من هناك
03-06-2007, 01:34 AM
تطرف «الطوائف العظمى» في لبنان في رأي خبراء علم الاجتماع والفلسفة (1)
كيـف تحـوّل المسلمـون السنـة مـن «مشـروع الأمـة» إلـى «لبنـان أولاً»؟
عدنان الساحلي
قد لا يختلف عاقلان على أن الطائفية السياسية هي علة لبنان ومصدر مشاكله. هي في الاساس مبرر وجوده حيث لحظ كدولة على خارطة المنطقة التي رسمتها اتفاقية سايكس ـ بيكو، اثر سعي بعض الزعماء اللبنانيين، ومعظمهم من الموارنة، للحصول على دولة لهم، فكان لبنان.
منذ البداية فرضت الطائفية آلية إنتاج نظام طائفي تتصارع زعاماته على «جبنة الحكم» ومواقع النفوذ والثروة، ولا تجد مصدراً تستمد منه القوة لتحقق غلبتها في هذا الصراع المستمر، إلا بالحقن والتوتير الطائفي والمذهبي، معطوفا على شبكة علاقات خارجية زبائنية تتبادل حماية المصالح بين الداخل والخارج وبالعكس. وهكذا شهد لبنان انفجارات سياسية وصدامات أهلية بعضها دموي، كان يعجز اللبنانيون دوماً عن وقفها، إلا بعد أن يتدخل هذا الخارج ليرتب الاوضاع، بما يحفظ مصالحه اولا ويحقق هدنة طويلة بين «القبائل اللبنانية» المتنازعة.
وصلت الطوائف اللبنانية الى ذروة عصبياتها هذه الايام. وبلغ التطرف في الخطاب الطائفي، حد تطييف كل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي، حتى بات للمنتوجات اللبنانية الزراعية هويات طائفية... وهذا أمر قديم، لكن التوتر الحالي أوصل البلاد الى شفير حرب أهلية، تهدد بنشر الفوضى والخراب في كل أنحاء المنطقة العربية، في زمن تشهد فيه هذه المنطقة تغييرات كبرى، تضعها على مفترقات المصير.
من السهل نقد الطائفية وتعداد سلبياتها وانعكاسات فكرها على نواحي حياتنا، لكن ليس سهلا أن يتوغل التوصيف في عمق تفاصيل العقل الطائفي الذي يدير الشأن الوطني. كما ان لكل طائفة من طوائف لبنان «العظمى» خصوصية وتميزاً في أسباب صعود ميول التطرف بين أبنائها هذه الايام، حيث لا تخفي حملها ميولا أكثرية «بينما الكل أقليات».
لماذا تتطرّف الطوائف الكبرى: السنة والشيعة والموارنة؟
سؤال سعينا للاجابة عنه بمنطق علمي، بعيدا عن النكايات والاستفزاز السياسي. واستعنا بأهل الاختصاص من أساتذة علم الاجتماع والفلسفة، فلعل وضع الاصبع على الجرح بهذا الشكل لا ينكأه بل ينير البصائر الى خطورة الحالة القائمة. فليس بالامر اليسير ان تدفع الاحداث طائفة كانت تعتبر نفسها بحجم أمة كالطائفة السنية، الى موقع يتبنى فيه أركانها اليوم شعار «لبنان اولا»، وان يتحول الصراع على الحكم وعلى هوية البلد من صراع تاريخي بين المسيحيين والمسلمين الى صراع سني ـ شيعي، وتصبح الولايات المتحدة الاميركية صــــديقا للبنان، وتظـهرعلاقات الاطراف السياسية والطـــائفية اللبنانية بالجهات الخــــارجية بأشـــكال علنية وكأنها أمر غير شائن، إضافة الى خروج المتطرفين من صفـــوف شرائح حاكمة، بعد ان كان التطرف سمة المهمشين والمنبوذين؟
في الجزء الاول من هذا التحقيق اخترنا أن نبدأ بالطائفة الاسلامية السنية، لماذا تتطرف في السياسة، وما هي مصلحتها وهل لموقعها وعلاقتها بالنظام اللبناني دور في هذا التطرف، وكيف توفق بين كونها «طائفة الاكثرية العربية الاسلامية» المسؤولة تاريخيا عن «مشروع الامة» وبين موقعها ودورها الحاليين، وهل بإمكانها التطلع نحو مشروع مستقبلي من دون سلوك دروب التطرف
أسباب التطرف
يربط الدكتور زهير حطب، سبب تطرف المسلمين السنة في لبنان باغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويرى ان وصوله الى الحكم وممارسته السلطة «أشعر السنة في لبنان بأنهم أصبحوا رقما مهما في المعادلة الوطنية بعد الطائف. وقد نظرت الطائفة كلها اليه بممارسته هذا الدور على انه «ابو الطائفة» وهو الذي يتحدث باسمها ويجمعها ويوحدها، فكيف اذا كان يحميها بقدراته وإمكاناته وشبكة علاقاته اللامتناهية المالية والاقتصادية والسياسية». ويعتبر حطب ان السنة «ليسوا هم من أوجد هذا الظرف الموضوعي، بل حصلوا عليه من دون أي جهد، بفضل الرئيس الحريري، في حين كانوا وفق صيغة 1943 ملحقين وأذنابا وكان رئيس الحكومة السني«باش كاتب». كان رئيس الجمهورية الماروني يسقط الحكومة ويغيّر رئيسها ساعة يشاء. وكان يعفيه ويكلف غيره من دون الالتفات الى ثقة مجلس النواب».
ويعتبر حطب ان اغتيال الحريري أدى الى «تيتيم» الطائفة وإعادة تفتتها وأرجعها الى نقطة اللاتأثير واللاتوازن، حيث شعر كل سني في لبنان بأن مصيره أصبح غامضا، لأنه لم يحل محل الحريري نائبه أو مساعده أو عضو مجلس القيادة، فهو لم يكن لديه كيان سياسي، كانت قوته ذاتية. لذلك لجأ السنة الى صيغة التحالف في إطار14 آذار للاستقواء بالعنصر الداخلي، حتى يحافظوا على موقعهم في التشكيلة اللبنانية المثلثة الاطراف.
ويعزو حطب التطرف السني الحالي في لبنان الى «شعور هذه الطائفة بالخوف اولا. وشعورها بفقدان ما حصلت عليه من دور منذ اتفاق الطائف حتى اليوم ثانيا. وغياب المرجعية التي تستطيع قيادتها، على غرار قيادات الطوائف الاخرى ثالثا. أما السبب الرابع، فهو عدم وجود تطلعات ايديولوجية واضحة لها، وكذلك عدم وجود مشروع متكامل للحكم عندها».
