من هناك
06-17-2006, 09:05 PM
... فتمرّ الأيّام و تتلاشى فينا شجاعة العودة...
خوفاً من تهمة الفشل!!
"سيري ببُطءٍ، يا حياة، لكي أراك بكامل النقصان حولي..."
أو ربّما...
"سيري ببُطءٍ كالإناث الواثقات بسحرهِنّ و كيدِهِنَّ..."
مرّت الأياّم منذ تعرّفت على سلوى كحلم لذيذ. كانت هي تشتغل في أحد البارات المونتريالية، لتنهي الهزع الأخير من الليل بين أحضان الرذيلة كما كانت تقول بتهكم عبثي إلى حد السوريالية. تكررت لقاءاتنا و في كلّ مرّة أزداد تعلّقاً بها. كنت أحس أنّ سلوى ترتاح إلى حديثي و رؤيتي السوداوية للأمور، ربّما لأنّني أمثل لها ماضياً جميلاً رغم إحباطاته، أو ربّما لأنّ كلامي يخلع عنّا رداء المسؤولية ليضعه على الآخرين، لنُتقِنَ أدوار الضحية في كلّ المشاهد...
للقهوة برفقة سلوى نكهة خاصة، طعم السجائر أكثر لذة و الأمكنة أجمل، و أحاديث الشعر و الأدب أصفى و أنبل. و أنا أحدثها يحاصرني نفس السؤال: "كيف لهذه الفتاة التي تحفظ " أحمد الزعتر" عن ظهر قلب أن تلبي رغبات حيوانية كريهة لأغنياء سفلة؟
كنّا مسترسلين في حواراتنا التي أدمنتها لأيام طويلة مع سلوى، في أحد المقاهي المونتريالية التي لا زالت تسمح لمرتاديها بالتدخين في بعض فضاءاتها المخصصة لذلك، دخل شخص بملامحه العربية. في الحقيقة لم يكن ليثير انتباهي لكثرة الداخلين و الخارجين، و لكنّ حركاته كانت عصبية و مرتبكة. طلب قهوته وتوجه نحو مكان شاغر قريبٍ منّا. جلس ليحتسي فنجانه و أشعل سيجارته و تفوّه بكلمات نابية لم أتبيّن في حقّ من. كان وجهه يبدو كئيباً... أشعل سيجارته بانفعال و استدار نحونا.
- : " الأخوان من المغرب...عفواً إذا تفوهت بأشياء... "
- : " لا بأس... أرجو أن يكون الأمر عابراً..." قاطعته سلوى بطريقة لا تخلو من لباقة .
- : " إنها مصيبة قد حلّت بي أنا و عائلتي..." و قبل أن ينهي كلامه قام و توجّه نحونا طالباً الإذن بالجلوس...
- : " ما الأمر؟ ماذا بك؟ اهدأ قليلا إنّ حالتك النفسية مضطربة..." سألته بعد أن جلس إلينا و قدّم نفسه و كذلك فعلنا نحن...
- : " كنت أعمل في المغرب كإطار بنكي بدرجة مدير وكالة ، و في لحظة غرور قرّرت أن آتي إلى هنا لا أعرف لماذا. لقد تحايل عليّ المدراء في المؤسسة البنكية سنة كاملة للبقاء مع راتب جيد، و بعد تعنّتي اقترحوا عليّ مدة ثلاثة أشهر لآتي إلى كندا ثم أعود إذا لم تعجبني الحياة هنا. فضيّعتها في المغرب و أنا أستعدُّ لحياة الحلم الجديدة التي كنت أخال نفسي أستحقّها و أعتبرت أنّني أكبر من العيش براتب شهري يحلم به الملايين من أبناء وطني... و الآن أنا هنا منذ ستة أشهر و لم أجد عملاً. أصيبت زوجتي بإحباط شديد سبّب لها اكتئابا كبيراً، دخلت إثره للمستشفى مرّتين، و إبني مريض منذ أن وطأت رجليه هذه الأرض. أمّا أنا فقد أشرفت على حافة الجنون..."
كان عثمان يتكلّم بصوت مرير، حاولت التدخل أكثر من مرّة لتهدئته، و لكنّ حجم الألم المنبعث بين كلماته منعني من ذلك. سألته في محاولة منّي لإمتصاص غضبه.
- " و هل من سبيلٍ إلى العودة إلى عملك في المغرب مرّة أخرى؟
توقفّ عن شرب قهوته و نظر إليّ بعينين يحملان من المرارة و الألم ما يكفي لنسيان الفرح سنين طويلة. ثم أجاب بصوت محطّم و رنّة منكسرة، بعد أن أتم سيجارته وأشعل أخرى.
