رافع الراية
06-09-2006, 02:09 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
المعتز بدينه الزرقاوي
الحمد لله الذي أعز دينه برجال باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاته سبحانه ، والصلاة والسلام على من جاهد بالسيف والحسام وخضعت له رقاب الأنام وعلى آله وصحبه الأطياب الكرام .. أما بعد ..
فها هي أرض الرافدين قد ودّعت أميرا ليس كالأمراء ، ورجلا ليس كالرجال ، أقض مضاجع الابطال ، وأخاف العالم في ساحات النزال ، وأرهب الدنيا بعزته وشدته في الحق ، لم يرض أن يعيش إلا حراً ، فعاش عزيزا ومات مجيدا ..
يذكرني رحيله – رحمه الله – باستشهاد أسد الله الحمزة رضي الله عنه ، فالعدو جبن أن يقترب منه في المعركة ، فكانت رمية بحربة من بعيد .. العدو الأمريكي وجنود الكفر قاطبة جبنوا أن يقتربوا منه ، وقد علموا مكانه ، ومن مصلحتهم القبض عليه حيا وأسره ، ولكن بأس وشدة الأمير كان همهم الأوحد وهاجسهم الأكبر ، فقذفوا عليه الحمم من السماء .. والعجيب أنهم لما سووا البيوت المتواضعة بالأرض وأيقنوا أنه لم يكن في القوم حي ، أجروا عمليات إنزال من السماء وكأنهم جبنوا حتى عن المشي على الأرض التي سجي عليها الأسد الضرغام ، فلله دره من إرهابي حيا وميتا ..
هذه هي ميتة الرجال ، ميتة قادة الأمة الذين علا صوت حقهم في الأرض فكان رحيلهم من الدنيا أشد دويا ، هي ذات ميتة الشيخ المجدد عبد الله عزام ، وهي ميتة شيخ المجاهدين أحمد ياسين ، وهي ميتة القائد الفذ زليم خان الشيشاني ، إنها ميتة الأحياء {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (154 البقرة) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران-169) ..
إن كنا حزنا على مقتل أميرنا رحمه الله ، فإنا نسأل الله أن يجعله من الفرحين المستبشرين {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 169- 171) ..
لقد أعطى أميرنا للرجولة حقها وللجهاد حقه ، فنسأل الله جل في علاه أن يكون ممن استوفى أجره ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم ، وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم" (مسلم) ..
ما علمنا تأخره عن صف ولا كان ممن يرضى بالساقة ، فقد كان مقداما شجاعا أقرب القوم إلى العدو وأشدهم فيه نكاية ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول ، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة ، ويضحك إليهم ربك ، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه" (أحمد بسند صحيح 1118 - صحيح الجامع) ، نسأل الله أن يضحك إليك يا أبا مصعب ..
ما عرفنا معنى كلام ربنا جل في علاه {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد : 5) إلا عندما رأيناه وإخوانه يجزون رؤوس الكفار بأسيافهم في زمن الصواريخ عابرة القارات ..
تالله ما علم امروء لولاكم ......كيف السخاء وكيف ضرب الهام
كانت همته – رحمه الله – لا تقبل بالقليل والرجال حوله يقتسمون أجورهم ويعدّون لأنفسهم منازل في عالي الجنان ، فأخذ على نفسه أن لا يكون أقل القوم شأنا ولا أدناهم منزلة ".. فإن مقام أحدكم في سبيل اللَّه أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ، ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم ويدخلكم الجنة ؟ اُغْزُوا في سبيل اللَّه، من قاتل في سبيل اللَّه فواق ناقة وجبت له الجنة" (الترمذي : وقال حديث حسن) ، قالَ صلى الله عليه وسلم لأم حارثة بن النعمان ، وقد قُتل ابنها معه يوم بدر ، فسألته : أين هو ؟ قال "إنه في الفردوس الأعلى" (البخاري) ، اللهم اجعل الزرقاوي جارا لحارثة بن النعمان في الجنة ..
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم "يا رَسُول اللَّهِ دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: لا أجده ، ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ فقال: ومن يستطيع ذلك" ! (البخاري) ، فلمثل هذا خرج يبحث عن أسواق المنايا في الثغور "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل اللَّه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه.." (مسلم)
لا يمنعُ الضيمَ إلا ماجدٌ بطلٌ ... إن الكريم كريمٌ حيثما كانا
ما ضره قصفهم ولا آلمته صواريخهم ولا آذته قنابلهم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة" (الترمذي وقال : حديث حسن صحيح) ، نسأل الله أن يتقبله في الشهداء ..