لكن الدكتور طلال عتريسي، يرى ان تحولات محلية وإقليمية حصلت أدت الى حصول تطرف سني: في لبنان بدأ الشيعة يصبحون طائفة كبرى وحيوية. وتولد شعور مقابل بأن الشيعة يريدون أن يأخذوا حصة من النظام، وان هذه الحصة لن تكون من الحصة المسيحية نظريا. كما ان المعادلة في المنطقة تبدلت بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، أصبح هناك دولة إسلامية شيعية، في مقابل الدول الاسلامية السنية في المنطقة. أما السبب الثالث فهو (بدءا من عام 1979) عندما بدأت الحركات المتطرفة تنشط في الوسط السني، باتجاهاتها التكفيرية التي تخرجت من مدارس موجودة في أكثر من بلد عربي. وحصلت على دعم رسمي من كل بلدان العالم، حيث قدمت نموذجاً يصلح سواء لمواجهة الفكر الشيعي أو لمواجهة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، أو الاميركيين في أماكن اخرى. ثم جاء التغيير في العراق، الذي اذا تم تثبيته، بغض النظر عن نوع الشيعة الحاكمين، سيؤشر الى كثير من الدول التي لديها حساسية سنية بتغيير مقبل. ولهذا الامر تداعياته التي تؤدي الى تفسير تحركات الشيعة في لبنان مثل التظاهر والاعتصام، كأنها وجه آخر لما يحصل في العراق. فيقال ان السنة خسروا في العراق ويجب أن لا يخسروا في لبنان. وهذا يزيد العصبية والتكتل ويوصل الى التطرف.
ويرى عتريسي ان السنّة في لبنان شعروا بأنهم مستهدفون، اثر اغتيال أكثر من قيادة سنية مرموقة، خصوصا الرئيس رفيق الحريري الذي أعطى هوية وكيانية جديدة ومختلفة للسنة في لبنان. عندئذ تم استحضار كل الاغتيالات وتولدت حالة من العصبية السنية لمواجهة هذا الاستهداف. كما حدث دخول دولي على هذه المشاعر، لتحريك الفتنة بين السنة والشيعة، حيث جرى تصوير الشيعة في لبنان بأنهم لا يريدون معرفة من قتل الحريري، لأنهم «إما متواطئون، وإما يريدون التغطية على المتورط الفعلي». وهذا الامر ولّد عصبية ضد الشيعة.
وينظر الدكتور انطوان مسرّة الى الصورة من زاوية اخرى «ان لدى الطائفة السنية مشكلة سياسية ناتجة عن رواسب ايديولوجية عربية في الوحدة والقومية. وقد جاءت صدمة اغتيال الرئيس الحريري لتوقظ السنة وتلغي عقدة نقصهم تجاه المزايدة عليهم في عروبتهم». ولذلك فإن ما يقومون به حاليا «ليس تطرفا بل هو ثمرة معاناة وتجربة مع الانظمة العربية وثمرة الثقة بالنفس». ويعتبر مسرّة «ان الاسلام في المنطقة العربية يشهد انحرافا نتيجة وجود تيارات التعصب والاصولية. وان التعبئة المتطرفة موجودة لدى كل الطوائف نتيجة أوضاع المنطقة لا نتيجة أوضاع لبنانية، وبالتالي فإن قضية الطائفية في لبنان هي قضية عربية، حاول لبنان معالجتها بأشكال قد تكون عرجاء، لكنها كانت أفضل من أي بلد عربي وحتما أفضل من النموذج الاسرائيلي».
لكن الدكتور ادونيس عكرة يرى ان السنّة بغالبيتهم ليسوا متطرفين، وان ما فعلوه اثر استشهاد الرئيس الحريري يبيّن عدم تطرفهم. لكن هناك قوى وفصائل سنية متطرفة نتيجة فهمها للدين الاسلامي بما لا يتماشى مع الاسلام الرسمي. وهؤلاء متطرفون حتى تجاه المسلمين وليس فقط تجاه غير المسلمين، وهم ما يعرف بالفئات التكفيرية. هؤلاء يلغون الآخر لان اعتباره كافرا هو إلغاء وجودي له، ما يدفع الى التساؤل حول توافق شعار «لبنان اولا» الذي ترفعه أطراف السلطة اللبنانية، مع إعطائها ترخيصا بالعمل لطرف مثل «حزب التحرير» الذي يتناقض ميثاقه مع الدستور اللبناني، حيث يدعو الى إقامة دولة الخلافة؟
العلاقة بالنظام
ولكن الى أي مدى تلعب تركيبة النظام دوراً في إنتاج التطرف لدى السنة؟
يوافق حطب على تأثير تركيبة النظام اللبناني في إنتاج آليات التطرف الطائفي «من خلال عدم إفساح المجال أمام اشتراك التكوينات غير الطائفية وغير المذهبية وغيرها من التكوينات الثانوية والنخبوية في السلطة». ويشدد على ان نظام الحكم اليوم «مصادر من الطوائف، بعد أن تلبست كل طائفة طرفا سياسيا. وما دام النظام السياسي لا يفتح مجال المشاركة في الحكم أمام القوى غير الطائفية، سيبقى سليل كل عائلة تاريخية ودهرية يمارس دور أهله ويلعب بالناس ولا يحتاج لذلك سوى الى التحالف مع عدد من رجال الدين، حتى يصادر طائفته». ويرى «ان فقدان المواطن الشعور بالامان الاجتماعي والاقتصادي والصحي وغيره، سيبقيه رهن العلاقة بمؤسسات طائفته»، لافتا الى ان آليات تكوين النظام حاليا تنتج قوى طائفية وأبرز هذه الآليات: قانون الانتخاب، قانون تشجيع الاحزاب ومناهج التعليم، التي أجهض مشروع تغييرها، حيث جرى تهشيم التعليم الرسمي لمصلحة مؤسسات التعليم الطائفي.
ويلفت عتريسي الى ان تاريخ المسلمين السنة، بمن فيهم سنة لبنان، يشير الى أنهم طائفة الاعتدال والمساومة على الحلول الوسط. وكانت شعارات زعمائهم في لبنان تصب دوماً في هذا المجال، خصوصاً أنهم في لبنان ليسوا بحاجة أصلا الى التطرف، لان حقّ السنة عموما في لبنان كان محفوظا من جهتين: طبيعة النظام اللبناني الذي تأسس على الشراكة المارونية ـ السنية؛ والحماية العربية للحق السني في لبنان. لذلك لم يعرف المسلمون السنة في لبنان سابقا التطرف بمعناه السياسي أو الاعتقادي أو الاجتماعي.
