ابن خلدون
02-28-2007, 09:07 PM
مايسة عواد-- السفير
(javascript://)كل ما تطلبه في البسطة تجده. هكذا يعرّف أهل البسطة عن حيّهم البيروتي العريق. يستقبلك شارع البسطة بزحمة سيارات وحركة مارة وسط سوق تعج بكل أنواع البضائع. أهلاً بك في منطقة شهدت أحلى أيام العز زمن مرور القطار فيها، وتحولت اليوم إلى مقصد لتجار من مختلف المناطق.
بدءاً من مسجد البسطة التحتا، يطالعك تلاصق دكاكين صغيرة تزخر بكل ما تطلبه. موبيليا؟ هنا تجد طلبك. ثياب وأحذية؟ جاهزة، وإن لم تكن من الماركات العالمية. مرايا للسيارات؟ طلبك موجود. تستطيع رائحة «الكنافة بجبن» والخبز الطازج ان تدلك إلى محال الحلويات والأفران أيضاً، وإلى جانبها هناك دائماً مساحة لمحلات صغيرة تتنوع مهامها بين تزيين الخزفيات والتفنن في أعمال النجارة.
لا يقتصر التلاصق والزحمة على المحلات في البسطة، تستطيع نظرة واحدة إلى مباني المنطقة أن تعكس تغيرات طالت الحجر والبشر بسرعة قياسية: مبان عالية لكن قديمة ملاصقة لبيوت بيروتية تقليدية من طابقين. أصبح «الروتين» بالنسبة إلى سكان المنطقة «الأوائل» أن يتعرفوا إلى جيران جدد ممن اختاروا الشقق السكنية، المكتظة اصلاً، عنواناً جديداً لهم في العاصمة بيروت.
لا مجال لمزاح يلعب على وتر حساس في هذه البقعة، يسبق صيت سكان البسطة التحتا والبسطة الفوقا فعل أهلهما. «البسطة جبل النار، هي مركز القباضايات الأوادم خلال كل الأزمات التي عرفها لبنان». تتردد الجملة على لسان أصحاب المحلات وضيوفهم على حد سواء. ولمن لا يقتنع بسهولة فحادثة «باولي»، التي تحضر في معظم الكتب التي تحدثت عن البسطة، جاهزة للتذكير. وباولي، لمن لا يعرفه، هو لبناني من أصل يوناني، كان يتزعم محلتي المزرعة ورأس بيروت وأراد التحرش بقبضايات البسطة كي يذيع صيته، فأخذ يمر في المحلة ويفتعل المشاكل، وكانت والدته تنصحه بالابتعاد عن قبضايات البسطة غير انه لم يرتدع، وبعدما زادت مضايقاته لحق به أحد ابناء المنطقة وقتله، وعندما علمت والدته بالخبر انشدت عبارات صارت مثلاً يُضرب: ما قلت لك يا اسطة/ شو بدك بولاد البسطة/ اللي ما بيقتلك بالسكين/ بيقتلك بالبلطة!.
هو صيت جبل النار، لكن مقابل الرواية هذه تجد عشرات القصص التي تشهد على مآثر تاريخ حافل باحتضان آلاف أبناء المناطق، وبتعايش بين مختلف ابناء الطوائف، لم ينفرط عقده بسهولة برغم أحداث شكل فيها جبل النار «جبهة أولى» في المواجهة، سواء في العام 1958 أو بعده إبان الحرب الأهلية وما تبعها من محطات متشنجة.
يعتبر المحامي عمر زين الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب، ان إحدى أهم ميزات النسيج الاجتماعي للبسطة ضمها، ومنذ مطلع الأربعينيات، أكبر عدد من الطوائف المختلفة بين أبنائها، فاعتباراً من العام 1940 أتى الناس من الجنوب ضيعة بعد ضيعة ليستقروا في البسطة. يعطي زين أكثر من مثال: «أتى أهل الريحان إلى شارع محي الدين العربي، الخطوة نفسها اتخذها أهل كترمايا، في حين اختار أهل النبطية شارع شفيق الوزان في سيدي حسن».
