من هناك
07-28-2006, 12:08 AM
عمقت الحرب التي تشنها الدولة الصهيونية ضد فلسطين ولبنان في الوقت الراهن اختلاف المواقف بين الدعاة والعلماء المسلمين، وخصوصًا بعد بروز مقاومة حزب الله، بعد عملية "الوعد الصادق" التي هدفت -فيما هدفت على حد قول بعض المحللين- إلى تخفيف الضغط على الشعب الفلسطيني، ومقاومته في قطاع غزة، وأدت في الوقت نفسه إلى أن يقوم الصهاينة بشن هذه الحرب الدامية التي تجاوزت قضية الجنود الثلاثة المأسورين لدى الحزب وحركة حماس، إلى محاولة خلق واقع جديد في المنطقة العربية لا يخدم سوى المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
http://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/images/pic05a.jpghttp://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/images/pic05b.jpg
http://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/images/pic05.jpg
وبالرغم من اتفاق الجميع على أن هذه الحرب لا تهدف لاستئصال حزب أو حركة مقاومة، وإنما هزيمة أمة لا تقر بهزيمتها -على حد قول المستشرق الأمريكي برنارد لويس- فإن الدعاة والعلماء لم يبلوروا موقفا مشتركًا يخدم مستقبل هذه الأمة أو على الأقل لم يساندوا التيار الدعوي الشعبي الذي برز خلال هذه الحرب بمطالبته بوقوف الحكام والمحكومين معًا ضد دولة الاحتلال، وإنما علا صوت انقساماتهم على صوته، وفرضوا بذلك قضية مفتعلة على شعوبهم، في وقت يتهدد فيه وجود ومستقبل أمتهم، كما لاذ بعضهم بالصمت، متجنبًا الخوض في هذه القضية، مكتفيًا بحث الناس على الصلاة والدعاء لتفريج الكرب!!.
وعموما يمكن تقسيم مواقف الدعاة والعلماء خلال تلك الحرب إلى أربعة أقسام هي:
الأول- التيار الرسمي:
الذي يتبنى موقف الدفاع الدائم عن السياسات الحكومية، بل يكون أحيانًا أكثر انكماشًا وتشددًا في هذا السبيل –كما سنرى– من موقف الحكومات نفسها، بحجة الدفاع عن مصالح الدولة.
الثاني- التيار الفقهي التقليدي:
الذي يظهر دائمًا في التوقيت الخاطئ، وبدلاً من دعمه لحزب الله في مقاومته لدولة الاحتلال، يعلن أنه حزب شيعي رافضي لا يصلح للمواجهة وقيادة الأمة، ولا يجوز دعمه ولا نصرته.
الثالث- التيار الشعبي المستقل:
الذي ينتقد المواقف الرسمية، والسياسات الحكومية، من خلال البيانات والخطب والمواقع الإلكترونية، ويدعو إلى نصرة المظلومين وجهاد المعتدين.
الرابع- شيوخ الفضائيات والدعاة الجدد:
وهم لا يتعاطون إلا نادرًا مع مثل هذه القضايا، داعين أحيانًا –إن تكلموا- إلى تنفيذ سنة "التغيير النفسي" وبالتالي اقتصر موقفهم على التألم النفسي، ومطالبة المسلمين بالدعاء لإخوانهم، ناسين أن هناك سننا أخرى، كالتدافع، ونصر الله للمؤمنين، والتداول، يحتاج المسلمون إلى بيان شروطها وتعلمها.
جدل السنة والشيعة
بالرغم من وقوف حزب الله في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية وصموده في وجه المخططات الخارجية فإن بعض الدعاة تبنى موقفا فقهيا -خصوصًا في منطقة الخليج العربي- ينطلق من تكفير الشيعة، لتبرير رفض أية مساندة معنوية ومادية للحزب، بالقول بأن الحزب ينتمي للشيعة والرافضة الذين كانوا على مدى التاريخ على الضد من أهل السنة، فضلاً عن أنه تابع لإيران عقيدة وتسليحًا، ومن ثم فإن العمليات التي يقوم بها ليست حبًّا في أهل السنة أو دفاعًا عنهم، وإنما تندرج تحت الأجندة الإيرانية!.