إلا ان مسرة يقارن بين مواقف وشعارات بعض قيادات السنة عام 1975 عندما اعتمدت على القوى المسلحة الفلسطينية وطالبت بتغيير الدستور، وبين مواقف القيادات السنية اليوم، التي توقفت عن هذه المطالبة. ويدعو الى «ضرورة تعميم هذه اليقظة السنية على جميع الطوائف اللبنانية. لان يقظتهم وضعت لبنان في الموقع الريادي بقوميته ووحدويته». ويشدد على عدم وجود نموذج عربي أفضل من النموذج اللبناني حتى نأخذه، لذا نحن سنخلق النموذج.
وينفي عكرة أن تكون علاقة السنّة بالنظام اللبناني القائم سبباً في ظهور الفئات التكفيرية، فهذه الفئات لم تنشأ لان السنّة منبوذون في لبنان، أو لأنهم طرف معارض في هذا الكيان. دور السنة كان أساسيا منذ تأسيس الكيان اللبناني ولم يكونوا يوماً طرفاً ضعيفاً وهم حكام البلد منذ اتفاق الطائف. لذلك فإن التطرف الموجود لدى بعض فئات السنة، يتجاوز في أسبابه الحدود اللبنانية بكثير.
المصلحة
هل التطرف من مصلحة الطائفة السنية؟ وكيف يوفق السنة بين دورهم التاريخي كأمة باعتبارهم الاكثرية بين العرب والمسلمين، وبين التطرف الذي يضعهم في مواجهة مكونات الامة من مسلمين وغير مسلمين؟
يقول حطب ان الطائفة السنية هي ضحية التطرف الآن. ويذكّر بخسارة الرئيس الحريري «كقوة موحدة غير قابلة للعنف والتطرف». ويؤكد ان السنة سيكونون أبرز الخاسرين اذا تفجر العنف والتطرف في لبنان. لكن ذلك سيدفعهم بعد عقود الى حلقة لاحقة من العنف والتطرف. ويشدد على «ان مشروع الطائفة السنية الآن هو الدفاع عن النفس لا الدفاع عن الامة. والامة أصبح لها مدافعون عنها أقوى من السنة. واذا كان السنة يختزنون تاريخ الاسلام ويعبرون عن الامة، فإنهم الآن لم يعودوا العنصر الاقوى في التعبير عن الاسلام السياسي، خصوصا أن الانظمة العربية ليس لها مشاريع حول وحدة الامة، عربية كانت أو إسلامية».
يضيف حطب: «أنا كلبناني عنصر ضعيف في هذه الامة. وأرى أن الدول العربية الاسلامية السنية أخذت خيارات تاريخية أخرجتها من فكرة الامة العربية أو الامة الاسلامية، إلا اذا كان التعبير للاحتفال في المؤسسات الدولية والاقليمية. ولم يعد هناك وهم بأن المسلمين السنة، لأنهم الاكثر عددا، سوف يعيدون الاعتبار لإعادة تكوين وحدة الامة. فكرة ومشروع إعادة بناء الامة الاسلامية غير موجود إلاّ عند الشيعة في مشروع ولاية الفقيه. أما تنظيم «القاعدة» عند السنة فليس مشروع توحيد أمة، بل هو مشروع تخريب، لأنه قائم على تفكك مكاني وعلى لا وحدة في الانتماء والرؤية، في حين ان مشاريع العولمة سائرة وكل مشاريع تنظيم النظام العالمي الجديد قائمة. ونحن كعرب نشكل 200ـ300 مليون نسمة من أصل ستة مليارات إنسان، فلا يتوهم أحد انه قادر على عرقلة مشاريع العالم، لأنه يمتلك رؤية لإعادة توحيد الامة الاسلامية ضمن مشاريع جديدة تعيدنا الى الوراء أكثر مما فيها استشراف للمستقبل ورغبة في الانخراط فيه. وهذه المفارقات لا تحلها الارادات بل تحلها الوقائع».
أما عتريسي فيرى ان مشكلة السنة في لبنان، انهم كانوا دائما جزءا من البعد العربي ومشروعهم جزءا من مشروعه. ولان المشروع العربي الذي يتمحور حول الوحدة ومقاومة الاستعمار والصراع ضد اسرائيل، أصبح مضطربا وليست له معالم واضحة، بعد خروج مصر منه ودخول معظم الدول العربية في مشاكل داخلية أو خيارات مختلفة، فإن السنة في لبنان يعيشون توترات فقدان العمق العربي وغياب المشروع العربي، ما حوّل المشروع السني في لبنان الى مشروع داخلي، لا بد له من أن يصطدم بالطوائف الاخرى. في حين انه كان يراها في المشروع العربي مكملة له ورديفة لمشروعه، تقاتل الى جانبه ضد اسرائيل وضد الهيمنة الاميركية. المشروع العربي الواسع يستوعب الجميع، وفي غياب المشروع يصبح كل شخص خائفا على دولته وكيانه، لا يعود يرى ان الاقلية يجب دمجها، بل يبحث عن كيف يتخلص منها. عندما يصبح المشروع داخليا سيرى الطوائف الاخرى عنصراً خصماً وسيستعين بأي قوة لضرب الآخر الذي يراه بدوره انه يستعين بالخارج، وهذا هو تفسير شعار «لبنان اولا» لان السنة لم يروا في حياتهم لبنان اولا، بل كان بالنسبة لهم جزءا من المحيط العربي والمشروع العربي. في حين ان الحكومات التي تدعي الدفاع عن السنة تقمع قواهم السياسية. في مصر مثلا حكومة سنية تمنع أكبر تنظيم سني في العالم من ان يكون حزباً شرعياً معلناً وتضطهده دائماً. وهذه حال جميع الانظمة، تخاف على مستقبلها السياسي حتى من الحركات الاسلامية السنية ولا تسمح لها بالوصول الى السلطة.
ويميز مسرّة السنة في لبنان عن السنة في المنطقة العربية، ويرى ان المسلم السني في لبنان مستنير وفي تفاعل يومي مع الطوائف الاخرى.
أما الدكتور عكرة، فيشدد على ان «لا مصلحة لأي طائفة بالتطرف وإلغاء الآخر، ما دامت موافقة على بقاء الكيان اللبناني استنادا الى الدستور. أما التطرف فهو إلغاء للبنان». ويعتبر ان دور الطائفة السنية التاريخي «كأمة» ودورها الحالي «المحلي» لا يتوافقان. وفي حال اعتبرنا ان السنة «أمة» وليسوا طائفة، فهذا المبدأ يسري على الطائفة الشيعية، لان الاسلام ضد القوميات والامة الاسلامية تشمل كل المسلمين من كل القوميات. وحتى عندما نتحدث عن أمة إسلامية، يجب أن لا يتعارض ذلك مع الكيانات السياسية التي تكفل المساواة بين جميع أبنائها، بعد إعادة تأويل هذا المفهوم لينسجم مع الحياة العصرية.
