صلاح الدين يوسف
09-01-2006, 08:09 PM
من ذاكرة الطنطاوي: (بيروت الأمس واليوم) 1
د. يوسف بن أحمد القاسم * (http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=188&artid=7745#1) 15/7/1427
09/08/2006
في هذه الأيام القليلة الماضية قرأت عنواناً لمقال في إحدى صحفنا المحلية, يتحدث عن "ترقب لمعركة!" بالخط العريض, فأذهلني هذا الخبر، وانقدح في ذهني - من أول وهلة - المعركة التي تقودها المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل في جنوب لبنان, ثم تأكد لديّ هذا الشعور حين وقع بصري على جملة بين السطور, تحمل عبارة "حاجز المقاومة" فأيقنت أن المقال –فعلاً- يتطرق لهذا الموضوع الساخن الذي يهم كل مسلم غيور, على الأقل في خضم هذه الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية, فأرجعت البصر كرتين لأرقب زمان ومكان هذه المعركة التي أشار إليها الكاتب, وإذا المفاجأة تطل عليّ من العنوان نفسه؛ حيث كان يبدأ بهذه الجملة "الأسهم السعودية: ترقب لمعركة الـ11 ألف نقطة !!" فظننت أن خطأ ما وقع من الناسخ, وإذا أول استهلال الكاتب يبدد هذا الظن, حيث قال: "اقترب مؤشر الأسهم السعودية أمس من نقطة الـ11 ألفاً التي تعتبر حاجز مقاومة.. !!" وإذا المقاومة غير المقاومة, وإذا المعركة غير المعركة! وهنا أخذ مني الحزن كل مأخذ, واعتصر قلبي ألماً على واقعنا نحن المسلمين, حيث تستباح أرضنا في فلسطين ولبنان, وتُرتكب المجازر على أهلنا في غزة وقانا وغيرها, وفينا من لا يلهج إلا بمعركة الأسهم التي يغنم منها المال, إن غنم ولم يرجع بخفي حنين, أو ربما صفر اليدين.
إنه إذا لم نستشعر هذه الأيام الخطر الذي يحدق بنا, والمخططات التي يرسمها لنا الأعداء, والمؤامرات التي يحيكونها ضدنا، فمتى نستشعر ذلك؟ وهم باتوا لا يخططون في الخفاء, بل يعلنون على الملأ ما يُسمّى بالشرق الأوسط الجديد, والذي يحاول الأعداء أن ينفذوا بنوده بدأ من لبنان, وإذا لم نسطر بأقلامنا ما يخفف عن إخواننا في محنتهم هناك في فلسطين ولبنان, فلا أقل من أن نحترم مشاعرهم, وأن نراعي مشاعر المسلمين في كل مكان, فلا نعطي عنا انطباعاً عبر صحفنا ومقالاتنا, يشعرهم بأنا مشغولون بمعاركنا المالية التي نملأ بها جيوبنا, في الوقت الذي ينشغلون هم فيه بمعاركهم البشرية التي يصدون بها عدوان إسرائيل, عدونا المشترك.
