ابن خلدون
03-07-2007, 08:08 PM
جهاد بزي
(javascript://)...«أحدهم من آل دوغان كان يعمل إطفائياً وتقاعد. كان يؤيد عبد الناصر ويضعه في مراتب القديسين. تصادف أن أبلغه أحدهم أن هناك خطيباً في جامع الإمام علي بن أبي طالب يتناول عبد الناصر بالسوء أثناء خطبة الجمعة. فما كان منه إلا أن انتظر حلول يوم الجمعة التالية وذهب للصلاة واقتعد الصف الأول. وحين بدأ الخطيب بإلقاء خطبة الجمعة تناول فيها عبد الناصر كعادته مستغلاً خلافه مع المملكة العربية السعودية في مرحلة الحلف الاسلامي الذي اقامته المملكة. فما كان من صاحبنا إلا أن صعد الى المنبر وضرب الشيخ ضرباً مبرحاً دون ان يستطيع احد من المصلين التدخل خوفاً من بطشه. ثم قام ووضع العمامة على رأسه وبدأ يخطب في المصلين مهاجماً رجال الدين المرتزقة داعياً لعبد الناصر ومن مع عبد الناصر. ومن يومها غاب الشيخ المذكور عن هذا المنبر ولم يعد المصلون يرون له وجهاً. مات هذا القبضاي كمداً بعد أيام على انتخــاب بشير الجميل رئيســاً للجمهورية إذ لم يستطع الحياة في ظل شخــص كان معادياً لعبد الناصر».
هذه فقرة في كتاب «ذاكرة الرمل» للمحامي أسامة العارف. الرمل كان سمة جنوبي بيروت. على الرمل قام سجن عرف باسم سجن الرمل. وفي أواخر عهد العثمانيين شُقت طريق مشى الناس عليها الى الإمام الأوزاعي وسموها الجديدة. وهكذا ظلت.
إلى الرمال كان البيروتيون يخرجون في عطلاتهم وأعيادهم. يفلشون اغراضهم على هضبة الرمال ويصنعون نزهاتهم. وإلى الرمال راح البيروتيون يخرجون من وسط البلد وجواره ليبنوا ويقطنوا ويتزوجوا وينجبوا. هذا كان في العشرينات وما بعدها. نزح أهل الجبل ايضاً، اهل إقليم الخروب بخاصة. كبرت المنطقة. كان الواحد إذا وقف عند سجن الرمل ونظر شرقاً لا يرى إلا الرمال والبحر. لكن بيروت كانت تتمدد حيث تجد متسعاً. ومعها كانت الطريق الجديدة تكبر. في الستين ستقوم جامعة بيروت العربية ملاصقة للسجن نفسه. حين تنفجر حرب السنتين، يدخل مسلحون ويحررون المساجين. أكثر من 700 سجين. بعد شهر، يهدم طلاب الجامعة السجن في خطوة «ثورية». يقف رئيس متخرجي الجامعة يومها عصام الحوري على انقاض السجن تالياً ببهجة بياناً هاجم فيه من موقعه كـ«قوى وطنية عروبية» «القوى الإنعزالية الطائفية». ورفعت على أنقاض السجن لافتة تقول: هدم السجن (هو) رفض للتخلف، أداة للتغيير، ثورة في المجتمع».
هذه اللافتة وقعها اصحاب قرار الهدم و«وضع يد الجامعة على أرض السجن: خريجو الجامعة واتحاد طلابها العام والإتحاد العام لطلبة فلسطين». الإتحاد الأخير يحيل إلى المقاومة الفلسطينية. في الفاكهاني من الطريق الجديدة سكن أبو عمّار ومعه سكنت فتح. قبله، في أواخر الأربعينات، نُصبت مجموعة من الخيمات إلى جنوب المنطقة فوق الرمل أيضاً. هذا مخيم شاتيلا المؤقت بإنتظار العودة إلى فلسطين. في زمن آخر، جاء شاب صيداوي ليدرس في الجامعة ويعيش في المنطقة طالباً مجهولاً في نهر يجري من الطلاب الوافدين اليها يسكنون فيها ويدرسون في جامعتها ويغادرون بعد التخرج. الصيداوي الذي غادر إلى السعودية سيعود إلى الطريق الجديدة رجلاً اسمه رفيق الحريري. والمنطقة التي ضرب فيها قبضاي يوماً شيخاً تعرض لجمال عبد الناصر، ستستمر خزاناً شعبياً لأهل السنة والعروبة، وبعدما أحبت آل سلام وآل اليافي وآل الصلح، سترفع صور رفيق الحريري، ثم سيقف إلى جانبه لاحقاً ابنه سعد، ثم أخيراً، سينضم فؤاد السنيورة إلى الأب والإبن، في صور ثلاثية مركبة فوق حشد 14 آذار.
«يرحم أبوك»
بثقة ابن المنطقة يتمشى وسام في شوارع منطقته. يتخايل ببطء في شوارع وأزقة لا تختلف عن مثيلاتها في بيروت ولا تشي بخصوصية ما، إلا في طفرة الصور الثلاثية العملاقة المرتفعة في كل مكان. شوارع ترتفع على جانبيها الابنية العالية، وتتدلى من معظم شرفاتها الاعلام اللبنانية. وسام ذاته هو من يشي بالخصوصية. اللهجة البيروتية الخالية تقريباً من أي بياض، ووقوفه كل عشرين متراً لمصافحة رجل أو عجوز وتبادل التهليل المبالغ به بين من لم يلتقيا منذ مدة بـ«الأهلين» الطويلة والقبل ثم بالعبارة التي يصر عليها من يلتقيه وسام: «الله يرحم أبوك».