لكن استقطاب البسطة لأبناء العديد من القرى لم يكن وليد مكانتها التجارية آنذاك فحسب، فإبان الحرب العالمية الثانية أو ما يعرّف عنه الحاج مختار الكوش بـ«أيام إعانات هتلر» قام عدد من أبناء المنطقة وعن طريق المصاهرات باستضافة ابناء القرى في الجنوب والبقاع. يروي الكوش كيف قام المربي أبو أمين الكوش باستدعاء عدد كبير من أبناء عربصاليم وشمسطار ومن ثم أهالي بعلبك الذين اختاروا له عروساً من مدينتهم: «عمل حوالى ربع الأهالي الذين قدموا يومها في الجيش اللبناني، أما الباقون فحصّلوا رزقهم من معمل غندور».
قبل الحرب وبعدها
يشير المحامي عمر زين إلى ان البطريرك المعوشي حصل في البسطة على لقب «محمد المعوشي»، أما الكوش فيلفت إلى تواجد كنيستين في المنطقة، علامة التنوع: كنيسة السريان في الخندق الغميق وكنيسة المخلص بعد محطة القطار.
مع ذلك فإن البسطة لم تسلم من تبعات أحداث العام 1958 على خلفية التجديد لكميل شمعون، وهي الأحداث التي أدت إلى ترك الأرمن البسطة بحسب زين الذي يشير إلى سيطرة حزب النجادة وحزب المقاومة الشعبية آنذاك على معظم المنطقة، في حين ان نزلة المخفر كانت الغلبة فيها للهيئة الوطنية.
اما النكسة الثانية التي عرفتها البسطة فكانت، كما كل لبنان، خلال الحرب الأهلية، يقول زين انه في العام 1975 نزحت عائلات كبيرة من البسطة، وترافق ذلك مع بيع أملاك وتهديم البيوت القديمة الفخمة. وفي حين يعود زمن «النزوح الأول» إلى الفترة الممتدة بين الأربعينيات حتى العام 1975 توجه خلالها عدد من الأهالي إلى طريق الجديدة بسبب التوسع العمراني. تمتد فترة النزوح الثاني من العام 1975 حتى اليوم، وترك خلالها عدد من أهل البسطة حيهم، إلى عرمون وبشامون ثم مشارف صيدا لأسباب تتعلق بالكلفة المعيشية المتدنية هناك.
بالطبع، تغيرت خارطتا الأحزاب والتوزيع السكاني جذرياً اليوم في منطقة يرسم فيها التنوع المذهبي خصوصية كبيرة. تمشي في شوارع البسطة وزواريبها لتطالعك فسيفساء من اللافتات، في البسطة الفوقا صور كثيرة للشهيد رفيق الحريري وشعارات لتيار المستقبل، وعلى بعد أمتار قليلة، أي في البسطة التحتا مزيج من صور السيد حسن نصر الله، الرئيس نبيه بري وطبعاً لافتات كتب عليها «معك» تحمل صورة الرئيس الشهيد. ما عزز هذه الفسيفساء هو ضم حوالى 25 ألف ناخب من الطائفة الشيعية في لوائح شطب البسطة التحتا أيام حكومة الرئيس سليم الحص. وهي خطوة أثرت بعمق على الخارطتين الديموغرافية والسياسية لمنطقة تتعدد فيها الانتماءات السياسية والمذهبية.
بين الميجانا وأخصماك آه
لطالما طرحت اسئلة كثيرة حول اصل كلمة البسطة، وبالرغم من تعدد الروايات فإن المحامي عبد اللطيف فاخوري ينقل عن المرحوم الحاج محمد عبد الغني رضوان (حفيد رضوان الحسامي) الذي قدم من جبيل لسبب غير معروف، أنه كانت في المحطة المذكورة ثلاثة بساتين لعائلات البشناتي والشدياق والشعار، وقام محمود أحد أبناء رضوان بوضع طاولة خشبية (بسطة) في موقع مخفر البسطة الفوقا حالياً لبيع الخضار. وكان يقف إلى جانبه ابنه حسن المعروف بأنه سمين وأكول (أطلق عليه لقب الغويل)، فتعارف بائعو الخضار الذين يأتون من برج البراجنة والحدث والشياح لبيع منتوجاتهم في المدينة، على التعريف عن المنطقة بالقول البسطة الفوقا لبسطة الغويل والبسطة التحتا لبسطة فرشوخ.