وتبرز في هذا السياق فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين، أحد أكبر المرجعيات الفقهية بالسعودية التي تحرم مناصرة حزب الله وعدم جواز الدعاء لهم بالقول: "لا يجوز نصرة هذا الحزب الرافضي، ولا يجوز الانضواء تحت إمرتهم، ولا يجوز الدعاء لهم بالنصر والتمكين"!!.
وفي مقابل هؤلاء يوجد رأي آخر أكثر قوة ويزداد انتشارًا في أوساط العلماء والدعاة في عموم الأمة الإسلامية، وتعبر عنه فتاوى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، التي تعتبر أن الشيعة الإمامية مذهب فقهي، ولا يجوز تكفير من نطق بالشهادتين. أما حزب الله فيعبر عن ضمير العرب والمسلمين جميعًا، ولا يعبر عن مقاومة طائفة معينة، وبالتالي لا بد من تحييد الخلافات جانبًا في الوقت الراهن، من أجل دعم المقاومة ومواجهة عدو مشترك للإنسانية، هو (إسرائيل) واتخاذ موقف مشترك ودعم المقاومة.
الشيخ سلمان العودة
كما يعبر عن هذا الرأي الداعية السعودي سلمان بن فهد العودة، الذي طالب –كما جاء على موقع الإسلام اليوم- بتوحيد الصف أمام (إسرائيل) -العدو الإنساني المشترك الذي يدمر كل مقومات الحياة- والتفاعل مع الأزمة دون أن تتحول إلى عائق أمام إنتاجنا وعملنا قائلاً: "نحن بحاجة إلى تنادٍ عام على مستوى الأمة، وصوت موحد يرفع قضاياها، ولو في جوانب جزئية"، ومحذرًا في الوقت نفسه من أن تؤثر هذه الأحداث على العقلية الإسلامية والعربية، فتفرز لنا عقليات محبطة ويائسة بالقول: "إن اليأس في مثل هذه الظروف مدمر، والتفاؤل مطلوب، والله وجهتنا". كما طالب سلمان العودة الحكومات -من خلال أحاديثه في الفضائيات- إلى تجاوز الشجب والاستنكار، والتعاون مع بعض الدول المتذمرة من السياسات الأمريكية، كروسيا والصين.
اتحاد العلماء يكتفي ببيان!
د. يوسف القرضاوي
أما اتحاد علماء المسلمين -الذي يرأسه الدكتور يوسف القرضاوي- فقد توقف عند حد إصدار بيان في الأيام الأولى من أجل التأكيد على شرعية المقاومة في لبنان وفلسطين، ودعوة كل فردٍ من الأمة، حكَّامًا ومحكومين أن يقدِّم لها ما يستطيع من دعم. ثم غابت في الأيام التالية الخطوات المعهودة له في الأزمات المشابهة، مثل التحرك الإعلامي وإصدار الفتاوى بضرورة الدعم المادي للمقاومة وللشعبين الفلسطيني واللبناني، وتشكيل الوفود بهدف إجراء اتصالات سياسية مع الأطراف المؤثرة إقليميًّا ودوليًّا... إلخ.
تأثير الجغرافيا السياسية
ويلاحظ أن مواقف الدعاة -على اختلافها- لم ترتكز فقط على (فقه الدين) من خلال البحث عن الأدلة الشرعية وإصدار الفتاوى التي تؤيد تلك المواقف، وإنما تأثرت أيضًا بالجغرافيا السياسية.
فمن جهة يرى التيار الدعوي التجديدي أن موقع الأمة الإسلامية ومواردها الطبيعية أدت إلى سعي الإستراتيجيات الغربية إلى الهيمنة عليها، والتحالف مع دولة الاحتلال الصهيونية من أجل إعاقة وحدتها ونهوضها، وهو ما يفرض ضرورة التقريب بين مذاهب الأمة - وخصوصا السنة والشيعة- والوقوف بحزم ضد كل من يخذل المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين.
أما التيار الفقهي التقليدي في السعودية ومصر، فقد ارتكز موقفه بالأساس على فتاوى المجدد الإسلامي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكن هذا الموقف ظل يوظَّف لخدمة السياسة، حيث ارتفع صوت أصحابه بعد الثورة الإسلامية في إيران، وتوجيه الأطراف الإقليمية والدولية اتهامات للأخيرة بتصدير الثورة لبلدان الخليج، ثم عاد للظهور مع اتهامات أخرى ولكن لشيعة السعودية والعراق هذه المرة بأنهم أداة في يد إيران، لتقسيم الخليج واستهداف السنة.