الترحم على والد وسام المتوفى منذ سنوات، لا يشبه عادات المدينة. هو من عادات «المنطقة» التي نشأت على «احترام كبارها». «كانت كلمة كبير العائلة هي الفصل بالنسبة الى العائلة برمتها، وفي المناسبات كافة، من السياسة إلى الزواج. حين يتخذ سعد الله الباشا أو علي البرجاوي أو راشد الحوري أو جميل الروّاس قراراً بالنسبة لسياسي (الاقتراع لصالحه او ضده في الإنتخابات)، تلتزم عائلاتهم بقرارهم لأنها كانت تعرف أن مصلحة العائلة يخوضها كبيرها فحسب». المتحدث هو المحامي محي الدين دوغان. ستيني ولد في الطريق الجديدة وعاش فيها وخاض الإنتخابات على لائحة رفيق الحريري سنة 1996 ولم يحالفه الحظ. هو إبن «قبضاي» من قبضايات طريق الجديدة وبيروت معاً، أي راشد دوغان. في الصور، نرى راشد في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين رجلاً نحيلاً يعتمر الطربوش التركي ويرتدي اللباس العربي. يجلس مع زملائه من القبضايات في المقهى أو يقف معهم في باحة الجامع العمري بعد أداء صلاة العيد. في صور أخرى يستضيف راشد في منزله سياسيي ذاك الزمان. شارل الحلو وسامي الصلح وغيرهما. «القبضاي لم يكن يحمل مسدساً واحداً بل مسدسين» يقول دوغان. هذا لا يعني شراً. «فالقبضاي كان زعيماً في عمل الخير ومحبة الآخرين ومساعدة أبناء المنطقة. كانت هذه الزعامات تتكافل على فعل الخير. احكي هذه الحكاية: بعد أربعة ايام على الغياب المتواصل لأحد زبائن الحاج سعيد حمد إلى المقهى، حيث كانت الزعامات تلتقي، افتقده الحاج فقام ليزوره. الرجل قال إنه مريض. جاء الحاج بالدكتور محمد خالد (لاحقاً ستقوم مؤسسة خيرية باسمه). فحصه الدكتور فوجده معافى. أخذ الحاج جانباً وقال له إن الرجل على ما يبدو بحاجة الى المال ويخجل من البوح. هذه 25 ليرة مني وتدبر بعض المال من أجله. وهكذا فعل الحاج. جمع من رفاقه المال واشتروا أغراضاً وضعوها عند باب بيته وطرقوا الباب وهربوا. في اليوم التالي عاد الرجل إلى المقهى وكأن شيئاً لم يكن».
أخلاق أيام زمان التي يستعيدها دوغان بحنين لا تنفي أهمية هؤلاء الكبار كمفاتيح إنتخابية كانت عيون عبد الله اليافي وصائب سلام وسامي الصلح دائماً عليها. يقول أسامة العارف «إن الزعامات كانت موزعة الولاء بين هذه العائلات السياسية الثلاث. لكن هذا لم يمنع انتقال زعماء الاحياء من حضن سياسي الى خصمه بحسب التقديمات التي يقدمها هذا السياسي أو ذاك».
السياسة كانت تجري في دم المقاهي الشعبية في الطريق الجديدة. هذا حال لن يتغير. المقاهي في أي انتخابات مفترضة منذ العام 1992 هي مكاتب انتخابية في معظمها للحريري خلال وبعد 1996 أباً ثم ابناً.
كذلك كان مقهى البرجاوي في الانتخابات الأخيرة. اليوم تلصق على الجدار عبارة: «يرجى عدم التكلم في السياسة». في المقهى الواسع شبه الفارغ يجلس مسنون يلعبون ورق الشدة، ويجلس صاحب المقهى إلى طاولة كبيرة وخلفه في إطار صورة لرفيق الحريري وقصيدة عمودية في مديحه. صاحب المقهى محمود البرجاوي حزين، على طريقته البيروتية المرحة، لما آلت إليه المقاهي: «والقرآن ما حدا عم يدفع. بدنا نسكّر. المصلحة ما عادت متل الأول. حطينا ورقة إنو لطفاً ورجاء عدم الاحراج طلب ألف ليرة بس مع كل ارجيلة.. ما حدا عاد إجا».. (على الزبون ان يبتاع مشروباً ساخنا بألف ليرة مع الأركيلة بالتبغ العجمي وثمنها ألفا ليرة). يقطع محمود سيل كلامه ليجيب شاباً يسأله: «أنا هون وين بدي روح.. ثم يتابع: الشباب ما بتجي لأنو ما عنا معسل». يشير إلى المكيفات. ملفوفة بالنايلون منذ سنتين، توفيراً للكهرباء. لماذا يمنع السياسة؟ لأن زبائنه من الشيعة والسنة والفلسطينيين. لماذا لا يبدل المقهى إلى أي تجارة اخرى؟ يقول بالفصحى: نسعى للتغيير حين يتغير الحال». التغيير ليس وارداً عنده قبل أن يصير حال البلد أفضل.
فيتنام
لكن الأحوال تتغير. شمس القبضايات ـ الزعامات البيروتية راحت تغرب شيئاً فشيئاً مع سطوع شمس الثورة الفلسطينية. «إبراهيم قليلات كان من المستفيدين من هذا التغيير. كان وارثاً لزعامة حي عن والده، فإذا به، مع انقلابه على صائب بيك «السعودي الهوى»، والتزامه بعبد الناصر والثورة الفلسطينية، يتحول إلى زعيم منطقة، ثم لاحقاً إلى زعيم على بيروت الغربية كلها. كانت الطريق الجديدة تتحول. لم تعد حكراً على مجتمعها البيروتي المحافظ بشدة. سكن في المنطقة فلسطينيون واردنيون وغيرهم من «فتح» وهولاء كانوا متعلمين وليبراليين راحوا يغيرون من المشهد العام للمكان. الجامعة العربية أيضاً غيّرت في هذا المجتمع الأبوي الصارم. صرت ترى شاباً وشابة يمشيان جنباً إلى جنب، وصار أهل المنطقة يؤجرون غرفاً في بيوتهم للطلاب». يقول العارف لـ«السفير»، ونقرأ من «ذاكرة الرمل»: بعد انشاء جامعة بيروت العربية عرفت المنطقة مقاهي رصيف متعددة قريبة من الجامعة. كان كل مقهى يحتوي وقتها ما كان شائعاً وهو آلة «جوك بوكس» التي تتضمن مجموعة من الاسطوانات لاغان رائجة، فكان مراهقو المنطقة يتواعدون في هذه المقاهي يسمعون الاغنيات التي يحبونها...».