مع العلم ان أول إشارة للبسطة بحسب فاخوري جاءت سنة 1882 في صحيفة المصباح، ثم ذكرت ثمرات الفنون سنة 1895 اسم البسطة العليا عند تدشين مسجد البسطة الفوقا، في حين ان كلمة البسطة لم ترد في السجلات الشرعية القديمة لأن المحلة المذكورة كانت ضمن الباشورة.
مهما يكن من أصل الاسم، إلا ان الأكيد أيضاً انه لا يمكن المرور بالبسطة من دون ملاحظة مقاهٍ صغيرة يجتمع فيها رجال يمضون اليوم كاملاً هنا.
في البسطة التحتا، وداخل مقهى صغير متعارف عليه باسم قهوة الأسعد «نفَس الأركيلة بألف ليرة» أما فنجان القهوة «فبألف أخرى». و«القهاوي» التي اهمل معظمها اليوم، كانت في السابق «قهاوي» لا يقصدها إلا القبضايات وكبار القوم حيث يتم التشاور بالأمور المستجدة. هذا المشهد ليس بغريب على الحي، فقد عرفت البسطة الفوقا والتحتا أكثر من مقهى، اكثرها شهرة بحسب عمر زين قهوة الباشا التي حُولت اليوم إلى مطعم مقابل مخفر الدرك في البسطة الفوقا، ولـ«القهوة» هذه «ميزة» خاصة على زميلاتها، إذ شاهدها كل العالم العربي بعد تصوير المغنية نانسي عجرم أغنية «أخصماك آه» في داخلها.
يروي زين انه على بعد ثلاثة أمتار من «قهوة الباشا» كان هناك منافس آخر في المهنة: «قهوة حمد». لكن الساحة في البسطة لم تكن خالية من منافس ثالث، فالمقهى او «القهوة» الأكثر شعبية على الإطلاق كانت إلى جانب محطة القطار، حيث يتمكن الرواد من مراقبة الوافدين والمغادرين على متن خطوط السكك الحديدية.
غابت السكك الحديدية وغابت أيضاً ظاهرة القبضايات، والقبضايات بحسب زين والكوش هم «مجموعة من خيرة الأوادم، يملكون هاجس الحمية القومية والدفاع عن العرض، وتجتمع فيهم صفات النبل والأخلاق الحميدة والكرم».
وكانت علاقات بعض قبضايات البسطة وطيدة مع الزعيم رياض الصلح، وكانت كل خلية شعبية من قبضايات بيروت تضم حوالى ثلاثين شخصاً، عائلات قبضايات البسطة آل نعماني، شهاب الدين، جنون، خانجي، دعبول، صيداني، غلاييني، سنو، زين، زعتري وحلوي.
قد يفسر الاكتظاظ السكاني في البسطة، سبب تمايزها عبر احتضانها في مساحة صغيرة عددا كبيرا من المستشفيات (البربير، الإسلامي، رزق، صبحي الطيارة، مليح سنو ومستشفى الدكتور محمد خالد وغيرها)، وكانت تلك المستشفيات تشكل مقصداً للخليجيين تحديداً، بسبب قيامها بعدد من العمليات الجراحية الدقيقة والمعقدة آنذاك. أما المعلم الآخر الأساسي من معالم البسطة (الفوقا والتحتا) فهو احتضانها لعدد قياسي من المدارس (مدرسة الشيخ نور، مدرسة المربي عزيز مومنه، مدرسة شريف خطاب ومدرسة العلماوي، مكارم الأخلاق)، الغنى في الخدمات قابله غنى في الموارد البشرية هذا ما يؤكده زين بالقول: «في بقعة لا تتجاوز مئتي متر في البسطة الفوقا كان هناك الفنانون نجاح سلام، محمد سلمان، انطوان كرباج، شوشو، محمود الرشيدي (والد قعبور)، الدروندي، محمد شامل، محي الدين سلام (والد نجاح سلام)، الرسام مصطفى فروخ وغيرهم».