ثم تواكب رأي هذا الفريق في حزب الله مع شكوك سعودية ومصرية متزايدة حول مستقبل الدور الإيراني في المنطقة، عكسها تحذير ملك الأردن من خطورة تبلور هلال شيعي، وحديث الرئيس المصري عن ولاء المجموعات الشيعية العربية لإيران قبل دولها، وانتقاد وزير الخارجية السعودي الإدارة الأمريكية لإهدائها العراق للمطامع الإيرانية.
وبناء عليه، تأثر التيار الفقهي التقليدي بطريقة مباشرة -أو غير مباشرة- بمخاوف عدد من العواصم العربية بشأن التوغل الإيراني، ورؤيتهم بأن حزب الله أداة إيرانية لخلق حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، تزيد من أوراق الجمهورية الإسلامية في مساومتها الكبرى مع الولايات المتحدة حول امتلاك التكنولوجيا النووية، وحدود دورها في الشرق الأوسط.
انعكاسات العلاقة مع السلطة
إضافة إلى ذلك أعادت الأزمة تصنيفًا معروفًا لدى عموم الناس، ومعياره هو العلاقة مع السلطة، حيث ينقسم العلماء والدعاة إلى أصناف ثلاثة وفق هذا المعيار، وهم: الرسميون، والمستقلون، والصامتون.
ولكن اللافت هنا ارتفاع صوت العلماء والدعاة الرسميين، في مقابل تزايد أعداد الصامتين، وتناقص أعداد المستقلين!! وربما يرجع ذلك إلى ما يسميه بعض العلماء بتأميم الحكومات للدين، وسعيها لإلحاق خطاب المؤسسات الدينية بخطابها، وإسكات الأصوات الأخرى بشتى وسائل الترغيب والترهيب.
د. سيد طنطاوي شيخ الأزهر
ويبرز من بين العلماء والدعاة الرسميين موقف شيخ الأزهر الذي نُسِب إليه اتهام "حزب الله" بالقيام بمغامرات لا تخدم المصالح العربية، وهاجم أمينه العام السيد حسن نصر الله إلى حد وصفه بأنه "رجل مريض بجنون العظمة، يريد أن يظهر أمام الشارع الإسلامي والعربي بأنه صلاح الدين الأيوبي الذي سيحرر الأمة من نير الاحتلال، لكنه فشل وأدخل لبنان في عش الدبابير"، على حد تعبيره.
وفي نفس الإطار نُشِر أن الدكتور حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري أعطى أوامره المشددة لمديريات الأوقاف بمختلف المحافظات بأن تحظر على الخطباء التطرق للاعتداءات الإسرائيلية على الشعبين الفلسطيني واللبناني في خطب الجمعة، وتوصيهم بالحديث خلال شهر أغسطس 2006م عن موقف الإسلام من السلام ونشره في العالم!! فضلاً عن عدم تناول قضايا الجهاد في الدروس بالمساجد، بحجة عدم إلهاب المشاعر!.
أين دعاة الفضائيات؟!
وفيما يتعلق بموقف الصامتين، فقد ظهر هذا الموقف بوضوح في مجالس العلم بالسعودية، بعدما امتنع الكثير من العلماء عن إعلان مواقفهم من الحرب على فلسطين ولبنان؛ وهو ما أرجعه البعض لوجود رغبة في عدم التعرض للملاحقة والاعتقال، كما حدث سابقًا إبان حرب الخليج الثانية.
أيضًا ظهر هذا الموقف في برامج الفضائيات للدعاة الجدد، وعلى مواقع الإنترنت الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال لم يتناول الدعاة عمرو خالد، وصفوت حجازي، وخالد الجندي، الحرب في لبنان من ناحية آثارها ومستقبلها وواجب المسلمين تجاه أطرافها.