بيئات التطرف
من أي بيئة اجتماعية أو سياسية يأتي التطرف السني، هل يأتي من بيئات فقيرة تبحث عن العدالة والمساواة، ام من بيئات غنية تبحث عن دور، أم بسبب مشاريع سياسية محلية أو إقليمية؟
يرى حطب انهم يأتون «مثل كل المتطرفين، من أصول ريفية لم يصلها التغيير ولم تحصل على حاجاتها الاساسية وتشعر بتفاوت التنمية بين مناطقها وباقي مناطق الدولة، لذلك تلجأ الى الطائفة لتستقوي بها وتجرها الى مواقعها، ويصادف ان يلتقط انتهازيون من مثقفي ونخبة الطائفة هذه الفرصة، فيقودوا التطرف ويصبحوا معبرين باسم الطائفة عن هؤلاء المساكين، في مواجهة ما تبقى من الحكم والدولة المتهالكين، في بلد تتقاسم الطبقة الحاكمة فيه الادوار».
وحسب عتريسي يأتي المتطرفون من بيئات اجتماعية متواضعة، منغلقة فكرياً، تعتبر الافكار الاخرى ضلالا وكفرا وزندقة. كما ان هناك أوساطا ليست كلها فقيرة، أوساطا متعلمة ومن الطبقة الوسطى، وصل اليها هذا النمط من التفكير. وما ساعد على ذلك السلوك هو التدخلات الخارجية، التي أنتجت في يوم ما ظاهرة «الافغان العرب»، الذين تنكر لهم من جنّدهم لقتال السوفيات، فتطرفوا ضد حكوماتهم وضد الغرب.
ويرى مسرّة ان التطرف يأتي من ثلاثة أماكن: الجو العام المتطرف في المنطقة نتيجة وجود تيارات دينية متطرفة؛ تراجع دور المؤسسات الدينية الاسلامية التي تصمت أمام تيارات التعصب من جهة وتتواطأ مع السلطات لأنها جزء منها، وجمود برامج التربية المدنية والتاريخ وعدم جعلها عنصر تغيير.
ويعتبر عكرة ان ظاهرة بن لادن كمتطرف غني، ظاهرة فريدة، لان التطرف يأتي في معظمه من بيئات فقيرة. ويستغرب كيف أن هناك مناطق في لبنان ذات أغلبية سكانية سنيّة، مثل عكار والبقاع واقليم الخروب والجنوب، محرومة وفقيرة، في حين أن الحكم بيد السنّة منذ اتفاق الطائف؟ كما ان السنة منذ الاستقلال لم يكونوا على هامش الحكم، بل كانوا في صلب السلطة، فكيف تركوا هذه المناطق على مثل هذا الوضع من الفقر، وهل كان هدف كل مشاريع الاعمار بعد الطائف هو «سوليدير».
الحلّ
كيف يستطيع المسلمون السنة التطلع نحو المستقبل بدور وموقع بعيد عن التطرف؟
يفاجئك حطب بالجواب: «ان يتخلوا عن سنيتهم، اذ ليس المستقبل للحفاظ على هويات مذهبية وطائفية. ولا بد من بناء المستقبل في لبنان والمنطقة خارج أطر الطوائف والدين، على الاسس التي تبنى عليها الدول: العلم والتكنولوجيا، التقدم والتبادل مع العالم».
لكن لصالح أي هوية سيكون ذلك؟
يجيب: لصالح إنسانيتهم. ويضيف: أنا لا أرى ان «السنية» هوية يجب أن نتمسك بها، البديل هو الطابع الانساني للانسان. أنا أرى أن تكون قيمي إنسانية، فهذا أكثر رحابة من ان تكون قيمي سنيّة. وان تتوجه قيمي السياسية الى العالمية أهم من أن تتوجه الى المذهبية، أن تتوجه نحو الانفتاح وحب الحياة أفضل من أن تكون نحو فتح الجبهات والقتال عليها. لا بد أن نسير في اتجاه الجمع لما يحقق للانسان إنسانيته. وعلى المسلمين السنة أن يطوروا القيم الايجابية للمذهب السني حتى يجعلوه رافدا من روافد التوجه الانساني العام. وإلا الى ما نحن مهيئون؟ الى القتال وتحمّل تهمة الارهاب؟ على الاقل علينا أن نعيد بناء ارتباطنا بمجتمعاتنا وشركائنا في الاوطان على أساس المواطنية ووحدة الانسان ووحدة الاستقرار والانفتاح العالمي.
الحل يراه الدكتور عتريسي بالفكر الاجتهادي الذي يرى التحولات وتغيّر البيئات ويبحث في كيفية فهمها على ضوء النصّ والقرآن والشرع. وهذا الاجتهاد لا يخلق مشكلة لأنه يفهم الآخر ويتسامح معه. كما ان الارتباط بمشروع الامة المتمحور حول الاستقلال والتنمية والوحدة وتعزيز القدرات العلمية والفكرية والبحثية يحتاج الى الانفتاح والحوار والتعلم من الآخر، ويحتاج الى كل طاقات الامة والى تصويب البوصلة نحو مصدر الخطر الحقيقي. وهذا يضعف الفكر التكفيري، الذي يستفيد من الارباك الذي يسود المنطقة، بين اتجاهين: واحد يرى أن الخطر يتجسد بإسرائيل وآخر اتجاه تصالحي وهذا ينعكس على لبنان.
أما الحلّ برأي مسرة فيكون «بالاسلام اللبناني. فالمسلمون السنة في لبنان، حتى المتطرفون منهم هم الاكثر اعتدالا بين السنة في كل المنطقة العربية والعالم. والسني اللبناني المتطرف عندما يذهب ليعيش في السعودية أو غيرها، يشعر بفقدان جو الحرية والتفاعل». لذلك يدعو «الى دراسة الاسلام اللبناني لأنه مميز من خلال تجربته الخاصة. وهو الوحيد القادر على إعادة إنتاج الفكر الاسلامي المستنير». ويلفت الى ان القيادات السنية أعلنت ان الحل يكون بشعار «لبنان اولا»، فهو تطبيق لوثيقة الطائف القائلة بأن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. وهذا يحتاج الى فكر لبناني جديد هو «الفكر الانعزالي التقدمي» لا يعادي العرب بل يقفل أبوابه ونوافذه عن تدخلهم في مشاكله ونقل مشاكلهم اليه».
وبرأي عكرة يكون الحل في تطبيق الدستور كما اتفق عليه بين الطوائف، وبحسن ممارسته. والالتزام بالتنمية المتوازنة والمتكافئة، والنظر الى المناطق النائية بنفــس النظرة الى العاصمة وليس اعتبار سكان المناطق مواطنين من الدرجة الثانية.