مقاهي الرصيف الغربية الطابع لم تعد موجودة. لكن، وخلف الجامعة العربية، تصطف الآن مطاعم كثيرة، تقدم إلى الطعام، نارجيلة المعسل للطلاب. مبنى الهندسة يرتفع عالياً تفصله طريق عن الحرم الاساسي. لطالما كان الدخول إلى الجامعة العربية سهلاً على العكس من الجامعة الاميركية مثلاً. اليوم بات التفتيش دقيقاً. الدخول حكر على الطلاب. لا يوجد إتحاد عام لطلبة الجامعة ليحتج. الانتخابات الطالبية ملغاة منذ زمن بعيد. وفوق الشارع الذي يفصل بين مبنى الهندسة والحرم الجامعي، ترتفع صورتان عملاقتان: رفيق الحريري وفؤاد السنيورة. صبرا تقع في ظهر مبنى الهندسة. شارع صبرا المحسوب على الطريق الجديدة موحل ومحلاته شعبية. يتلاصق فيها محلان من دون واجهات زجاج: محل حلويات يعرض حلوياته على مصطبة امامه، ومحل لبيع أمعاء الذبائح وسيقانها وعظام رؤوسها. هنا فقط يصير للمكان خصوصية الفقر. من الأزقة الضيقة لهذا المكان خرج شبان بعصي ليصدوا «الهجوم على الطريق الجديدة».
«في هذا الشارع كان كل العالم موجودا»، يقول وسام، «كل حركات التحرر العالمية كان لها فروع هنا. اللافتة التي حفرت في ذاكرة وسام من هذا الشارع بالذات كان مكتوباً عليها بالأحمر: إرفعوا أيديكم عن فيتنام».
أسماء الصحابة
يخرج سعد الدين البرجاوي من مقهاه الصغير ليفض مشكلاً وقع لتّوه. يمشي في منتصف الشارع ويعود جارّاً شاباً عتعيتاً كان طرفاً في معركة غير متكافئة مع مراهق نزق. الشاب يسمع كلمة صديقه سعد الدين. هذا شارع البرجاوي. العائلة تشير إلى أصلها، من برجا. هي من العائلات الكثيرة التي صارت الطريق الجديدة مسقط رأسها. صوت واحد من سعد الدين ينزل ألف شاب على ما يقول. الرجل الخمسيني شخصية «طريق جديدية» نموذجية. لاعب كرة قدم عتيق، كان هدّافاً لفريق النجمة في أحد مواسم هذا النادي، وهو أول من سجل في مباراة بين النجمة والإنصار عقب صعود هذا الأخير الى مصاف الدرجة الاولى. خسر الانصار يومها. الطريق الجديدة صنعت أهم لاعبي كرة القدم. المساحات الرملية كانت كثيرة والملعب البلدي كان موجوداً قبل الجميع. سعد الدين سيعود فيشجع الأنصار. عالم كرة القدم ليس تفصيلاً عادياً في حياة الطريق الجديدة. سعد الدين يروي أنه صادق لاعبين مثل بسام همدر وعلي الحاج وأحمد بنوت لسنوات فناموا في بيته وأكلوا في صحنه، لم يعلم إلا لاحقاً ما هو مذهبهم. «السنة والشيعة لم تكن واردة في قاموس المنطقة». لكن، «خلقوا لنا النعرة الطائفية.. وشئت أم أبيت، ستكون مع أولاد منطقتك.. مع الأنصار». يلجأ إلى مثل آخر لإيضاح فكرته: «الشيعي يحب السيد حسن ونبيه بري. وأنا لو قال لي الشيخ سعد ارمِ حالك من الطابق السابع بدي أرمي حالي».
هذا الربط من أدبيات الصراع الأشد علنية بين الناديين والجمهورين. يحاول الدائرون في فلك اللعبة التعمية عليه من خلال استنكار «الموشحات الطائفية» التي كانت ترتفع ايام كانت الفرجة على كرة القدم مسموحة. «الموشحات» هي التي كانت تعقب كل فوز للنجمة في الملعب البلدي، حيث يخرج غلاة المراهقين الشيعة الى ساحة ابــو شاكر، يضربون على رؤوسهم ويصرخون: علي علي علي». الرواية التي صارت بمثابة لازمة يرددها كثر من المنطقة هي عن تحطيم هؤلاء بالحجارة، اللافتات التي تحمل اسماء الصحابة المرفوعة على الجدار الخارجي لجامع الإمام علي، تاركين هذا الإسم سالماً من أي أذى. وإذا كان محي الدين دوغان يتذكر الملعب البلدي ايام الفرنسيين و«الجندرمة على الخيول»، فإن وسام يعرف أن السياسة استعارت من هذا الملعب بالذات هتافاتها الحديثة: «الله، نصر الله والضاحية كلها»، كان هتافاً نجماوياً سرعان ما وجد في المدرج المقابل رداً مقابلاً: «الله حريري الطريق الجديدة». وسام الآتي من أسرة ذات عراقة في تشجيع النجمة يشجع الأنصار من دون ان يرف جفن لروحه الرياضية. «المسألة ليست رياضة. الأنصار انتماء لمنطقة وطائفة»، ثم يحكي عن النجماويين وتحطيم السيارات. النجمة، ومنذ وقت طويل أيضاً، لم يعد يخوض أي مبارة له على أرض الملعب البلدي.
