ابن المنطقة
12-02-2006, 08:52 AM
[align=center:ea1d845c2b]يا أنصار الغناء . . تعالوا إلى كلمة سواء
تعقيب . . لا تثريب
لفضيلة الشيخ سيد سابق منزلة في قلوب قرائه وعارفيه، وهو حقيق بذلك بما أسهم فيه من تجديد للفكر الديني، فبكتابه "فقه السنة" يشد القارئ إلى المنبع الأصيل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي مقالاته التي يطالع بها قراءه في المنشورات الإسلامية عمق وتحليل يساعدان على إبراز المكنونات البعيدة من المعاني التي لا يقع عليها إلا الممتازون الملهمون.
ولكن إعجابنا بالشيخ من هذه الناحية لا ينبغي أن يصرفنا عن الجوانب الأخرى التي يدفعه الاجتهاد بها إلى نتائج لا يكون دليله فيها من النوع القطعي، وقد ينطوي إغفال التنبيه إليها على مؤثرات بعيدة المدى في قلوب الشباب الذين لم تنضج لديهم ملكة النقد والتمييز.
قبل أيام وقع في سمعي صوت الشيخ في إذاعة الكويت وهو يجيب على سؤال يتعلق بالغناء وموقف الإسلام منه، وخشيت أن يغلبني النوم فيفوتني بعض رأيه فضغطت إصبع المسجل ليحتفظ لي ببقية كلامه كي أعود إليه فيما بعد، وأستعيد جواب الشيخ - حفظه الله - فإذا هو يتحدث عن أنواع الغناء الذي يعتبر من المباح الطيب، فتغنّ في الفرح إشهارا له وإعلانا عنه، وتغنّ في الأعياد إظهارا للسرور، وتغن للجنود لينشطوا في الجهاد في سبيل الله).
ثم يعقب على ذلك بقوله: (والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن دائرة الحياء كان حراما مثل أن يهيِّج الشهوة، أو يتخذ ملهاة عن القيام بالواجب وطاعة الله). ويذكر خبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان بالدف في بيت رسول الله، وقد أنكر عليهما الصديق رضي الله عنه ذلك، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: (دعهما.. فإنها أيام عيد).
دور الغناء في تاريخنا:
وقبل التعقيب على كلمات الشيخ لا نرى مندوحة عن التذكير بالظروف التي تطرح فيها مثل هذه الأسئلة، وموقف الفقيه في تقديرها عندما ينتدب للجواب عليها.. فما زال صحيحا أنّ الحكم في الشيء فرع عن تصوره، وأقل ما يجب التنبيه إليه بإزاء هذا الضرب من الاستفتاءات - بل الاستدراجات - هو ذلك الوضع الذي صار إليه الغناء منذ غياب العهد الراشدي، وما أعقبه من تخلخل الضوابط الإسلامية في حياة المجتمع، حتى غلب اللهو على الجد، واقتحم المجون ميدان التوجيه الشعبي، فزاحم عليه كل المقومات الفضلى، وبذلك أفرغت نفوس العامة من عناصر القوة، ثم انتهت إلى الانهيار الذي دمّر أخيرا حضارة الإسلام، وذهب بقوة المسلمين في غرب العالم الإسلامي وشرقه.
الإسلام والغرائز:
إنّ الغناء في أصله ليس إلا وسيلة فطرية للتنفيس عن النفس، فإليها يلجأ الإنسان في فرحه وحزنه وحيرته وقلقه، وذلك أمر مشهود في الطفل والشيخ، والمحزون والمحبور والمتعب، وحتى في الحيوان، وغير معقول أن يمنع الإسلام هذه الغزيرة من التعبير عن ذاتها عند الحاجة، وهو الذي راعى في نظامه الأقوم وآدابه البنّاءة كل جوانب الفطرة, فأرشد إلى خير السبل في توجيهها واستصلاحها والموازنة بين عناصرها جميعاً.