وقد اكتفى عمرو خالد بمداخلة له في ساحة الحوار بموقعه عنوانها: "القيام والدعاء من أجل لبنان"، تدعو الزوار للصلاة والدعاء لأهل لبنان المنكوبين، ومساندتهم نفسيًّا! مما دفع البعض للتساؤل: ألم يكن من الأجدر أن يدشن عمرو خالد سلسلة حلقات، أو إحدى الحملات، من أجل لبنان وفلسطين، مثلما ساهم (بفعالية) في حملة تحريم وصلات الأطباق اللاقطة (لدش)؟!!، وألم يكن من الملائم -مثلما جمع مجموعة من الشباب وسافر بهم إلى الدانمارك- أن يحشد مجموعة مثلهم ويسافر بهم إلى لبنان للدعم والمساندة، خاصة أن اللبنانيين قد احتووه فترة من الزمن، وساندوه ووقفوا بجانبه في أيام صعبة، على حد قوله في المداخلة!!. أم أن تعاقدات عمرو خالد الفضائية مع القنوات (السعودية) تقف حائلاً بينه وبين اتخاذ مثل هذه المواقف؟!.
المستقلون يخرجون عن صمتهم
أما الموقف المستقل، فقد عبر عنه -مؤخرًا- الداعية السعودي الدكتور محسن العواجي، من خلال تأييده لحزب الله، ودعوته إلى مناصرة المقاومة بكل وسيلة مشروعة، حيث كتب مقالاً على موقعه الإلكتروني يقول فيه: "مهما كان الخلاف التاريخي بيننا (سنة وشيعة) فإنه لا يليق بالمسلم أن يقف موقف المتفرج أو المحايد مما يجري من عدوان صارخ على لبنان".
كما عبّر عنه الشيخ عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي اعتبر أن الموقف الرسمي العربي من الحرب الإسرائيلية الدائرة ضد لبنان وفلسطين، الذي يحمل المقاومة مسئولية الحرب: "يتحدى القرآن والسنة، ويتنكر للشهامة العربية والإسلامية".
تيار دعوي شعبي صاعد
وفي مقابل هذه الآراء، صعد رأي يعبر عن ضمير الشعوب العربية والإسلامية، يدعو إلى نصرة المقاومة في كل من فلسطين ولبنان، على اعتبار أنها فرض على كل مسلم ومسلمة في كل بقاع الأرض، كُلُّ بما يملك أو يستطيع، وعدم الوقوف عند الدعايات والشائعات الخارجية والداخلية التي تسيء إلى المقاومة أو المقاومين، وتزرع الخور والضعف في صفوف المؤمنين.
وظهر هذا الرأي في البيانات التضامنية مع المقاومة، التي تدين الجرائم الإسرائيلية، وتدعو لدعم الشعبين اللبناني والفلسطيني، وإقامة التظاهرات والمؤتمرات الشعبية، التي تدعو الدول العربية لاتخاذ مواقف أكثر إيجابية في الأزمة، وكذلك في خطب الجمعة والبرامج الإعلامية وفتاوى الفقهاء، التي تعمل على اصطفاف الجميع خلف المقاومة.
ورأينا نماذج مثل الشيخ عبد السلام المودن، خطيب مسجد "سهيل بن عويضة الخولي" في الدار البيضاء، الذي كانت الوفاة بالسكتة القلبية هي مصيره فور انتهائه من خطبة الجمعة 21-7-2006، حيث لم يتحمل قلبه جرائم العدوان على لبنان وفلسطين وسط الصمت المخزي، وكانت آخر كلماته في شرح عقيدة الولاء والبراء قوله: "إن الإسلام أكد ضرورة إظهار الولاء والدعم للمسلمين ضد عدوهم وضد الكفار، وأن يتبرءوا ممن يعادونهم ويعادون الله ورسوله ولا يوالونهم تحت أي ظرف". وشرح الشيخ -رحمه الله- أسباب الذل والهوان الذي يعيشه المسلمون في شتى بقاع الأرض، حتى قضت عليه المرارة والحسرة، ليخر ميتًا بعد انتهاء الصلاة!.
وهذا التيار لا يمثل فقط التيار الفقهي التجديدي، وإنما اكتسب أرضا جديدة داخل التيار الفقهي التقليدي، بعد ظهور أصوات تطالب بالتوحد في مواجهة دولة الاحتلال، فضلاً عن انتشاره داخل الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها، ووسط خطباء المساجد التابعة لوزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية الرسمية، بما يعني أن الأزمة الراهنة لم تدفع فقط نحو إحداث انقسامات جديدة تضاف إلى الانقسامات القديمة بين الدعاة، وإنما عكست أيضًا تغيرًا في المواقف من خلال تبني قطاع كبير للموقف الشرعي من المسلمين، (وهو موقف النصرة) أو الموقف الإنساني (وهو نصرة المظلوم)، ولكنه ما زال بحاجة إلى الانتشار على حساب المواقف الأخرى التي تغذي الواقع القائم على التعصب والاستبداد والاختراق الخارجي.