للأسماء اللامعة في البسطة نصيب إذاً، لكن أهل المحلة يذكرون أسماء لمعت على طريقتها، إذ لا يمكن استعادة اسم «محل برجاوي» من دون بسمة، بسبب بائع قرر ان يعلق على بوابة دكانه الصغير لوحاً أسود يدوّن عليه بطبشورة بيضاء وبخط جميل، كل ليلة سبت، «حكمة» الأسبوع من وحي الواقع السياسي. كانت كل بيروت تأتي لتعرف ماذا كتب «أبو طبشورة» نهاية الأسبوع. ما زال المحل في مكانه، لكن الإبن عادل برجاوي لم يتابع عادة والده هذه: «خلص، صار في عنا اليوم مين بيرسم كاريكاتور وصار في تلفزيونات بكل بيت».
بين «الفيشي» و«الزنطرة»
تراقب الحاجة سعاد شقير بشيء من الحسرة التغييرات التي طالت المنطقة التي عاشت فيها منذ صغرها، إذ تغيرت جغرافيا المكان وتغيرت العلاقات بين الناس «كان كل بيت له جنينة وقرميد، وكل بيت فيه ياسمينة، ليمون بوصفير، شجرة أكي دنيا، إضافة إلى زهر الحنة والفتنة».
تعتبر ان النساء كن يتمتعن بكثير من الامتيازات. تتذكر عندما كانت شقيقتها ترتدي الفيشي مغطية عينيها بقماشة شفافة، وكيف بطلت الموضة عندما كانت هي شابة فحل «الإشارب» مكانها، «بعدها أتت موضة السفور الكامل، وكان في زنطرة كثير، كنا ننزل على سوق الطويلة ونشتري أجمل الأقمشة والموديلات، أيامها كان دارج القصير والساتان والحياكة المرتبة».
أما الغواية التي طبعت مرحلة كاملة فكانت عبر لبس القبقاب من «القببجي» القادم من حلب.
تتأمل اليوم الحاجة الصبايا اللواتي يخطرن على طريق البسطة وتعلّق: «تغيرت الامور كثيراً، عندما كان يتقدم لأي صبية عريس من رأس النبع أو رأس بيروت كان غالباَ ما يكون جواب الأهل «ما منغرّب!»، أما في حال حاول شخص ان يعاكس صبية، فشبان الحي جاهزون لتعليمه أصول المرور في البسطة!» وفي زمن غياب الـ«بلوتوث» والانترنت والهاتف الخلوي، «لم يكن يستطيع الأحباء ان يتواصلوا أبعد من «شعيرية» النافذة».
تبتسم الحاجة شقير عند حديثها عن النساء في البسطة، تؤكد انه «كما كان للرجال نشاطاتهم الخاصة خصوصاً أيام المولد النبوي، كذلك كانت النساء تجتمعن يومياً ومداورة في ضيافة إحدى السيدات، وكانت الحاجة فهيمة العاصي من أبرز اللواتي حرصن ان يغص صالون بيتها بنساء الحي برفقة الموسيقى والطعام والشراب... طبعاً لغاية بعد الظهر موعد عودة الرجال أو الأولاد من المدرسة».
تغادر البسطة وسط الزحمة التي استقبلتك، تبتعد عن آخر معلم لارتداء وكي الطربوش القديم، لتلتقي بشبان ببنطلون الجينز وتسريحات شعر حديثة. يصعب على المرء ان يتخيل حال البقعة التي يقف فيها يوم كانت المباهاة تتمحور حول «الشروال الطويل المدعّم أحياناً ببحصة» والقبة المخمل المكوية بعناية.