ويعتصر القلب ألماً وحسرة, حين نرى من إخواننا المسلمين من لا يكترث لآلام المسلمين, ولا تتحرك فيه شعرة لأحزانهم ومآسيهم, ويزداد القلب ألماً حين نرى منهم من هو منشغل بلهوه مع اللاهين, وبعبثه مع العابثين, وإخواننا هناك تلهو بهم الآلة العسكرية الإسرائيلية, فتحول أجسامهم إلى أشلاء, وتعبث بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم القنابل الذكية والغبية, فتصيرهم ركاماً بين التراب, كيف يرقأ لنا دمع، ويغمض لنا جفن والمسلمون هناك لا يجدون شربة تبل رمقهم, ولا لقمة تسد جوعتهم، ولا منزلاً يجمع شتاتهم؟ وقد جاء في الأثر (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وفي الحديث الصحيح (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فأين نحن من هذا الهدي النبوي, والشعور الأخلاقي الذي يجسده هذا الحديث؟
وعوداً على الموضوع أقول: لقد زار أديبنا الراحل علي الطنطاوي- رحمه الله - لبنان قبل عدة عقود من الزمن, فأخذ يصف بأسلوبه الرائع صورة طبيعتها الأخاذة, بقراها المتناثرة على سفوح الجبال, وينابيعها المتدفقة من أعالي الصخور والتلال, وجبالها التي تطل من فوق السحاب, وأشجارها التي تملأ السهول والهضاب, ثم انتقل من وصف هذه الطبيعة الخلابة إلى وصف جانب من الواقع السلوكي الذي يكدر بعض مناطق لبنان, فقال (5/64-66) :"في لبنان- والحق يُقال- من بؤر الفساد, مثل ما فيها أو أضعاف ما فيها من المدارس والكليات, وحسبكم أنه كان وراء الصف المطل على ساحة البرج من العمارات, عمارات أخرى على شوارع فرعية واسعة, على كل لوحة عمارة لوحات فيها أسماء أنثيات, غلطت مرة فدخلت في تلك الشوارع مع أهلي وبناتي - بعد أن تزوجت, ورزقت البنات - فسألتني إحداهن: ما هذه اللوحات؟! فتنبهت وارتبكت, ثم قلت لها: إنها أسماء خياطات وبياعات, واستدرت راجعاً! ولقد دخلت من بعد أكثر من عشرين مدينة من مدن أوروبا, فما كنت أرى في الشوارع ما كنت أراه وأنا أمشي في شوارع بيروت, أماكن البغاء في وسط البلد! أما ما وراء الجدران فلا شأن لمثلي به, ولا وصول لي إليه, لا في أوروبا ولا في لبنان, وما في الدنيا بلد يخلو ولا بلد خلا تماماً من الفواحش, ولكن في الخفاء, لا يكشف عنه الغطاء, ولا يخلع أهله قناع الحياء. وهذا قديم في بيروت" ثم استذكر - رحمه الله- زيارته القديمة للبنان (سنة1356هـ - 1937م) حيث وقعت له بعض المواقف المبكية والطريفة في آن واحد! عندما سافر إليها برفقة بعض محبيه لزيارة أمير البيان شكيب أرسلان, فقال: "ولما دخلنا الفندق - أي: في صوفر - عمامتان عاليتان على رأسي البهجتين, بهجة العراق وبهجة الشام (أي الأثري والبيطار), وعقال نجدي على هامة سيد من سادة نجد هو الشيخ ياسين الرواف, ونحن اثنان مطربشان(أي: اللذان يلبسان الطربوش) الأستاذ عز الدين التنوخي وأنا, لما دخلنا تعلقت بنا الأنظار, ودارت حولنا الأبصار, وحف بنا شباب يسلمون علينا, فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا ... فما راعنا إلا أنهم ضحكوا, وضحك الحاضرون, فقلت لأحدهم: قل لي, لماذا تضحك؟ هل تجد في هيئتي ما يضحك؟ فازداد الخبيث ضحكاً, فهممت به, فوثب الحاضرون فقالوا: يا للعجب أتضرب فتاة! وإذا الذين حسبناهم شباباً فتيات بسراويل (بنطلونات) وحلل (بذلات) فسرنا ونحن مستحيون, نحاول ألاّ نعيدها كرة أخرى. ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة, فحيتنا, فقلت لها: مساء الخير يا مدموزيل, فقالت: مدموزيل إيه يا وقح! فقلت في نفسي: إنها متزوجة, وقد ساءها أني دعوتها بالمدموزيل (الآنسة), وأسرعت فتداركت الخطأ, وقلت: بردون مدام, فقالت: مدام في عينك يا قليل الأدب, بأي حق تمزح معي؟ أنا فلان المحامي, فقلت: عفواً بردون! ووليت هارباً, وذهبت إلى صاحب الفندق, فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة, فدهش مني, ووجم لحظة, ثم قدر أني أمزح, فانطلق ضاحكاً! قلت: إنني لا أمزح, ولكني أقول الجد, وقصصت عليه القصة. قال: وما ذا نعمل؟ قلت: لوحات صغيرة - مثلاً - من النحاس, أو من الفضة, توضع على الصدر, يكتب عليها "رجل" أو "امرأة" , تعلق تحت الثدي الأيسر , في مكان القلب , أو تتخذ حلية من الذهب أو الفضة, عليها صورة ديك - مثلاً- أو دجاجة, أو شاة أو خروف, أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث. وراقه اقتراحي, وقبله على أنه نكتة, ولم يفكر بالعمل به؛ لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين! تلك بيروت الأمس.
