظ على المال من النقصان.
وعلى هذا الحال حدث أن يوماً ما كان لابد وأن يُباع المنزل بالمزاد، ولذلك أتى كثيرٌ من الناس من كل مكان حيث كان منزلاً جميلاً ، وكانت المرأة ترقد في حجرتها الصغيرة وهي تسمع الناس المجتمعين خارج المنزل، ولمّا رسا المزاد على أحدهم كان بقية الناس يضحكون ، وهم يقولون :" إنّ ماء المطر يخر من سقف هذا البيت ، والسور متهدمٌ ومنهار." وعندئذٍ أصابها الضعف والوهن ، وراحت في النوم.
ولما استيقظت ثانيةً، انتقلت لتقد على سريرٍ يابسٍ صلبٍ في حجرةٍ صغيرةٍ من الخشب ، وليس بها سوى نافذة غايةً في الصِغر على ارتفاعٍ سحيق، وينفذ من كل مكانٍ في تلك الحجرة رياحٌ باردة ، وبعد ذلك دخلت عليها امرأةٌ عجوزٌ وأغلظت لها القول، وقالت لها أنها باعت منزلها ، ومع ذلك لم تُسدد الدين ولم يفي ثمن المنزل بالديون المتراكمة عليها، وأنها الأن تعيش عالةً على غيرها ، وعلى شفق الناس وعطفهم عليها وهي لا تستحق ذلك، وإنما زوجها هو الأحق بالإشفاق عليه ؛ فهو الأن ما عاد يملك شيئاً على الإطلاق، وكانت المرأة تسمع هذا الكلام وهي مُشوشة الفكر ، شاردة الذهن، ولكنها نهضت من مكانها ، وبدأت منذُ ذلك اليوم في العمل بالقرب من منزلها، وفي الحقول الموجودة حول المنزل ، وأصبحت تسير بملابسٍ متسخةٍ، وتكاد لا تأكل شيئاً ولا تنفق شيئاً لأنها لم تعد تشتهي شيئاً، وذات مرةٍ سمعت أن زوجها قد عاد من السفر.
فخافت خوفأً شديداً، وذهبت بسرعٍ ولمّت شعرها ، وبحثت عن ثيابٍ نظيفةٍ لتلبسها، ولكنها لم تجد شىء، وبعد ذلك خرجت من بابٍ صغيرٍ خلف المنزل، ثم ولّت هاربةً إلى أي مكان.
وبعد أن جرت لبعض الوقت ، خطر ببالها أنه زوجها وأنهما كانا قد تزوجا عن رضا وحب وهي الأن تفر منه، فارتدت على آثارها ورجعت من حيث أتت، ولم تعد تفكر في البيت والورشة ولا في الثياب التي تلبسها، ونظرت إليه من بعيدٍ، ثم سارت نحوه ، وتعلقت بعنقه، وظل الرجل واقفاً مكانه في وسط الشارع ،والناس يضحكون عليه من وراء أبواب بيوتهم، وكان غاضباً جداً لما يحدث حوله، ولكن زوجته ظلت متعلقةٌ بعنقه، ولم تُبعد رأسها عن عنقه، فشعر بها وهي ترتعش ،واعتقد أنها خائفة لأنها قد أضاعت كل شئ، ولكنه لمّا رفع وجهها نحوه ونظر إليه، وجد أن رعشتها ليست من الخوف بل من فرحتها بعودته....
عندئذٍ طوقها بذراعيه وأحس جيداً أنّ كتفيها قد نَحلا من العمل ، فقبلها وسعد بها.
بيرتولت بريخت.
قام بالترجمة/ أحمد فوزى
ذات مرةٍ كان لرجلٍ امرأةٌُ.
كانت مثل البحر، فالبحر يتغير مع كل هبة ريح، ولكنه على كل حالٍ لن يكبر ولن يصغر، كما أنه لن يتغير طعمه ، ولن يزداد مذاقه عسراً أو يسراً إذا مرّت عليه الريح ، ثم يسكن ثانيةً وهو كما هو، وكأن شيئاً لم يكن، وفي يومٍ من الأيام كان لزاماً على هذا الزوج أن يسافر.
ولمّا كان عليه أن يذهب بعيداً وأن يغيب عن البيت لمدةٍ طويلةٍ ، فقد ترك لزوجته كل ما كان يملكه؛ بيته و ورشته والحديق المحيطة بالبيت وكل المال الذي كان قد كسبه في حياته ،
وقال لها: "هذا هو كل ما أملك من مال، وهو الأن بين يديك وتحت تصرفك ، فاعتني به." ،
فتعلقت بعنقه وبكت ، وقالت له: "وكيف ينبغي لي هذا؟! فأنا امرأةُ حمقا ولا أحسن التصرف في أي شيء." ، فنظر إليها وقال :"إذا كنتِ تُحبينني حقاً فسيكون ذلك الأمر بإمكانك." ثم ودعها ومضى لشأنه.