كيـف تحـوّل المسلمـون السنـة مـن «مشـروع الأمـة» إلـى «لبنـان أولاً»؟
عدنان الساحلي
قد لا يختلف عاقلان على أن الطائفية السياسية هي علة لبنان ومصدر مشاكله. هي في الاساس مبرر وجوده حيث لحظ كدولة على خارطة المنطقة التي رسمتها اتفاقية سايكس ـ بيكو، اثر سعي بعض الزعماء اللبنانيين، ومعظمهم من الموارنة، للحصول على دولة لهم، فكان لبنان.
منذ البداية فرضت الطائفية آلية إنتاج نظام طائفي تتصارع زعاماته على «جبنة الحكم» ومواقع النفوذ والثروة، ولا تجد مصدراً تستمد منه القوة لتحقق غلبتها في هذا الصراع المستمر، إلا بالحقن والتوتير الطائفي والمذهبي، معطوفا على شبكة علاقات خارجية زبائنية تتبادل حماية المصالح بين الداخل والخارج وبالعكس. وهكذا شهد لبنان انفجارات سياسية وصدامات أهلية بعضها دموي، كان يعجز اللبنانيون دوماً عن وقفها، إلا بعد أن يتدخل هذا الخارج ليرتب الاوضاع، بما يحفظ مصالحه اولا ويحقق هدنة طويلة بين «القبائل اللبنانية» المتنازعة.
وصلت الطوائف اللبنانية الى ذروة عصبياتها هذه الايام. وبلغ التطرف في الخطاب الطائفي، حد تطييف كل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي، حتى بات للمنتوجات اللبنانية الزراعية هويات طائفية... وهذا أمر قديم، لكن التوتر الحالي أوصل البلاد الى شفير حرب أهلية، تهدد بنشر الفوضى والخراب في كل أنحاء المنطقة العربية، في زمن تشهد فيه هذه المنطقة تغييرات كبرى، تضعها على مفترقات المصير.
من السهل نقد الطائفية وتعداد سلبياتها وانعكاسات فكرها على نواحي حياتنا، لكن ليس سهلا أن يتوغل التوصيف في عمق تفاصيل العقل الطائفي الذي يدير الشأن الوطني. كما ان لكل طائفة من طوائف لبنان «العظمى» خصوصية وتميزاً في أسباب صعود ميول التطرف بين أبنائها هذه الايام، حيث لا تخفي حملها ميولا أكثرية «بينما الكل أقليات».
لماذا تتطرّف الطوائف الكبرى: السنة والشيعة والموارنة؟
سؤال سعينا للاجابة عنه بمنطق علمي، بعيدا عن النكايات والاستفزاز السياسي. واستعنا بأهل الاختصاص من أساتذة علم الاجتماع والفلسفة، فلعل وضع الاصبع على الجرح بهذا الشكل لا ينكأه بل ينير البصائر الى خطورة الحالة القائمة. فليس بالامر اليسير ان تدفع الاحداث طائفة كانت تعتبر نفسها بحجم أمة كالطائفة السنية، الى موقع يتبنى فيه أركانها اليوم شعار «لبنان اولا»، وان يتحول الصراع على الحكم وعلى هوية البلد من صراع تاريخي بين المسيحيين والمسلمين الى صراع سني ـ شيعي، وتصبح الولايات المتحدة الاميركية صــــديقا للبنان، وتظـهرعلاقات الاطراف السياسية والطـــائفية اللبنانية بالجهات الخــــارجية بأشـــكال علنية وكأنها أمر غير شائن، إضافة الى خروج المتطرفين من صفـــوف شرائح حاكمة، بعد ان كان التطرف سمة المهمشين والمنبوذين؟
في الجزء الاول من هذا التحقيق اخترنا أن نبدأ بالطائفة الاسلامية السنية، لماذا تتطرف في السياسة، وما هي مصلحتها وهل لموقعها وعلاقتها بالنظام اللبناني دور في هذا التطرف، وكيف توفق بين كونها «طائفة الاكثرية العربية الاسلامية» المسؤولة تاريخيا عن «مشروع الامة» وبين موقعها ودورها الحاليين، وهل بإمكانها التطلع نحو مشروع مستقبلي من دون سلوك دروب التطرف
أسباب التطرف
يربط الدكتور زهير حطب، سبب تطرف المسلمين السنة في لبنان باغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويرى ان وصوله الى الحكم وممارسته السلطة «أشعر السنة في لبنان بأنهم أصبحوا رقما مهما في المعادلة الوطنية بعد الطائف. وقد نظرت الطائفة كلها اليه بممارسته هذا الدور على انه «ابو الطائفة» وهو الذي يتحدث باسمها ويجمعها ويوحدها، فكيف اذا كان يحميها بقدراته وإمكاناته وشبكة علاقاته اللامتناهية المالية والاقتصادية والسياسية». ويعتبر حطب ان السنة «ليسوا هم من أوجد هذا الظرف الموضوعي، بل حصلوا عليه من دون أي جهد، بفضل الرئيس الحريري، في حين كانوا وفق صيغة 1943 ملحقين وأذنابا وكان رئيس الحكومة السني«باش كاتب». كان رئيس الجمهورية الماروني يسقط الحكومة ويغيّر رئيسها ساعة يشاء. وكان يعفيه ويكلف غيره من دون الالتفات الى ثقة مجلس النواب».
ويعتبر حطب ان اغتيال الحريري أدى الى «تيتيم» الطائفة وإعادة تفتتها وأرجعها الى نقطة اللاتأثير واللاتوازن، حيث شعر كل سني في لبنان بأن مصيره أصبح غامضا، لأنه لم يحل محل الحريري نائبه أو مساعده أو عضو مجلس القيادة، فهو لم يكن لديه كيان سياسي، كانت قوته ذاتية. لذلك لجأ السنة الى صيغة التحالف في إطار14 آذار للاستقواء بالعنصر الداخلي، حتى يحافظوا على موقعهم في التشكيلة اللبنانية المثلثة الاطراف.
ويعزو حطب التطرف السني الحالي في لبنان الى «شعور هذه الطائفة بالخوف اولا. وشعورها بفقدان ما حصلت عليه من دور منذ اتفاق الطائف حتى اليوم ثانيا. وغياب المرجعية التي تستطيع قيادتها، على غرار قيادات الطوائف الاخرى ثالثا. أما السبب الرابع، فهو عدم وجود تطلعات ايديولوجية واضحة لها، وكذلك عدم وجود مشروع متكامل للحكم عندها».