(javascript://)كل ما تطلبه في البسطة تجده. هكذا يعرّف أهل البسطة عن حيّهم البيروتي العريق. يستقبلك شارع البسطة بزحمة سيارات وحركة مارة وسط سوق تعج بكل أنواع البضائع. أهلاً بك في منطقة شهدت أحلى أيام العز زمن مرور القطار فيها، وتحولت اليوم إلى مقصد لتجار من مختلف المناطق.
بدءاً من مسجد البسطة التحتا، يطالعك تلاصق دكاكين صغيرة تزخر بكل ما تطلبه. موبيليا؟ هنا تجد طلبك. ثياب وأحذية؟ جاهزة، وإن لم تكن من الماركات العالمية. مرايا للسيارات؟ طلبك موجود. تستطيع رائحة «الكنافة بجبن» والخبز الطازج ان تدلك إلى محال الحلويات والأفران أيضاً، وإلى جانبها هناك دائماً مساحة لمحلات صغيرة تتنوع مهامها بين تزيين الخزفيات والتفنن في أعمال النجارة.
لا يقتصر التلاصق والزحمة على المحلات في البسطة، تستطيع نظرة واحدة إلى مباني المنطقة أن تعكس تغيرات طالت الحجر والبشر بسرعة قياسية: مبان عالية لكن قديمة ملاصقة لبيوت بيروتية تقليدية من طابقين. أصبح «الروتين» بالنسبة إلى سكان المنطقة «الأوائل» أن يتعرفوا إلى جيران جدد ممن اختاروا الشقق السكنية، المكتظة اصلاً، عنواناً جديداً لهم في العاصمة بيروت.
لا مجال لمزاح يلعب على وتر حساس في هذه البقعة، يسبق صيت سكان البسطة التحتا والبسطة الفوقا فعل أهلهما. «البسطة جبل النار، هي مركز القباضايات الأوادم خلال كل الأزمات التي عرفها لبنان». تتردد الجملة على لسان أصحاب المحلات وضيوفهم على حد سواء. ولمن لا يقتنع بسهولة فحادثة «باولي»، التي تحضر في معظم الكتب التي تحدثت عن البسطة، جاهزة للتذكير. وباولي، لمن لا يعرفه، هو لبناني من أصل يوناني، كان يتزعم محلتي المزرعة ورأس بيروت وأراد التحرش بقبضايات البسطة كي يذيع صيته، فأخذ يمر في المحلة ويفتعل المشاكل، وكانت والدته تنصحه بالابتعاد عن قبضايات البسطة غير انه لم يرتدع، وبعدما زادت مضايقاته لحق به أحد ابناء المنطقة وقتله، وعندما علمت والدته بالخبر انشدت عبارات صارت مثلاً يُضرب: ما قلت لك يا اسطة/ شو بدك بولاد البسطة/ اللي ما بيقتلك بالسكين/ بيقتلك بالبلطة!.
هو صيت جبل النار، لكن مقابل الرواية هذه تجد عشرات القصص التي تشهد على مآثر تاريخ حافل باحتضان آلاف أبناء المناطق، وبتعايش بين مختلف ابناء الطوائف، لم ينفرط عقده بسهولة برغم أحداث شكل فيها جبل النار «جبهة أولى» في المواجهة، سواء في العام 1958 أو بعده إبان الحرب الأهلية وما تبعها من محطات متشنجة.
يعتبر المحامي عمر زين الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب، ان إحدى أهم ميزات النسيج الاجتماعي للبسطة ضمها، ومنذ مطلع الأربعينيات، أكبر عدد من الطوائف المختلفة بين أبنائها، فاعتباراً من العام 1940 أتى الناس من الجنوب ضيعة بعد ضيعة ليستقروا في البسطة. يعطي زين أكثر من مثال: «أتى أهل الريحان إلى شارع محي الدين العربي، الخطوة نفسها اتخذها أهل كترمايا، في حين اختار أهل النبطية شارع شفيق الوزان في سيدي حسن».