- " لقد اتصلت بهم أكثر من مرّة و لكنّهم تأسّفوا لأنّ مكاني لم يعد شاغراً، و قد شغله أحد الأشخاص الذين درسوا في فرنسا و براتب أقلّ... أنا لا ألومهم فقد فعلوا الكثير من أجل أن أبقى و لكن دون جدوى. لقد كان تصميمي على السفر أكبر و أقوى ... بحثت عن عمل هنا فلم أجد إلاّ مكاناً في أحد المصانع. و كان شغلي يقتصر على ترتيب أكياس السكر الثقيلة. لم أستطع أن أكمل يوماً واحداً و غادرت المصنع إلى غير رجعة. بعد سنوات كإطار في أكبر مؤسسة بنكية في المغرب، آتي إلى هنا لأحمل أكياساً ثقيلة!! ..."
توقّف عثمان عن الكلام و اغرورقت عيناه بالدموع، خيّم بعد ذلك صمت ثقيل على المكان. تنبهت محاولا تجاوز وقع الصدمة، فحوّلت عينيّ اتجاه فضاء المقهى... لم يبق فيه سوى نحن و امرأة عجوز كانت تداعب بأناملها كأس قهوتها و هي غارقة في ذكرياتها القديمة. حاولت أن أركز عليها حتى أعطي لعثمان فرصة لإسترجاع أنفاسه و كذا فعلت سلوى التي شغلت نفسها بالبحث عن علبة سجائرها داخل حقيبتها الصغيرة.
عادة عندما نكون بعيدين عن المصيبة تصبح كلمات التخفيف و المواساة سهلة تنساب من أفواهنا، فتعطينا الإنطباع بأنّنا حكماء زماننا، لنتفنّن في إعطاء الأمل بسخاء حاتمي. و لكن في تلك اللحظات استعصت هذه الكلمات على الخروج، و رفضت بقوّة أن تشاركنا في هذا الدور الحقير، لنلوذ أنا و سلوى بالصمت احتراماً لألم إنسان بدأت حياته التي بناها منذ سنين خلت، تتهاوى أمامه و هو يقف عاجزاً أمام مرض إبنه و انتكاسة زوجته... أو أمام سخرية القدر و انتقام التاريخ!!
بعد لحظات خلتها لن تنتهي، تنفس عثمان بعمق و كأنه أزال حملاً ثقيلاً، فهدأ روعه و لانت ملامحه قليلاً و تابع كلامه بنبرة أكثر هدوءاً.
- " أنا آسف لا أعرف لماذا أزعجكم بمشاكلي و لكنّني كنت محتاجاً لأحد يسمعني. حتى صديقي الذي سبقني إلى كندا. لا يريد رؤيتي و الغريب أنّه كان السبب الرئيسي لمجيئي إلى مونتريال. كان دائماً يحدثني عن المستقبل الأفضل هنا، فوجدته يشتغل ليلاً في أحد المصانع الكبيرة بعد أن كانت وضعيته أفضل بكثير ممّا هي عليه الآن، و قد أصبح يمنّي نفسه بقربه من الحصول على الجنسية الكندية... لا أعرف لماذا نخطأ عند مجيئنا إلى هنا و نستمرّ في ذلك... فتمرّ الأيّام و تتلاشى فينا شجاعة العودة خوفاً من تهمة الفشل؟"
كنت أستمع لحديث عثمان، بكلّ خشوع و ذهول أيضاً. لقد لخّص هذا الشخص فاجعة الكثيرين هنا...هؤلاء يأتون بعد أن تركوا وظائفهم العالية، و منهم من باع منزله و سيّارته و هو يحلم بحياة سوّلتها له نفسه و سار يبحث عنها ليؤكّدها خلف كل صورة خادعة أو مشهد سينمائي لا يمت للواقع بصلة!!...
بعد انتهاء هذا اللقاء الملغّم حزناً و حسرة، عدت متهالكاً إلى البيت... كانت عودتي أشبه بسفرٍ بين ثنايا " جدارية" ... ثمّ...
"... وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب.
و كلّما فَتّشْتُ عن نفسي وجدتُ
الآخرين. و كُلَّما فَتّشْتُ عَنْهم لم
أجد فيهم سوى نَفسي الغريبة..."
و هذه المرة ليصغر ألمي و يتعاظم فِيَّ وجعُ الآخرين...فأجِدني أدافع عن سعادتهم القديمة...و أشتاق إلى ممارسة إنسانتي بينهم... هنا و الآن!!