ما علمنا فضل هذا الرجل ولا مقامه الحقيقي إلا عندما شاهدنا الكفار والمرتدين والمنافقين يرقصون طربا وقد تنفسوا الصعداء لتيقنهم من موته ، عندها عرفنا كم كان – رحمه الله – يُرهبهم ويُفزعهم ، وكم كانوا يخافون منه ويوجسون منه خيفة ويحسبون له ألف حساب !!
نعم ، اليوم يرقص الصليبيون .. اليوم يرقص المرتدون .. اليوم يرقص الروافض والمنافقون .. اليوم يرقص طربا ونشوة كل من يُبغض الإسلام وأهله ، فقد غاب عن ساحة الجهاد الذي أعز الله به الإسلام والأهله .. اليوم يرقص ويغني كل من كتم الزرقاوي أنفاسه وأبلعه ريقه وسلبه سهاده .. اليوم ينام بوش وبلير وابن الإنجليزية وعبدهم السستاني وعبيده في حكومة المنطقة الخضراء ..
أو كذا يظنون ..
إن الإسلام دين الله في الأرض ، وهذا المنة العظيمة والنعمة الجليلة قدّر الله أن تبقى بتضحيات أشراف الناس لشرف الرسالة ، وقضى سبحانه أن يُعز الدين بأعز عباده ، وسنته أن يسقى هذا الدين بدماء الأتقياء من أهل الصفاء والنقاء فلا يجاهد ولا يقاتل ولا يقتل في سبيله إلا المؤمنون ، أما أهل النفاق والردة والخور فدمائهم فاسدة تُفسد ثمرة الإيمان فلا يلهم الله أهلها الجهاد حتى لا تقترب دمائهم النتنة من شجرة الحق الطاهرة ..
إنها نفس واحدة ، وجسد واحد في مسيرة الإسلام الخالدة ، وكم من أجساد طاهرة وأشلاء نقية ودماء زكية بُذلت ليبقى هذا الدين واقعا في الأرض يعلو بحقه على باطل الخلق ، والشرف كل الشرف أن يكون دم الإنسان نقطة في نهر الإيمان الذي يسقي غرس الرحمن ..
هل خسر الرجل شيئا بموته !!
جوابه ما قالت شقيقته ، وحق لمثلها أن تكون شقيقة الرجال ، فقد قالت حفظها الله "إن كان قُتل فقد لقي ما تمنى" .. الله أكبر .. رجل تمنى الموت فلقيه .. الحمد لله الذي تفضل على أميرنا بما تمنى ..
هل يتعطل الجهاد في العراق بموته !!
لقد تعلم المجاهدون بأن الجهاد لا يعلق بالأشخاص ، وقد أيقنوا هذا لقول ربنا جل في علاه {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران : 144) ، والمعتز بدينه الزرقاوي جندي من جنود محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان الجهاد لم يتعطل بموت القائد الأعلى للمسلمين ، فكيف يتعطل بموت جندي من الجنود !!
هل خسر المسلمون قوّتهم بموته !!
نعم ، لقد خسروا قيادة فذة ، وعزيمة صلبة ، ولكن الرجال في الأمة كثير ، فقد مات الشيخ عزام وخرج بعده أسامة ، وغاب قادة المجاهدين عن ساحة الجهاد في أفغانستان فخلفهم الطلبة ، ومات الأمير سيف الإسلام "خطاب" رحمه الله فخرج بعده "الغامدي" ثم قُتل وخرج في الشيشان غيره ..
إنها "مؤتة" ، والتاريخ يعيد نفسه ، فلما مات زيد وجعفر وابن رواحة - رضي الله عنهم أجمعين - التقط الراية رجل لم يكن بأفضلهم فانحاز بالمسلمين فصار "سيف الله" أعاد الكرة على الكافرين .. إنها أمة وَلود لم تعقم في تاريخها الطويل ، فما زالت النساء ينجبن الرجال ، ولم تعقم النساء أن يلدن مثل الزرقاوي رحمه الله ، ولعل في العراق سيف لله في غمده لم يُستلّ بعد .. والمتأمل في تاريخنا الحديث يرى أنه كلما مات قائد للمسلمين يأتي بعده من هو أشد منه نكاية وأعظم بطشا وإرهابا للعدو ، فالحمد لله الذي له الخيرة في الأمر كله سبحانه ..