ضرب على الطاولة
هذه منطقة بيروتية، لم تختلط طائفياً كجارتها الأقرب المزرعة. قمعتها في واحدة من فترات الحرب اللبنانية حركة أمل، وحتى الآن هناك من يفاخر بأن الأذان قد رفع في جامع عبد الناصر وقد اضيف عليه: علي بالقوة ولي الله». هزم «المرابطون» وتقاتل على أرض الطريق الجديدة وفي محيطها، الحليفان، الشيعي والدرزي، نبيه بري ووليد جنبلاط. يقول اسامة العارف: «بعد انتصار الثورة الايرانية صار هناك تشدد ايراني يتحسس منه السنة. الشيعة وجدوا متنفساً في الدولة الدينية القوية. بعدها دخلت حركة امل (في الثمانينات) دخولاً وحشياً الى الطريق الجديدة. وصار لدى السنة تلك النظرة الصحيحة بأن سوريا تقوي الشيعة من خلال امل ولاحقاً حزب الله، لجعل هذه الطائفة الطرف الاقوى في السلطة. هذا الاحتقان كان يظهر في مدرجات كرة القدم، حيث المباريات بين النجمة والانصار صارت حروباً سياسية».
حافظ ناس الطريق الجديدة، في حالهم الإقتصادية المتواضعة، على علاقات اجتماعية أقرب في مفهومها إلى جنوب الطريق الجديدة، حيث الغبيري وبرج البراجنة والشياح، وليس إلى بيروت الغربية المختلطة. هكذا، فإن صوت سعد الدين البرجاوي ينزل ألف رجل إلى الشارع، وهكذا، فإن وسام يرى نفسه معنياً وشباب المنطقة بحمايتها من أي هجوم عليها، بخاصة الهجمات التي تعرضت لها بعد اندلاع الإعتصام المفتوح للمعارضة. وإذا كان المحامي الستيني الهادئ محي الدين دوغان يقول إن هذه الفتنة (السنية الشيعية) ضرب في الخاصرة، ويعدد الزيجات المختلطة في عائلته هو، فإنه يقول إن الطريق الجديدة العروبية تشعر اليوم أنها مظلومة، وأنها فتحت قلبها للمقاومة في سنة ألفين، فلا تكافأ بان تتهم بالقتل. يقصد حادثة أحمد محمود.
سعد الدين أقل هدوءاً. له، وبكلماته البيروتية السريعة جداً، «مأخذ على السيد حسن نصر الله». كان حين يراه على الشاشة يقشعر بدنه حباً له. لكن ما «فعلته قناة المنار بسعد الدين ليس مقبولا». وضعت اسمه كأحد المشتبه بهم في إطلاق النار في تلك الحادثة المشؤومة. مع أنه يومها أدى دوراً مختلفاً تماماً على ما يقول، حيث صرخ في آل البرجاوي فانسحب شبابهم. ونزل إلى شبان تجمعوا عند محطة الدنا، وصرخ فيهم: بعدني جايي من القصر. والقصر عم يقول لكم طلعوا من الشارع». يقصد قصر قريطم. «وما كنت جايي من القصر ولا شي، بس بدي رد الناس». لم يستمع الشبان إليه. من كانوا؟ «كل شباب الطريق الجديدة»، يقول سعد الدين.
يردد سعد الدين عبارة بعينها مرة بعد مرة: وحياة ولادي، قطعة سلاح ما في بالطريق الجديدة. يمكن تلات أربع قطع بكل المنطقــة.
والشيخ سعد قال: «انا ما بدي عزّي بولادكم. انا بدي علّم ولادكم». ما مناسبة قول الشيخ لهذا القول؟ «في لقاءات مع ولاد الطريق الجديدة، وفيه ناس صارت تضرب بكفها على الطاولة. بس الشيخ إذا بيعرف عن حدا إنو عنده قطعة، بيسحبه من شعره».
ليس بعيداً عن «نادي المستقبل للتسلية»، وهو اسم مقهى سعد الدين، ترتفع لافتة كتب عليها: «الله يرحم يللي عمر». حيث تنتهي هذه الجملة في اللافتة، تنطلق في صف طويل مجموعة من النقاط وعلامات التعجب والسؤال لا تحتاج إلى كثير ذكاء لفهم الإيحاء المراد منها. هذه اللافتة هي «تقدمة انصار الحريري». معظم اللافتات والصور المرفوعة في طريق الجديدة، تحمل تواقيع عامة ومبهمة كهذا التوقيع.
المقاهي تمنع الحكي في السياسة لكن الشوارع تحكي بطلاقة. هي في قلب السياسة، منذ ما قبل جمال عبد الناصر. ستبقى كذلك على الأرجح. والمنطقة التي رأت معظم القرن العشرين، ستظل مقرونة بتلك الطريق التي كتب لها أن تظل جديدة. وسيكتب لها أيضاً أن تصير شعاراً لمرحلة، وشعاراً لطائفة برمتها وجدت زعيماً بعد طول بحث: «الله، حريري، الطريق الجديدة».
السفير - 7 اذار
=====
ملاحظة:طريق الجديدة منطقة عروبية متحمسة للجهاد وللنضال وتاريخها الطويل في الدفاع عن فلسطين والناصرية التحررية يشهد لها, ومن المستهجن ان يقوم البعض اليوم بالادعاء انه وحده محتكر التحرير والنضال.
المنطقة لم تعرف الاستفزاز الطائفي الا بعد قدوم جحافل حزب الله وتورطهم في حركات تحرش واستفزاز لاهالي المنطقة ابتداء من ردات الفعل على مباريات الفوطبول.
المنطقة التي يكثر فيها السنة يكون صدرها واسع ومتسامح مع باقي المذاهب بعكس المناطق التي ينتشر فيها حزب الله حيث الاستفزاز والطرد من المنطقة وحصرها فقط بالاتباع والمنتسبين للفئة الواحدة بشكل عنصري فاضح.
تيار المستقبل يعتمد كثيرا"على هذه المنطقة لهذا فأن مخطط حزب الله هو بعث بعض ازلامه لاجل التحرش وتحريض الناس في المنطقة وهو يستند الى وجود السلاح الثقيل في يده لكي يثير الناس ضده وهو يريد التصادم وعمل الفتن في منطقة محسوبة على خصمه السياسي...