أما بيروت اليوم ( يقصد سنة الحرب مع إسرائيل عام 1982) وأما الجبل (أي :جبل لبنان) فأنا أسأل الله له الفرج، فلقد ورد أن بني إسرائيل لما رأوا انحراف ناس منهم وضلالهم، وعظوهم ونصحوهم, ثم تركوهم وأقروهم, وآكلوهم وشاربوهم, فلما جاء العذاب عمهم جميعاً. وما أشمت بما حل ببيروت وبلبنان, أيمكن أن أشمت ببلدي وبإخوتي؟ ولكنه قانون الله, إنه شديد العقاب, ولكنه واسع المغفرة, فتح باب التوبة, فما يغلقه حتى تقوم القيامة, القيامة العامة, أو القيامة الفردية حين يحضر الواحد الموت .. وهذا كلام حق, ولكنهم لا يقبلونه, إنهم يستثقلونه ويصدون عنه, فماذا نصنع إذا كان كلامنا لا يسمع". ووصف في موضع آخر (3/207-208) ساحة البرج بلبنان, فقال: "اجتمعت يومئذ المتع فيها, ولكن نأت التقوى عنها, كانت تقوم وراء بيوتها, على بعد أمتار معدودة من وسطها, بيوت البغايا, شامخات كالقصور , سابحات بالنور , على أبوابهن لوحات كبار بأسمائهن , كما تعلق اللوحات على أبواب المحامين, والأطباء, والتجار! كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف, وما أقول هذا شامتاً, فهي بلدي, أأشمت ببلدي؟ ولكن أقوله؛ ليتوب الغارق بالمعاصي ويؤوب, وليعتبر من لا يزال على الشط, لم يدن من اللجّ, ولم يدركه بعد الغرق. وأشهد لقد دخلت عشرين بلداً من بلدان أوروبا, كنت أرى منها ما يراه الماشي في الطريق, لا أدخل الزوايا, ولا أكتشف الخبايا, فما رأيت في واحدة منها مثل الذي كنت أراه وأنا أمشي في بيروت, مما لا يرضاه الله, ولا تقره أطهار الناس, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ونسأله أن يجعل ما قاست درساً نافعاً لها, درساً كافياً لا تحتاج إلى غيره, تحسن الاستفادة منه, والانتفاع به, وأن يكشف عنها الغمة, وأن يعيد إليها الأمن والسلام والنعمة. مشيت وحدي في ساحة البرج نصف الليل, فلم أجد إلا أعقاب السابلة, ولم أجد إلا السكارى وأنصاف السكارى, فضجرت وضاق صدري, وملأ نفسي الشعور بالوحشة, وأحسست فراغاً مخيفاً, فتركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء, ويرقص على الألحان التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة, فتغمره بجو الفتون, وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة, لا يتأملون معاني الوجود, وفلسفة الخلود, وحقيقة الزمان, بل يبتغون المتع الرخيصة, واللذائذ الواطية, في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر, ويمّمت شطر البحر, أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية, لعلي حين فقدت الأنس بالناس, أجد الأنس بالطبيعة .."أهـ .
لقد سطر - رحمه الله - هذه الكلمات, لا بنفس الشامت بلبنان ولكن بنفس الناصح, المشفق, المحب, الغيور على بلده العربي المسلم, - كما هو شعورنا - ليس لبنان فحسب, بل على كل بلد مسلم وقع في وحل المجاهرة بالمعاصي, أو يوشك أن يقع فيه؛ إذ إن المجاهرة بالمعاصي والمنكرات, ولاسيما الكبائر والموبقات, مما يغري المجتمع بالفساد, ويؤجج فيه مشاهد الفتنة, فيستمرئ المنكر ويألفه, حتى لا يعرف معروفاً , ولا ينكر منكراً, وهنا يدق ناقوس الخطر (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) وهذا لا يعني أبداً أن نقطع بأن ما يقع لإخواننا هناك أنه من هذا الباب؛ لأن هذا من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه, ولكن المعني هنا أن تعتبر المجتمعات المسلمة في كل مكان, فلا تستهين بالمنكر والمجاهرة به؛ لأنه منذر بخراب الديار لا سمح الله(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم)، وأنه كلما نزلت بالمسلمين مصيبة, أو حلّت بهم كارثة, فإن الله تعالى هو الذي يجب أن تُعلّق به الآمال, وأن تحط عنده الرحال, وذلك بالتوبة الصادقة, ثم بالأخذ بالأسباب المادية والمعنوية, وعدم التواكل أو الرضوخ لكل ما من شأنه سلب العزة والكرامة, وهاهي لبناننا المنكوبة, تصرخ بذلك المجتمع الغربي, مدعي العدالة, وحقوق الإنسان! فلا يجيب, ولا يستجيب, بل يساهم بآلاته المدمرة وقنابله الفتاكة في رفع الصراخ, وزيادة الأنين.