ولنضرب لذلك مثلا بفن الرسم.. إنه دون ريب تعبير فطري عن هوى أصيل في أعماق النفس البشرية، ينزع بها إلى محاكاة الواقع خارج الذات، أو يحفزها إلى تصوير مشاعرها الذاتية من الداخل، وليس هو خاصا بنفس دون أخرى، ولكنه يتفاوت من حيث القوة بتفاوت الأسباب، حتى يكون في واحد أشد بروزا أو خفاء منه في الآخر، وقد عالج الإسلام هذه الموهبة بتوجيهها في الطريق الأسلم، فنهى المسلم عن تصوير ذات الروح، في حين فتح له أبواب الطبيعة على مصراعيها.. يحاكي أشكالها، أو يبدع ما شاء له الخيال من الأشكال الجديدة، حتى امتاز في العالم بفن طريف لا يزال موضع الدهشة والمتعة عند كل ذي حس جمالي.. وبذلك صانه من السقوط في أوحال عبادة الجسد، التي انصرف إليها الفن الوثني وورثته في الغرب والشرق.
وعلى هذه القاعدة الحكيمة عالج الإسلام موضوع الغناء، فلم يقهر غريزة المسلم على تركه نهائيا، ولم يدعه لأهوائه تنطلق به في طريق الشعوب، التي اتخذت منه علما يدرس، وفنا يمارس، ثم صار بها الأمر إلى أن جعلت منه عبادة أقامت لها الآلهة، ونصّبت لها التماثيل.. وأقبل عليها الجميع فلا يحسن سواها، وهاو لا يستطيع عنها فكاكا، فهو ينظر إلى هؤلاء المحترفين للغناء كما ينظر العبد إلى ربه.
الإسلام والغناء:
أجل.. لقد سما الإسلام بالمسلم عن هذا الشذوذ النفسي، فوفر له المجالات التي تشبع غريزته من الغناء ضمن حدود الحكمة.. فأمره بترتيل القرآن، وحسَّن له التغني به، وجعل لهذا الترتيل أصولا تصور معاني القرآن، وتبرز جمال صياغته المعجزة، كما تحفظ في الوقت نفسه للعربية ألقها الباهر، وخصائصها المميزة على مر الدهر.. وبذلك أقام الإسلام للمسلم فنا جديدا يروي ظمأه، ويمتع وجدانه، ويسمو بأشواقه الروحية إلى آفاق لا يحلم بها سواه.
هذا إلى أنه لم يضيِّق على النفس من الجوانب الأخرى، فأباح لها التغني في مختلف المناسبات، كالزفاف واستقبال المسافر، وفرص الأعياد، دون أن يفرض عليها قيداً سوى نظافة الكلمة، ورصانة التصرف الذي يليق بالإنسان الكريم.
وهكذا يتخذ الغناء في ظل الإسلام مظهرين يبدو في أحدهما فنا مستقلا له قواعده وقوانينه، وله ثماره وأهدافه التربوية، المتمثلة في تجديد الأشواق الوجدانية، وإعداد النفس للجلوات الروحية.. ويكون الثاني انطلاقا مع الفطرة في الأحوال التي تستدعي ذلك الانطلاق.
وطبيعي أن دينا يعد الإنسان لمهمة الهداية الإلهية والقيادة العالمية، يستحيل أن يرضى عن تلك الحفلات الموسيقية التي يحتشد لها عشرات الآلاف، بل الملايين من الناس، عن طريق المشاهدة المباشرة.. وغير المباشرة، وقد رتَّب في صدرها المنقطعون إلى العزف بمختلف الأدوات حتى خشاخيش الأطفال.. وانتصب في وسطهم ذلك المغني أو تلك القينة، تتهاوى على أعين الهواة في تمعج وكبرياء يخيل إليها أنها تحيي وتميت.. وقد يتوهم بعض ناظريها أن بيدها الإسعاد والإشقاء، فلا يتمالك أن يقفز نحوها ليمرِّغ وجهه على قدميها، كما فعل الممسوس الذي نشرت مجلة "العربي" صورته، وجبهته على قدمي أم كلثوم، وهي تغني على المسرح الفرنسي في باريس.. ولم يكن هذا المعتوه بدعا من الخلق، فقبله كان شاعر الفجور الأكبر عمر بن أبي ربيعة إذا أخذه الوجد بالصوت يصرع فلا يصحو إلا أن ينضح بالماء.. وفي الأندلس يبلغ الهيام بالغناء إلى حد أن خليفة لا يتمالك أن ينخلع من وقاره بازائه، فإذا هو ينهض ليتراقص مع ابن شُهيد الشاعر الماجن على ألحان القيان.. ويسري ذلك في العامة حتى يحتشدون بالآلاف حول القصور ليشاركوا في السماع، تماما كما يفعل اليوم مئات الألوف بل الملايين حين يقضون معظم الليل في الاستماع إلى مسجلات تلك المغنية، التي برهن المليون من مشيعي جنازتها أن هذا الضرب من المخلوقات أعلى وأغلى في قلوبهم من عباقرة العلم، وأبطال الجهاد وسائر أصناف البشر دون استثناء.