(javascript://)...«أحدهم من آل دوغان كان يعمل إطفائياً وتقاعد. كان يؤيد عبد الناصر ويضعه في مراتب القديسين. تصادف أن أبلغه أحدهم أن هناك خطيباً في جامع الإمام علي بن أبي طالب يتناول عبد الناصر بالسوء أثناء خطبة الجمعة. فما كان منه إلا أن انتظر حلول يوم الجمعة التالية وذهب للصلاة واقتعد الصف الأول. وحين بدأ الخطيب بإلقاء خطبة الجمعة تناول فيها عبد الناصر كعادته مستغلاً خلافه مع المملكة العربية السعودية في مرحلة الحلف الاسلامي الذي اقامته المملكة. فما كان من صاحبنا إلا أن صعد الى المنبر وضرب الشيخ ضرباً مبرحاً دون ان يستطيع احد من المصلين التدخل خوفاً من بطشه. ثم قام ووضع العمامة على رأسه وبدأ يخطب في المصلين مهاجماً رجال الدين المرتزقة داعياً لعبد الناصر ومن مع عبد الناصر. ومن يومها غاب الشيخ المذكور عن هذا المنبر ولم يعد المصلون يرون له وجهاً. مات هذا القبضاي كمداً بعد أيام على انتخــاب بشير الجميل رئيســاً للجمهورية إذ لم يستطع الحياة في ظل شخــص كان معادياً لعبد الناصر».
هذه فقرة في كتاب «ذاكرة الرمل» للمحامي أسامة العارف. الرمل كان سمة جنوبي بيروت. على الرمل قام سجن عرف باسم سجن الرمل. وفي أواخر عهد العثمانيين شُقت طريق مشى الناس عليها الى الإمام الأوزاعي وسموها الجديدة. وهكذا ظلت.
إلى الرمال كان البيروتيون يخرجون في عطلاتهم وأعيادهم. يفلشون اغراضهم على هضبة الرمال ويصنعون نزهاتهم. وإلى الرمال راح البيروتيون يخرجون من وسط البلد وجواره ليبنوا ويقطنوا ويتزوجوا وينجبوا. هذا كان في العشرينات وما بعدها. نزح أهل الجبل ايضاً، اهل إقليم الخروب بخاصة. كبرت المنطقة. كان الواحد إذا وقف عند سجن الرمل ونظر شرقاً لا يرى إلا الرمال والبحر. لكن بيروت كانت تتمدد حيث تجد متسعاً. ومعها كانت الطريق الجديدة تكبر. في الستين ستقوم جامعة بيروت العربية ملاصقة للسجن نفسه. حين تنفجر حرب السنتين، يدخل مسلحون ويحررون المساجين. أكثر من 700 سجين. بعد شهر، يهدم طلاب الجامعة السجن في خطوة «ثورية». يقف رئيس متخرجي الجامعة يومها عصام الحوري على انقاض السجن تالياً ببهجة بياناً هاجم فيه من موقعه كـ«قوى وطنية عروبية» «القوى الإنعزالية الطائفية». ورفعت على أنقاض السجن لافتة تقول: هدم السجن (هو) رفض للتخلف، أداة للتغيير، ثورة في المجتمع».
هذه اللافتة وقعها اصحاب قرار الهدم و«وضع يد الجامعة على أرض السجن: خريجو الجامعة واتحاد طلابها العام والإتحاد العام لطلبة فلسطين». الإتحاد الأخير يحيل إلى المقاومة الفلسطينية. في الفاكهاني من الطريق الجديدة سكن أبو عمّار ومعه سكنت فتح. قبله، في أواخر الأربعينات، نُصبت مجموعة من الخيمات إلى جنوب المنطقة فوق الرمل أيضاً. هذا مخيم شاتيلا المؤقت بإنتظار العودة إلى فلسطين. في زمن آخر، جاء شاب صيداوي ليدرس في الجامعة ويعيش في المنطقة طالباً مجهولاً في نهر يجري من الطلاب الوافدين اليها يسكنون فيها ويدرسون في جامعتها ويغادرون بعد التخرج. الصيداوي الذي غادر إلى السعودية سيعود إلى الطريق الجديدة رجلاً اسمه رفيق الحريري. والمنطقة التي ضرب فيها قبضاي يوماً شيخاً تعرض لجمال عبد الناصر، ستستمر خزاناً شعبياً لأهل السنة والعروبة، وبعدما أحبت آل سلام وآل اليافي وآل الصلح، سترفع صور رفيق الحريري، ثم سيقف إلى جانبه لاحقاً ابنه سعد، ثم أخيراً، سينضم فؤاد السنيورة إلى الأب والإبن، في صور ثلاثية مركبة فوق حشد 14 آذار.
«يرحم أبوك»
بثقة ابن المنطقة يتمشى وسام في شوارع منطقته. يتخايل ببطء في شوارع وأزقة لا تختلف عن مثيلاتها في بيروت ولا تشي بخصوصية ما، إلا في طفرة الصور الثلاثية العملاقة المرتفعة في كل مكان. شوارع ترتفع على جانبيها الابنية العالية، وتتدلى من معظم شرفاتها الاعلام اللبنانية. وسام ذاته هو من يشي بالخصوصية. اللهجة البيروتية الخالية تقريباً من أي بياض، ووقوفه كل عشرين متراً لمصافحة رجل أو عجوز وتبادل التهليل المبالغ به بين من لم يلتقيا منذ مدة بـ«الأهلين» الطويلة والقبل ثم بالعبارة التي يصر عليها من يلتقيه وسام: «الله يرحم أبوك».
