من هناك
03-10-2007, 02:40 PM
نعتذر من المتنبي
غسان شربل الحياة - 10/03/07//
كان الدرس عن أبي الطيب المتنبي. ولاسم هذا الشاعر في قاعات التدريس جاذبية ودوي. والمتنبي هو الاسم الذي يبقى في ذاكرة الناس حين ينسون كل الشعراء. من سبقوه في المجيء ومن تبعوه. وأكاد اتهم المتنبي بأنه قاتل الشعراء. تلمع نجومهم ثم تستحيل نيازك وتهوي. ويبقى هو متفرداً بتلك القدرة على عبور العصور. كمن له نقاد بعد نقاد. وكمن له شعراء أكلهم الحسد. نظمت ضده هجمات انتحارية فضاعفت وهجه.
كان الدرس عن المتنبي. وقف طالب ليسأل. واستعد الاستاذ فمن عادة التلامذة الاسراف في الاسئلة لفض أسرار قصائد هذا الصياد الرائي الذي لا يشبه إلا نفسه. وجاء السؤال: هل المتنبي سنّي أم شيعي؟. كان الاستاذ يتوقع كل انواع الأسئلة إلا هذا السؤال. ربما لرغبته في ابقاء نار الفتنة بعيدة عن رداء أكبر شعرائنا.
سمعت القصة البارحة على إحدى الفضائيات. ولأن مسرح السؤال - الكارثة بيروت انتابتني للوهلة الأولى أفكار مضحكة. قلت في نفسي ان الطالب وقع في اسر المتنبي. ومن فرط اعجابه اراد التأكد مما اذا كان يستطيع ضمه الى معسكره. فاذا ثبت ان المتنبي سني يمكن التعامل معه بوصفه قريباً من «تيار المستقبل». أي أنه مؤيد بلا تحفظ للمحكمة ذات الطابع الدولي ومعارض للثلث المعطل ولا يرى غضاضة في تصريحات السفير الأميركي. وإذا ثبت انه شيعي يمكن ادراجه في خانة معسكر الثامن من آذار (مارس). أي انه مؤيد للمحكمة لكن بعد اخضاعها لمجموعة جراحات تتناول الشرايين والانياب ومؤيد للثلث الضامن ولا يرى غضاضة في نصائح السفير الإيراني.
ذكرتني الحادثة البيروتية بما سمعته قبل اسابيع من صديق عائد من العراق. قال انه سمع ساهرين من أصحاب الألقاب الجامعية يتحدثون عن افتقار بعض المناهج الدراسية الى التوازن، وان عدد الكتاب والشعراء المنتمين الى أحد المذاهب يفوق المنتمين الى المذهب الآخر. وسمع أيضاً عن ضرورة تصحيح كتاب التاريخ. وبدا واضحاً خلال الجلسة ان الفرز المذهبي لا يكتفي بتسميم الحاضر وإنما يتلاعب بذاكرة الناس وذاكرة الكتب. وخشيت وأنا اسمعه أن نستيقظ فنرى المتنبي ملحقاً بالتيار الصدري وابن الرومي بـ «فيلق بدر» والأمر نفسه على الجبهة الأخرى. وروى الصديق ما يتعذر نقله لأنه من قماشة التمثيل بجثث قامات مضيئة في تاريخ الفكر والأدب. وتخيلت ماذا يمكن أن يكون رد فعل الجواهري أو بدر شاكر السياب إذا اكتشفا أنهما يمثلان اليوم أمام محاكم من هذا النوع.
المشهد مخيف فعلاً. قبل نصف قرن لم يكن يخطر ببال طالب في بيروت ان يوقف المتنبي على حاجز مذهبي ويطلب منه أوراقه. كانت الأسئلة في بيروت مهجوسة بالمستقبل والتقدم والحرية والابداع. وقبل نصف قرن كان حملة الألقاب الجامعية في بغداد يهجسون بمستقبل العراق والأمة.
إنه سؤال مقلق يراود كل من يعنيه المستقبل العربي. لماذا كانت غالبية عواصمنا قبل نصف قرن أرحب ومتعطشة للجديد وأكثر قدرة على التفاعل مع الآخر في الداخل والخارج؟ ولماذا تضيق عواصمنا اليوم بكتاب جريء وفكرة مختلفة ولماذا نحفر في الماضي لنقتل الحاضر ونسمح لثاراته ان تتجدد؟. وهل كتب للحي العربي من «القرية الكونية» ان يظل اسير خطوط التماس الدامية الملتهبة بدل الالتفات الى انشغال أحياء أخرى من هذه القرية بصناعة المستقبل؟
تسللت الفتنة الى الشوارع والمدارس والمنازل. انها تنذر بإحراق الحاضر والمستقبل وتشويه الماضي. يجب استنفار الأمة ضد الفتنة. مسؤولية مواجهتها تقع على الحاكم والمعارض والكاتب والمربي. وفي انتظار يقظة بحجم الأخطار التي يطلقها باعة السموم تراودني رغبة في الاعتذار من المتنبي عن أسئلة تُطرح في بيروت وبغداد وعواصم اخرى.