** صحفي وباحث.
http://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/05.shtml
http://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/images/pic05a.jpghttp://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/images/pic05b.jpg
http://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/images/pic05.jpg
وبالرغم من اتفاق الجميع على أن هذه الحرب لا تهدف لاستئصال حزب أو حركة مقاومة، وإنما هزيمة أمة لا تقر بهزيمتها -على حد قول المستشرق الأمريكي برنارد لويس- فإن الدعاة والعلماء لم يبلوروا موقفا مشتركًا يخدم مستقبل هذه الأمة أو على الأقل لم يساندوا التيار الدعوي الشعبي الذي برز خلال هذه الحرب بمطالبته بوقوف الحكام والمحكومين معًا ضد دولة الاحتلال، وإنما علا صوت انقساماتهم على صوته، وفرضوا بذلك قضية مفتعلة على شعوبهم، في وقت يتهدد فيه وجود ومستقبل أمتهم، كما لاذ بعضهم بالصمت، متجنبًا الخوض في هذه القضية، مكتفيًا بحث الناس على الصلاة والدعاء لتفريج الكرب!!.
وعموما يمكن تقسيم مواقف الدعاة والعلماء خلال تلك الحرب إلى أربعة أقسام هي:
الأول- التيار الرسمي:
الذي يتبنى موقف الدفاع الدائم عن السياسات الحكومية، بل يكون أحيانًا أكثر انكماشًا وتشددًا في هذا السبيل –كما سنرى– من موقف الحكومات نفسها، بحجة الدفاع عن مصالح الدولة.
الثاني- التيار الفقهي التقليدي:
الذي يظهر دائمًا في التوقيت الخاطئ، وبدلاً من دعمه لحزب الله في مقاومته لدولة الاحتلال، يعلن أنه حزب شيعي رافضي لا يصلح للمواجهة وقيادة الأمة، ولا يجوز دعمه ولا نصرته.
الثالث- التيار الشعبي المستقل:
الذي ينتقد المواقف الرسمية، والسياسات الحكومية، من خلال البيانات والخطب والمواقع الإلكترونية، ويدعو إلى نصرة المظلومين وجهاد المعتدين.
الرابع- شيوخ الفضائيات والدعاة الجدد:
وهم لا يتعاطون إلا نادرًا مع مثل هذه القضايا، داعين أحيانًا –إن تكلموا- إلى تنفيذ سنة "التغيير النفسي" وبالتالي اقتصر موقفهم على التألم النفسي، ومطالبة المسلمين بالدعاء لإخوانهم، ناسين أن هناك سننا أخرى، كالتدافع، ونصر الله للمؤمنين، والتداول، يحتاج المسلمون إلى بيان شروطها وتعلمها.
جدل السنة والشيعة
بالرغم من وقوف حزب الله في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية وصموده في وجه المخططات الخارجية فإن بعض الدعاة تبنى موقفا فقهيا -خصوصًا في منطقة الخليج العربي- ينطلق من تكفير الشيعة، لتبرير رفض أية مساندة معنوية ومادية للحزب، بالقول بأن الحزب ينتمي للشيعة والرافضة الذين كانوا على مدى التاريخ على الضد من أهل السنة، فضلاً عن أنه تابع لإيران عقيدة وتسليحًا، ومن ثم فإن العمليات التي يقوم بها ليست حبًّا في أهل السنة أو دفاعًا عنهم، وإنما تندرج تحت الأجندة الإيرانية!.
وتبرز في هذا السياق فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين، أحد أكبر المرجعيات الفقهية بالسعودية التي تحرم مناصرة حزب الله وعدم جواز الدعاء لهم بالقول: "لا يجوز نصرة هذا الحزب الرافضي، ولا يجوز الانضواء تحت إمرتهم، ولا يجوز الدعاء لهم بالنصر والتمكين"!!.