الترحم على والد وسام المتوفى منذ سنوات، لا يشبه عادات المدينة. هو من عادات «المنطقة» التي نشأت على «احترام كبارها». «كانت كلمة كبير العائلة هي الفصل بالنسبة الى العائلة برمتها، وفي المناسبات كافة، من السياسة إلى الزواج. حين يتخذ سعد الله الباشا أو علي البرجاوي أو راشد الحوري أو جميل الروّاس قراراً بالنسبة لسياسي (الاقتراع لصالحه او ضده في الإنتخابات)، تلتزم عائلاتهم بقرارهم لأنها كانت تعرف أن مصلحة العائلة يخوضها كبيرها فحسب». المتحدث هو المحامي محي الدين دوغان. ستيني ولد في الطريق الجديدة وعاش فيها وخاض الإنتخابات على لائحة رفيق الحريري سنة 1996 ولم يحالفه الحظ. هو إبن «قبضاي» من قبضايات طريق الجديدة وبيروت معاً، أي راشد دوغان. في الصور، نرى راشد في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين رجلاً نحيلاً يعتمر الطربوش التركي ويرتدي اللباس العربي. يجلس مع زملائه من القبضايات في المقهى أو يقف معهم في باحة الجامع العمري بعد أداء صلاة العيد. في صور أخرى يستضيف راشد في منزله سياسيي ذاك الزمان. شارل الحلو وسامي الصلح وغيرهما. «القبضاي لم يكن يحمل مسدساً واحداً بل مسدسين» يقول دوغان. هذا لا يعني شراً. «فالقبضاي كان زعيماً في عمل الخير ومحبة الآخرين ومساعدة أبناء المنطقة. كانت هذه الزعامات تتكافل على فعل الخير. احكي هذه الحكاية: بعد أربعة ايام على الغياب المتواصل لأحد زبائن الحاج سعيد حمد إلى المقهى، حيث كانت الزعامات تلتقي، افتقده الحاج فقام ليزوره. الرجل قال إنه مريض. جاء الحاج بالدكتور محمد خالد (لاحقاً ستقوم مؤسسة خيرية باسمه). فحصه الدكتور فوجده معافى. أخذ الحاج جانباً وقال له إن الرجل على ما يبدو بحاجة الى المال ويخجل من البوح. هذه 25 ليرة مني وتدبر بعض المال من أجله. وهكذا فعل الحاج. جمع من رفاقه المال واشتروا أغراضاً وضعوها عند باب بيته وطرقوا الباب وهربوا. في اليوم التالي عاد الرجل إلى المقهى وكأن شيئاً لم يكن».
أخلاق أيام زمان التي يستعيدها دوغان بحنين لا تنفي أهمية هؤلاء الكبار كمفاتيح إنتخابية كانت عيون عبد الله اليافي وصائب سلام وسامي الصلح دائماً عليها. يقول أسامة العارف «إن الزعامات كانت موزعة الولاء بين هذه العائلات السياسية الثلاث. لكن هذا لم يمنع انتقال زعماء الاحياء من حضن سياسي الى خصمه بحسب التقديمات التي يقدمها هذا السياسي أو ذاك».
السياسة كانت تجري في دم المقاهي الشعبية في الطريق الجديدة. هذا حال لن يتغير. المقاهي في أي انتخابات مفترضة منذ العام 1992 هي مكاتب انتخابية في معظمها للحريري خلال وبعد 1996 أباً ثم ابناً.
كذلك كان مقهى البرجاوي في الانتخابات الأخيرة. اليوم تلصق على الجدار عبارة: «يرجى عدم التكلم في السياسة». في المقهى الواسع شبه الفارغ يجلس مسنون يلعبون ورق الشدة، ويجلس صاحب المقهى إلى طاولة كبيرة وخلفه في إطار صورة لرفيق الحريري وقصيدة عمودية في مديحه. صاحب المقهى محمود البرجاوي حزين، على طريقته البيروتية المرحة، لما آلت إليه المقاهي: «والقرآن ما حدا عم يدفع. بدنا نسكّر. المصلحة ما عادت متل الأول. حطينا ورقة إنو لطفاً ورجاء عدم الاحراج طلب ألف ليرة بس مع كل ارجيلة.. ما حدا عاد إجا».. (على الزبون ان يبتاع مشروباً ساخنا بألف ليرة مع الأركيلة بالتبغ العجمي وثمنها ألفا ليرة). يقطع محمود سيل كلامه ليجيب شاباً يسأله: «أنا هون وين بدي روح.. ثم يتابع: الشباب ما بتجي لأنو ما عنا معسل». يشير إلى المكيفات. ملفوفة بالنايلون منذ سنتين، توفيراً للكهرباء. لماذا يمنع السياسة؟ لأن زبائنه من الشيعة والسنة والفلسطينيين. لماذا لا يبدل المقهى إلى أي تجارة اخرى؟ يقول بالفصحى: نسعى للتغيير حين يتغير الحال». التغيير ليس وارداً عنده قبل أن يصير حال البلد أفضل.
فيتنام
لكن الأحوال تتغير. شمس القبضايات ـ الزعامات البيروتية راحت تغرب شيئاً فشيئاً مع سطوع شمس الثورة الفلسطينية. «إبراهيم قليلات كان من المستفيدين من هذا التغيير. كان وارثاً لزعامة حي عن والده، فإذا به، مع انقلابه على صائب بيك «السعودي الهوى»، والتزامه بعبد الناصر والثورة الفلسطينية، يتحول إلى زعيم منطقة، ثم لاحقاً إلى زعيم على بيروت الغربية كلها. كانت الطريق الجديدة تتحول. لم تعد حكراً على مجتمعها البيروتي المحافظ بشدة. سكن في المنطقة فلسطينيون واردنيون وغيرهم من «فتح» وهولاء كانوا متعلمين وليبراليين راحوا يغيرون من المشهد العام للمكان. الجامعة العربية أيضاً غيّرت في هذا المجتمع الأبوي الصارم. صرت ترى شاباً وشابة يمشيان جنباً إلى جنب، وصار أهل المنطقة يؤجرون غرفاً في بيوتهم للطلاب». يقول العارف لـ«السفير»، ونقرأ من «ذاكرة الرمل»: بعد انشاء جامعة بيروت العربية عرفت المنطقة مقاهي رصيف متعددة قريبة من الجامعة. كان كل مقهى يحتوي وقتها ما كان شائعاً وهو آلة «جوك بوكس» التي تتضمن مجموعة من الاسطوانات لاغان رائجة، فكان مراهقو المنطقة يتواعدون في هذه المقاهي يسمعون الاغنيات التي يحبونها...».