إنها أيام ، وإنها دول ، والحرب سجال ، والقوم ما عرفوا الجد إلا بعد أن أذاقهم المجاهدون المنون ، ولإن قتلوا أبا مصعب ، فكم قتل هو منهم !! ولإن أنهوا وجوده من العراق ، فكم ترك لهم خلفه من الرجال الذين يتحرقون شوقا لميتة كميتته !!
إن الأمير الزرقاوي لم يكن في يوم من الأيام شخصا واحداً ، بل هو جبهة متكاملة لا يمكن القضاء عليها بقتل بضعة رجال .. إنه كيان متكامل متشعب مترابط بعقيدة وعزيمة وقوة لا يمكن تفكيكها وخلعها بالقنابل ، وهذا ما لا يفهمه من لم تخالج العقيدة قلبه ، ولم يتغلغل الإيمان في شغاف نفسه ..
لإن قتلوه فإنه ترك خلفه من يسوء وجوههم من ليوث كرهوا الحياة وأحبوا لقاء الله ، وقد علّمهم الزرقاوي احتضان الموت بصدر رحب ، والهجوم على العدى كالشّهب ، فهم بين منغمس في عدوه ، ومفجر فيهم نفسه ، ومنعطف عليهم ببأسه ، ولسان حال أحدهم يقول :
أمشي الضَّرَاءَ لأقوام أحاربهم ... حتى إذا ظَهَرتْ لي منهم الفُقَرُ (1)
جمعتُ ضَبْراً جراميزي بداهيةٍ ... مثل المنيّة لا تُبقي ولا تذَرُ (2)
[ (1) الضراء : الخفية ، والفُقر : والجوانب والقرب .. (2) الضَّبر : جمع القوائم والوثب ، الجراميز : القوائم]
إن موت الأمير الزرقاوي درس للمسلمين يجب أن يعوه ، فالقيادة ليست خالدة ، ومصير الأمة ليس في يد رجل كائنا من كان ، ومن كان يعبد الرجال فإن الرجال يموتون .. الله وحده الحي الباقي سبحانه ، ومصير الأمة والكون في يده سبحانه ، وإن كان الله معنا فلن نضيع ، والمطلوب منا أن ندعوه أن لا يكلنا لأنفسنا طرفة عين ، وأن نؤمن بأنه هو يفعل ويختار لنا ما يشاء سبحانه وما يختاره هو الأفضل والأصلح لنا ، فإذا اختار بقاء القادة فله الحمد والمنة ، وإذا اختار قبضهم فله الحمد والمنة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص : 68) ، فعلى المؤمن أن يرضى بقدر الله ويسلّم أمره لله ، ولا يسخط ولا يعترض على أمر الله وتدبيره الحكيم ..
إن الحق لا بد ظاهر ، وأهل الحق هم المنتصرون لأن الحقَّ وعَدَ ووعده الحق ، وهو ناصر عباده متمٌ نوره ولو كره الكافرون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ..
أقول لجميع المجاهدين وجميع شباب الأمة الغيورين على الدين : إننا أمة لا تعرف الحداد ، ولكن الجهاد الجهاد ..
اللهم ارحم أبي مصعب وتقبله في الشهداء .. اللهم اجعل روحه في حواصل طير خضر معلقة تحت عرشك سبحانك .. اللهم اغفر له ، واجعله ممن يرى مقعده من الجنة ، وحلّه بحلية الإيمان ، وأجره من عذاب القبر ومن الفزع الأكبر ، وزوجه باثنتين وسبعين من الحور العين ، وألبسه اللهم تاج الوقار ، وشفعه في أهله ..
اللهم اكرم نزله ، ووسع مدخله ، وتقبله في الشهداء .. اللهم إنا نشهد له بالخير شهادة نلقاك بها فتقبل شهادتنا .. اللهم باعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب ، ونقه من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس ، واغسله بالماء والثلج والبرَد . اللهم اجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين وألحقنا بهم ..
اللهم تقبله شهيدا ..
اللهم تقبله شهيداً ..