وفي مقابل هؤلاء يوجد رأي آخر أكثر قوة ويزداد انتشارًا في أوساط العلماء والدعاة في عموم الأمة الإسلامية، وتعبر عنه فتاوى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، التي تعتبر أن الشيعة الإمامية مذهب فقهي، ولا يجوز تكفير من نطق بالشهادتين. أما حزب الله فيعبر عن ضمير العرب والمسلمين جميعًا، ولا يعبر عن مقاومة طائفة معينة، وبالتالي لا بد من تحييد الخلافات جانبًا في الوقت الراهن، من أجل دعم المقاومة ومواجهة عدو مشترك للإنسانية، هو (إسرائيل) واتخاذ موقف مشترك ودعم المقاومة.
الشيخ سلمان العودة
كما يعبر عن هذا الرأي الداعية السعودي سلمان بن فهد العودة، الذي طالب –كما جاء على موقع الإسلام اليوم- بتوحيد الصف أمام (إسرائيل) -العدو الإنساني المشترك الذي يدمر كل مقومات الحياة- والتفاعل مع الأزمة دون أن تتحول إلى عائق أمام إنتاجنا وعملنا قائلاً: "نحن بحاجة إلى تنادٍ عام على مستوى الأمة، وصوت موحد يرفع قضاياها، ولو في جوانب جزئية"، ومحذرًا في الوقت نفسه من أن تؤثر هذه الأحداث على العقلية الإسلامية والعربية، فتفرز لنا عقليات محبطة ويائسة بالقول: "إن اليأس في مثل هذه الظروف مدمر، والتفاؤل مطلوب، والله وجهتنا". كما طالب سلمان العودة الحكومات -من خلال أحاديثه في الفضائيات- إلى تجاوز الشجب والاستنكار، والتعاون مع بعض الدول المتذمرة من السياسات الأمريكية، كروسيا والصين.
اتحاد العلماء يكتفي ببيان!
د. يوسف القرضاوي
أما اتحاد علماء المسلمين -الذي يرأسه الدكتور يوسف القرضاوي- فقد توقف عند حد إصدار بيان في الأيام الأولى من أجل التأكيد على شرعية المقاومة في لبنان وفلسطين، ودعوة كل فردٍ من الأمة، حكَّامًا ومحكومين أن يقدِّم لها ما يستطيع من دعم. ثم غابت في الأيام التالية الخطوات المعهودة له في الأزمات المشابهة، مثل التحرك الإعلامي وإصدار الفتاوى بضرورة الدعم المادي للمقاومة وللشعبين الفلسطيني واللبناني، وتشكيل الوفود بهدف إجراء اتصالات سياسية مع الأطراف المؤثرة إقليميًّا ودوليًّا... إلخ.
تأثير الجغرافيا السياسية
ويلاحظ أن مواقف الدعاة -على اختلافها- لم ترتكز فقط على (فقه الدين) من خلال البحث عن الأدلة الشرعية وإصدار الفتاوى التي تؤيد تلك المواقف، وإنما تأثرت أيضًا بالجغرافيا السياسية.
فمن جهة يرى التيار الدعوي التجديدي أن موقع الأمة الإسلامية ومواردها الطبيعية أدت إلى سعي الإستراتيجيات الغربية إلى الهيمنة عليها، والتحالف مع دولة الاحتلال الصهيونية من أجل إعاقة وحدتها ونهوضها، وهو ما يفرض ضرورة التقريب بين مذاهب الأمة - وخصوصا السنة والشيعة- والوقوف بحزم ضد كل من يخذل المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين.
أما التيار الفقهي التقليدي في السعودية ومصر، فقد ارتكز موقفه بالأساس على فتاوى المجدد الإسلامي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكن هذا الموقف ظل يوظَّف لخدمة السياسة، حيث ارتفع صوت أصحابه بعد الثورة الإسلامية في إيران، وتوجيه الأطراف الإقليمية والدولية اتهامات للأخيرة بتصدير الثورة لبلدان الخليج، ثم عاد للظهور مع اتهامات أخرى ولكن لشيعة السعودية والعراق هذه المرة بأنهم أداة في يد إيران، لتقسيم الخليج واستهداف السنة.
ثم تواكب رأي هذا الفريق في حزب الله مع شكوك سعودية ومصرية متزايدة حول مستقبل الدور الإيراني في المنطقة، عكسها تحذير ملك الأردن من خطورة تبلور هلال شيعي، وحديث الرئيس المصري عن ولاء المجموعات الشيعية العربية لإيران قبل دولها، وانتقاد وزير الخارجية السعودي الإدارة الأمريكية لإهدائها العراق للمطامع الإيرانية.