وإذا كان ما حققته المقاومة اللبنانية من انتصارات على أرض المعركة ومن إثخان في العدو قد أكد أن المحتل لا يجدي معه إلا المقاومة ورفع راية الجهاد الذي يحسب له العدو ألف حساب, فإننا نعلم علم اليقين أن المقاومة المتمثلة في حزب الله, أنها مقاومة شيعية, لها مصالحها وأجندتها المعروفة في المنطقة, والتي من ورائها إيران على سبيل الخصوص, إلا أننا وإن كنا لا نتفق معهم في تلك المعتقدات التي يدينونها, والمصالح التي يخططون لها, إلا أننا في الوقت ذاته نفرح بما تحققه هذه المقاومة على أرض المعركة؛ لأنهم يحاربون عدواً مشتركاً, وهو إسرائيل, الذي ما فتئ ينفذ المجازر تلو المجازر بإخواننا في فلسطين ولبنان, كما أن له المصالح والأجندة الأخطر في المنطقة برمتها مع حلفائه الغربيين. وإذا كان المسلمون في العصر الأول قد فرحوا بانتصار الروم – لأنهم أهل كتاب – على الفرس, مع أنهم جميعاً كفار, وللجميع أهدافه في المنطقة في ذلك الزمن الغابر, فمن باب أولى أن نفرح بانتصار المظلوم على الظالم, لاسيما والخلاف في تكفير عامة الشيعة محل خلاف بين أهل العلم وكلام شيخ الإسلام بن تيمية معلوم في هذا الباب، وإن كان للجميع أهدافه في هذه المنطقة, لا سيما وأن الوقوف مع المظلوم هنا هو تحت شعار نصرتهم ضد إسرائيل, لا أكثر من ذلك, وهذا لا يعني بطبيعة الحال تأييدهم على معتقداتهم الدينية, أو على مطامعهم التوسعية إن كان ثمة مطامع لهم في هذه المنطقة, وهذا يخرجنا من المعادلة الثنائية الخاطئة (إما مع حزب الله أو ضده!) فنحن نقف مع الحق حيث كان, مع المظلوم على الظالم, بقدر مظلمته, أما الموقف المحايد, فهو سيجعلنا في مأزق لا نُحسد عليه أمام تلك الشعوب المنكوبة، بل أمام العالم أجمع!!
إن أي صمت عربي أو إسلامي على هذه الحرب التي تمارس على هذا الشعب الأعزل, فإنه جريمة سيسجلها التاريخ بمداد أسود, وعلى صفحات سوداء, تبقى عاراً في جبين الأمة, لا يغسله الماء, ولا يطهره التراب.