ولعل قراء هذه الأسطر لم ينسَوا بعد أن زوجة رئيس الوزراء في إحدى دول المسلمين قد تخلّت عن بعلها وأطفالها لتلحق بفنان هامت بألحانه، وسكرت بأنغامه، فلم تصح إلا وقد نقضت غزلها وخربت بيتها بيدها، وخنقت في قلبها المسحور كل مشاعر الأمومة.. ومَن مِن الناس لم يسمع بتهارش النسوة على فريد الأطرش، هذه تفضله، وتلك تفضل عليه، حتى ينتهي الأمر بينهما إلى التضارب بل إلى استخدام السكاكين.. أي والله السكاكين!
واقع الغناء اليوم:
ونعود الآن إلى عبارات الشيخ.
إنه يقر الغناء في نطاق المباحات، إلاّ أن يعرض له ما يخرجه عن ذلك بأن يهيّج شهوة أو يدعو إلى فسق، أو ينبّه إلى شر، أو يتخذ ملهاة عن القيام بالواجب وطاعة الله.
والمفروض في فضيلته أنه ملمّ بروح عصره وبيئته، فلا يفوته واقع الغناء الذي أصبح فنّاً يجتذب الملايين، وله أساطينه الذين لا يقيمون وزنا لهذه الشروط التي أوردها, وها هي ذي أغانيهم المترددة على الألسن، مشحونة بالمهيّجات المفسدات الدافعات إلى كل شر وفسوق، لا تغطّي سوءاتها قصيدة في مدح الرسول، أو أنشودة في الحث على الجهاد.. أمّا إلهاؤها عن الواجب وطاعة الله فيسأل عنه جماهير المفتونين بها، الذين يترقبون فرص تلك المسجلات ليساهروها إلى ثلث الليل الأخير، دون أن يغمض لهم جفن، حتى إذا سكتت سقطوا في فرشهم مخمورين ذاهلين لا يعلمون، ما يعلمون وهم عن ذكر ربهم غافلون، وعن النهوض لصلاة الفجر - حتى لو أرادوها - عاجزون.
ثم هل نسي الشيخ حفظه الله أنّ الغناء الذي يسأله عنه السائل ليس هو ذلك العفوي الذي تستدعيه المناسبات المباحة، بل هو ذلك الفن الذي تعقد له الحفلات العامة، وتنفق فيه الأموال الطائلة، وتسخر لبثه أجهزة الدولة، ويعطي "الأرتيست" كل الفرص لاحتكار الثروات، وامتلاك العقارات، والوصول من الغنى إلى أعلى الدرجات! مما لا يحلم ببعضه عالم مكين ولا عامل أمين.. وهل نسي فضيلته أنّ جوابه، البعيد عن هذا الواقع، سيعطي دعاة هذا المجون فرصا جديدة لترويج سلعتهم، حتى في أوساط البسطاء من أهل الدين!
الغناء المباح والمنكر:
أما استناد الشيخ في حِلّيِة الغناء على خبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان الدف في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من الوقوف عنده قليلا، ذلك لأنّ الناصرين لفنون الغناء كثيرا ما يلوحون به في وجوه المتحفّظين بشأنه، على حين أن الأمر لا يزيد على دفّ وطفلتين، كما حقّق ذلك أولوا العلم من أئمة الحديث.. ومع ذلك فلا شائبة في غناء النساء بالكريم من القول في مثل تلك المناسبات، على أن يظل ذلك في حدود المشروعات، أمّا حين يصل أمر الغناء إلى ما هو عليه الآن فلن يواجه من الشريعة إلاّ الرفض والإنكار، لما يترتب على شيوعه من توهين للعزائم، وتمييع للنفوس، وتعطيل للطاقات، ونشر للتخنث، ومن هنا جاء الحكم برد شهادة المحترف للغناء في القضاء الإسلامي، كما فعل ذلك القاضي المصري الفاضل حين رد شهادة مغنّ، على الرغم من سخط الفنانين ومَن وراءهم - جزاه الله خيراً -
الدف والمعازف:
ثم احتجاج بعضهم بالدف لإباحة المعازف، على اختلاف أشكالها فمردود بإجماع الأئمة الأربعة على تحريم آلات اللهو جميعا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلُّون الحر والحرير والخمر والمعازف).