مقاهي الرصيف الغربية الطابع لم تعد موجودة. لكن، وخلف الجامعة العربية، تصطف الآن مطاعم كثيرة، تقدم إلى الطعام، نارجيلة المعسل للطلاب. مبنى الهندسة يرتفع عالياً تفصله طريق عن الحرم الاساسي. لطالما كان الدخول إلى الجامعة العربية سهلاً على العكس من الجامعة الاميركية مثلاً. اليوم بات التفتيش دقيقاً. الدخول حكر على الطلاب. لا يوجد إتحاد عام لطلبة الجامعة ليحتج. الانتخابات الطالبية ملغاة منذ زمن بعيد. وفوق الشارع الذي يفصل بين مبنى الهندسة والحرم الجامعي، ترتفع صورتان عملاقتان: رفيق الحريري وفؤاد السنيورة. صبرا تقع في ظهر مبنى الهندسة. شارع صبرا المحسوب على الطريق الجديدة موحل ومحلاته شعبية. يتلاصق فيها محلان من دون واجهات زجاج: محل حلويات يعرض حلوياته على مصطبة امامه، ومحل لبيع أمعاء الذبائح وسيقانها وعظام رؤوسها. هنا فقط يصير للمكان خصوصية الفقر. من الأزقة الضيقة لهذا المكان خرج شبان بعصي ليصدوا «الهجوم على الطريق الجديدة».
«في هذا الشارع كان كل العالم موجودا»، يقول وسام، «كل حركات التحرر العالمية كان لها فروع هنا. اللافتة التي حفرت في ذاكرة وسام من هذا الشارع بالذات كان مكتوباً عليها بالأحمر: إرفعوا أيديكم عن فيتنام».
أسماء الصحابة
يخرج سعد الدين البرجاوي من مقهاه الصغير ليفض مشكلاً وقع لتّوه. يمشي في منتصف الشارع ويعود جارّاً شاباً عتعيتاً كان طرفاً في معركة غير متكافئة مع مراهق نزق. الشاب يسمع كلمة صديقه سعد الدين. هذا شارع البرجاوي. العائلة تشير إلى أصلها، من برجا. هي من العائلات الكثيرة التي صارت الطريق الجديدة مسقط رأسها. صوت واحد من سعد الدين ينزل ألف شاب على ما يقول. الرجل الخمسيني شخصية «طريق جديدية» نموذجية. لاعب كرة قدم عتيق، كان هدّافاً لفريق النجمة في أحد مواسم هذا النادي، وهو أول من سجل في مباراة بين النجمة والإنصار عقب صعود هذا الأخير الى مصاف الدرجة الاولى. خسر الانصار يومها. الطريق الجديدة صنعت أهم لاعبي كرة القدم. المساحات الرملية كانت كثيرة والملعب البلدي كان موجوداً قبل الجميع. سعد الدين سيعود فيشجع الأنصار. عالم كرة القدم ليس تفصيلاً عادياً في حياة الطريق الجديدة. سعد الدين يروي أنه صادق لاعبين مثل بسام همدر وعلي الحاج وأحمد بنوت لسنوات فناموا في بيته وأكلوا في صحنه، لم يعلم إلا لاحقاً ما هو مذهبهم. «السنة والشيعة لم تكن واردة في قاموس المنطقة». لكن، «خلقوا لنا النعرة الطائفية.. وشئت أم أبيت، ستكون مع أولاد منطقتك.. مع الأنصار». يلجأ إلى مثل آخر لإيضاح فكرته: «الشيعي يحب السيد حسن ونبيه بري. وأنا لو قال لي الشيخ سعد ارمِ حالك من الطابق السابع بدي أرمي حالي».
هذا الربط من أدبيات الصراع الأشد علنية بين الناديين والجمهورين. يحاول الدائرون في فلك اللعبة التعمية عليه من خلال استنكار «الموشحات الطائفية» التي كانت ترتفع ايام كانت الفرجة على كرة القدم مسموحة. «الموشحات» هي التي كانت تعقب كل فوز للنجمة في الملعب البلدي، حيث يخرج غلاة المراهقين الشيعة الى ساحة ابــو شاكر، يضربون على رؤوسهم ويصرخون: علي علي علي». الرواية التي صارت بمثابة لازمة يرددها كثر من المنطقة هي عن تحطيم هؤلاء بالحجارة، اللافتات التي تحمل اسماء الصحابة المرفوعة على الجدار الخارجي لجامع الإمام علي، تاركين هذا الإسم سالماً من أي أذى. وإذا كان محي الدين دوغان يتذكر الملعب البلدي ايام الفرنسيين و«الجندرمة على الخيول»، فإن وسام يعرف أن السياسة استعارت من هذا الملعب بالذات هتافاتها الحديثة: «الله، نصر الله والضاحية كلها»، كان هتافاً نجماوياً سرعان ما وجد في المدرج المقابل رداً مقابلاً: «الله حريري الطريق الجديدة». وسام الآتي من أسرة ذات عراقة في تشجيع النجمة يشجع الأنصار من دون ان يرف جفن لروحه الرياضية. «المسألة ليست رياضة. الأنصار انتماء لمنطقة وطائفة»، ثم يحكي عن النجماويين وتحطيم السيارات. النجمة، ومنذ وقت طويل أيضاً، لم يعد يخوض أي مبارة له على أرض الملعب البلدي.