لكن استقطاب البسطة لأبناء العديد من القرى لم يكن وليد مكانتها التجارية آنذاك فحسب، فإبان الحرب العالمية الثانية أو ما يعرّف عنه الحاج مختار الكوش بـ«أيام إعانات هتلر» قام عدد من أبناء المنطقة وعن طريق المصاهرات باستضافة ابناء القرى في الجنوب والبقاع. يروي الكوش كيف قام المربي أبو أمين الكوش باستدعاء عدد كبير من أبناء عربصاليم وشمسطار ومن ثم أهالي بعلبك الذين اختاروا له عروساً من مدينتهم: «عمل حوالى ربع الأهالي الذين قدموا يومها في الجيش اللبناني، أما الباقون فحصّلوا رزقهم من معمل غندور».
قبل الحرب وبعدها
يشير المحامي عمر زين إلى ان البطريرك المعوشي حصل في البسطة على لقب «محمد المعوشي»، أما الكوش فيلفت إلى تواجد كنيستين في المنطقة، علامة التنوع: كنيسة السريان في الخندق الغميق وكنيسة المخلص بعد محطة القطار.
مع ذلك فإن البسطة لم تسلم من تبعات أحداث العام 1958 على خلفية التجديد لكميل شمعون، وهي الأحداث التي أدت إلى ترك الأرمن البسطة بحسب زين الذي يشير إلى سيطرة حزب النجادة وحزب المقاومة الشعبية آنذاك على معظم المنطقة، في حين ان نزلة المخفر كانت الغلبة فيها للهيئة الوطنية.
اما النكسة الثانية التي عرفتها البسطة فكانت، كما كل لبنان، خلال الحرب الأهلية، يقول زين انه في العام 1975 نزحت عائلات كبيرة من البسطة، وترافق ذلك مع بيع أملاك وتهديم البيوت القديمة الفخمة. وفي حين يعود زمن «النزوح الأول» إلى الفترة الممتدة بين الأربعينيات حتى العام 1975 توجه خلالها عدد من الأهالي إلى طريق الجديدة بسبب التوسع العمراني. تمتد فترة النزوح الثاني من العام 1975 حتى اليوم، وترك خلالها عدد من أهل البسطة حيهم، إلى عرمون وبشامون ثم مشارف صيدا لأسباب تتعلق بالكلفة المعيشية المتدنية هناك.
بالطبع، تغيرت خارطتا الأحزاب والتوزيع السكاني جذرياً اليوم في منطقة يرسم فيها التنوع المذهبي خصوصية كبيرة. تمشي في شوارع البسطة وزواريبها لتطالعك فسيفساء من اللافتات، في البسطة الفوقا صور كثيرة للشهيد رفيق الحريري وشعارات لتيار المستقبل، وعلى بعد أمتار قليلة، أي في البسطة التحتا مزيج من صور السيد حسن نصر الله، الرئيس نبيه بري وطبعاً لافتات كتب عليها «معك» تحمل صورة الرئيس الشهيد. ما عزز هذه الفسيفساء هو ضم حوالى 25 ألف ناخب من الطائفة الشيعية في لوائح شطب البسطة التحتا أيام حكومة الرئيس سليم الحص. وهي خطوة أثرت بعمق على الخارطتين الديموغرافية والسياسية لمنطقة تتعدد فيها الانتماءات السياسية والمذهبية.
بين الميجانا وأخصماك آه
لطالما طرحت اسئلة كثيرة حول اصل كلمة البسطة، وبالرغم من تعدد الروايات فإن المحامي عبد اللطيف فاخوري ينقل عن المرحوم الحاج محمد عبد الغني رضوان (حفيد رضوان الحسامي) الذي قدم من جبيل لسبب غير معروف، أنه كانت في المحطة المذكورة ثلاثة بساتين لعائلات البشناتي والشدياق والشعار، وقام محمود أحد أبناء رضوان بوضع طاولة خشبية (بسطة) في موقع مخفر البسطة الفوقا حالياً لبيع الخضار. وكان يقف إلى جانبه ابنه حسن المعروف بأنه سمين وأكول (أطلق عليه لقب الغويل)، فتعارف بائعو الخضار الذين يأتون من برج البراجنة والحدث والشياح لبيع منتوجاتهم في المدينة، على التعريف عن المنطقة بالقول البسطة الفوقا لبسطة الغويل والبسطة التحتا لبسطة فرشوخ.