وممّا يسترعي الانتباه في الحديث جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه المنكرات الأربع، بما يشير إلى ارتباط بعضها ببعض، وإلى انسلاخ أصحابها من أخلاق الإسلام، ولهذا لم يرد في سائر الآثار التي عرضت للغناء المباح ذكر لغير الدف - أو الغربال وهما واحد - من أدوات اللهو، مع أنّ العرب قد عرفوا العديد من الآلات الوترية وغيرها أثناء. وإنما دخلت على المسلمين هذه الموسيقي المفلسفة في القرن الثالث على أيدي الفارابي وابن الراوندي وابن سينا وأضرابهم تأثراً بما قرؤوه عنها في تعاليم أرسطو وأتباعه من المشائين، فهي والحالة هذه فن دخيل لا علاقة له بالإسلام، ولا سبيل لإفراغ الصبغة الإسلامية عليه، مهما تكلف المتكلفون، ودبج في الترويج له الكاتبون والمؤلفون!
وأخيراً أن كثيرين من المخدوعين بدعايات اللهو مأخوذون بالقول أنّ للموسيقي أثرها البالغ في إرهاف الشعور وترقيق القلوب، وتزكية النفوس، وتهذيب الأخلاق، وهو ما ذهب إليه اتباع الفلسفة اليونانية، من المتهمين بدينهم في العصر العباسي وبخاصة أصحاب "رسائل إخوان الصفا". والواقع أنّ الموسيقي سواء كانت خالصة أو مزيجة بالغناء إنما هي ضرب من وسائل التهييج والتخييل، كأيّ صنف من المخدرات المشتتة للوعي, وهذا ما حفّز هؤلاء إلى أن يدّعوا ما نسبوه إليها من الخصائص، وليس زعمهم هذا إلا كزعم مدمني الخمر والمخدرات حين يقولون: إنها تمنحهم لحظات من السعادة لا سبيل إليها إلا عن ذلك الطريق.
والحق أنّ الأمر على خلاف ما يزعم غواة هذه الفنون، ولو صح بعض ما ادعوه للموسيقى من فضيلة لظهر في أخلاق الغربيين، الذين يعتبرونها غذاءهم النفسي، وعبادتهم اليومية..ومع ذلك فهم أقسى الخلق قلوبا، وأشدهم بغيا وظلما واستكبارا على عباد الله، واستهتارا بحقوق الضعفاء.. وقد حدث أن زميلا لي كان يتحدث ذات يوم عن الموسيقى حتى ليقول: إنها تجعل من وحشي الطباع إنسانا رقيقا رفيعا. وكان ذلك أثناء الثورة الجزائرية، وقد انطلق الوحش الفرنسي يدمّر الجزائر على رؤوس أبنائها، فقلت: لذلك ترى الفرنسيين يقتلون إخوانك على أنغام الموسيقى! ولمدمني الغناء المشغولين به يقربهم من الله - عياذا بالله - نقول: على رسلكم فاسمعوا إلى شهادة ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الضرب من اللهو إذ يقول: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع [1] وأي نفاق أكبر من أن يسمع أحدهم كتاب الله يرتّل، وحديث رسوله يتلى فلا تحنُّ جوارحه ولا يوجل قلبه، ثم لا يتمالك أن يصعق - كابن أبي ربيعة - أو يكاد إذا مرّ بسمعه ترجيع غانية على لحن معزف!
ولأنصار الغناء وعشّاق نجومه نقول أيضا: بوسعكم أن تستنصروا لقضيتكم بتلاميذ الفلسفة الإغريقية، وبإخوان الصّفا الباطنية، وبسيفا راقصة المعابد الهندية، وحتى بالحواة الذين يستخرجون الثعابين من جحورها بالمعازف والألحان الغنائية.. أمّا أن تحاولوا الاتكاء على الإسلام في ترويج بضاعتكم فجهد مهدور لا حصيلة له سوى الإخفاق ولو أفتاكم المفتون، وخدع بدعايتكم المغفلون.
ومعذرة لفضيلة الشيخ الذي نكنُّ له كل تقدير.