لكن الدكتور طلال عتريسي، يرى ان تحولات محلية وإقليمية حصلت أدت الى حصول تطرف سني: في لبنان بدأ الشيعة يصبحون طائفة كبرى وحيوية. وتولد شعور مقابل بأن الشيعة يريدون أن يأخذوا حصة من النظام، وان هذه الحصة لن تكون من الحصة المسيحية نظريا. كما ان المعادلة في المنطقة تبدلت بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، أصبح هناك دولة إسلامية شيعية، في مقابل الدول الاسلامية السنية في المنطقة. أما السبب الثالث فهو (بدءا من عام 1979) عندما بدأت الحركات المتطرفة تنشط في الوسط السني، باتجاهاتها التكفيرية التي تخرجت من مدارس موجودة في أكثر من بلد عربي. وحصلت على دعم رسمي من كل بلدان العالم، حيث قدمت نموذجاً يصلح سواء لمواجهة الفكر الشيعي أو لمواجهة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، أو الاميركيين في أماكن اخرى. ثم جاء التغيير في العراق، الذي اذا تم تثبيته، بغض النظر عن نوع الشيعة الحاكمين، سيؤشر الى كثير من الدول التي لديها حساسية سنية بتغيير مقبل. ولهذا الامر تداعياته التي تؤدي الى تفسير تحركات الشيعة في لبنان مثل التظاهر والاعتصام، كأنها وجه آخر لما يحصل في العراق. فيقال ان السنة خسروا في العراق ويجب أن لا يخسروا في لبنان. وهذا يزيد العصبية والتكتل ويوصل الى التطرف.
ويرى عتريسي ان السنّة في لبنان شعروا بأنهم مستهدفون، اثر اغتيال أكثر من قيادة سنية مرموقة، خصوصا الرئيس رفيق الحريري الذي أعطى هوية وكيانية جديدة ومختلفة للسنة في لبنان. عندئذ تم استحضار كل الاغتيالات وتولدت حالة من العصبية السنية لمواجهة هذا الاستهداف. كما حدث دخول دولي على هذه المشاعر، لتحريك الفتنة بين السنة والشيعة، حيث جرى تصوير الشيعة في لبنان بأنهم لا يريدون معرفة من قتل الحريري، لأنهم «إما متواطئون، وإما يريدون التغطية على المتورط الفعلي». وهذا الامر ولّد عصبية ضد الشيعة.
وينظر الدكتور انطوان مسرّة الى الصورة من زاوية اخرى «ان لدى الطائفة السنية مشكلة سياسية ناتجة عن رواسب ايديولوجية عربية في الوحدة والقومية. وقد جاءت صدمة اغتيال الرئيس الحريري لتوقظ السنة وتلغي عقدة نقصهم تجاه المزايدة عليهم في عروبتهم». ولذلك فإن ما يقومون به حاليا «ليس تطرفا بل هو ثمرة معاناة وتجربة مع الانظمة العربية وثمرة الثقة بالنفس». ويعتبر مسرّة «ان الاسلام في المنطقة العربية يشهد انحرافا نتيجة وجود تيارات التعصب والاصولية. وان التعبئة المتطرفة موجودة لدى كل الطوائف نتيجة أوضاع المنطقة لا نتيجة أوضاع لبنانية، وبالتالي فإن قضية الطائفية في لبنان هي قضية عربية، حاول لبنان معالجتها بأشكال قد تكون عرجاء، لكنها كانت أفضل من أي بلد عربي وحتما أفضل من النموذج الاسرائيلي».
لكن الدكتور ادونيس عكرة يرى ان السنّة بغالبيتهم ليسوا متطرفين، وان ما فعلوه اثر استشهاد الرئيس الحريري يبيّن عدم تطرفهم. لكن هناك قوى وفصائل سنية متطرفة نتيجة فهمها للدين الاسلامي بما لا يتماشى مع الاسلام الرسمي. وهؤلاء متطرفون حتى تجاه المسلمين وليس فقط تجاه غير المسلمين، وهم ما يعرف بالفئات التكفيرية. هؤلاء يلغون الآخر لان اعتباره كافرا هو إلغاء وجودي له، ما يدفع الى التساؤل حول توافق شعار «لبنان اولا» الذي ترفعه أطراف السلطة اللبنانية، مع إعطائها ترخيصا بالعمل لطرف مثل «حزب التحرير» الذي يتناقض ميثاقه مع الدستور اللبناني، حيث يدعو الى إقامة دولة الخلافة؟
العلاقة بالنظام
ولكن الى أي مدى تلعب تركيبة النظام دوراً في إنتاج التطرف لدى السنة؟
يوافق حطب على تأثير تركيبة النظام اللبناني في إنتاج آليات التطرف الطائفي «من خلال عدم إفساح المجال أمام اشتراك التكوينات غير الطائفية وغير المذهبية وغيرها من التكوينات الثانوية والنخبوية في السلطة». ويشدد على ان نظام الحكم اليوم «مصادر من الطوائف، بعد أن تلبست كل طائفة طرفا سياسيا. وما دام النظام السياسي لا يفتح مجال المشاركة في الحكم أمام القوى غير الطائفية، سيبقى سليل كل عائلة تاريخية ودهرية يمارس دور أهله ويلعب بالناس ولا يحتاج لذلك سوى الى التحالف مع عدد من رجال الدين، حتى يصادر طائفته». ويرى «ان فقدان المواطن الشعور بالامان الاجتماعي والاقتصادي والصحي وغيره، سيبقيه رهن العلاقة بمؤسسات طائفته»، لافتا الى ان آليات تكوين النظام حاليا تنتج قوى طائفية وأبرز هذه الآليات: قانون الانتخاب، قانون تشجيع الاحزاب ومناهج التعليم، التي أجهض مشروع تغييرها، حيث جرى تهشيم التعليم الرسمي لمصلحة مؤسسات التعليم الطائفي.
ويلفت عتريسي الى ان تاريخ المسلمين السنة، بمن فيهم سنة لبنان، يشير الى أنهم طائفة الاعتدال والمساومة على الحلول الوسط. وكانت شعارات زعمائهم في لبنان تصب دوماً في هذا المجال، خصوصاً أنهم في لبنان ليسوا بحاجة أصلا الى التطرف، لان حقّ السنة عموما في لبنان كان محفوظا من جهتين: طبيعة النظام اللبناني الذي تأسس على الشراكة المارونية ـ السنية؛ والحماية العربية للحق السني في لبنان. لذلك لم يعرف المسلمون السنة في لبنان سابقا التطرف بمعناه السياسي أو الاعتقادي أو الاجتماعي.