وبناء عليه، تأثر التيار الفقهي التقليدي بطريقة مباشرة -أو غير مباشرة- بمخاوف عدد من العواصم العربية بشأن التوغل الإيراني، ورؤيتهم بأن حزب الله أداة إيرانية لخلق حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، تزيد من أوراق الجمهورية الإسلامية في مساومتها الكبرى مع الولايات المتحدة حول امتلاك التكنولوجيا النووية، وحدود دورها في الشرق الأوسط.
انعكاسات العلاقة مع السلطة
إضافة إلى ذلك أعادت الأزمة تصنيفًا معروفًا لدى عموم الناس، ومعياره هو العلاقة مع السلطة، حيث ينقسم العلماء والدعاة إلى أصناف ثلاثة وفق هذا المعيار، وهم: الرسميون، والمستقلون، والصامتون.
ولكن اللافت هنا ارتفاع صوت العلماء والدعاة الرسميين، في مقابل تزايد أعداد الصامتين، وتناقص أعداد المستقلين!! وربما يرجع ذلك إلى ما يسميه بعض العلماء بتأميم الحكومات للدين، وسعيها لإلحاق خطاب المؤسسات الدينية بخطابها، وإسكات الأصوات الأخرى بشتى وسائل الترغيب والترهيب.
د. سيد طنطاوي شيخ الأزهر
ويبرز من بين العلماء والدعاة الرسميين موقف شيخ الأزهر الذي نُسِب إليه اتهام "حزب الله" بالقيام بمغامرات لا تخدم المصالح العربية، وهاجم أمينه العام السيد حسن نصر الله إلى حد وصفه بأنه "رجل مريض بجنون العظمة، يريد أن يظهر أمام الشارع الإسلامي والعربي بأنه صلاح الدين الأيوبي الذي سيحرر الأمة من نير الاحتلال، لكنه فشل وأدخل لبنان في عش الدبابير"، على حد تعبيره.
وفي نفس الإطار نُشِر أن الدكتور حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري أعطى أوامره المشددة لمديريات الأوقاف بمختلف المحافظات بأن تحظر على الخطباء التطرق للاعتداءات الإسرائيلية على الشعبين الفلسطيني واللبناني في خطب الجمعة، وتوصيهم بالحديث خلال شهر أغسطس 2006م عن موقف الإسلام من السلام ونشره في العالم!! فضلاً عن عدم تناول قضايا الجهاد في الدروس بالمساجد، بحجة عدم إلهاب المشاعر!.
أين دعاة الفضائيات؟!
وفيما يتعلق بموقف الصامتين، فقد ظهر هذا الموقف بوضوح في مجالس العلم بالسعودية، بعدما امتنع الكثير من العلماء عن إعلان مواقفهم من الحرب على فلسطين ولبنان؛ وهو ما أرجعه البعض لوجود رغبة في عدم التعرض للملاحقة والاعتقال، كما حدث سابقًا إبان حرب الخليج الثانية.
أيضًا ظهر هذا الموقف في برامج الفضائيات للدعاة الجدد، وعلى مواقع الإنترنت الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال لم يتناول الدعاة عمرو خالد، وصفوت حجازي، وخالد الجندي، الحرب في لبنان من ناحية آثارها ومستقبلها وواجب المسلمين تجاه أطرافها.
وقد اكتفى عمرو خالد بمداخلة له في ساحة الحوار بموقعه عنوانها: "القيام والدعاء من أجل لبنان"، تدعو الزوار للصلاة والدعاء لأهل لبنان المنكوبين، ومساندتهم نفسيًّا! مما دفع البعض للتساؤل: ألم يكن من الأجدر أن يدشن عمرو خالد سلسلة حلقات، أو إحدى الحملات، من أجل لبنان وفلسطين، مثلما ساهم (بفعالية) في حملة تحريم وصلات الأطباق اللاقطة (لدش)؟!!، وألم يكن من الملائم -مثلما جمع مجموعة من الشباب وسافر بهم إلى الدانمارك- أن يحشد مجموعة مثلهم ويسافر بهم إلى لبنان للدعم والمساندة، خاصة أن اللبنانيين قد احتووه فترة من الزمن، وساندوه ووقفوا بجانبه في أيام صعبة، على حد قوله في المداخلة!!. أم أن تعاقدات عمرو خالد الفضائية مع القنوات (السعودية) تقف حائلاً بينه وبين اتخاذ مثل هذه المواقف؟!.