يتبع...
خوفاً من تهمة الفشل!!
"سيري ببُطءٍ، يا حياة، لكي أراك بكامل النقصان حولي..."
أو ربّما...
"سيري ببُطءٍ كالإناث الواثقات بسحرهِنّ و كيدِهِنَّ..."
مرّت الأياّم منذ تعرّفت على سلوى كحلم لذيذ. كانت هي تشتغل في أحد البارات المونتريالية، لتنهي الهزع الأخير من الليل بين أحضان الرذيلة كما كانت تقول بتهكم عبثي إلى حد السوريالية. تكررت لقاءاتنا و في كلّ مرّة أزداد تعلّقاً بها. كنت أحس أنّ سلوى ترتاح إلى حديثي و رؤيتي السوداوية للأمور، ربّما لأنّني أمثل لها ماضياً جميلاً رغم إحباطاته، أو ربّما لأنّ كلامي يخلع عنّا رداء المسؤولية ليضعه على الآخرين، لنُتقِنَ أدوار الضحية في كلّ المشاهد...
للقهوة برفقة سلوى نكهة خاصة، طعم السجائر أكثر لذة و الأمكنة أجمل، و أحاديث الشعر و الأدب أصفى و أنبل. و أنا أحدثها يحاصرني نفس السؤال: "كيف لهذه الفتاة التي تحفظ " أحمد الزعتر" عن ظهر قلب أن تلبي رغبات حيوانية كريهة لأغنياء سفلة؟
كنّا مسترسلين في حواراتنا التي أدمنتها لأيام طويلة مع سلوى، في أحد المقاهي المونتريالية التي لا زالت تسمح لمرتاديها بالتدخين في بعض فضاءاتها المخصصة لذلك، دخل شخص بملامحه العربية. في الحقيقة لم يكن ليثير انتباهي لكثرة الداخلين و الخارجين، و لكنّ حركاته كانت عصبية و مرتبكة. طلب قهوته وتوجه نحو مكان شاغر قريبٍ منّا. جلس ليحتسي فنجانه و أشعل سيجارته و تفوّه بكلمات نابية لم أتبيّن في حقّ من. كان وجهه يبدو كئيباً... أشعل سيجارته بانفعال و استدار نحونا.
- : " الأخوان من المغرب...عفواً إذا تفوهت بأشياء... "
- : " لا بأس... أرجو أن يكون الأمر عابراً..." قاطعته سلوى بطريقة لا تخلو من لباقة .
- : " إنها مصيبة قد حلّت بي أنا و عائلتي..." و قبل أن ينهي كلامه قام و توجّه نحونا طالباً الإذن بالجلوس...
- : " ما الأمر؟ ماذا بك؟ اهدأ قليلا إنّ حالتك النفسية مضطربة..." سألته بعد أن جلس إلينا و قدّم نفسه و كذلك فعلنا نحن...
- : " كنت أعمل في المغرب كإطار بنكي بدرجة مدير وكالة ، و في لحظة غرور قرّرت أن آتي إلى هنا لا أعرف لماذا. لقد تحايل عليّ المدراء في المؤسسة البنكية سنة كاملة للبقاء مع راتب جيد، و بعد تعنّتي اقترحوا عليّ مدة ثلاثة أشهر لآتي إلى كندا ثم أعود إذا لم تعجبني الحياة هنا. فضيّعتها في المغرب و أنا أستعدُّ لحياة الحلم الجديدة التي كنت أخال نفسي أستحقّها و أعتبرت أنّني أكبر من العيش براتب شهري يحلم به الملايين من أبناء وطني... و الآن أنا هنا منذ ستة أشهر و لم أجد عملاً. أصيبت زوجتي بإحباط شديد سبّب لها اكتئابا كبيراً، دخلت إثره للمستشفى مرّتين، و إبني مريض منذ أن وطأت رجليه هذه الأرض. أمّا أنا فقد أشرفت على حافة الجنون..."
كان عثمان يتكلّم بصوت مرير، حاولت التدخل أكثر من مرّة لتهدئته، و لكنّ حجم الألم المنبعث بين كلماته منعني من ذلك. سألته في محاولة منّي لإمتصاص غضبه.
- " و هل من سبيلٍ إلى العودة إلى عملك في المغرب مرّة أخرى؟
توقفّ عن شرب قهوته و نظر إليّ بعينين يحملان من المرارة و الألم ما يكفي لنسيان الفرح سنين طويلة. ثم أجاب بصوت محطّم و رنّة منكسرة، بعد أن أتم سيجارته وأشعل أخرى.