اللهم تقبله شهيداً ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
12 جمادى الأولى 1427هـ
المعتز بدينه الزرقاوي
الحمد لله الذي أعز دينه برجال باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاته سبحانه ، والصلاة والسلام على من جاهد بالسيف والحسام وخضعت له رقاب الأنام وعلى آله وصحبه الأطياب الكرام .. أما بعد ..
فها هي أرض الرافدين قد ودّعت أميرا ليس كالأمراء ، ورجلا ليس كالرجال ، أقض مضاجع الابطال ، وأخاف العالم في ساحات النزال ، وأرهب الدنيا بعزته وشدته في الحق ، لم يرض أن يعيش إلا حراً ، فعاش عزيزا ومات مجيدا ..
يذكرني رحيله – رحمه الله – باستشهاد أسد الله الحمزة رضي الله عنه ، فالعدو جبن أن يقترب منه في المعركة ، فكانت رمية بحربة من بعيد .. العدو الأمريكي وجنود الكفر قاطبة جبنوا أن يقتربوا منه ، وقد علموا مكانه ، ومن مصلحتهم القبض عليه حيا وأسره ، ولكن بأس وشدة الأمير كان همهم الأوحد وهاجسهم الأكبر ، فقذفوا عليه الحمم من السماء .. والعجيب أنهم لما سووا البيوت المتواضعة بالأرض وأيقنوا أنه لم يكن في القوم حي ، أجروا عمليات إنزال من السماء وكأنهم جبنوا حتى عن المشي على الأرض التي سجي عليها الأسد الضرغام ، فلله دره من إرهابي حيا وميتا ..
هذه هي ميتة الرجال ، ميتة قادة الأمة الذين علا صوت حقهم في الأرض فكان رحيلهم من الدنيا أشد دويا ، هي ذات ميتة الشيخ المجدد عبد الله عزام ، وهي ميتة شيخ المجاهدين أحمد ياسين ، وهي ميتة القائد الفذ زليم خان الشيشاني ، إنها ميتة الأحياء {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (154 البقرة) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران-169) ..
إن كنا حزنا على مقتل أميرنا رحمه الله ، فإنا نسأل الله أن يجعله من الفرحين المستبشرين {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 169- 171) ..
لقد أعطى أميرنا للرجولة حقها وللجهاد حقه ، فنسأل الله جل في علاه أن يكون ممن استوفى أجره ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم ، وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم" (مسلم) ..
ما علمنا تأخره عن صف ولا كان ممن يرضى بالساقة ، فقد كان مقداما شجاعا أقرب القوم إلى العدو وأشدهم فيه نكاية ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول ، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة ، ويضحك إليهم ربك ، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه" (أحمد بسند صحيح 1118 - صحيح الجامع) ، نسأل الله أن يضحك إليك يا أبا مصعب ..
ما عرفنا معنى كلام ربنا جل في علاه {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد : 5) إلا عندما رأيناه وإخوانه يجزون رؤوس الكفار بأسيافهم في زمن الصواريخ عابرة القارات ..
تالله ما علم امروء لولاكم ......كيف السخاء وكيف ضرب الهام
كانت همته – رحمه الله – لا تقبل بالقليل والرجال حوله يقتسمون أجورهم ويعدّون لأنفسهم منازل في عالي الجنان ، فأخذ على نفسه أن لا يكون أقل القوم شأنا ولا أدناهم منزلة ".. فإن مقام أحدكم في سبيل اللَّه أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ، ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم ويدخلكم الجنة ؟ اُغْزُوا في سبيل اللَّه، من قاتل في سبيل اللَّه فواق ناقة وجبت له الجنة" (الترمذي : وقال حديث حسن) ، قالَ صلى الله عليه وسلم لأم حارثة بن النعمان ، وقد قُتل ابنها معه يوم بدر ، فسألته : أين هو ؟ قال "إنه في الفردوس الأعلى" (البخاري) ، اللهم اجعل الزرقاوي جارا لحارثة بن النعمان في الجنة ..
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم "يا رَسُول اللَّهِ دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: لا أجده ، ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ فقال: ومن يستطيع ذلك" ! (البخاري) ، فلمثل هذا خرج يبحث عن أسواق المنايا في الثغور "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل اللَّه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه.." (مسلم)
لا يمنعُ الضيمَ إلا ماجدٌ بطلٌ ... إن الكريم كريمٌ حيثما كانا
ما ضره قصفهم ولا آلمته صواريخهم ولا آذته قنابلهم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة" (الترمذي وقال : حديث حسن صحيح) ، نسأل الله أن يتقبله في الشهداء ..