المستقلون يخرجون عن صمتهم
أما الموقف المستقل، فقد عبر عنه -مؤخرًا- الداعية السعودي الدكتور محسن العواجي، من خلال تأييده لحزب الله، ودعوته إلى مناصرة المقاومة بكل وسيلة مشروعة، حيث كتب مقالاً على موقعه الإلكتروني يقول فيه: "مهما كان الخلاف التاريخي بيننا (سنة وشيعة) فإنه لا يليق بالمسلم أن يقف موقف المتفرج أو المحايد مما يجري من عدوان صارخ على لبنان".
كما عبّر عنه الشيخ عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي اعتبر أن الموقف الرسمي العربي من الحرب الإسرائيلية الدائرة ضد لبنان وفلسطين، الذي يحمل المقاومة مسئولية الحرب: "يتحدى القرآن والسنة، ويتنكر للشهامة العربية والإسلامية".
تيار دعوي شعبي صاعد
وفي مقابل هذه الآراء، صعد رأي يعبر عن ضمير الشعوب العربية والإسلامية، يدعو إلى نصرة المقاومة في كل من فلسطين ولبنان، على اعتبار أنها فرض على كل مسلم ومسلمة في كل بقاع الأرض، كُلُّ بما يملك أو يستطيع، وعدم الوقوف عند الدعايات والشائعات الخارجية والداخلية التي تسيء إلى المقاومة أو المقاومين، وتزرع الخور والضعف في صفوف المؤمنين.
وظهر هذا الرأي في البيانات التضامنية مع المقاومة، التي تدين الجرائم الإسرائيلية، وتدعو لدعم الشعبين اللبناني والفلسطيني، وإقامة التظاهرات والمؤتمرات الشعبية، التي تدعو الدول العربية لاتخاذ مواقف أكثر إيجابية في الأزمة، وكذلك في خطب الجمعة والبرامج الإعلامية وفتاوى الفقهاء، التي تعمل على اصطفاف الجميع خلف المقاومة.
ورأينا نماذج مثل الشيخ عبد السلام المودن، خطيب مسجد "سهيل بن عويضة الخولي" في الدار البيضاء، الذي كانت الوفاة بالسكتة القلبية هي مصيره فور انتهائه من خطبة الجمعة 21-7-2006، حيث لم يتحمل قلبه جرائم العدوان على لبنان وفلسطين وسط الصمت المخزي، وكانت آخر كلماته في شرح عقيدة الولاء والبراء قوله: "إن الإسلام أكد ضرورة إظهار الولاء والدعم للمسلمين ضد عدوهم وضد الكفار، وأن يتبرءوا ممن يعادونهم ويعادون الله ورسوله ولا يوالونهم تحت أي ظرف". وشرح الشيخ -رحمه الله- أسباب الذل والهوان الذي يعيشه المسلمون في شتى بقاع الأرض، حتى قضت عليه المرارة والحسرة، ليخر ميتًا بعد انتهاء الصلاة!.
وهذا التيار لا يمثل فقط التيار الفقهي التجديدي، وإنما اكتسب أرضا جديدة داخل التيار الفقهي التقليدي، بعد ظهور أصوات تطالب بالتوحد في مواجهة دولة الاحتلال، فضلاً عن انتشاره داخل الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها، ووسط خطباء المساجد التابعة لوزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية الرسمية، بما يعني أن الأزمة الراهنة لم تدفع فقط نحو إحداث انقسامات جديدة تضاف إلى الانقسامات القديمة بين الدعاة، وإنما عكست أيضًا تغيرًا في المواقف من خلال تبني قطاع كبير للموقف الشرعي من المسلمين، (وهو موقف النصرة) أو الموقف الإنساني (وهو نصرة المظلوم)، ولكنه ما زال بحاجة إلى الانتشار على حساب المواقف الأخرى التي تغذي الواقع القائم على التعصب والاستبداد والاختراق الخارجي.
** صحفي وباحث.
http://www.islamonline.net/arabic/Daawa/issue/2006/07/05.shtml