ضرب على الطاولة
هذه منطقة بيروتية، لم تختلط طائفياً كجارتها الأقرب المزرعة. قمعتها في واحدة من فترات الحرب اللبنانية حركة أمل، وحتى الآن هناك من يفاخر بأن الأذان قد رفع في جامع عبد الناصر وقد اضيف عليه: علي بالقوة ولي الله». هزم «المرابطون» وتقاتل على أرض الطريق الجديدة وفي محيطها، الحليفان، الشيعي والدرزي، نبيه بري ووليد جنبلاط. يقول اسامة العارف: «بعد انتصار الثورة الايرانية صار هناك تشدد ايراني يتحسس منه السنة. الشيعة وجدوا متنفساً في الدولة الدينية القوية. بعدها دخلت حركة امل (في الثمانينات) دخولاً وحشياً الى الطريق الجديدة. وصار لدى السنة تلك النظرة الصحيحة بأن سوريا تقوي الشيعة من خلال امل ولاحقاً حزب الله، لجعل هذه الطائفة الطرف الاقوى في السلطة. هذا الاحتقان كان يظهر في مدرجات كرة القدم، حيث المباريات بين النجمة والانصار صارت حروباً سياسية».
حافظ ناس الطريق الجديدة، في حالهم الإقتصادية المتواضعة، على علاقات اجتماعية أقرب في مفهومها إلى جنوب الطريق الجديدة، حيث الغبيري وبرج البراجنة والشياح، وليس إلى بيروت الغربية المختلطة. هكذا، فإن صوت سعد الدين البرجاوي ينزل ألف رجل إلى الشارع، وهكذا، فإن وسام يرى نفسه معنياً وشباب المنطقة بحمايتها من أي هجوم عليها، بخاصة الهجمات التي تعرضت لها بعد اندلاع الإعتصام المفتوح للمعارضة. وإذا كان المحامي الستيني الهادئ محي الدين دوغان يقول إن هذه الفتنة (السنية الشيعية) ضرب في الخاصرة، ويعدد الزيجات المختلطة في عائلته هو، فإنه يقول إن الطريق الجديدة العروبية تشعر اليوم أنها مظلومة، وأنها فتحت قلبها للمقاومة في سنة ألفين، فلا تكافأ بان تتهم بالقتل. يقصد حادثة أحمد محمود.
سعد الدين أقل هدوءاً. له، وبكلماته البيروتية السريعة جداً، «مأخذ على السيد حسن نصر الله». كان حين يراه على الشاشة يقشعر بدنه حباً له. لكن ما «فعلته قناة المنار بسعد الدين ليس مقبولا». وضعت اسمه كأحد المشتبه بهم في إطلاق النار في تلك الحادثة المشؤومة. مع أنه يومها أدى دوراً مختلفاً تماماً على ما يقول، حيث صرخ في آل البرجاوي فانسحب شبابهم. ونزل إلى شبان تجمعوا عند محطة الدنا، وصرخ فيهم: بعدني جايي من القصر. والقصر عم يقول لكم طلعوا من الشارع». يقصد قصر قريطم. «وما كنت جايي من القصر ولا شي، بس بدي رد الناس». لم يستمع الشبان إليه. من كانوا؟ «كل شباب الطريق الجديدة»، يقول سعد الدين.
يردد سعد الدين عبارة بعينها مرة بعد مرة: وحياة ولادي، قطعة سلاح ما في بالطريق الجديدة. يمكن تلات أربع قطع بكل المنطقــة.
والشيخ سعد قال: «انا ما بدي عزّي بولادكم. انا بدي علّم ولادكم». ما مناسبة قول الشيخ لهذا القول؟ «في لقاءات مع ولاد الطريق الجديدة، وفيه ناس صارت تضرب بكفها على الطاولة. بس الشيخ إذا بيعرف عن حدا إنو عنده قطعة، بيسحبه من شعره».
ليس بعيداً عن «نادي المستقبل للتسلية»، وهو اسم مقهى سعد الدين، ترتفع لافتة كتب عليها: «الله يرحم يللي عمر». حيث تنتهي هذه الجملة في اللافتة، تنطلق في صف طويل مجموعة من النقاط وعلامات التعجب والسؤال لا تحتاج إلى كثير ذكاء لفهم الإيحاء المراد منها. هذه اللافتة هي «تقدمة انصار الحريري». معظم اللافتات والصور المرفوعة في طريق الجديدة، تحمل تواقيع عامة ومبهمة كهذا التوقيع.
المقاهي تمنع الحكي في السياسة لكن الشوارع تحكي بطلاقة. هي في قلب السياسة، منذ ما قبل جمال عبد الناصر. ستبقى كذلك على الأرجح. والمنطقة التي رأت معظم القرن العشرين، ستظل مقرونة بتلك الطريق التي كتب لها أن تظل جديدة. وسيكتب لها أيضاً أن تصير شعاراً لمرحلة، وشعاراً لطائفة برمتها وجدت زعيماً بعد طول بحث: «الله، حريري، الطريق الجديدة».
السفير - 7 اذار
=====
ملاحظة:طريق الجديدة منطقة عروبية متحمسة للجهاد وللنضال وتاريخها الطويل في الدفاع عن فلسطين والناصرية التحررية يشهد لها, ومن المستهجن ان يقوم البعض اليوم بالادعاء انه وحده محتكر التحرير والنضال.
المنطقة لم تعرف الاستفزاز الطائفي الا بعد قدوم جحافل حزب الله وتورطهم في حركات تحرش واستفزاز لاهالي المنطقة ابتداء من ردات الفعل على مباريات الفوطبول.
المنطقة التي يكثر فيها السنة يكون صدرها واسع ومتسامح مع باقي المذاهب بعكس المناطق التي ينتشر فيها حزب الله حيث الاستفزاز والطرد من المنطقة وحصرها فقط بالاتباع والمنتسبين للفئة الواحدة بشكل عنصري فاضح.
تيار المستقبل يعتمد كثيرا"على هذه المنطقة لهذا فأن مخطط حزب الله هو بعث بعض ازلامه لاجل التحرش وتحريض الناس في المنطقة وهو يستند الى وجود السلاح الثقيل في يده لكي يثير الناس ضده وهو يريد التصادم وعمل الفتن في منطقة محسوبة على خصمه السياسي...