وإن تعجب, فعجب ممن لا يرفع إلا شعار العروبة, ولا ينادي إلا بها, ولا يستغيث إلا بشعوبها, والمسلمون لم يتحدوا يوماً باسمها, ولم يتفقوا لحظة تحت ظلها, بل إن الفتوحات الإسلامية للدول العربية والإسلامية على مر التاريخ لم تكن إلا باسم الإسلام, بدأ بعهد النبوة والخلافة الراشدة, ومروراً بعصر الخلافة الأموية والعباسية, وانتهاء بزمن الخلافة العثمانية, فلم نختزل هذا النداء في هذا النطاق الضيق؟ ولم نهمش هذه المساحة الإسلامية الواسعة التي تترجمها مشاعر المسلمين في كل مكان, كما نشاهدها في القنوات الفضائية, وشاشات التلفزة, والتي تعكس صدق هذه المشاعر, وحرقة هذه القلوب على بلادها المسلمة, والله من وراء القصد. * (http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=188&artid=7745#2) عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
د. يوسف بن أحمد القاسم * (http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=188&artid=7745#1) 15/7/1427
09/08/2006
في هذه الأيام القليلة الماضية قرأت عنواناً لمقال في إحدى صحفنا المحلية, يتحدث عن "ترقب لمعركة!" بالخط العريض, فأذهلني هذا الخبر، وانقدح في ذهني - من أول وهلة - المعركة التي تقودها المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل في جنوب لبنان, ثم تأكد لديّ هذا الشعور حين وقع بصري على جملة بين السطور, تحمل عبارة "حاجز المقاومة" فأيقنت أن المقال –فعلاً- يتطرق لهذا الموضوع الساخن الذي يهم كل مسلم غيور, على الأقل في خضم هذه الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية, فأرجعت البصر كرتين لأرقب زمان ومكان هذه المعركة التي أشار إليها الكاتب, وإذا المفاجأة تطل عليّ من العنوان نفسه؛ حيث كان يبدأ بهذه الجملة "الأسهم السعودية: ترقب لمعركة الـ11 ألف نقطة !!" فظننت أن خطأ ما وقع من الناسخ, وإذا أول استهلال الكاتب يبدد هذا الظن, حيث قال: "اقترب مؤشر الأسهم السعودية أمس من نقطة الـ11 ألفاً التي تعتبر حاجز مقاومة.. !!" وإذا المقاومة غير المقاومة, وإذا المعركة غير المعركة! وهنا أخذ مني الحزن كل مأخذ, واعتصر قلبي ألماً على واقعنا نحن المسلمين, حيث تستباح أرضنا في فلسطين ولبنان, وتُرتكب المجازر على أهلنا في غزة وقانا وغيرها, وفينا من لا يلهج إلا بمعركة الأسهم التي يغنم منها المال, إن غنم ولم يرجع بخفي حنين, أو ربما صفر اليدين.
إنه إذا لم نستشعر هذه الأيام الخطر الذي يحدق بنا, والمخططات التي يرسمها لنا الأعداء, والمؤامرات التي يحيكونها ضدنا، فمتى نستشعر ذلك؟ وهم باتوا لا يخططون في الخفاء, بل يعلنون على الملأ ما يُسمّى بالشرق الأوسط الجديد, والذي يحاول الأعداء أن ينفذوا بنوده بدأ من لبنان, وإذا لم نسطر بأقلامنا ما يخفف عن إخواننا في محنتهم هناك في فلسطين ولبنان, فلا أقل من أن نحترم مشاعرهم, وأن نراعي مشاعر المسلمين في كل مكان, فلا نعطي عنا انطباعاً عبر صحفنا ومقالاتنا, يشعرهم بأنا مشغولون بمعاركنا المالية التي نملأ بها جيوبنا, في الوقت الذي ينشغلون هم فيه بمعاركهم البشرية التي يصدون بها عدوان إسرائيل, عدونا المشترك.
ويعتصر القلب ألماً وحسرة, حين نرى من إخواننا المسلمين من لا يكترث لآلام المسلمين, ولا تتحرك فيه شعرة لأحزانهم ومآسيهم, ويزداد القلب ألماً حين نرى منهم من هو منشغل بلهوه مع اللاهين, وبعبثه مع العابثين, وإخواننا هناك تلهو بهم الآلة العسكرية الإسرائيلية, فتحول أجسامهم إلى أشلاء, وتعبث بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم القنابل الذكية والغبية, فتصيرهم ركاماً بين التراب, كيف يرقأ لنا دمع، ويغمض لنا جفن والمسلمون هناك لا يجدون شربة تبل رمقهم, ولا لقمة تسد جوعتهم، ولا منزلاً يجمع شتاتهم؟ وقد جاء في الأثر (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وفي الحديث الصحيح (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فأين نحن من هذا الهدي النبوي, والشعور الأخلاقي الذي يجسده هذا الحديث؟