مع العلم ان أول إشارة للبسطة بحسب فاخوري جاءت سنة 1882 في صحيفة المصباح، ثم ذكرت ثمرات الفنون سنة 1895 اسم البسطة العليا عند تدشين مسجد البسطة الفوقا، في حين ان كلمة البسطة لم ترد في السجلات الشرعية القديمة لأن المحلة المذكورة كانت ضمن الباشورة.
مهما يكن من أصل الاسم، إلا ان الأكيد أيضاً انه لا يمكن المرور بالبسطة من دون ملاحظة مقاهٍ صغيرة يجتمع فيها رجال يمضون اليوم كاملاً هنا.
في البسطة التحتا، وداخل مقهى صغير متعارف عليه باسم قهوة الأسعد «نفَس الأركيلة بألف ليرة» أما فنجان القهوة «فبألف أخرى». و«القهاوي» التي اهمل معظمها اليوم، كانت في السابق «قهاوي» لا يقصدها إلا القبضايات وكبار القوم حيث يتم التشاور بالأمور المستجدة. هذا المشهد ليس بغريب على الحي، فقد عرفت البسطة الفوقا والتحتا أكثر من مقهى، اكثرها شهرة بحسب عمر زين قهوة الباشا التي حُولت اليوم إلى مطعم مقابل مخفر الدرك في البسطة الفوقا، ولـ«القهوة» هذه «ميزة» خاصة على زميلاتها، إذ شاهدها كل العالم العربي بعد تصوير المغنية نانسي عجرم أغنية «أخصماك آه» في داخلها.
يروي زين انه على بعد ثلاثة أمتار من «قهوة الباشا» كان هناك منافس آخر في المهنة: «قهوة حمد». لكن الساحة في البسطة لم تكن خالية من منافس ثالث، فالمقهى او «القهوة» الأكثر شعبية على الإطلاق كانت إلى جانب محطة القطار، حيث يتمكن الرواد من مراقبة الوافدين والمغادرين على متن خطوط السكك الحديدية.
غابت السكك الحديدية وغابت أيضاً ظاهرة القبضايات، والقبضايات بحسب زين والكوش هم «مجموعة من خيرة الأوادم، يملكون هاجس الحمية القومية والدفاع عن العرض، وتجتمع فيهم صفات النبل والأخلاق الحميدة والكرم».
وكانت علاقات بعض قبضايات البسطة وطيدة مع الزعيم رياض الصلح، وكانت كل خلية شعبية من قبضايات بيروت تضم حوالى ثلاثين شخصاً، عائلات قبضايات البسطة آل نعماني، شهاب الدين، جنون، خانجي، دعبول، صيداني، غلاييني، سنو، زين، زعتري وحلوي.
قد يفسر الاكتظاظ السكاني في البسطة، سبب تمايزها عبر احتضانها في مساحة صغيرة عددا كبيرا من المستشفيات (البربير، الإسلامي، رزق، صبحي الطيارة، مليح سنو ومستشفى الدكتور محمد خالد وغيرها)، وكانت تلك المستشفيات تشكل مقصداً للخليجيين تحديداً، بسبب قيامها بعدد من العمليات الجراحية الدقيقة والمعقدة آنذاك. أما المعلم الآخر الأساسي من معالم البسطة (الفوقا والتحتا) فهو احتضانها لعدد قياسي من المدارس (مدرسة الشيخ نور، مدرسة المربي عزيز مومنه، مدرسة شريف خطاب ومدرسة العلماوي، مكارم الأخلاق)، الغنى في الخدمات قابله غنى في الموارد البشرية هذا ما يؤكده زين بالقول: «في بقعة لا تتجاوز مئتي متر في البسطة الفوقا كان هناك الفنانون نجاح سلام، محمد سلمان، انطوان كرباج، شوشو، محمود الرشيدي (والد قعبور)، الدروندي، محمد شامل، محي الدين سلام (والد نجاح سلام)، الرسام مصطفى فروخ وغيرهم».