[بقلم الشيخ؛ محمد المجذوب]
[1] سنن أبي داود ج7 رقم 4759, وقد تقرر لدى المحققين أنه من الآثار الموقوفة عليه, ولكنه من حيث المعنى بمنزلة المرفوع.[/align:ea1d845c2b]ِ
تعقيب . . لا تثريب
لفضيلة الشيخ سيد سابق منزلة في قلوب قرائه وعارفيه، وهو حقيق بذلك بما أسهم فيه من تجديد للفكر الديني، فبكتابه "فقه السنة" يشد القارئ إلى المنبع الأصيل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي مقالاته التي يطالع بها قراءه في المنشورات الإسلامية عمق وتحليل يساعدان على إبراز المكنونات البعيدة من المعاني التي لا يقع عليها إلا الممتازون الملهمون.
ولكن إعجابنا بالشيخ من هذه الناحية لا ينبغي أن يصرفنا عن الجوانب الأخرى التي يدفعه الاجتهاد بها إلى نتائج لا يكون دليله فيها من النوع القطعي، وقد ينطوي إغفال التنبيه إليها على مؤثرات بعيدة المدى في قلوب الشباب الذين لم تنضج لديهم ملكة النقد والتمييز.
قبل أيام وقع في سمعي صوت الشيخ في إذاعة الكويت وهو يجيب على سؤال يتعلق بالغناء وموقف الإسلام منه، وخشيت أن يغلبني النوم فيفوتني بعض رأيه فضغطت إصبع المسجل ليحتفظ لي ببقية كلامه كي أعود إليه فيما بعد، وأستعيد جواب الشيخ - حفظه الله - فإذا هو يتحدث عن أنواع الغناء الذي يعتبر من المباح الطيب، فتغنّ في الفرح إشهارا له وإعلانا عنه، وتغنّ في الأعياد إظهارا للسرور، وتغن للجنود لينشطوا في الجهاد في سبيل الله).
ثم يعقب على ذلك بقوله: (والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن دائرة الحياء كان حراما مثل أن يهيِّج الشهوة، أو يتخذ ملهاة عن القيام بالواجب وطاعة الله). ويذكر خبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان بالدف في بيت رسول الله، وقد أنكر عليهما الصديق رضي الله عنه ذلك، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: (دعهما.. فإنها أيام عيد).
دور الغناء في تاريخنا:
وقبل التعقيب على كلمات الشيخ لا نرى مندوحة عن التذكير بالظروف التي تطرح فيها مثل هذه الأسئلة، وموقف الفقيه في تقديرها عندما ينتدب للجواب عليها.. فما زال صحيحا أنّ الحكم في الشيء فرع عن تصوره، وأقل ما يجب التنبيه إليه بإزاء هذا الضرب من الاستفتاءات - بل الاستدراجات - هو ذلك الوضع الذي صار إليه الغناء منذ غياب العهد الراشدي، وما أعقبه من تخلخل الضوابط الإسلامية في حياة المجتمع، حتى غلب اللهو على الجد، واقتحم المجون ميدان التوجيه الشعبي، فزاحم عليه كل المقومات الفضلى، وبذلك أفرغت نفوس العامة من عناصر القوة، ثم انتهت إلى الانهيار الذي دمّر أخيرا حضارة الإسلام، وذهب بقوة المسلمين في غرب العالم الإسلامي وشرقه.
الإسلام والغرائز:
إنّ الغناء في أصله ليس إلا وسيلة فطرية للتنفيس عن النفس، فإليها يلجأ الإنسان في فرحه وحزنه وحيرته وقلقه، وذلك أمر مشهود في الطفل والشيخ، والمحزون والمحبور والمتعب، وحتى في الحيوان، وغير معقول أن يمنع الإسلام هذه الغزيرة من التعبير عن ذاتها عند الحاجة، وهو الذي راعى في نظامه الأقوم وآدابه البنّاءة كل جوانب الفطرة, فأرشد إلى خير السبل في توجيهها واستصلاحها والموازنة بين عناصرها جميعاً.
ولنضرب لذلك مثلا بفن الرسم.. إنه دون ريب تعبير فطري عن هوى أصيل في أعماق النفس البشرية، ينزع بها إلى محاكاة الواقع خارج الذات، أو يحفزها إلى تصوير مشاعرها الذاتية من الداخل، وليس هو خاصا بنفس دون أخرى، ولكنه يتفاوت من حيث القوة بتفاوت الأسباب، حتى يكون في واحد أشد بروزا أو خفاء منه في الآخر، وقد عالج الإسلام هذه الموهبة بتوجيهها في الطريق الأسلم، فنهى المسلم عن تصوير ذات الروح، في حين فتح له أبواب الطبيعة على مصراعيها.. يحاكي أشكالها، أو يبدع ما شاء له الخيال من الأشكال الجديدة، حتى امتاز في العالم بفن طريف لا يزال موضع الدهشة والمتعة عند كل ذي حس جمالي.. وبذلك صانه من السقوط في أوحال عبادة الجسد، التي انصرف إليها الفن الوثني وورثته في الغرب والشرق.