وعوداً على الموضوع أقول: لقد زار أديبنا الراحل علي الطنطاوي- رحمه الله - لبنان قبل عدة عقود من الزمن, فأخذ يصف بأسلوبه الرائع صورة طبيعتها الأخاذة, بقراها المتناثرة على سفوح الجبال, وينابيعها المتدفقة من أعالي الصخور والتلال, وجبالها التي تطل من فوق السحاب, وأشجارها التي تملأ السهول والهضاب, ثم انتقل من وصف هذه الطبيعة الخلابة إلى وصف جانب من الواقع السلوكي الذي يكدر بعض مناطق لبنان, فقال (5/64-66) :"في لبنان- والحق يُقال- من بؤر الفساد, مثل ما فيها أو أضعاف ما فيها من المدارس والكليات, وحسبكم أنه كان وراء الصف المطل على ساحة البرج من العمارات, عمارات أخرى على شوارع فرعية واسعة, على كل لوحة عمارة لوحات فيها أسماء أنثيات, غلطت مرة فدخلت في تلك الشوارع مع أهلي وبناتي - بعد أن تزوجت, ورزقت البنات - فسألتني إحداهن: ما هذه اللوحات؟! فتنبهت وارتبكت, ثم قلت لها: إنها أسماء خياطات وبياعات, واستدرت راجعاً! ولقد دخلت من بعد أكثر من عشرين مدينة من مدن أوروبا, فما كنت أرى في الشوارع ما كنت أراه وأنا أمشي في شوارع بيروت, أماكن البغاء في وسط البلد! أما ما وراء الجدران فلا شأن لمثلي به, ولا وصول لي إليه, لا في أوروبا ولا في لبنان, وما في الدنيا بلد يخلو ولا بلد خلا تماماً من الفواحش, ولكن في الخفاء, لا يكشف عنه الغطاء, ولا يخلع أهله قناع الحياء. وهذا قديم في بيروت" ثم استذكر - رحمه الله- زيارته القديمة للبنان (سنة1356هـ - 1937م) حيث وقعت له بعض المواقف المبكية والطريفة في آن واحد! عندما سافر إليها برفقة بعض محبيه لزيارة أمير البيان شكيب أرسلان, فقال: "ولما دخلنا الفندق - أي: في صوفر - عمامتان عاليتان على رأسي البهجتين, بهجة العراق وبهجة الشام (أي الأثري والبيطار), وعقال نجدي على هامة سيد من سادة نجد هو الشيخ ياسين الرواف, ونحن اثنان مطربشان(أي: اللذان يلبسان الطربوش) الأستاذ عز الدين التنوخي وأنا, لما دخلنا تعلقت بنا الأنظار, ودارت حولنا الأبصار, وحف بنا شباب يسلمون علينا, فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا ... فما راعنا إلا أنهم ضحكوا, وضحك الحاضرون, فقلت لأحدهم: قل لي, لماذا تضحك؟ هل تجد في هيئتي ما يضحك؟ فازداد الخبيث ضحكاً, فهممت به, فوثب الحاضرون فقالوا: يا للعجب أتضرب فتاة! وإذا الذين حسبناهم شباباً فتيات بسراويل (بنطلونات) وحلل (بذلات) فسرنا ونحن مستحيون, نحاول ألاّ نعيدها كرة أخرى. ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة, فحيتنا, فقلت لها: مساء الخير يا مدموزيل, فقالت: مدموزيل إيه يا وقح! فقلت في نفسي: إنها متزوجة, وقد ساءها أني دعوتها بالمدموزيل (الآنسة), وأسرعت فتداركت الخطأ, وقلت: بردون مدام, فقالت: مدام في عينك يا قليل الأدب, بأي حق تمزح معي؟ أنا فلان المحامي, فقلت: عفواً بردون! ووليت هارباً, وذهبت إلى صاحب الفندق, فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة, فدهش مني, ووجم لحظة, ثم قدر أني أمزح, فانطلق ضاحكاً! قلت: إنني لا أمزح, ولكني أقول الجد, وقصصت عليه القصة. قال: وما ذا نعمل؟ قلت: لوحات صغيرة - مثلاً - من النحاس, أو من الفضة, توضع على الصدر, يكتب عليها "رجل" أو "امرأة" , تعلق تحت الثدي الأيسر , في مكان القلب , أو تتخذ حلية من الذهب أو الفضة, عليها صورة ديك - مثلاً- أو دجاجة, أو شاة أو خروف, أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث. وراقه اقتراحي, وقبله على أنه نكتة, ولم يفكر بالعمل به؛ لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين! تلك بيروت الأمس.