إلا ان مسرة يقارن بين مواقف وشعارات بعض قيادات السنة عام 1975 عندما اعتمدت على القوى المسلحة الفلسطينية وطالبت بتغيير الدستور، وبين مواقف القيادات السنية اليوم، التي توقفت عن هذه المطالبة. ويدعو الى «ضرورة تعميم هذه اليقظة السنية على جميع الطوائف اللبنانية. لان يقظتهم وضعت لبنان في الموقع الريادي بقوميته ووحدويته». ويشدد على عدم وجود نموذج عربي أفضل من النموذج اللبناني حتى نأخذه، لذا نحن سنخلق النموذج.
وينفي عكرة أن تكون علاقة السنّة بالنظام اللبناني القائم سبباً في ظهور الفئات التكفيرية، فهذه الفئات لم تنشأ لان السنّة منبوذون في لبنان، أو لأنهم طرف معارض في هذا الكيان. دور السنة كان أساسيا منذ تأسيس الكيان اللبناني ولم يكونوا يوماً طرفاً ضعيفاً وهم حكام البلد منذ اتفاق الطائف. لذلك فإن التطرف الموجود لدى بعض فئات السنة، يتجاوز في أسبابه الحدود اللبنانية بكثير.
المصلحة
هل التطرف من مصلحة الطائفة السنية؟ وكيف يوفق السنة بين دورهم التاريخي كأمة باعتبارهم الاكثرية بين العرب والمسلمين، وبين التطرف الذي يضعهم في مواجهة مكونات الامة من مسلمين وغير مسلمين؟
يقول حطب ان الطائفة السنية هي ضحية التطرف الآن. ويذكّر بخسارة الرئيس الحريري «كقوة موحدة غير قابلة للعنف والتطرف». ويؤكد ان السنة سيكونون أبرز الخاسرين اذا تفجر العنف والتطرف في لبنان. لكن ذلك سيدفعهم بعد عقود الى حلقة لاحقة من العنف والتطرف. ويشدد على «ان مشروع الطائفة السنية الآن هو الدفاع عن النفس لا الدفاع عن الامة. والامة أصبح لها مدافعون عنها أقوى من السنة. واذا كان السنة يختزنون تاريخ الاسلام ويعبرون عن الامة، فإنهم الآن لم يعودوا العنصر الاقوى في التعبير عن الاسلام السياسي، خصوصا أن الانظمة العربية ليس لها مشاريع حول وحدة الامة، عربية كانت أو إسلامية».
يضيف حطب: «أنا كلبناني عنصر ضعيف في هذه الامة. وأرى أن الدول العربية الاسلامية السنية أخذت خيارات تاريخية أخرجتها من فكرة الامة العربية أو الامة الاسلامية، إلا اذا كان التعبير للاحتفال في المؤسسات الدولية والاقليمية. ولم يعد هناك وهم بأن المسلمين السنة، لأنهم الاكثر عددا، سوف يعيدون الاعتبار لإعادة تكوين وحدة الامة. فكرة ومشروع إعادة بناء الامة الاسلامية غير موجود إلاّ عند الشيعة في مشروع ولاية الفقيه. أما تنظيم «القاعدة» عند السنة فليس مشروع توحيد أمة، بل هو مشروع تخريب، لأنه قائم على تفكك مكاني وعلى لا وحدة في الانتماء والرؤية، في حين ان مشاريع العولمة سائرة وكل مشاريع تنظيم النظام العالمي الجديد قائمة. ونحن كعرب نشكل 200ـ300 مليون نسمة من أصل ستة مليارات إنسان، فلا يتوهم أحد انه قادر على عرقلة مشاريع العالم، لأنه يمتلك رؤية لإعادة توحيد الامة الاسلامية ضمن مشاريع جديدة تعيدنا الى الوراء أكثر مما فيها استشراف للمستقبل ورغبة في الانخراط فيه. وهذه المفارقات لا تحلها الارادات بل تحلها الوقائع».
أما عتريسي فيرى ان مشكلة السنة في لبنان، انهم كانوا دائما جزءا من البعد العربي ومشروعهم جزءا من مشروعه. ولان المشروع العربي الذي يتمحور حول الوحدة ومقاومة الاستعمار والصراع ضد اسرائيل، أصبح مضطربا وليست له معالم واضحة، بعد خروج مصر منه ودخول معظم الدول العربية في مشاكل داخلية أو خيارات مختلفة، فإن السنة في لبنان يعيشون توترات فقدان العمق العربي وغياب المشروع العربي، ما حوّل المشروع السني في لبنان الى مشروع داخلي، لا بد له من أن يصطدم بالطوائف الاخرى. في حين انه كان يراها في المشروع العربي مكملة له ورديفة لمشروعه، تقاتل الى جانبه ضد اسرائيل وضد الهيمنة الاميركية. المشروع العربي الواسع يستوعب الجميع، وفي غياب المشروع يصبح كل شخص خائفا على دولته وكيانه، لا يعود يرى ان الاقلية يجب دمجها، بل يبحث عن كيف يتخلص منها. عندما يصبح المشروع داخليا سيرى الطوائف الاخرى عنصراً خصماً وسيستعين بأي قوة لضرب الآخر الذي يراه بدوره انه يستعين بالخارج، وهذا هو تفسير شعار «لبنان اولا» لان السنة لم يروا في حياتهم لبنان اولا، بل كان بالنسبة لهم جزءا من المحيط العربي والمشروع العربي. في حين ان الحكومات التي تدعي الدفاع عن السنة تقمع قواهم السياسية. في مصر مثلا حكومة سنية تمنع أكبر تنظيم سني في العالم من ان يكون حزباً شرعياً معلناً وتضطهده دائماً. وهذه حال جميع الانظمة، تخاف على مستقبلها السياسي حتى من الحركات الاسلامية السنية ولا تسمح لها بالوصول الى السلطة.
ويميز مسرّة السنة في لبنان عن السنة في المنطقة العربية، ويرى ان المسلم السني في لبنان مستنير وفي تفاعل يومي مع الطوائف الاخرى.
أما الدكتور عكرة، فيشدد على ان «لا مصلحة لأي طائفة بالتطرف وإلغاء الآخر، ما دامت موافقة على بقاء الكيان اللبناني استنادا الى الدستور. أما التطرف فهو إلغاء للبنان». ويعتبر ان دور الطائفة السنية التاريخي «كأمة» ودورها الحالي «المحلي» لا يتوافقان. وفي حال اعتبرنا ان السنة «أمة» وليسوا طائفة، فهذا المبدأ يسري على الطائفة الشيعية، لان الاسلام ضد القوميات والامة الاسلامية تشمل كل المسلمين من كل القوميات. وحتى عندما نتحدث عن أمة إسلامية، يجب أن لا يتعارض ذلك مع الكيانات السياسية التي تكفل المساواة بين جميع أبنائها، بعد إعادة تأويل هذا المفهوم لينسجم مع الحياة العصرية.