وعلى هذه القاعدة الحكيمة عالج الإسلام موضوع الغناء، فلم يقهر غريزة المسلم على تركه نهائيا، ولم يدعه لأهوائه تنطلق به في طريق الشعوب، التي اتخذت منه علما يدرس، وفنا يمارس، ثم صار بها الأمر إلى أن جعلت منه عبادة أقامت لها الآلهة، ونصّبت لها التماثيل.. وأقبل عليها الجميع فلا يحسن سواها، وهاو لا يستطيع عنها فكاكا، فهو ينظر إلى هؤلاء المحترفين للغناء كما ينظر العبد إلى ربه.
الإسلام والغناء:
أجل.. لقد سما الإسلام بالمسلم عن هذا الشذوذ النفسي، فوفر له المجالات التي تشبع غريزته من الغناء ضمن حدود الحكمة.. فأمره بترتيل القرآن، وحسَّن له التغني به، وجعل لهذا الترتيل أصولا تصور معاني القرآن، وتبرز جمال صياغته المعجزة، كما تحفظ في الوقت نفسه للعربية ألقها الباهر، وخصائصها المميزة على مر الدهر.. وبذلك أقام الإسلام للمسلم فنا جديدا يروي ظمأه، ويمتع وجدانه، ويسمو بأشواقه الروحية إلى آفاق لا يحلم بها سواه.
هذا إلى أنه لم يضيِّق على النفس من الجوانب الأخرى، فأباح لها التغني في مختلف المناسبات، كالزفاف واستقبال المسافر، وفرص الأعياد، دون أن يفرض عليها قيداً سوى نظافة الكلمة، ورصانة التصرف الذي يليق بالإنسان الكريم.
وهكذا يتخذ الغناء في ظل الإسلام مظهرين يبدو في أحدهما فنا مستقلا له قواعده وقوانينه، وله ثماره وأهدافه التربوية، المتمثلة في تجديد الأشواق الوجدانية، وإعداد النفس للجلوات الروحية.. ويكون الثاني انطلاقا مع الفطرة في الأحوال التي تستدعي ذلك الانطلاق.
وطبيعي أن دينا يعد الإنسان لمهمة الهداية الإلهية والقيادة العالمية، يستحيل أن يرضى عن تلك الحفلات الموسيقية التي يحتشد لها عشرات الآلاف، بل الملايين من الناس، عن طريق المشاهدة المباشرة.. وغير المباشرة، وقد رتَّب في صدرها المنقطعون إلى العزف بمختلف الأدوات حتى خشاخيش الأطفال.. وانتصب في وسطهم ذلك المغني أو تلك القينة، تتهاوى على أعين الهواة في تمعج وكبرياء يخيل إليها أنها تحيي وتميت.. وقد يتوهم بعض ناظريها أن بيدها الإسعاد والإشقاء، فلا يتمالك أن يقفز نحوها ليمرِّغ وجهه على قدميها، كما فعل الممسوس الذي نشرت مجلة "العربي" صورته، وجبهته على قدمي أم كلثوم، وهي تغني على المسرح الفرنسي في باريس.. ولم يكن هذا المعتوه بدعا من الخلق، فقبله كان شاعر الفجور الأكبر عمر بن أبي ربيعة إذا أخذه الوجد بالصوت يصرع فلا يصحو إلا أن ينضح بالماء.. وفي الأندلس يبلغ الهيام بالغناء إلى حد أن خليفة لا يتمالك أن ينخلع من وقاره بازائه، فإذا هو ينهض ليتراقص مع ابن شُهيد الشاعر الماجن على ألحان القيان.. ويسري ذلك في العامة حتى يحتشدون بالآلاف حول القصور ليشاركوا في السماع، تماما كما يفعل اليوم مئات الألوف بل الملايين حين يقضون معظم الليل في الاستماع إلى مسجلات تلك المغنية، التي برهن المليون من مشيعي جنازتها أن هذا الضرب من المخلوقات أعلى وأغلى في قلوبهم من عباقرة العلم، وأبطال الجهاد وسائر أصناف البشر دون استثناء.