ما علمنا فضل هذا الرجل ولا مقامه الحقيقي إلا عندما شاهدنا الكفار والمرتدين والمنافقين يرقصون طربا وقد تنفسوا الصعداء لتيقنهم من موته ، عندها عرفنا كم كان – رحمه الله – يُرهبهم ويُفزعهم ، وكم كانوا يخافون منه ويوجسون منه خيفة ويحسبون له ألف حساب !!
نعم ، اليوم يرقص الصليبيون .. اليوم يرقص المرتدون .. اليوم يرقص الروافض والمنافقون .. اليوم يرقص طربا ونشوة كل من يُبغض الإسلام وأهله ، فقد غاب عن ساحة الجهاد الذي أعز الله به الإسلام والأهله .. اليوم يرقص ويغني كل من كتم الزرقاوي أنفاسه وأبلعه ريقه وسلبه سهاده .. اليوم ينام بوش وبلير وابن الإنجليزية وعبدهم السستاني وعبيده في حكومة المنطقة الخضراء ..
أو كذا يظنون ..
إن الإسلام دين الله في الأرض ، وهذا المنة العظيمة والنعمة الجليلة قدّر الله أن تبقى بتضحيات أشراف الناس لشرف الرسالة ، وقضى سبحانه أن يُعز الدين بأعز عباده ، وسنته أن يسقى هذا الدين بدماء الأتقياء من أهل الصفاء والنقاء فلا يجاهد ولا يقاتل ولا يقتل في سبيله إلا المؤمنون ، أما أهل النفاق والردة والخور فدمائهم فاسدة تُفسد ثمرة الإيمان فلا يلهم الله أهلها الجهاد حتى لا تقترب دمائهم النتنة من شجرة الحق الطاهرة ..
إنها نفس واحدة ، وجسد واحد في مسيرة الإسلام الخالدة ، وكم من أجساد طاهرة وأشلاء نقية ودماء زكية بُذلت ليبقى هذا الدين واقعا في الأرض يعلو بحقه على باطل الخلق ، والشرف كل الشرف أن يكون دم الإنسان نقطة في نهر الإيمان الذي يسقي غرس الرحمن ..
هل خسر الرجل شيئا بموته !!
جوابه ما قالت شقيقته ، وحق لمثلها أن تكون شقيقة الرجال ، فقد قالت حفظها الله "إن كان قُتل فقد لقي ما تمنى" .. الله أكبر .. رجل تمنى الموت فلقيه .. الحمد لله الذي تفضل على أميرنا بما تمنى ..
هل يتعطل الجهاد في العراق بموته !!
لقد تعلم المجاهدون بأن الجهاد لا يعلق بالأشخاص ، وقد أيقنوا هذا لقول ربنا جل في علاه {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران : 144) ، والمعتز بدينه الزرقاوي جندي من جنود محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان الجهاد لم يتعطل بموت القائد الأعلى للمسلمين ، فكيف يتعطل بموت جندي من الجنود !!
هل خسر المسلمون قوّتهم بموته !!
نعم ، لقد خسروا قيادة فذة ، وعزيمة صلبة ، ولكن الرجال في الأمة كثير ، فقد مات الشيخ عزام وخرج بعده أسامة ، وغاب قادة المجاهدين عن ساحة الجهاد في أفغانستان فخلفهم الطلبة ، ومات الأمير سيف الإسلام "خطاب" رحمه الله فخرج بعده "الغامدي" ثم قُتل وخرج في الشيشان غيره ..
إنها "مؤتة" ، والتاريخ يعيد نفسه ، فلما مات زيد وجعفر وابن رواحة - رضي الله عنهم أجمعين - التقط الراية رجل لم يكن بأفضلهم فانحاز بالمسلمين فصار "سيف الله" أعاد الكرة على الكافرين .. إنها أمة وَلود لم تعقم في تاريخها الطويل ، فما زالت النساء ينجبن الرجال ، ولم تعقم النساء أن يلدن مثل الزرقاوي رحمه الله ، ولعل في العراق سيف لله في غمده لم يُستلّ بعد .. والمتأمل في تاريخنا الحديث يرى أنه كلما مات قائد للمسلمين يأتي بعده من هو أشد منه نكاية وأعظم بطشا وإرهابا للعدو ، فالحمد لله الذي له الخيرة في الأمر كله سبحانه ..