وحيث كان على تلك المرأة أن تبقى طوال هذه المدة بمفردها ، فقد انتابها خوفٌ شديد على ما في يديها الضعفتين، وكانت قلقة جداً بسبب تلك الأمانة ، ولذلك لجأت إلى أخيها ، ولكنه كان إنساناً خبيثاً و شريراً حيث كان يغشها ويخدعها ، ولذا أخذ مالها يتناقص على الدوام ، ولمّا لاحظت ذلك أصابها اليأس والإحباط بدلاً من أن تواجه أخيها بذلك ، ولم عد لديها رغبةً في أن تأكل أي شيء حتى لاينقص المال أكثر مما يأخذه أخوها ، ولم تعد تنام الليل بأكمله حتى أصابها المرض جراء ذلك.
ولمّا وصلت إلى هذا الحال كانت ترقد طوال اليوم في حجرتها الصغيرة ، ولم يعد بإمكانها أن تلاحظ ما يدور في البيت الذي خرب ، وباع أخوها منه الحديقة والورشة، ولم يخبرها بذلك ، وهى راقدةٌ على وسادتها كما هي ، وكانت تظن: أنها إن لم تقل شئ ولم تتدخل في شئ فإن هذا من الكياسة وحسن التصرف، وإن امتنعت عن الطعام فهذا يحافظ على المال من النقصان.
وعلى هذا الحال حدث أن يوماً ما كان لابد وأن يُباع المنزل بالمزاد، ولذلك أتى كثيرٌ من الناس من كل مكان حيث كان منزلاً جميلاً ، وكانت المرأة ترقد في حجرتها الصغيرة وهي تسمع الناس المجتمعين خارج المنزل، ولمّا رسا المزاد على أحدهم كان بقية الناس يضحكون ، وهم يقولون :" إنّ ماء المطر يخر من سقف هذا البيت ، والسور متهدمٌ ومنهار." وعندئذٍ أصابها الضعف والوهن ، وراحت في النوم.
ولما استيقظت ثانيةً، انتقلت لتقد على سريرٍ يابسٍ صلبٍ في حجرةٍ صغيرةٍ من الخشب ، وليس بها سوى نافذة غايةً في الصِغر على ارتفاعٍ سحيق، وينفذ من كل مكانٍ في تلك الحجرة رياحٌ باردة ، وبعد ذلك دخلت عليها امرأةٌ عجوزٌ وأغلظت لها القول، وقالت لها أنها باعت منزلها ، ومع ذلك لم تُسدد الدين ولم يفي ثمن المنزل بالديون المتراكمة عليها، وأنها الأن تعيش عالةً على غيرها ، وعلى شفق الناس وعطفهم عليها وهي لا تستحق ذلك، وإنما زوجها هو الأحق بالإشفاق عليه ؛ فهو الأن ما عاد يملك شيئاً على الإطلاق، وكانت المرأة تسمع هذا الكلام وهي مُشوشة الفكر ، شاردة الذهن، ولكنها نهضت من مكانها ، وبدأت منذُ ذلك اليوم في العمل بالقرب من منزلها، وفي الحقول الموجودة حول المنزل ، وأصبحت تسير بملابسٍ متسخةٍ، وتكاد لا تأكل شيئاً ولا تنفق شيئاً لأنها لم تعد تشتهي شيئاً، وذات مرةٍ سمعت أن زوجها قد عاد من السفر.
فخافت خوفأً شديداً، وذهبت بسرعٍ ولمّت شعرها ، وبحثت عن ثيابٍ نظيفةٍ لتلبسها، ولكنها لم تجد شىء، وبعد ذلك خرجت من بابٍ صغيرٍ خلف المنزل، ثم ولّت هاربةً إلى أي مكان.
وبعد أن جرت لبعض الوقت ، خطر ببالها أنه زوجها وأنهما كانا قد تزوجا عن رضا وحب وهي الأن تفر منه، فارتدت على آثارها ورجعت من حيث أتت، ولم تعد تفكر في البيت والورشة ولا في الثياب التي تلبسها، ونظرت إليه من بعيدٍ، ثم سارت نحوه ، وتعلقت بعنقه، وظل الرجل واقفاً مكانه في وسط الشارع ،والناس يضحكون عليه من وراء أبواب بيوتهم، وكان غاضباً جداً لما يحدث حوله، ولكن زوجته ظلت متعلقةٌ بعنقه، ولم تُبعد رأسها عن عنقه، فشعر بها وهي ترتعش ،واعتقد أنها خائفة لأنها قد أضاعت كل شئ، ولكنه لمّا رفع وجهها نحوه ونظر إليه، وجد أن رعشتها ليست من الخوف بل من فرحتها بعودته....
عندئذٍ طوقها بذراعيه وأحس جيداً أنّ كتفيها قد نَحلا من العمل ، فقبلها وسعد بها.
بيرتولت بريخت.
قام بالترجمة/ أحمد فوزى