تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الرحمة والحياة والموت...خطبة عصماء



فـاروق
06-30-2006, 11:30 AM
الحيــــاة والمـــوت والرحمـــــة




((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ))



لقد كان من عظيم فضل الله على عباده، ومن جميل لُطفه بهم، ومن واسع رحمته عليهم، أن فتح لهم أبواب توبته، ونشر لهم بساط رحمته، وبسط عليهم جناح عفوه، ودعاهم إلى مائدة الرضا والغُفران، وأي فضل بعد فضل الله على عباده؟ فقد أطمعهم في حلمه، ورغبَّهم في عفوه، يعصون ويستُر عليهم، ويذنبون ويغفرُ لهم، ويسيؤون ويعفو عنهم، فقد غفر لوحشيٍ وهو قاتل حمزة، وقبِلَ أبا سفيان وهو رأس الكفر، وعفا عن خالدٍ وهو هازمُ جيش المسلمين ...





فسبحان من رحم عباده من ضعفهم، ونصرهم على شياطينهم، ووعد المذنبين فهم إن تابوا، أن يبدل سيئاتهم حسنات، وليس ذلك على الله بعجيب ولا غريب، فهو الخالق ونحن العبيد وهو القوي ونحن الضعفاء، هو الكريم الماجد لا يقنطُ من رحمته إلا الضالون، ولا ييأس من روحه إلا الكافرون، ولولا إكرام الله لعباده بالرحمة والمغفرة، ما دخل الجنة منهم أحد، لقوله (صلى الله عليه وسلم): ((لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).





ولأن الدنيا خضِرةٌ حلوة، وفاتنة ساحرة، وجذابة خلابة، تعشَقُها النفوس، وترغبُها الطباع، وتميل إليها الأهواء والعقول، لم تدع قلباً إلا ملكته، ولا لباً إلا سحرته، أحبها المؤمنون والكافرون، وسعى إليها العلماء والجاهلون، ورغب فيها الفسقة والصالحون، ولولا عصمة الله لأنبيائه، لأصابهم ما أصاب سائر الناس، وكيف لا تكون الدنيا فاتنة ساحرة، وفيها فتنة الأولاد والنساء، والمال والجاه والسُلطان، فما أحلى آمالها، وما أشهى أمانيها، وفوق ذلك كله، فقد زينها الشيطان للناس، ومالت إليها الأنفس بالفطرة، لقوله تعالى:(( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ))





.. حقاً إن الدنيا كذلك، وإن الإنسان فيها عُرضةٌ لارتكاب الذنوب والآثام والأخطاء، إلا أن الله لم يخلُقِ الإنسان فيها حيواناً أعجم ليسرح ويمرح، ويأكل ويتمتع، ثم تنطوي صحيفته بانتهاء أجله المحدود، ولكنه خلقه إنساناً عاقلاً، ومكلفاً مسؤولاً، وجعل له حياة وراء هذه الحياة، فيها المناقشة والحساب، والميزان والصراط، والجنة والنار: فإذا جاء الإنسان أجلُهُ ولم يتب من ذنبه، ولم يقلع عن معاصيه، ندم على ما قدَّمت يداه، وتحسَّر على ما فرط في جنب الله: ((يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى))





ذلك الإنسان الذي أحدث العجائب، وابتكر الغرائب، وزلزل الأرض بقدميه، وفتل الحديد بساعديه، وركب الغواصة والصاروخ، وأدار المِدفع والقُنبلة، وروّضَ الأفعى والسبُع، وصاد النسر والحوت، ودمر المعاقل والحصون، كل ذلك فعله الإنسان، ولكنه لم يقو على احتمال سكرات الموت، فانظر إليه قد جاء أجله، ونزلت به منيته، تراه طريحاً في فراشه، مشلول الحركة، جامد العينين، معقود اللسان، تكلمه فلا ينطق، وتناديه فلا يسمع، وتسأله فلا يجيب، يحرِقُه الموت بناره، ويمضغه بأنيابه، ويفريه بأظافره، وهو لا يستطيع تأففاً ولا شكوى، ولا يملك توجعاً ولا أنيناً، يُطعَم الطعام فيلفِظه، ويُسقى الشراب فلا يستسيغه، ويُجرّعُ الدواء فيأباه، وذلك لما يقاسيه من آلام النـزاع، ولوعة الفراق، وغموض المصير، كل ذلك بين أولاده ونسائه، وأهله وعشيرته ومع ذلك، لا يملكون إنقاذه من يد الموت، ولا تخليصه من قبضة القضاء ((وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنت منه تحيد))





وما هي إلا لحظةٌ واحدة، حتى يسكُن قلبه ويبرُد جسمه، ويُصبح جُثة هامدة، لا نفس فيها ولا حراك، يُنزَع ماله من جيبه فلا يعي، ويُجردُ من ثيابه فلا يشعر، يُقلَّب على جنبيه فلا يستفيق، وهو في تلك اللحظة ضعيف ثقيل على أهله، يتمنون له الدفن والرحيل، حتى إذا جاء أوانُ دفنه، زودوه بقليل من القطن ولفوه بالكفن، وبعدها يفارق الأموال والأولاد والأقربين، ثم يُشيِّع جنازته كثير من الناس، وهم ما بين عدوٍ شامتٍ بموته أو حبيب فرح بميراثه أو بين هذا وذاك يجد العبرة بموته، وأخيراً يُلقُونه في القبر ويرجعون، ويتركونه في وحشةٍ وظلام، لا جليس ولا أنيس، حيث يسبحُ في جسمه الدود والهوام، وتنهشه الحيات والحشرات، ويُصبح بعد أيام جيفةً قذرة، وعظاماً نخرة، وجلوداً ممزقة، ويا ليتها النهاية:






ولو أنا إذا مِتنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي


ولكنا إذا مِتنا بُعثنا ونُسأل بعده عن كل شيء





عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: ((يا أيها الناس: كأن الموت فيها على غيرنا كُتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذي نُشيِّع من الأموات سفر عما قليلٍ راجعون، نُبوِّئهم أجداثهم (ننـزلهم قبورهم) ونأكل تراثهم، كأنا مخلَّدون بعدهم، نسينا كل واعظة، وأمنّا كل جائحة (الآفة المذهبية للمال)، طوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية الله، وجالس أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن ذلت نفسه، وحسُنَتْ خليقته، وصلُحت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه، ووسعته السنة، ولم تستهوِهِ البِدعة)).





وعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمنكبي وقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عن ربه: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم)).







إخوة الإيمان: إن رحمة الله بعباده، وفرحهُ بتوبتهم، تتمثل في هذا الأثر المتطابق مع النصوص الصحيحة: ((إن أتاني عبدي ليلاً قبلته، وإن أتاني نهاراً قبلته، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، وإن مشى إلي هرولت إليه، ومن أقبل علي تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، ومن أراد مرادي أردت ما يريد، أهل ذكري أهل مودتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبُهم، فإني أحب التوابين، وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من الذنوب والمعايب، أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، وأنا أرحم بعبدي من الأم بولدها)) هذا هو ربكم وتلك هي رحمته وهو القائل: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).



اللهم اجعلنا من الصالحين العاملين الذاكرين لنفوز بهذه البشرى برحمتك يا أرحم الراحمين يا من قلت:

(( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))

((وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ))

والحمد لله رب العالمين






منقول