- " لقد اتصلت بهم أكثر من مرّة و لكنّهم تأسّفوا لأنّ مكاني لم يعد شاغراً، و قد شغله أحد الأشخاص الذين درسوا في فرنسا و براتب أقلّ... أنا لا ألومهم فقد فعلوا الكثير من أجل أن أبقى و لكن دون جدوى. لقد كان تصميمي على السفر أكبر و أقوى ... بحثت عن عمل هنا فلم أجد إلاّ مكاناً في أحد المصانع. و كان شغلي يقتصر على ترتيب أكياس السكر الثقيلة. لم أستطع أن أكمل يوماً واحداً و غادرت المصنع إلى غير رجعة. بعد سنوات كإطار في أكبر مؤسسة بنكية في المغرب، آتي إلى هنا لأحمل أكياساً ثقيلة!! ..."
توقّف عثمان عن الكلام و اغرورقت عيناه بالدموع، خيّم بعد ذلك صمت ثقيل على المكان. تنبهت محاولا تجاوز وقع الصدمة، فحوّلت عينيّ اتجاه فضاء المقهى... لم يبق فيه سوى نحن و امرأة عجوز كانت تداعب بأناملها كأس قهوتها و هي غارقة في ذكرياتها القديمة. حاولت أن أركز عليها حتى أعطي لعثمان فرصة لإسترجاع أنفاسه و كذا فعلت سلوى التي شغلت نفسها بالبحث عن علبة سجائرها داخل حقيبتها الصغيرة.
عادة عندما نكون بعيدين عن المصيبة تصبح كلمات التخفيف و المواساة سهلة تنساب من أفواهنا، فتعطينا الإنطباع بأنّنا حكماء زماننا، لنتفنّن في إعطاء الأمل بسخاء حاتمي. و لكن في تلك اللحظات استعصت هذه الكلمات على الخروج، و رفضت بقوّة أن تشاركنا في هذا الدور الحقير، لنلوذ أنا و سلوى بالصمت احتراماً لألم إنسان بدأت حياته التي بناها منذ سنين خلت، تتهاوى أمامه و هو يقف عاجزاً أمام مرض إبنه و انتكاسة زوجته... أو أمام سخرية القدر و انتقام التاريخ!!
بعد لحظات خلتها لن تنتهي، تنفس عثمان بعمق و كأنه أزال حملاً ثقيلاً، فهدأ روعه و لانت ملامحه قليلاً و تابع كلامه بنبرة أكثر هدوءاً.
- " أنا آسف لا أعرف لماذا أزعجكم بمشاكلي و لكنّني كنت محتاجاً لأحد يسمعني. حتى صديقي الذي سبقني إلى كندا. لا يريد رؤيتي و الغريب أنّه كان السبب الرئيسي لمجيئي إلى مونتريال. كان دائماً يحدثني عن المستقبل الأفضل هنا، فوجدته يشتغل ليلاً في أحد المصانع الكبيرة بعد أن كانت وضعيته أفضل بكثير ممّا هي عليه الآن، و قد أصبح يمنّي نفسه بقربه من الحصول على الجنسية الكندية... لا أعرف لماذا نخطأ عند مجيئنا إلى هنا و نستمرّ في ذلك... فتمرّ الأيّام و تتلاشى فينا شجاعة العودة خوفاً من تهمة الفشل؟"
كنت أستمع لحديث عثمان، بكلّ خشوع و ذهول أيضاً. لقد لخّص هذا الشخص فاجعة الكثيرين هنا...هؤلاء يأتون بعد أن تركوا وظائفهم العالية، و منهم من باع منزله و سيّارته و هو يحلم بحياة سوّلتها له نفسه و سار يبحث عنها ليؤكّدها خلف كل صورة خادعة أو مشهد سينمائي لا يمت للواقع بصلة!!...
بعد انتهاء هذا اللقاء الملغّم حزناً و حسرة، عدت متهالكاً إلى البيت... كانت عودتي أشبه بسفرٍ بين ثنايا " جدارية" ... ثمّ...
"... وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب.
و كلّما فَتّشْتُ عن نفسي وجدتُ
الآخرين. و كُلَّما فَتّشْتُ عَنْهم لم
أجد فيهم سوى نَفسي الغريبة..."
و هذه المرة ليصغر ألمي و يتعاظم فِيَّ وجعُ الآخرين...فأجِدني أدافع عن سعادتهم القديمة...و أشتاق إلى ممارسة إنسانتي بينهم... هنا و الآن!!
يتبع...