غسان شربل الحياة - 10/03/07//
كان الدرس عن أبي الطيب المتنبي. ولاسم هذا الشاعر في قاعات التدريس جاذبية ودوي. والمتنبي هو الاسم الذي يبقى في ذاكرة الناس حين ينسون كل الشعراء. من سبقوه في المجيء ومن تبعوه. وأكاد اتهم المتنبي بأنه قاتل الشعراء. تلمع نجومهم ثم تستحيل نيازك وتهوي. ويبقى هو متفرداً بتلك القدرة على عبور العصور. كمن له نقاد بعد نقاد. وكمن له شعراء أكلهم الحسد. نظمت ضده هجمات انتحارية فضاعفت وهجه.
كان الدرس عن المتنبي. وقف طالب ليسأل. واستعد الاستاذ فمن عادة التلامذة الاسراف في الاسئلة لفض أسرار قصائد هذا الصياد الرائي الذي لا يشبه إلا نفسه. وجاء السؤال: هل المتنبي سنّي أم شيعي؟. كان الاستاذ يتوقع كل انواع الأسئلة إلا هذا السؤال. ربما لرغبته في ابقاء نار الفتنة بعيدة عن رداء أكبر شعرائنا.
سمعت القصة البارحة على إحدى الفضائيات. ولأن مسرح السؤال - الكارثة بيروت انتابتني للوهلة الأولى أفكار مضحكة. قلت في نفسي ان الطالب وقع في اسر المتنبي. ومن فرط اعجابه اراد التأكد مما اذا كان يستطيع ضمه الى معسكره. فاذا ثبت ان المتنبي سني يمكن التعامل معه بوصفه قريباً من «تيار المستقبل». أي أنه مؤيد بلا تحفظ للمحكمة ذات الطابع الدولي ومعارض للثلث المعطل ولا يرى غضاضة في تصريحات السفير الأميركي. وإذا ثبت انه شيعي يمكن ادراجه في خانة معسكر الثامن من آذار (مارس). أي انه مؤيد للمحكمة لكن بعد اخضاعها لمجموعة جراحات تتناول الشرايين والانياب ومؤيد للثلث الضامن ولا يرى غضاضة في نصائح السفير الإيراني.
ذكرتني الحادثة البيروتية بما سمعته قبل اسابيع من صديق عائد من العراق. قال انه سمع ساهرين من أصحاب الألقاب الجامعية يتحدثون عن افتقار بعض المناهج الدراسية الى التوازن، وان عدد الكتاب والشعراء المنتمين الى أحد المذاهب يفوق المنتمين الى المذهب الآخر. وسمع أيضاً عن ضرورة تصحيح كتاب التاريخ. وبدا واضحاً خلال الجلسة ان الفرز المذهبي لا يكتفي بتسميم الحاضر وإنما يتلاعب بذاكرة الناس وذاكرة الكتب. وخشيت وأنا اسمعه أن نستيقظ فنرى المتنبي ملحقاً بالتيار الصدري وابن الرومي بـ «فيلق بدر» والأمر نفسه على الجبهة الأخرى. وروى الصديق ما يتعذر نقله لأنه من قماشة التمثيل بجثث قامات مضيئة في تاريخ الفكر والأدب. وتخيلت ماذا يمكن أن يكون رد فعل الجواهري أو بدر شاكر السياب إذا اكتشفا أنهما يمثلان اليوم أمام محاكم من هذا النوع.
المشهد مخيف فعلاً. قبل نصف قرن لم يكن يخطر ببال طالب في بيروت ان يوقف المتنبي على حاجز مذهبي ويطلب منه أوراقه. كانت الأسئلة في بيروت مهجوسة بالمستقبل والتقدم والحرية والابداع. وقبل نصف قرن كان حملة الألقاب الجامعية في بغداد يهجسون بمستقبل العراق والأمة.
إنه سؤال مقلق يراود كل من يعنيه المستقبل العربي. لماذا كانت غالبية عواصمنا قبل نصف قرن أرحب ومتعطشة للجديد وأكثر قدرة على التفاعل مع الآخر في الداخل والخارج؟ ولماذا تضيق عواصمنا اليوم بكتاب جريء وفكرة مختلفة ولماذا نحفر في الماضي لنقتل الحاضر ونسمح لثاراته ان تتجدد؟. وهل كتب للحي العربي من «القرية الكونية» ان يظل اسير خطوط التماس الدامية الملتهبة بدل الالتفات الى انشغال أحياء أخرى من هذه القرية بصناعة المستقبل؟
تسللت الفتنة الى الشوارع والمدارس والمنازل. انها تنذر بإحراق الحاضر والمستقبل وتشويه الماضي. يجب استنفار الأمة ضد الفتنة. مسؤولية مواجهتها تقع على الحاكم والمعارض والكاتب والمربي. وفي انتظار يقظة بحجم الأخطار التي يطلقها باعة السموم تراودني رغبة في الاعتذار من المتنبي عن أسئلة تُطرح في بيروت وبغداد وعواصم اخرى.