بيئات التطرف
من أي بيئة اجتماعية أو سياسية يأتي التطرف السني، هل يأتي من بيئات فقيرة تبحث عن العدالة والمساواة، ام من بيئات غنية تبحث عن دور، أم بسبب مشاريع سياسية محلية أو إقليمية؟
يرى حطب انهم يأتون «مثل كل المتطرفين، من أصول ريفية لم يصلها التغيير ولم تحصل على حاجاتها الاساسية وتشعر بتفاوت التنمية بين مناطقها وباقي مناطق الدولة، لذلك تلجأ الى الطائفة لتستقوي بها وتجرها الى مواقعها، ويصادف ان يلتقط انتهازيون من مثقفي ونخبة الطائفة هذه الفرصة، فيقودوا التطرف ويصبحوا معبرين باسم الطائفة عن هؤلاء المساكين، في مواجهة ما تبقى من الحكم والدولة المتهالكين، في بلد تتقاسم الطبقة الحاكمة فيه الادوار».
وحسب عتريسي يأتي المتطرفون من بيئات اجتماعية متواضعة، منغلقة فكرياً، تعتبر الافكار الاخرى ضلالا وكفرا وزندقة. كما ان هناك أوساطا ليست كلها فقيرة، أوساطا متعلمة ومن الطبقة الوسطى، وصل اليها هذا النمط من التفكير. وما ساعد على ذلك السلوك هو التدخلات الخارجية، التي أنتجت في يوم ما ظاهرة «الافغان العرب»، الذين تنكر لهم من جنّدهم لقتال السوفيات، فتطرفوا ضد حكوماتهم وضد الغرب.
ويرى مسرّة ان التطرف يأتي من ثلاثة أماكن: الجو العام المتطرف في المنطقة نتيجة وجود تيارات دينية متطرفة؛ تراجع دور المؤسسات الدينية الاسلامية التي تصمت أمام تيارات التعصب من جهة وتتواطأ مع السلطات لأنها جزء منها، وجمود برامج التربية المدنية والتاريخ وعدم جعلها عنصر تغيير.
ويعتبر عكرة ان ظاهرة بن لادن كمتطرف غني، ظاهرة فريدة، لان التطرف يأتي في معظمه من بيئات فقيرة. ويستغرب كيف أن هناك مناطق في لبنان ذات أغلبية سكانية سنيّة، مثل عكار والبقاع واقليم الخروب والجنوب، محرومة وفقيرة، في حين أن الحكم بيد السنّة منذ اتفاق الطائف؟ كما ان السنة منذ الاستقلال لم يكونوا على هامش الحكم، بل كانوا في صلب السلطة، فكيف تركوا هذه المناطق على مثل هذا الوضع من الفقر، وهل كان هدف كل مشاريع الاعمار بعد الطائف هو «سوليدير».
الحلّ
كيف يستطيع المسلمون السنة التطلع نحو المستقبل بدور وموقع بعيد عن التطرف؟
يفاجئك حطب بالجواب: «ان يتخلوا عن سنيتهم، اذ ليس المستقبل للحفاظ على هويات مذهبية وطائفية. ولا بد من بناء المستقبل في لبنان والمنطقة خارج أطر الطوائف والدين، على الاسس التي تبنى عليها الدول: العلم والتكنولوجيا، التقدم والتبادل مع العالم».
لكن لصالح أي هوية سيكون ذلك؟
يجيب: لصالح إنسانيتهم. ويضيف: أنا لا أرى ان «السنية» هوية يجب أن نتمسك بها، البديل هو الطابع الانساني للانسان. أنا أرى أن تكون قيمي إنسانية، فهذا أكثر رحابة من ان تكون قيمي سنيّة. وان تتوجه قيمي السياسية الى العالمية أهم من أن تتوجه الى المذهبية، أن تتوجه نحو الانفتاح وحب الحياة أفضل من أن تكون نحو فتح الجبهات والقتال عليها. لا بد أن نسير في اتجاه الجمع لما يحقق للانسان إنسانيته. وعلى المسلمين السنة أن يطوروا القيم الايجابية للمذهب السني حتى يجعلوه رافدا من روافد التوجه الانساني العام. وإلا الى ما نحن مهيئون؟ الى القتال وتحمّل تهمة الارهاب؟ على الاقل علينا أن نعيد بناء ارتباطنا بمجتمعاتنا وشركائنا في الاوطان على أساس المواطنية ووحدة الانسان ووحدة الاستقرار والانفتاح العالمي.
الحل يراه الدكتور عتريسي بالفكر الاجتهادي الذي يرى التحولات وتغيّر البيئات ويبحث في كيفية فهمها على ضوء النصّ والقرآن والشرع. وهذا الاجتهاد لا يخلق مشكلة لأنه يفهم الآخر ويتسامح معه. كما ان الارتباط بمشروع الامة المتمحور حول الاستقلال والتنمية والوحدة وتعزيز القدرات العلمية والفكرية والبحثية يحتاج الى الانفتاح والحوار والتعلم من الآخر، ويحتاج الى كل طاقات الامة والى تصويب البوصلة نحو مصدر الخطر الحقيقي. وهذا يضعف الفكر التكفيري، الذي يستفيد من الارباك الذي يسود المنطقة، بين اتجاهين: واحد يرى أن الخطر يتجسد بإسرائيل وآخر اتجاه تصالحي وهذا ينعكس على لبنان.
أما الحلّ برأي مسرة فيكون «بالاسلام اللبناني. فالمسلمون السنة في لبنان، حتى المتطرفون منهم هم الاكثر اعتدالا بين السنة في كل المنطقة العربية والعالم. والسني اللبناني المتطرف عندما يذهب ليعيش في السعودية أو غيرها، يشعر بفقدان جو الحرية والتفاعل». لذلك يدعو «الى دراسة الاسلام اللبناني لأنه مميز من خلال تجربته الخاصة. وهو الوحيد القادر على إعادة إنتاج الفكر الاسلامي المستنير». ويلفت الى ان القيادات السنية أعلنت ان الحل يكون بشعار «لبنان اولا»، فهو تطبيق لوثيقة الطائف القائلة بأن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. وهذا يحتاج الى فكر لبناني جديد هو «الفكر الانعزالي التقدمي» لا يعادي العرب بل يقفل أبوابه ونوافذه عن تدخلهم في مشاكله ونقل مشاكلهم اليه».
وبرأي عكرة يكون الحل في تطبيق الدستور كما اتفق عليه بين الطوائف، وبحسن ممارسته. والالتزام بالتنمية المتوازنة والمتكافئة، والنظر الى المناطق النائية بنفــس النظرة الى العاصمة وليس اعتبار سكان المناطق مواطنين من الدرجة الثانية.