ولعل قراء هذه الأسطر لم ينسَوا بعد أن زوجة رئيس الوزراء في إحدى دول المسلمين قد تخلّت عن بعلها وأطفالها لتلحق بفنان هامت بألحانه، وسكرت بأنغامه، فلم تصح إلا وقد نقضت غزلها وخربت بيتها بيدها، وخنقت في قلبها المسحور كل مشاعر الأمومة.. ومَن مِن الناس لم يسمع بتهارش النسوة على فريد الأطرش، هذه تفضله، وتلك تفضل عليه، حتى ينتهي الأمر بينهما إلى التضارب بل إلى استخدام السكاكين.. أي والله السكاكين!
واقع الغناء اليوم:
ونعود الآن إلى عبارات الشيخ.
إنه يقر الغناء في نطاق المباحات، إلاّ أن يعرض له ما يخرجه عن ذلك بأن يهيّج شهوة أو يدعو إلى فسق، أو ينبّه إلى شر، أو يتخذ ملهاة عن القيام بالواجب وطاعة الله.
والمفروض في فضيلته أنه ملمّ بروح عصره وبيئته، فلا يفوته واقع الغناء الذي أصبح فنّاً يجتذب الملايين، وله أساطينه الذين لا يقيمون وزنا لهذه الشروط التي أوردها, وها هي ذي أغانيهم المترددة على الألسن، مشحونة بالمهيّجات المفسدات الدافعات إلى كل شر وفسوق، لا تغطّي سوءاتها قصيدة في مدح الرسول، أو أنشودة في الحث على الجهاد.. أمّا إلهاؤها عن الواجب وطاعة الله فيسأل عنه جماهير المفتونين بها، الذين يترقبون فرص تلك المسجلات ليساهروها إلى ثلث الليل الأخير، دون أن يغمض لهم جفن، حتى إذا سكتت سقطوا في فرشهم مخمورين ذاهلين لا يعلمون، ما يعلمون وهم عن ذكر ربهم غافلون، وعن النهوض لصلاة الفجر - حتى لو أرادوها - عاجزون.
ثم هل نسي الشيخ حفظه الله أنّ الغناء الذي يسأله عنه السائل ليس هو ذلك العفوي الذي تستدعيه المناسبات المباحة، بل هو ذلك الفن الذي تعقد له الحفلات العامة، وتنفق فيه الأموال الطائلة، وتسخر لبثه أجهزة الدولة، ويعطي "الأرتيست" كل الفرص لاحتكار الثروات، وامتلاك العقارات، والوصول من الغنى إلى أعلى الدرجات! مما لا يحلم ببعضه عالم مكين ولا عامل أمين.. وهل نسي فضيلته أنّ جوابه، البعيد عن هذا الواقع، سيعطي دعاة هذا المجون فرصا جديدة لترويج سلعتهم، حتى في أوساط البسطاء من أهل الدين!
الغناء المباح والمنكر:
أما استناد الشيخ في حِلّيِة الغناء على خبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان الدف في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من الوقوف عنده قليلا، ذلك لأنّ الناصرين لفنون الغناء كثيرا ما يلوحون به في وجوه المتحفّظين بشأنه، على حين أن الأمر لا يزيد على دفّ وطفلتين، كما حقّق ذلك أولوا العلم من أئمة الحديث.. ومع ذلك فلا شائبة في غناء النساء بالكريم من القول في مثل تلك المناسبات، على أن يظل ذلك في حدود المشروعات، أمّا حين يصل أمر الغناء إلى ما هو عليه الآن فلن يواجه من الشريعة إلاّ الرفض والإنكار، لما يترتب على شيوعه من توهين للعزائم، وتمييع للنفوس، وتعطيل للطاقات، ونشر للتخنث، ومن هنا جاء الحكم برد شهادة المحترف للغناء في القضاء الإسلامي، كما فعل ذلك القاضي المصري الفاضل حين رد شهادة مغنّ، على الرغم من سخط الفنانين ومَن وراءهم - جزاه الله خيراً -
الدف والمعازف:
ثم احتجاج بعضهم بالدف لإباحة المعازف، على اختلاف أشكالها فمردود بإجماع الأئمة الأربعة على تحريم آلات اللهو جميعا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلُّون الحر والحرير والخمر والمعازف).