للأسماء اللامعة في البسطة نصيب إذاً، لكن أهل المحلة يذكرون أسماء لمعت على طريقتها، إذ لا يمكن استعادة اسم «محل برجاوي» من دون بسمة، بسبب بائع قرر ان يعلق على بوابة دكانه الصغير لوحاً أسود يدوّن عليه بطبشورة بيضاء وبخط جميل، كل ليلة سبت، «حكمة» الأسبوع من وحي الواقع السياسي. كانت كل بيروت تأتي لتعرف ماذا كتب «أبو طبشورة» نهاية الأسبوع. ما زال المحل في مكانه، لكن الإبن عادل برجاوي لم يتابع عادة والده هذه: «خلص، صار في عنا اليوم مين بيرسم كاريكاتور وصار في تلفزيونات بكل بيت».
بين «الفيشي» و«الزنطرة»
تراقب الحاجة سعاد شقير بشيء من الحسرة التغييرات التي طالت المنطقة التي عاشت فيها منذ صغرها، إذ تغيرت جغرافيا المكان وتغيرت العلاقات بين الناس «كان كل بيت له جنينة وقرميد، وكل بيت فيه ياسمينة، ليمون بوصفير، شجرة أكي دنيا، إضافة إلى زهر الحنة والفتنة».
تعتبر ان النساء كن يتمتعن بكثير من الامتيازات. تتذكر عندما كانت شقيقتها ترتدي الفيشي مغطية عينيها بقماشة شفافة، وكيف بطلت الموضة عندما كانت هي شابة فحل «الإشارب» مكانها، «بعدها أتت موضة السفور الكامل، وكان في زنطرة كثير، كنا ننزل على سوق الطويلة ونشتري أجمل الأقمشة والموديلات، أيامها كان دارج القصير والساتان والحياكة المرتبة».
أما الغواية التي طبعت مرحلة كاملة فكانت عبر لبس القبقاب من «القببجي» القادم من حلب.
تتأمل اليوم الحاجة الصبايا اللواتي يخطرن على طريق البسطة وتعلّق: «تغيرت الامور كثيراً، عندما كان يتقدم لأي صبية عريس من رأس النبع أو رأس بيروت كان غالباَ ما يكون جواب الأهل «ما منغرّب!»، أما في حال حاول شخص ان يعاكس صبية، فشبان الحي جاهزون لتعليمه أصول المرور في البسطة!» وفي زمن غياب الـ«بلوتوث» والانترنت والهاتف الخلوي، «لم يكن يستطيع الأحباء ان يتواصلوا أبعد من «شعيرية» النافذة».
تبتسم الحاجة شقير عند حديثها عن النساء في البسطة، تؤكد انه «كما كان للرجال نشاطاتهم الخاصة خصوصاً أيام المولد النبوي، كذلك كانت النساء تجتمعن يومياً ومداورة في ضيافة إحدى السيدات، وكانت الحاجة فهيمة العاصي من أبرز اللواتي حرصن ان يغص صالون بيتها بنساء الحي برفقة الموسيقى والطعام والشراب... طبعاً لغاية بعد الظهر موعد عودة الرجال أو الأولاد من المدرسة».
تغادر البسطة وسط الزحمة التي استقبلتك، تبتعد عن آخر معلم لارتداء وكي الطربوش القديم، لتلتقي بشبان ببنطلون الجينز وتسريحات شعر حديثة. يصعب على المرء ان يتخيل حال البقعة التي يقف فيها يوم كانت المباهاة تتمحور حول «الشروال الطويل المدعّم أحياناً ببحصة» والقبة المخمل المكوية بعناية.