إنها أيام ، وإنها دول ، والحرب سجال ، والقوم ما عرفوا الجد إلا بعد أن أذاقهم المجاهدون المنون ، ولإن قتلوا أبا مصعب ، فكم قتل هو منهم !! ولإن أنهوا وجوده من العراق ، فكم ترك لهم خلفه من الرجال الذين يتحرقون شوقا لميتة كميتته !!
إن الأمير الزرقاوي لم يكن في يوم من الأيام شخصا واحداً ، بل هو جبهة متكاملة لا يمكن القضاء عليها بقتل بضعة رجال .. إنه كيان متكامل متشعب مترابط بعقيدة وعزيمة وقوة لا يمكن تفكيكها وخلعها بالقنابل ، وهذا ما لا يفهمه من لم تخالج العقيدة قلبه ، ولم يتغلغل الإيمان في شغاف نفسه ..
لإن قتلوه فإنه ترك خلفه من يسوء وجوههم من ليوث كرهوا الحياة وأحبوا لقاء الله ، وقد علّمهم الزرقاوي احتضان الموت بصدر رحب ، والهجوم على العدى كالشّهب ، فهم بين منغمس في عدوه ، ومفجر فيهم نفسه ، ومنعطف عليهم ببأسه ، ولسان حال أحدهم يقول :
أمشي الضَّرَاءَ لأقوام أحاربهم ... حتى إذا ظَهَرتْ لي منهم الفُقَرُ (1)
جمعتُ ضَبْراً جراميزي بداهيةٍ ... مثل المنيّة لا تُبقي ولا تذَرُ (2)
[ (1) الضراء : الخفية ، والفُقر : والجوانب والقرب .. (2) الضَّبر : جمع القوائم والوثب ، الجراميز : القوائم]
إن موت الأمير الزرقاوي درس للمسلمين يجب أن يعوه ، فالقيادة ليست خالدة ، ومصير الأمة ليس في يد رجل كائنا من كان ، ومن كان يعبد الرجال فإن الرجال يموتون .. الله وحده الحي الباقي سبحانه ، ومصير الأمة والكون في يده سبحانه ، وإن كان الله معنا فلن نضيع ، والمطلوب منا أن ندعوه أن لا يكلنا لأنفسنا طرفة عين ، وأن نؤمن بأنه هو يفعل ويختار لنا ما يشاء سبحانه وما يختاره هو الأفضل والأصلح لنا ، فإذا اختار بقاء القادة فله الحمد والمنة ، وإذا اختار قبضهم فله الحمد والمنة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص : 68) ، فعلى المؤمن أن يرضى بقدر الله ويسلّم أمره لله ، ولا يسخط ولا يعترض على أمر الله وتدبيره الحكيم ..
إن الحق لا بد ظاهر ، وأهل الحق هم المنتصرون لأن الحقَّ وعَدَ ووعده الحق ، وهو ناصر عباده متمٌ نوره ولو كره الكافرون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ..
أقول لجميع المجاهدين وجميع شباب الأمة الغيورين على الدين : إننا أمة لا تعرف الحداد ، ولكن الجهاد الجهاد ..
اللهم ارحم أبي مصعب وتقبله في الشهداء .. اللهم اجعل روحه في حواصل طير خضر معلقة تحت عرشك سبحانك .. اللهم اغفر له ، واجعله ممن يرى مقعده من الجنة ، وحلّه بحلية الإيمان ، وأجره من عذاب القبر ومن الفزع الأكبر ، وزوجه باثنتين وسبعين من الحور العين ، وألبسه اللهم تاج الوقار ، وشفعه في أهله ..
اللهم اكرم نزله ، ووسع مدخله ، وتقبله في الشهداء .. اللهم إنا نشهد له بالخير شهادة نلقاك بها فتقبل شهادتنا .. اللهم باعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب ، ونقه من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس ، واغسله بالماء والثلج والبرَد . اللهم اجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين وألحقنا بهم ..
اللهم تقبله شهيدا ..
اللهم تقبله شهيداً ..
اللهم تقبله شهيداً ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
12 جمادى الأولى 1427هـ