وممّا يسترعي الانتباه في الحديث جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه المنكرات الأربع، بما يشير إلى ارتباط بعضها ببعض، وإلى انسلاخ أصحابها من أخلاق الإسلام، ولهذا لم يرد في سائر الآثار التي عرضت للغناء المباح ذكر لغير الدف - أو الغربال وهما واحد - من أدوات اللهو، مع أنّ العرب قد عرفوا العديد من الآلات الوترية وغيرها أثناء. وإنما دخلت على المسلمين هذه الموسيقي المفلسفة في القرن الثالث على أيدي الفارابي وابن الراوندي وابن سينا وأضرابهم تأثراً بما قرؤوه عنها في تعاليم أرسطو وأتباعه من المشائين، فهي والحالة هذه فن دخيل لا علاقة له بالإسلام، ولا سبيل لإفراغ الصبغة الإسلامية عليه، مهما تكلف المتكلفون، ودبج في الترويج له الكاتبون والمؤلفون!
وأخيراً أن كثيرين من المخدوعين بدعايات اللهو مأخوذون بالقول أنّ للموسيقي أثرها البالغ في إرهاف الشعور وترقيق القلوب، وتزكية النفوس، وتهذيب الأخلاق، وهو ما ذهب إليه اتباع الفلسفة اليونانية، من المتهمين بدينهم في العصر العباسي وبخاصة أصحاب "رسائل إخوان الصفا". والواقع أنّ الموسيقي سواء كانت خالصة أو مزيجة بالغناء إنما هي ضرب من وسائل التهييج والتخييل، كأيّ صنف من المخدرات المشتتة للوعي, وهذا ما حفّز هؤلاء إلى أن يدّعوا ما نسبوه إليها من الخصائص، وليس زعمهم هذا إلا كزعم مدمني الخمر والمخدرات حين يقولون: إنها تمنحهم لحظات من السعادة لا سبيل إليها إلا عن ذلك الطريق.
والحق أنّ الأمر على خلاف ما يزعم غواة هذه الفنون، ولو صح بعض ما ادعوه للموسيقى من فضيلة لظهر في أخلاق الغربيين، الذين يعتبرونها غذاءهم النفسي، وعبادتهم اليومية..ومع ذلك فهم أقسى الخلق قلوبا، وأشدهم بغيا وظلما واستكبارا على عباد الله، واستهتارا بحقوق الضعفاء.. وقد حدث أن زميلا لي كان يتحدث ذات يوم عن الموسيقى حتى ليقول: إنها تجعل من وحشي الطباع إنسانا رقيقا رفيعا. وكان ذلك أثناء الثورة الجزائرية، وقد انطلق الوحش الفرنسي يدمّر الجزائر على رؤوس أبنائها، فقلت: لذلك ترى الفرنسيين يقتلون إخوانك على أنغام الموسيقى! ولمدمني الغناء المشغولين به يقربهم من الله - عياذا بالله - نقول: على رسلكم فاسمعوا إلى شهادة ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الضرب من اللهو إذ يقول: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع [1] وأي نفاق أكبر من أن يسمع أحدهم كتاب الله يرتّل، وحديث رسوله يتلى فلا تحنُّ جوارحه ولا يوجل قلبه، ثم لا يتمالك أن يصعق - كابن أبي ربيعة - أو يكاد إذا مرّ بسمعه ترجيع غانية على لحن معزف!
ولأنصار الغناء وعشّاق نجومه نقول أيضا: بوسعكم أن تستنصروا لقضيتكم بتلاميذ الفلسفة الإغريقية، وبإخوان الصّفا الباطنية، وبسيفا راقصة المعابد الهندية، وحتى بالحواة الذين يستخرجون الثعابين من جحورها بالمعازف والألحان الغنائية.. أمّا أن تحاولوا الاتكاء على الإسلام في ترويج بضاعتكم فجهد مهدور لا حصيلة له سوى الإخفاق ولو أفتاكم المفتون، وخدع بدعايتكم المغفلون.
ومعذرة لفضيلة الشيخ الذي نكنُّ له كل تقدير.
[بقلم الشيخ؛ محمد المجذوب]
[1] سنن أبي داود ج7 رقم 4759, وقد تقرر لدى المحققين أنه من الآثار الموقوفة عليه, ولكنه من حيث المعنى بمنزلة المرفوع.[/align:ea1d845c2b]ِ