أما بيروت اليوم ( يقصد سنة الحرب مع إسرائيل عام 1982) وأما الجبل (أي :جبل لبنان) فأنا أسأل الله له الفرج، فلقد ورد أن بني إسرائيل لما رأوا انحراف ناس منهم وضلالهم، وعظوهم ونصحوهم, ثم تركوهم وأقروهم, وآكلوهم وشاربوهم, فلما جاء العذاب عمهم جميعاً. وما أشمت بما حل ببيروت وبلبنان, أيمكن أن أشمت ببلدي وبإخوتي؟ ولكنه قانون الله, إنه شديد العقاب, ولكنه واسع المغفرة, فتح باب التوبة, فما يغلقه حتى تقوم القيامة, القيامة العامة, أو القيامة الفردية حين يحضر الواحد الموت .. وهذا كلام حق, ولكنهم لا يقبلونه, إنهم يستثقلونه ويصدون عنه, فماذا نصنع إذا كان كلامنا لا يسمع". ووصف في موضع آخر (3/207-208) ساحة البرج بلبنان, فقال: "اجتمعت يومئذ المتع فيها, ولكن نأت التقوى عنها, كانت تقوم وراء بيوتها, على بعد أمتار معدودة من وسطها, بيوت البغايا, شامخات كالقصور , سابحات بالنور , على أبوابهن لوحات كبار بأسمائهن , كما تعلق اللوحات على أبواب المحامين, والأطباء, والتجار! كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف, وما أقول هذا شامتاً, فهي بلدي, أأشمت ببلدي؟ ولكن أقوله؛ ليتوب الغارق بالمعاصي ويؤوب, وليعتبر من لا يزال على الشط, لم يدن من اللجّ, ولم يدركه بعد الغرق. وأشهد لقد دخلت عشرين بلداً من بلدان أوروبا, كنت أرى منها ما يراه الماشي في الطريق, لا أدخل الزوايا, ولا أكتشف الخبايا, فما رأيت في واحدة منها مثل الذي كنت أراه وأنا أمشي في بيروت, مما لا يرضاه الله, ولا تقره أطهار الناس, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ونسأله أن يجعل ما قاست درساً نافعاً لها, درساً كافياً لا تحتاج إلى غيره, تحسن الاستفادة منه, والانتفاع به, وأن يكشف عنها الغمة, وأن يعيد إليها الأمن والسلام والنعمة. مشيت وحدي في ساحة البرج نصف الليل, فلم أجد إلا أعقاب السابلة, ولم أجد إلا السكارى وأنصاف السكارى, فضجرت وضاق صدري, وملأ نفسي الشعور بالوحشة, وأحسست فراغاً مخيفاً, فتركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء, ويرقص على الألحان التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة, فتغمره بجو الفتون, وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة, لا يتأملون معاني الوجود, وفلسفة الخلود, وحقيقة الزمان, بل يبتغون المتع الرخيصة, واللذائذ الواطية, في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر, ويمّمت شطر البحر, أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية, لعلي حين فقدت الأنس بالناس, أجد الأنس بالطبيعة .."أهـ .
لقد سطر - رحمه الله - هذه الكلمات, لا بنفس الشامت بلبنان ولكن بنفس الناصح, المشفق, المحب, الغيور على بلده العربي المسلم, - كما هو شعورنا - ليس لبنان فحسب, بل على كل بلد مسلم وقع في وحل المجاهرة بالمعاصي, أو يوشك أن يقع فيه؛ إذ إن المجاهرة بالمعاصي والمنكرات, ولاسيما الكبائر والموبقات, مما يغري المجتمع بالفساد, ويؤجج فيه مشاهد الفتنة, فيستمرئ المنكر ويألفه, حتى لا يعرف معروفاً , ولا ينكر منكراً, وهنا يدق ناقوس الخطر (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) وهذا لا يعني أبداً أن نقطع بأن ما يقع لإخواننا هناك أنه من هذا الباب؛ لأن هذا من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه, ولكن المعني هنا أن تعتبر المجتمعات المسلمة في كل مكان, فلا تستهين بالمنكر والمجاهرة به؛ لأنه منذر بخراب الديار لا سمح الله(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم)، وأنه كلما نزلت بالمسلمين مصيبة, أو حلّت بهم كارثة, فإن الله تعالى هو الذي يجب أن تُعلّق به الآمال, وأن تحط عنده الرحال, وذلك بالتوبة الصادقة, ثم بالأخذ بالأسباب المادية والمعنوية, وعدم التواكل أو الرضوخ لكل ما من شأنه سلب العزة والكرامة, وهاهي لبناننا المنكوبة, تصرخ بذلك المجتمع الغربي, مدعي العدالة, وحقوق الإنسان! فلا يجيب, ولا يستجيب, بل يساهم بآلاته المدمرة وقنابله الفتاكة في رفع الصراخ, وزيادة الأنين.
وإذا كان ما حققته المقاومة اللبنانية من انتصارات على أرض المعركة ومن إثخان في العدو قد أكد أن المحتل لا يجدي معه إلا المقاومة ورفع راية الجهاد الذي يحسب له العدو ألف حساب, فإننا نعلم علم اليقين أن المقاومة المتمثلة في حزب الله, أنها مقاومة شيعية, لها مصالحها وأجندتها المعروفة في المنطقة, والتي من ورائها إيران على سبيل الخصوص, إلا أننا وإن كنا لا نتفق معهم في تلك المعتقدات التي يدينونها, والمصالح التي يخططون لها, إلا أننا في الوقت ذاته نفرح بما تحققه هذه المقاومة على أرض المعركة؛ لأنهم يحاربون عدواً مشتركاً, وهو إسرائيل, الذي ما فتئ ينفذ المجازر تلو المجازر بإخواننا في فلسطين ولبنان, كما أن له المصالح والأجندة الأخطر في المنطقة برمتها مع حلفائه الغربيين. وإذا كان المسلمون في العصر الأول قد فرحوا بانتصار الروم – لأنهم أهل كتاب – على الفرس, مع أنهم جميعاً كفار, وللجميع أهدافه في المنطقة في ذلك الزمن الغابر, فمن باب أولى أن نفرح بانتصار المظلوم على الظالم, لاسيما والخلاف في تكفير عامة الشيعة محل خلاف بين أهل العلم وكلام شيخ الإسلام بن تيمية معلوم في هذا الباب، وإن كان للجميع أهدافه في هذه المنطقة, لا سيما وأن الوقوف مع المظلوم هنا هو تحت شعار نصرتهم ضد إسرائيل, لا أكثر من ذلك, وهذا لا يعني بطبيعة الحال تأييدهم على معتقداتهم الدينية, أو على مطامعهم التوسعية إن كان ثمة مطامع لهم في هذه المنطقة, وهذا يخرجنا من المعادلة الثنائية الخاطئة (إما مع حزب الله أو ضده!) فنحن نقف مع الحق حيث كان, مع المظلوم على الظالم, بقدر مظلمته, أما الموقف المحايد, فهو سيجعلنا في مأزق لا نُحسد عليه أمام تلك الشعوب المنكوبة، بل أمام العالم أجمع!!
إن أي صمت عربي أو إسلامي على هذه الحرب التي تمارس على هذا الشعب الأعزل, فإنه جريمة سيسجلها التاريخ بمداد أسود, وعلى صفحات سوداء, تبقى عاراً في جبين الأمة, لا يغسله الماء, ولا يطهره التراب.
وإن تعجب, فعجب ممن لا يرفع إلا شعار العروبة, ولا ينادي إلا بها, ولا يستغيث إلا بشعوبها, والمسلمون لم يتحدوا يوماً باسمها, ولم يتفقوا لحظة تحت ظلها, بل إن الفتوحات الإسلامية للدول العربية والإسلامية على مر التاريخ لم تكن إلا باسم الإسلام, بدأ بعهد النبوة والخلافة الراشدة, ومروراً بعصر الخلافة الأموية والعباسية, وانتهاء بزمن الخلافة العثمانية, فلم نختزل هذا النداء في هذا النطاق الضيق؟ ولم نهمش هذه المساحة الإسلامية الواسعة التي تترجمها مشاعر المسلمين في كل مكان, كما نشاهدها في القنوات الفضائية, وشاشات التلفزة, والتي تعكس صدق هذه المشاعر, وحرقة هذه القلوب على بلادها المسلمة, والله من وراء القصد. * (http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=188&artid=7745#2) عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء