من هناك
06-01-2006, 08:43 PM
غاري غامبل - ترجمة كلارا الطيّار 1 حزيران 2006
عمومًا، نجحت الطبقة السياسيّة الثابتة الّتي حكمت لبنان إبّان حقبة الإحتلال السوري في تخطّي انسحاب القوّات السوريّة. فقد بقي كلّ من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ورئيس الجمهوريّة إميل لحّود في منصبيهما. أمّا رئاسة مجلس الوزراء، فبالكاد انتقلت إلى فؤاد السنيورة، الرجل النافذ الّذي تولّى وزارة المال التّابعة للولاية السوريّة في بيروت طوال فترةٍ عادلت ضعفي ولايات باقي وزراء المال مجتمعين. زِد على ذلك أنّ وزراء الحكومة الحاليّة إما أنهم كلّهم تقريبًا شغلوا مناصب عالية في الحكومات إبّان الحكم السوري، وإما أنّهم من أتباع من كانوا في تلك المناصب.
وفي الواقع، لم يؤدِّ الإنسحاب السوري من لبنان إلى رحيل الطبقة الحاكمة، بل عجّلَ في إقصاء أحد الأفرقاء الحاكمين من قبل منافسيه. أمّا المنتصرون، فليسوا جناحًا إصلاحيًّا في الحكم، بل بوتقة قويّة مؤلّفة من حلفاء رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، المسؤول عن أسوأ انحرافاتها. وفيما انقطعوا عن تبعيّتهم لسوريا، (في الوقت الراهن)، واتّخذوا اسم "تحالف الرابع عشر من آذار" (وهو تاريخ التظاهرة الضّخمة ضدّ الإحتلال السوري الّتي أجريت في بيروت العام الماضي)، فهم ينوون الاحتفاظ بالسلطة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي اكتسبوها طوال سنوات أمضوها في خدمة دمشق.
وليس من المفاجئ أن تلاقي محاولتهم السيطرة على لبنان الجديد مقاومة الحركة الشعبيّة الوطنيّة ذاتها الّتي شكّلت رأس الحربة في تحدّي سلطتهم خلال فترة الإحتلال، ألا وهي تيّار العماد ميشال عون الوطني العلماني الّذي يُعرف بـ"التيّار الوطني الحرّ". لقد أبقى محور الحريري - جنبلاط قانون انتخابات وضعه جهاز الإستخبارات العسكريّة السوريّة لحماية أتباعه المفضّلين، فنجح بالفوز بأكثريّة مقاعد البرلمان في الانتخابات التي أُجريت العام الماضي. إلا أنّ الوطنيّين حقّقوا فوزًا كاسحًا في المعاقل المسيحيّة، ونالوا ما يكفي من المقاعد ليمنعوا البرلمان من انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة غير عون.
أمّا النتيجة، فكانت وصول الأوضاع إلى مأزقٍ حرج، ذلك لأنّ قادة تحالف الرابع عشر من آذار يبغضون فكرة وصول عدوّهم اللّدود إلى رئاسة الجمهوريّة. ومع اعترافهم بأن عون هو من دون منازع المرشّح الأكثر شعبيّةً عند المسيحيّين (الّّذين يمنحهم الدستور منصب رئاسة الجمهوريّة)، وفي لبنان ككلّ [1]، فهم يحرصون على عدم استبعاد ترشحه علنًا. لكنّهم، وراء الكواليس، يبذلون أقصى جهدهم لإفشال ترشّح العماد عون إلى الرئاسة، ويطلبون التدخّلات الخارجيّة، ومنها تدخّل الرئيس السوري بشّار الأسد (فهم يعتقدون أنّه قادر على إجبار لحّود على الاستقالة، وجاهز لذلك في مقابل ثمنٍ معيّن). ولكن وإن أتوا بـ"حلّ إقليمي"، فإنّ الحؤول دون وصول عون إلى الرئاسة، في وقتٍ تبلغ المطالبة الشعبيّة بإصلاحات شاملة ذروتها، سيؤدّي على الأرجح إلى زعزعة الاستقرار في البلد، خصوصًا في حال جاء نتيجة تدخّلٍ خارجيّ.
وفي الوقت الراهن، أدّى رفض تحالف الحريري - جنبلاط مشاركة السلطة مع التيّار الوطنيّ الحرّ إلى إثقال الحكومة برئيس جمهوريّة ضعيف من دون صدقيّة، وإعاقة إصلاح الجهاز الأمني، إضافةً إلى الحؤول دون مفاوضات جديّة في شأن وضع سلاح حزب الله. لكنّ الأخطر هو محاولة هذا التحالف احتكار السلطة، ما يقسم لبنان خطّين طائفيّين. فأكثريّة السنّة والدروز تؤيّد الحكومة، فيما يتّحد ضدّها المسيحيّون والشّيعة (المحرومون سياسيًّا واقتصاديًّا في حقبة الاحتلال). وبينما يُغرق الصراع السنّي - الشيعي العراق في العنف ويُصعّد من حدّة التوتّر في العلاقات الإيرانيّة - العربيّة، فإنّ الشلل والانقسام السياسي يفرضان على لبنان دفع ثمن باهظ.
التسلّط العملي في لبنان "حقًّا، تقتل شهوة الرّخاء شغف الروح، ثمّ تسير في الجنازة مبتسمةً" جبران خليل جبران، 1923 [2]
سنة 1992، أي بعد مرور سنتين على سحق القوّات الجويّة والبريّة السوريّة للجيش اللّبناني المؤتمر بقيادة العماد عون، وإطاحتها ما تبقّى من جمهوريّة لبنان الأولى، كان لبنان على شفير الهاوية. وفي ذلك الوقت، بلغ التضخّم 130 في المئة، وكان الشغب في بيروت أسقط حكومتين خلال خمسة أشهر فقط. أمّا السبب الجوهري لتلك المحنة، فهو أنّ ما من أحد يثق بأنّ تشكيلة زعماء الحرب السابقين الّذين أوكل إليهم السوريّون حكم لبنان قادرة على إعادة بناء البلد الّذي دمّرته لتوّها.
وكان الحريري، وهو ابن بائع خضرٍ لبناني فقير، وقد جمع ثروةً في المملكة العربيّة السعوديّة إبّان فورة النفط، يحثّ دمشق سرًّا على تنصيبه رئيسًا للحكومة لبعض الوقت. ولم يقتصر رصيد هذا المتعهّد الفاحش الثراء على صيته وعلاقاته الدوليّة اللاّزمة لدعم الاستثمار في لبنان، بل كان أربابه السعوديّون مستعدّين لتقديم مبالغ طائلة لدعم هذه الصفقة. كان السوريّون، على رغم ذلك، يدركون أنّ ثروة الحريري وعلاقاتة الشخصيّة مع العائلة المالكة السعوديّة ستصعّب عليهم التحكّم به. إلاّ أنّ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الرازح تحت وطأة انقطاع المساعدات السوفياتيّة، والمصمّم أكثر فأكثر على إطلاق عجلة الاقتصاد الّذي دمّرته الحرب في ولايته الجديدة، تنازل في نهاية المطاف، فتسلّم الحريري زمام الحكم في تشرين الأوّل 1992.
وسمّي نظام الحكم الّذي تطوّر في عهد الحريري بـ"التسلّط العملي" [3]، لأنّه خالٍ من أيّ رؤية إيديولوجيّة مُصلحة. وكثيرًا ما كان الحريري يتكلّم على تحويل لبنان "سنغافورة الشرق الأوسط". ولكن، قلّما كان سلوك إدارته الجنونيّ في الإعمار والإهدار المتزايد، نتيجةً لفلسفةٍ إقتصاديّة، بل لضرورة سحب أكبر مقدارٍ ممكن من المال العام. ويسارع المدافعون عن الحريري إلى الإشارة (بحقّ)، إلى أنّ سرقة الأموال العامّة المستشرية كانت أساسًا الخبز اليومي في لبنان، وأنّ رئيس الحكومة أتى من خارج النّظام، (فقد عاش في المملكة العربيّة السعوديّة طوال ثلاثة عقود ونال الجنسيّة السعوديّة)، ودخل ساحةً سياسيّةً ينتظر فيها الجميع، بدءًا من السوريّين، ثمنًا للدعم السياسيّ. لكنّ الدرجة والتعقيد اللّذين بلغهما الفساد المؤسساتي المزدهر في عهد الحريري، تفوّقا على كلّ ما سبق. وفي هذا الإطار، قدّرت إحدى لجان تخمين الفساد التابعة للأمم المتّحدة في العام 2001 أنّ لبنان يخسر سنويًّا 1.5 مليار دولار بسبب سرقة المال العام (أي ما يعادل 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي) [4] أمّا آليّات سحب هذا المال فكانت ثلاثًا رئيسيّةً، أوّلها استدانة الحكومة. ففي غضون ستّ سنوات فقط، ارتفع الدين العام في لبنان من 2.5 مليار دولار إلى 18.5 مليار دولار (وثمّ بلغ الدين العام 38 مليار دولار، أو 183 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، وهي النسبة الأعلى في العالم.) وتمّ تمويل هذا الدين بإصدار سندات خزينة لنخبة من المصارف اللبنانيّة، بنسبة فوائد حقيقيّة هائلة (بلغت 42 في المئة في إحدى المرّات).[5] ويشير تقرير تقويم الفورة العمرانيّة في لبنان الّذي أعدّه "غيلان دونو" و"روبرت سبرينغ بورغ" إلى أنّّّ "المساهم الأكبر الوحيد في مصارف لبنان هو رئيس الحكومة"، فهو إذًا "المستفيد الأوّل" من "ارتفاع دين حكومته". [6] وبما أنّ السوريّين كانوا مع الكثيرين من حلفائهم يستثمرون هم أيضًا بكثرة في القطاع المصرفي، قلّما اعترض أحدٌ على وتيرة الإهدار المخيفة الّتي اتّبعها الحريري.
الآليّة الثانية تمثّلت بإنفاق الحكومة. ففي الواقع، لم تمنح إدارة الهبات، بحسب الأصول، سوى 2.4 في المئة فقط من المليارات الستّة الممنوحة لمشاريع الإنماء والإعمار، الّتي درسها تخمين الفساد المذكور [7]. وعليه، اعتادت الحكومة أن تدفع في مقابل عقود البناء أكثر من قيمتها بكثير (نحو 30 في المئة بحسب أكثر التخمينات)، وكانت تصرِف الأموال من دون جدوى ولأهدافٍ فارغة [8]. ويذكر أنّ القليل من أموال إعادة الإعمار أنفِق خارج العاصمة، أو خارج قطاع الإعمار والخدمات، ومن أسباب ذلك أنّ استيراد الجرّافات أو تطوير النقل العام لا يتيحان سرقة المال العام بالمقدار الكافي.
الآليّة الثالثة لسحب الأموال تضمّنت تقديم معاملة خاصّة إلى شركات القطاع الخاص الّتي كان للحريري وشخصيّات بارزة أخرى استثمارات واسعة فيها، وللشركات الّتي كانت ترشوهم بمبالغ طائلة. فعلى سبيل المثال، أُعطيت سوليدير، وهي شركة إنماء عقاريّة يملك فيها الحريري حصّةً أساسيّة، عقدًا حصريًّا لإعادة إعمار وسط بيروت (إضافة إلى الحقّ في مصادرة الأراضي كما تريد). وفي ما يتعلق بالاتّصالات اللاّسلكيّة، منح الحريري شركتي هاتف خلوي يملك فيهما حلفاؤه وسياسيّون مدعومون من سوريا حصصًا كبرى، الحقّ الحصريّ في احتكار هذه السوق، فأتاح لهم تحديد الأسعار العالية وجني الأرباح الطائلة.[9] ومن جهةٍ أخرى، فإنّ غياب الشفافيّة عند الحكومة، وعدم صدقيّة العقود منعا دخول مستثمري القطاع الخاص، ألبنانيّين كانوا أم أجانب، في أيّ سوقٍ ما لم يُبرموا صفقةً مع الطبقة الحاكمة. فكانت النتيجة أنّ الأصول الّتي صُرفت على العاصمة والمقدّرة بأربعين مليارًا، خرجت كلّها تقريبًا من لبنان إلى غير عودة.
وعلى رغم أنّ الفساد في لبنان كان منتشرًا قبل اجتياحه، فإنّ المستوى الفائق الّذي بلغته النفّعيّة في خلال التسعينات لم يستمرّ إلاّ تحت جنح السلطة السوريّة. فعلى الصعيد الإقتصادي، كانت السياسة الحريريّة على شبه توافقٍ تام مع المصالح السوريّة. وأدّى التدفّق غير المنظّم لحوالى مليون عامل سوري غير متخصّص إلى إلحاق ضررٍ كبير بفقراء المدن، وهم من الشيعة في غالبيّتهم، لكنّه ناسب متعهّدي البناء اللّبنانيّين، ودرّ مليارات الدولارات سنويًّا على الإقتصاد السوري الّذي يفتقر إلى النقد. وعلى صعيدٍ آخر، استفاد المزارعون (والمهرّبون) السوريّون من إهمال الحريري الواضح للزراعة فأغرقوا لبنان بمنتوجات غير خاضعة للضرائب. ووزّع الحريري مبالغ طائلة على طقم المسؤولين السوريّين الّذين أداروا شؤون لبنان، وأبرزهم عبد الحليم خدّام نائب الرئيس، واللّواء حكمت الشهابي، ورئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوّات السورية العاملة في لبنان العميد الركن غازي كنعان. لذلك، أُعطي الحريري أعلويّةً سياسيّة واضحة إن لم تكن حاسمة على خصومه. ومن المعروف أنّ خدّام قال مرّةً لمجموعةٍ من الوزراء الّذين كانوا يضغطون لإقالة الحريري إنّ رئيس الحكومة "باقٍ حتّى العام 2010" [10]
وهكذا، بدّد الفساد المؤسّساتي آمال غالبيّة اللّبنانيّين في الازدهار بعد الحرب. فعلى رغم إدخال مبالغ طائلة من المال، قفز النموّ الاقتصادي إلى 8 في المئة في العام 1994، ثمّ هبط بسرعةٍ ليبلغ أقلّ من 2 في المئة في العام 1998. أمّا التفاوت في الدّخل فارتفع في شكلٍ مطّرد [11]، بسبب السياسات الاجتماعيّة الاقتصاديّة الّتي ميّزت كبار تجّار ما بعد الحرب. وفي وقتٍ كان ربع السكّان لا يزالون يعيشون تحت خطّ الفقر، اقتطع رئيس الوزراء ضرائب بلغت 10 في المئة فرضها على الدخل وعلى الشركات ، فيما رفع الضرائب العامّة غير المباشرة (على البنزين مثلاً)، فاقتطع من الإنفاق على القطاع الإجتماعي، وجمّد رواتب القطاع االعام.
وهكذا، تطلّبت حماية سياسات الحريري قمعًا أكبر في التدابير المتّخذة. فلمّا تصدّت له الحركة العمّاليّة ذات التاريخ النابض في لبنان، منع رئيس الحكومة التظاهر، وتلاعب بانتخابات الإتّحاد العمّالي العام. وبحجّة "تنظيم" الإعلام المرئي والمسموع، أولى مجموعةً من الفاسدين السلطة على أبرز محطّات التلفزة والإذاعات. وأُجبر الحريري بسبب القيود الشّديدة الّتي فرضها على الحريّات العامّة إلى الاعتماد في شكلٍ كبير على الجيش وعلى قائده، العماد إميل لحّود، بهدف الحفاظ على النظام العام، فدعم بذلك عن غير درايةٍ قوّةً مركزيّةً منافسة. لكنّ الأبرز هو أنّ القمع أسهم في نموّ تيّارٍ وطنيّ معارض قويّ.
ظاهرة عون
صحيحٌ أنّ حركة الانطلاقة العلمانيّة الوطنيّة الجديدة في لبنان غذّتها عوامل اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، إلاّ أنّ اتّحادها حول عون يعكس مدى انجذابها إليه، منذ إطلالته القصيرة والعظيمة على الجمهور. فبعد مرور أربع سنوات على تولّي عون قيادة الجيش، عيّنه رئيس الجمهوريّة المنتهية ولايته أمين الجميّل رئيسًا لحكومة إنتقاليّة، بعدما منعت الميليشيات المتحاربة مجلس النوّاب من الانعقاد لانتخاب رئيس. [12] ولمّا حاول عون فرض حصارٍ بحريّ على المرافئ غير الشرعيّة الّتي تديرها الميليشيات، ردّت القوّات السوريّة بقصفٍ وحشيّ استهدف المناطق المدنيّة في بيروت الشرقيّة، ما دفعه إلى إعلان "حرب التحرير" على القوّات السوريّة في لبنان. لقد جلب عون لنفسه عداوة قادة الميليشيات والطبقة السياسيّة التقليديّة في لبنان، إلاّ أنّ حملته اجتذبت الجمهور، فأمّ مئات الآلاف قصر الشعب في كانون الأوّل من العام 1988، لتشكيل "درعٍ بشريّة" في مواجهة الجيش السوري الذّي كان يحاصر المنطقة الحرّة. وعبر أيضًا آلاف الشيعة والسنّة من المناطق الواقعة تحت السيطرة السوريّة للمشاركة في التظاهرات الّتي اعتُبرت حينذاك الأضخم في تاريخ لبنان.
أمّا الطبقة السياسيّة في لبنان، فعمدت بكلّ انحطاطٍ إلى ازدراء الظاهرة العونيّة، معتبرةً إيّاها مجرّد تعبيرٍ شعبيّ آنيّ عن سخط شعبٍ يتوق إلى بطل. وفي هذا السياق، يذكر وزير الخارجيّة السابق إيلي سالم أنّ عون كان يشبه "داود في مواجهة غوليات الجبّار". هذه هي الصورة الذتي تلقّاها جيّدًا جميع البسطاء في لبنان، بصرف النظر عن طوائفهم ومناطقهم. [13] وبالكاد نجح عون، ذو الأصل المتواضع، بإخفاء احتقاره السياسيّين الفاسدين وقادة الميليشيات، ثم أنّ صراحته ضربت أوتارًا حسّاسةً جدًّا في لبنان.
ولم تفلح الهزيمة التّي ألحقتها سوريا بجيش عون عام 1990 في القضاء على التيّار الوطنيّ. فقد استمرّ عون من منفاه في استنكار الاحتلال، وعمل على حثّ اللّبنانيّن في الشتات على التحرّك. أمّا داخل لبنان، فتحوَّل التيّار الوطنيّ حركةً سريّةً، كان "زموّر عون" من أبرز مظاهرها، إذ كان يتردّد على الطرق في المناطق المسيحيّة ما إن تغفل آذان القوّات السوريّة. وعلى مدى العقد اللاّحق، تحوّل هذا التيّار الكامن، القائم على الإعجاب بالجنرال، جبهة معارضة وطنيّة ذات قاعدة واسعة وتنظيم عالي المستوى، سيقوّض نهائيًّا القبضة السوريّة الممسكة بلبنان.
وعن غير قصدٍ، دعم الحريري التيّار الوطني اللّبناني بإقصائه قطبي معارضة مضادّين من الناحية العلمانيّة، ألا وهما الحركة العمّاليّة والقوّات اللّبنانيّة، وهي ميليشيا مسيحيّة وطنيّة تحوّلت حزبًا سياسيًّا بقيادة سمير جعجع. ومع اعتقال جعجع في العام 1994 بتهمة التخطيط لتفجير كنيسة، استطاع السوريّون أن يُسكتوا قادة القوّات الآخرين، بتلويحهم على مدى أحد عشر عامًا باحتمال إصدار عفو. أما عون، فقد أدّى غيابه عن لبنان والتزامه التّام اللاّعنف (بعد رحيله عن الحكم)، إلى حماية التيّار من ملاقاة مصير القوّات اللّبنانيّة.
ومع حلول العام 1995، كانت مجموعة من الأصوات، الّتي عرّفت عن نفسها بأنّها تؤيّد قائد الجيش السابق المنفي، بدأت تسيطر على انتخابات النقابات المستقلّة والاتّحادات العمّاليّة، وعلى نقابات المهن الحرّة والهيئات الطالبيّة. وبما أنّ أيّ شخص يستطيع أن يكون عونيًّا، استقطبت الـ"عونيّة" الجميع، فرفعت راية الوطنيّة العلمانيّة الّتي تخطّت الحواجز الطائفيّة. ولعلّ أبرز تجسيدٍ لهذا الواقع كان فوز المرشّحين "العونيّين" في الانتخابات الطالبيّة التّي أجريت عام 1995 في الجامعة الأميركية في بيروت، الواقعة في بيروت الغربيّة والّتي تضمّ طلاّبًا مسلمين في سوادهم الأعظم. وفي العام 1996، حلّ عون ثالثًا حين أجرت الجامعة الأميركيّة استطلاعًا مفتوحًا سألت فيها مواطنين شيعة تسمية الزعيم اللبناني الّذي يفضّلون. [14]
كانت العونيّة إذًا تنمو كقوّةٍ سياسيّة وطنيّة، الأمر الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في اختيار الرئيس حافظ الأسد للحّود رئيسًا في العام 1998، خلفًا لالياس الهراوي، والترويج له على أنّه قوّة مضادّة للحريري، الّذي اضطّر إلى الابتعاد عن الحكم سنتين. ولمّا كان الحريري أسّس لنفسه قاعدةً متينة مؤلّفة من كبار تجّار ما بعد الحرب، إضافة إلى طائفته السنيّة، قدّم لحود نفسه مناضلاً ضدّ الفساد وحاميًا لمصالح المجتمع المسيحي، فكان يأمل في الاستفادة من حقد الشعب على الحريري ليسحب الدعم من عون. وعيّن الأسد ضبّاطًا قريبين من لحّود قادةً للجيش اللّبناني والأجهزة الأمنيّة. واصطفّت هذه النواة العسكريّة الأمنيّة إلى جانب السياسيّين السنّة التقليديّين، الّذين همّشهم الحريري وزعماء الحرب السابقين والمفكّرين الموالين لسوريا.
استنكر لحّود مع رئيس حكومته الجديد سليم الحصّ سياسات الحريري الاقتصاديّة، غير أنّهما لم يجريا سوى تعديلاتٍ هامشيّة (كمعدّلات الضرائب) على البنية الاقتصاديّة في لبنان الواقع تحت الاحتلال السوري. وفي الحقيقة، أطلقت الإدارة الجديدة حملة مكافحة للفساد، فأحالت تسعة مسؤوولين "حريريّين" كبار على المحاكمة. [15] لكنّها أُجبرت لاحقًا على إسقاط التهم، ذلك لأنّ السوريّين كانوا يريدون توازنًا في السلطة حتّى يتحكّموا به، لا هجومًا كاسحًا على الحريريّين. وعليه، أُعيد الحريري في العام 2000 بعدما مكّن بشّار الأسد حكمه، إلاّ أنّ سلطته تعرّضت بعد ذلك لقيود كبيرة (وأُبعد حلفاؤه عن قطاع الخلوي المُربح). بات إذًا لحّود، لا الحريري، أوّل المتساوين في نظر السوريّين.
وفيما شكّل لحّود قوّةً مضادّة فعّالة في مقابل الحريري، تعثّرت الجهود الساعية إلى تشكيل دعمٍ مسيحي حول الرئيس. كان مفتاح تلك الاستراتيجيّة يكمن في سمسرة اتّفاقٍ بين لحود والطبقة السياسيّة المسيحيّة التقليديّة الّتي كانت مُبعدة عن الحكومة. وبغية دعم صدقيّة لحّود وتأمين الغطاء السياسي للمسيحيّين اللّّبنانيّين لعقد الصفقة، اتخذ السوريّون إجراءاتٍ للتخفيف من ظهورهم العلنيّ، ولممارسة سلطتهم بطريقة غير مباشرة عبر جهاز الأمن اللّبناني. ومع حلول العام 1999، بقي على قلّة من اللّبنانيّين أن يعانوا ذلّ التوقّف عند حاجز سوريّ في طريقهم إلى أشغالهم.
أمّا ردّ الفعل فأتى من الناشطين العونيّين، الّذين أصبحوا منظَّمين في "التيّار الوطني الحرّ"، وقادوا حملةً من الإعتصامات السلميّة والتظاهرات ضدّ الإحتلال السوري في الجامعات، كثيرًا ما واجهتها القوى الأمنيّة بشراسة. ونشرت الصحف صور شبابٍ في الثامنة عشرة من عمرهم، يلوّحون بالعلم تحت ضغط مياه سيّارات الإطفاء أو ضرب شرطة مكافحة الشغب، فاستعاد الشعب بقوّةٍ الصورة الحقيقيّة للاحتلال السوري.
وفي هذا السياق، صبّت طريقة تعامل لحوّد مع التظاهرات مباشرةً في مصلحة عون. فعندما أعلن التيّار الوطني الحر في آذار 2001 أنّ عون عائد إلى لبنان في غضون 72 ساعة، حتّى يقود مسيرةً سلميّةً في اتّجاه مواقع عسكريّة سوريّة، ذُعر المسؤولون اللّبنانيّون والسوريّون. واستفاق سكّان بيروت ليجدوا دبّابات الجيش اللّبناني متمركزةً على التقاطعات الرئيسة في مدينتهم، والأطواق العسكريّة حول الجامعات الكبرى، والطرق الرئيسيّة تعجّ بالزحمة بسبب حاجزٍ لعناصر قوى الأمن كانوا يوقفون السيّارات ليتحقّقوا من بطاقات الهويّة ويفتّشوا الصناديق. لم يظهر عون طبعًا، وسرعان ما تمّ تشتيت الطلاّب الّذين لبّوا نداءه بالآلاف، إلا أنّ ذاك المشهد عزّز صورة التيّار عند الرأي العام. وقال محلّل سياسي: "أراد عون أن يُغلق مناصروه بيروت احتجاجًا على الهيمنة السوريّة، فقام الجيش بهذا الأمر عنهم. ما عساه يطلب أكثر من ذلك؟"[16]
كان منتقدو عون يتّهمونه باستفزاز السلطات عمدًا لتصعيد درجة القمع، الّذي بلغ ذروته في آب2001 مع اعتقال المئات من ناشطي المعارضة. في هذا الوقت، كانت الطبقة السياسيّة المسيحيّة التقليديّة (الّتي اجتمعت في تنظيم هشّ بقيادة البطريرك صفير سُمّيَ "لقاء قرنة شهوان") أدركت أنّ تظاهرات التيّار الوطني الحرّ تخلق جوًّا لا يتناسب مع محادثاتهم مع لحّود والسوريّين، فراحت تدعو الشعب باستمرار إلى عدم المشاركة في هذه التظاهرات. لكنّ نداءاتهم لم تلاقِ آذانًا مصغية. وفي الواقع، حدّت هذه الاستراتيجيّة من قوّة تأثيرهم في دمشق، فإن كان الطقم السياسي المسيحي عاجزًا عن وضع حدًّ للتظاهرات المتكرّرة والمناوئة لسوريا، ماذا يُضطرّ السوريّون إلى دفع ثمنٍ باهظٍ في مقابل دعمه؟ وبينما كان عون في الخارج يُؤلّب بلا هوادة مراكز القرار لإصدار عقوباتٍ أميركيّة ضدّ سوريا، ويؤدي دورًا أساسيًّا في بناء دعمٍ لقانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي، عمد صفير وأعضاء قرنة شهوان إلى تقسيم الصفوف المسيحيّة بإدانة هذا القانون علنًا.
وفي العام 2003، كانت شعبيّة عون وقوّة "التيّار الوطنيّ الحرّ" التنظيميّة بلغتا حدًّا خطيرًا. وكان المسؤولون في التيّار واثقين من قدرة تنظيمهم على إلحاق الهزيمة بالمرشّحين الموالين لسوريا في الدوائر الإننتخابيّة ذات الأكثريّة المسيحيّة (إذا لم يتمّ التلاعب بالأصوات في شكلٍ فاضح)، فقرّروا التخلّي عن مقاطعتهم الطويلة للانتخابات التشريعيّة (التي تضاءلت فاعليّتها في العامين 1996 و2000). وهكذا بدأوا التحضير لحملةٍ انتخابيّة على المستوى الوطني.
وفي آب العام 2003، توفي بيار حلو، نائب بعبدا - عاليه متقدّمًا في السنّ، فسنحت الفرصة للتيّار الوطنيّ الحرّ لاختبار قوّته للمرّة الأولى. لكنّ الإنتخابات الفرعيّة في لبنان شكليّةٌ في العادة، فحين يتوفّى أحد النوّاب، يُتاح لخلَفه الفوز بالتزكية. وقرّرت قرنة شهوان عدم خوض الإنتخابات، وذلك لسببٍ وجيه، فالأصوات المسيحيّة في هذا القضاء أقلّ من الأصوات الدرزيّة والشيعيّة. زد على ذلك أنّ نجل بيار حلو، حصد الدعم المثاليّ من جنبلاط وخصمه الدّرزي طلال إرسلان، ومن الحزبين الشيعيّين الأساسيّين (حركة المقاومة الإسلاميّة "حزب الله" وحركة "أمل")، ومن الحريري ولحّود مجتمعَين.
إلا أنّ المحلّلين السياسيّين صُدموا عند ترشيح التيّار الوطني الحرّ لـ"حكمت ديب". وبما أنّ السياسيّين المسيحيّين التقليديّين توقّعوا لديب هزيمةً نكراء، لجأ بعضهم إلى دعم حلو فيما فضّل آخرون الحياد. إلاّ أنّ آلاف المتطوّعين من التيّار الوطني الحرّ جالوا في القضاء، محدّثين الأهالي عن برنامج التيّار وعن سجلّ ديب العريق كمدافع عن الحريّات العامّة. وعلى رغم أنّ ديب خسر الإنتخابات بفارقٍ ضئيل، (إذ نال 25,291 صوتًا في مقابل 28,597 لحلو)، فقد فاز بالأغلبيّة الساحقة من أصوات المسيحيّين، وبأقليّة لا يُستهان بها من أصوات الدروز والشيعة. وبذلك، ثبت أنّ قوّة التيّار الوطنيّ الحرّ الإنتخابيّة ليست قادرةً على اكتساح المناطق المسيحيّة وحسب، بل أيضًا على تهديد الطقم السياسي في المناطق المختلطة من الشوف إلى شمال لبنان، في انتخابات العام 2005.
لقد أقصى انتصار التيّار الوطنيّ الحرّ أي احتمالٍ جدّي في اتّفاقٍ بين الموارنة ودمشق. ولمّا شارفت ولاية لحّود الانتهاء، بذل السوريّون أقصى ما في وسعهم ليقنعوا قادة قرنة شهوان بالتمديد له ثلاث سنوات (ويُقال إنّهم لوّحوا بإمكان أن يختارصفير الرئيس المقبل في العام 2007)، لكنّهم لم يلقوا أيّ تجاوبٍ منهم، لأنّ ردّ الفعل الشعبيّ الّذي كان عون ليطلقه في إمكانها سحقهم.
عمومًا، نجحت الطبقة السياسيّة الثابتة الّتي حكمت لبنان إبّان حقبة الإحتلال السوري في تخطّي انسحاب القوّات السوريّة. فقد بقي كلّ من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ورئيس الجمهوريّة إميل لحّود في منصبيهما. أمّا رئاسة مجلس الوزراء، فبالكاد انتقلت إلى فؤاد السنيورة، الرجل النافذ الّذي تولّى وزارة المال التّابعة للولاية السوريّة في بيروت طوال فترةٍ عادلت ضعفي ولايات باقي وزراء المال مجتمعين. زِد على ذلك أنّ وزراء الحكومة الحاليّة إما أنهم كلّهم تقريبًا شغلوا مناصب عالية في الحكومات إبّان الحكم السوري، وإما أنّهم من أتباع من كانوا في تلك المناصب.
وفي الواقع، لم يؤدِّ الإنسحاب السوري من لبنان إلى رحيل الطبقة الحاكمة، بل عجّلَ في إقصاء أحد الأفرقاء الحاكمين من قبل منافسيه. أمّا المنتصرون، فليسوا جناحًا إصلاحيًّا في الحكم، بل بوتقة قويّة مؤلّفة من حلفاء رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، المسؤول عن أسوأ انحرافاتها. وفيما انقطعوا عن تبعيّتهم لسوريا، (في الوقت الراهن)، واتّخذوا اسم "تحالف الرابع عشر من آذار" (وهو تاريخ التظاهرة الضّخمة ضدّ الإحتلال السوري الّتي أجريت في بيروت العام الماضي)، فهم ينوون الاحتفاظ بالسلطة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي اكتسبوها طوال سنوات أمضوها في خدمة دمشق.
وليس من المفاجئ أن تلاقي محاولتهم السيطرة على لبنان الجديد مقاومة الحركة الشعبيّة الوطنيّة ذاتها الّتي شكّلت رأس الحربة في تحدّي سلطتهم خلال فترة الإحتلال، ألا وهي تيّار العماد ميشال عون الوطني العلماني الّذي يُعرف بـ"التيّار الوطني الحرّ". لقد أبقى محور الحريري - جنبلاط قانون انتخابات وضعه جهاز الإستخبارات العسكريّة السوريّة لحماية أتباعه المفضّلين، فنجح بالفوز بأكثريّة مقاعد البرلمان في الانتخابات التي أُجريت العام الماضي. إلا أنّ الوطنيّين حقّقوا فوزًا كاسحًا في المعاقل المسيحيّة، ونالوا ما يكفي من المقاعد ليمنعوا البرلمان من انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة غير عون.
أمّا النتيجة، فكانت وصول الأوضاع إلى مأزقٍ حرج، ذلك لأنّ قادة تحالف الرابع عشر من آذار يبغضون فكرة وصول عدوّهم اللّدود إلى رئاسة الجمهوريّة. ومع اعترافهم بأن عون هو من دون منازع المرشّح الأكثر شعبيّةً عند المسيحيّين (الّّذين يمنحهم الدستور منصب رئاسة الجمهوريّة)، وفي لبنان ككلّ [1]، فهم يحرصون على عدم استبعاد ترشحه علنًا. لكنّهم، وراء الكواليس، يبذلون أقصى جهدهم لإفشال ترشّح العماد عون إلى الرئاسة، ويطلبون التدخّلات الخارجيّة، ومنها تدخّل الرئيس السوري بشّار الأسد (فهم يعتقدون أنّه قادر على إجبار لحّود على الاستقالة، وجاهز لذلك في مقابل ثمنٍ معيّن). ولكن وإن أتوا بـ"حلّ إقليمي"، فإنّ الحؤول دون وصول عون إلى الرئاسة، في وقتٍ تبلغ المطالبة الشعبيّة بإصلاحات شاملة ذروتها، سيؤدّي على الأرجح إلى زعزعة الاستقرار في البلد، خصوصًا في حال جاء نتيجة تدخّلٍ خارجيّ.
وفي الوقت الراهن، أدّى رفض تحالف الحريري - جنبلاط مشاركة السلطة مع التيّار الوطنيّ الحرّ إلى إثقال الحكومة برئيس جمهوريّة ضعيف من دون صدقيّة، وإعاقة إصلاح الجهاز الأمني، إضافةً إلى الحؤول دون مفاوضات جديّة في شأن وضع سلاح حزب الله. لكنّ الأخطر هو محاولة هذا التحالف احتكار السلطة، ما يقسم لبنان خطّين طائفيّين. فأكثريّة السنّة والدروز تؤيّد الحكومة، فيما يتّحد ضدّها المسيحيّون والشّيعة (المحرومون سياسيًّا واقتصاديًّا في حقبة الاحتلال). وبينما يُغرق الصراع السنّي - الشيعي العراق في العنف ويُصعّد من حدّة التوتّر في العلاقات الإيرانيّة - العربيّة، فإنّ الشلل والانقسام السياسي يفرضان على لبنان دفع ثمن باهظ.
التسلّط العملي في لبنان "حقًّا، تقتل شهوة الرّخاء شغف الروح، ثمّ تسير في الجنازة مبتسمةً" جبران خليل جبران، 1923 [2]
سنة 1992، أي بعد مرور سنتين على سحق القوّات الجويّة والبريّة السوريّة للجيش اللّبناني المؤتمر بقيادة العماد عون، وإطاحتها ما تبقّى من جمهوريّة لبنان الأولى، كان لبنان على شفير الهاوية. وفي ذلك الوقت، بلغ التضخّم 130 في المئة، وكان الشغب في بيروت أسقط حكومتين خلال خمسة أشهر فقط. أمّا السبب الجوهري لتلك المحنة، فهو أنّ ما من أحد يثق بأنّ تشكيلة زعماء الحرب السابقين الّذين أوكل إليهم السوريّون حكم لبنان قادرة على إعادة بناء البلد الّذي دمّرته لتوّها.
وكان الحريري، وهو ابن بائع خضرٍ لبناني فقير، وقد جمع ثروةً في المملكة العربيّة السعوديّة إبّان فورة النفط، يحثّ دمشق سرًّا على تنصيبه رئيسًا للحكومة لبعض الوقت. ولم يقتصر رصيد هذا المتعهّد الفاحش الثراء على صيته وعلاقاته الدوليّة اللاّزمة لدعم الاستثمار في لبنان، بل كان أربابه السعوديّون مستعدّين لتقديم مبالغ طائلة لدعم هذه الصفقة. كان السوريّون، على رغم ذلك، يدركون أنّ ثروة الحريري وعلاقاتة الشخصيّة مع العائلة المالكة السعوديّة ستصعّب عليهم التحكّم به. إلاّ أنّ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الرازح تحت وطأة انقطاع المساعدات السوفياتيّة، والمصمّم أكثر فأكثر على إطلاق عجلة الاقتصاد الّذي دمّرته الحرب في ولايته الجديدة، تنازل في نهاية المطاف، فتسلّم الحريري زمام الحكم في تشرين الأوّل 1992.
وسمّي نظام الحكم الّذي تطوّر في عهد الحريري بـ"التسلّط العملي" [3]، لأنّه خالٍ من أيّ رؤية إيديولوجيّة مُصلحة. وكثيرًا ما كان الحريري يتكلّم على تحويل لبنان "سنغافورة الشرق الأوسط". ولكن، قلّما كان سلوك إدارته الجنونيّ في الإعمار والإهدار المتزايد، نتيجةً لفلسفةٍ إقتصاديّة، بل لضرورة سحب أكبر مقدارٍ ممكن من المال العام. ويسارع المدافعون عن الحريري إلى الإشارة (بحقّ)، إلى أنّ سرقة الأموال العامّة المستشرية كانت أساسًا الخبز اليومي في لبنان، وأنّ رئيس الحكومة أتى من خارج النّظام، (فقد عاش في المملكة العربيّة السعوديّة طوال ثلاثة عقود ونال الجنسيّة السعوديّة)، ودخل ساحةً سياسيّةً ينتظر فيها الجميع، بدءًا من السوريّين، ثمنًا للدعم السياسيّ. لكنّ الدرجة والتعقيد اللّذين بلغهما الفساد المؤسساتي المزدهر في عهد الحريري، تفوّقا على كلّ ما سبق. وفي هذا الإطار، قدّرت إحدى لجان تخمين الفساد التابعة للأمم المتّحدة في العام 2001 أنّ لبنان يخسر سنويًّا 1.5 مليار دولار بسبب سرقة المال العام (أي ما يعادل 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي) [4] أمّا آليّات سحب هذا المال فكانت ثلاثًا رئيسيّةً، أوّلها استدانة الحكومة. ففي غضون ستّ سنوات فقط، ارتفع الدين العام في لبنان من 2.5 مليار دولار إلى 18.5 مليار دولار (وثمّ بلغ الدين العام 38 مليار دولار، أو 183 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، وهي النسبة الأعلى في العالم.) وتمّ تمويل هذا الدين بإصدار سندات خزينة لنخبة من المصارف اللبنانيّة، بنسبة فوائد حقيقيّة هائلة (بلغت 42 في المئة في إحدى المرّات).[5] ويشير تقرير تقويم الفورة العمرانيّة في لبنان الّذي أعدّه "غيلان دونو" و"روبرت سبرينغ بورغ" إلى أنّّّ "المساهم الأكبر الوحيد في مصارف لبنان هو رئيس الحكومة"، فهو إذًا "المستفيد الأوّل" من "ارتفاع دين حكومته". [6] وبما أنّ السوريّين كانوا مع الكثيرين من حلفائهم يستثمرون هم أيضًا بكثرة في القطاع المصرفي، قلّما اعترض أحدٌ على وتيرة الإهدار المخيفة الّتي اتّبعها الحريري.
الآليّة الثانية تمثّلت بإنفاق الحكومة. ففي الواقع، لم تمنح إدارة الهبات، بحسب الأصول، سوى 2.4 في المئة فقط من المليارات الستّة الممنوحة لمشاريع الإنماء والإعمار، الّتي درسها تخمين الفساد المذكور [7]. وعليه، اعتادت الحكومة أن تدفع في مقابل عقود البناء أكثر من قيمتها بكثير (نحو 30 في المئة بحسب أكثر التخمينات)، وكانت تصرِف الأموال من دون جدوى ولأهدافٍ فارغة [8]. ويذكر أنّ القليل من أموال إعادة الإعمار أنفِق خارج العاصمة، أو خارج قطاع الإعمار والخدمات، ومن أسباب ذلك أنّ استيراد الجرّافات أو تطوير النقل العام لا يتيحان سرقة المال العام بالمقدار الكافي.
الآليّة الثالثة لسحب الأموال تضمّنت تقديم معاملة خاصّة إلى شركات القطاع الخاص الّتي كان للحريري وشخصيّات بارزة أخرى استثمارات واسعة فيها، وللشركات الّتي كانت ترشوهم بمبالغ طائلة. فعلى سبيل المثال، أُعطيت سوليدير، وهي شركة إنماء عقاريّة يملك فيها الحريري حصّةً أساسيّة، عقدًا حصريًّا لإعادة إعمار وسط بيروت (إضافة إلى الحقّ في مصادرة الأراضي كما تريد). وفي ما يتعلق بالاتّصالات اللاّسلكيّة، منح الحريري شركتي هاتف خلوي يملك فيهما حلفاؤه وسياسيّون مدعومون من سوريا حصصًا كبرى، الحقّ الحصريّ في احتكار هذه السوق، فأتاح لهم تحديد الأسعار العالية وجني الأرباح الطائلة.[9] ومن جهةٍ أخرى، فإنّ غياب الشفافيّة عند الحكومة، وعدم صدقيّة العقود منعا دخول مستثمري القطاع الخاص، ألبنانيّين كانوا أم أجانب، في أيّ سوقٍ ما لم يُبرموا صفقةً مع الطبقة الحاكمة. فكانت النتيجة أنّ الأصول الّتي صُرفت على العاصمة والمقدّرة بأربعين مليارًا، خرجت كلّها تقريبًا من لبنان إلى غير عودة.
وعلى رغم أنّ الفساد في لبنان كان منتشرًا قبل اجتياحه، فإنّ المستوى الفائق الّذي بلغته النفّعيّة في خلال التسعينات لم يستمرّ إلاّ تحت جنح السلطة السوريّة. فعلى الصعيد الإقتصادي، كانت السياسة الحريريّة على شبه توافقٍ تام مع المصالح السوريّة. وأدّى التدفّق غير المنظّم لحوالى مليون عامل سوري غير متخصّص إلى إلحاق ضررٍ كبير بفقراء المدن، وهم من الشيعة في غالبيّتهم، لكنّه ناسب متعهّدي البناء اللّبنانيّين، ودرّ مليارات الدولارات سنويًّا على الإقتصاد السوري الّذي يفتقر إلى النقد. وعلى صعيدٍ آخر، استفاد المزارعون (والمهرّبون) السوريّون من إهمال الحريري الواضح للزراعة فأغرقوا لبنان بمنتوجات غير خاضعة للضرائب. ووزّع الحريري مبالغ طائلة على طقم المسؤولين السوريّين الّذين أداروا شؤون لبنان، وأبرزهم عبد الحليم خدّام نائب الرئيس، واللّواء حكمت الشهابي، ورئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوّات السورية العاملة في لبنان العميد الركن غازي كنعان. لذلك، أُعطي الحريري أعلويّةً سياسيّة واضحة إن لم تكن حاسمة على خصومه. ومن المعروف أنّ خدّام قال مرّةً لمجموعةٍ من الوزراء الّذين كانوا يضغطون لإقالة الحريري إنّ رئيس الحكومة "باقٍ حتّى العام 2010" [10]
وهكذا، بدّد الفساد المؤسّساتي آمال غالبيّة اللّبنانيّين في الازدهار بعد الحرب. فعلى رغم إدخال مبالغ طائلة من المال، قفز النموّ الاقتصادي إلى 8 في المئة في العام 1994، ثمّ هبط بسرعةٍ ليبلغ أقلّ من 2 في المئة في العام 1998. أمّا التفاوت في الدّخل فارتفع في شكلٍ مطّرد [11]، بسبب السياسات الاجتماعيّة الاقتصاديّة الّتي ميّزت كبار تجّار ما بعد الحرب. وفي وقتٍ كان ربع السكّان لا يزالون يعيشون تحت خطّ الفقر، اقتطع رئيس الوزراء ضرائب بلغت 10 في المئة فرضها على الدخل وعلى الشركات ، فيما رفع الضرائب العامّة غير المباشرة (على البنزين مثلاً)، فاقتطع من الإنفاق على القطاع الإجتماعي، وجمّد رواتب القطاع االعام.
وهكذا، تطلّبت حماية سياسات الحريري قمعًا أكبر في التدابير المتّخذة. فلمّا تصدّت له الحركة العمّاليّة ذات التاريخ النابض في لبنان، منع رئيس الحكومة التظاهر، وتلاعب بانتخابات الإتّحاد العمّالي العام. وبحجّة "تنظيم" الإعلام المرئي والمسموع، أولى مجموعةً من الفاسدين السلطة على أبرز محطّات التلفزة والإذاعات. وأُجبر الحريري بسبب القيود الشّديدة الّتي فرضها على الحريّات العامّة إلى الاعتماد في شكلٍ كبير على الجيش وعلى قائده، العماد إميل لحّود، بهدف الحفاظ على النظام العام، فدعم بذلك عن غير درايةٍ قوّةً مركزيّةً منافسة. لكنّ الأبرز هو أنّ القمع أسهم في نموّ تيّارٍ وطنيّ معارض قويّ.
ظاهرة عون
صحيحٌ أنّ حركة الانطلاقة العلمانيّة الوطنيّة الجديدة في لبنان غذّتها عوامل اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، إلاّ أنّ اتّحادها حول عون يعكس مدى انجذابها إليه، منذ إطلالته القصيرة والعظيمة على الجمهور. فبعد مرور أربع سنوات على تولّي عون قيادة الجيش، عيّنه رئيس الجمهوريّة المنتهية ولايته أمين الجميّل رئيسًا لحكومة إنتقاليّة، بعدما منعت الميليشيات المتحاربة مجلس النوّاب من الانعقاد لانتخاب رئيس. [12] ولمّا حاول عون فرض حصارٍ بحريّ على المرافئ غير الشرعيّة الّتي تديرها الميليشيات، ردّت القوّات السوريّة بقصفٍ وحشيّ استهدف المناطق المدنيّة في بيروت الشرقيّة، ما دفعه إلى إعلان "حرب التحرير" على القوّات السوريّة في لبنان. لقد جلب عون لنفسه عداوة قادة الميليشيات والطبقة السياسيّة التقليديّة في لبنان، إلاّ أنّ حملته اجتذبت الجمهور، فأمّ مئات الآلاف قصر الشعب في كانون الأوّل من العام 1988، لتشكيل "درعٍ بشريّة" في مواجهة الجيش السوري الذّي كان يحاصر المنطقة الحرّة. وعبر أيضًا آلاف الشيعة والسنّة من المناطق الواقعة تحت السيطرة السوريّة للمشاركة في التظاهرات الّتي اعتُبرت حينذاك الأضخم في تاريخ لبنان.
أمّا الطبقة السياسيّة في لبنان، فعمدت بكلّ انحطاطٍ إلى ازدراء الظاهرة العونيّة، معتبرةً إيّاها مجرّد تعبيرٍ شعبيّ آنيّ عن سخط شعبٍ يتوق إلى بطل. وفي هذا السياق، يذكر وزير الخارجيّة السابق إيلي سالم أنّ عون كان يشبه "داود في مواجهة غوليات الجبّار". هذه هي الصورة الذتي تلقّاها جيّدًا جميع البسطاء في لبنان، بصرف النظر عن طوائفهم ومناطقهم. [13] وبالكاد نجح عون، ذو الأصل المتواضع، بإخفاء احتقاره السياسيّين الفاسدين وقادة الميليشيات، ثم أنّ صراحته ضربت أوتارًا حسّاسةً جدًّا في لبنان.
ولم تفلح الهزيمة التّي ألحقتها سوريا بجيش عون عام 1990 في القضاء على التيّار الوطنيّ. فقد استمرّ عون من منفاه في استنكار الاحتلال، وعمل على حثّ اللّبنانيّن في الشتات على التحرّك. أمّا داخل لبنان، فتحوَّل التيّار الوطنيّ حركةً سريّةً، كان "زموّر عون" من أبرز مظاهرها، إذ كان يتردّد على الطرق في المناطق المسيحيّة ما إن تغفل آذان القوّات السوريّة. وعلى مدى العقد اللاّحق، تحوّل هذا التيّار الكامن، القائم على الإعجاب بالجنرال، جبهة معارضة وطنيّة ذات قاعدة واسعة وتنظيم عالي المستوى، سيقوّض نهائيًّا القبضة السوريّة الممسكة بلبنان.
وعن غير قصدٍ، دعم الحريري التيّار الوطني اللّبناني بإقصائه قطبي معارضة مضادّين من الناحية العلمانيّة، ألا وهما الحركة العمّاليّة والقوّات اللّبنانيّة، وهي ميليشيا مسيحيّة وطنيّة تحوّلت حزبًا سياسيًّا بقيادة سمير جعجع. ومع اعتقال جعجع في العام 1994 بتهمة التخطيط لتفجير كنيسة، استطاع السوريّون أن يُسكتوا قادة القوّات الآخرين، بتلويحهم على مدى أحد عشر عامًا باحتمال إصدار عفو. أما عون، فقد أدّى غيابه عن لبنان والتزامه التّام اللاّعنف (بعد رحيله عن الحكم)، إلى حماية التيّار من ملاقاة مصير القوّات اللّبنانيّة.
ومع حلول العام 1995، كانت مجموعة من الأصوات، الّتي عرّفت عن نفسها بأنّها تؤيّد قائد الجيش السابق المنفي، بدأت تسيطر على انتخابات النقابات المستقلّة والاتّحادات العمّاليّة، وعلى نقابات المهن الحرّة والهيئات الطالبيّة. وبما أنّ أيّ شخص يستطيع أن يكون عونيًّا، استقطبت الـ"عونيّة" الجميع، فرفعت راية الوطنيّة العلمانيّة الّتي تخطّت الحواجز الطائفيّة. ولعلّ أبرز تجسيدٍ لهذا الواقع كان فوز المرشّحين "العونيّين" في الانتخابات الطالبيّة التّي أجريت عام 1995 في الجامعة الأميركية في بيروت، الواقعة في بيروت الغربيّة والّتي تضمّ طلاّبًا مسلمين في سوادهم الأعظم. وفي العام 1996، حلّ عون ثالثًا حين أجرت الجامعة الأميركيّة استطلاعًا مفتوحًا سألت فيها مواطنين شيعة تسمية الزعيم اللبناني الّذي يفضّلون. [14]
كانت العونيّة إذًا تنمو كقوّةٍ سياسيّة وطنيّة، الأمر الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في اختيار الرئيس حافظ الأسد للحّود رئيسًا في العام 1998، خلفًا لالياس الهراوي، والترويج له على أنّه قوّة مضادّة للحريري، الّذي اضطّر إلى الابتعاد عن الحكم سنتين. ولمّا كان الحريري أسّس لنفسه قاعدةً متينة مؤلّفة من كبار تجّار ما بعد الحرب، إضافة إلى طائفته السنيّة، قدّم لحود نفسه مناضلاً ضدّ الفساد وحاميًا لمصالح المجتمع المسيحي، فكان يأمل في الاستفادة من حقد الشعب على الحريري ليسحب الدعم من عون. وعيّن الأسد ضبّاطًا قريبين من لحّود قادةً للجيش اللّبناني والأجهزة الأمنيّة. واصطفّت هذه النواة العسكريّة الأمنيّة إلى جانب السياسيّين السنّة التقليديّين، الّذين همّشهم الحريري وزعماء الحرب السابقين والمفكّرين الموالين لسوريا.
استنكر لحّود مع رئيس حكومته الجديد سليم الحصّ سياسات الحريري الاقتصاديّة، غير أنّهما لم يجريا سوى تعديلاتٍ هامشيّة (كمعدّلات الضرائب) على البنية الاقتصاديّة في لبنان الواقع تحت الاحتلال السوري. وفي الحقيقة، أطلقت الإدارة الجديدة حملة مكافحة للفساد، فأحالت تسعة مسؤوولين "حريريّين" كبار على المحاكمة. [15] لكنّها أُجبرت لاحقًا على إسقاط التهم، ذلك لأنّ السوريّين كانوا يريدون توازنًا في السلطة حتّى يتحكّموا به، لا هجومًا كاسحًا على الحريريّين. وعليه، أُعيد الحريري في العام 2000 بعدما مكّن بشّار الأسد حكمه، إلاّ أنّ سلطته تعرّضت بعد ذلك لقيود كبيرة (وأُبعد حلفاؤه عن قطاع الخلوي المُربح). بات إذًا لحّود، لا الحريري، أوّل المتساوين في نظر السوريّين.
وفيما شكّل لحّود قوّةً مضادّة فعّالة في مقابل الحريري، تعثّرت الجهود الساعية إلى تشكيل دعمٍ مسيحي حول الرئيس. كان مفتاح تلك الاستراتيجيّة يكمن في سمسرة اتّفاقٍ بين لحود والطبقة السياسيّة المسيحيّة التقليديّة الّتي كانت مُبعدة عن الحكومة. وبغية دعم صدقيّة لحّود وتأمين الغطاء السياسي للمسيحيّين اللّّبنانيّين لعقد الصفقة، اتخذ السوريّون إجراءاتٍ للتخفيف من ظهورهم العلنيّ، ولممارسة سلطتهم بطريقة غير مباشرة عبر جهاز الأمن اللّبناني. ومع حلول العام 1999، بقي على قلّة من اللّبنانيّين أن يعانوا ذلّ التوقّف عند حاجز سوريّ في طريقهم إلى أشغالهم.
أمّا ردّ الفعل فأتى من الناشطين العونيّين، الّذين أصبحوا منظَّمين في "التيّار الوطني الحرّ"، وقادوا حملةً من الإعتصامات السلميّة والتظاهرات ضدّ الإحتلال السوري في الجامعات، كثيرًا ما واجهتها القوى الأمنيّة بشراسة. ونشرت الصحف صور شبابٍ في الثامنة عشرة من عمرهم، يلوّحون بالعلم تحت ضغط مياه سيّارات الإطفاء أو ضرب شرطة مكافحة الشغب، فاستعاد الشعب بقوّةٍ الصورة الحقيقيّة للاحتلال السوري.
وفي هذا السياق، صبّت طريقة تعامل لحوّد مع التظاهرات مباشرةً في مصلحة عون. فعندما أعلن التيّار الوطني الحر في آذار 2001 أنّ عون عائد إلى لبنان في غضون 72 ساعة، حتّى يقود مسيرةً سلميّةً في اتّجاه مواقع عسكريّة سوريّة، ذُعر المسؤولون اللّبنانيّون والسوريّون. واستفاق سكّان بيروت ليجدوا دبّابات الجيش اللّبناني متمركزةً على التقاطعات الرئيسة في مدينتهم، والأطواق العسكريّة حول الجامعات الكبرى، والطرق الرئيسيّة تعجّ بالزحمة بسبب حاجزٍ لعناصر قوى الأمن كانوا يوقفون السيّارات ليتحقّقوا من بطاقات الهويّة ويفتّشوا الصناديق. لم يظهر عون طبعًا، وسرعان ما تمّ تشتيت الطلاّب الّذين لبّوا نداءه بالآلاف، إلا أنّ ذاك المشهد عزّز صورة التيّار عند الرأي العام. وقال محلّل سياسي: "أراد عون أن يُغلق مناصروه بيروت احتجاجًا على الهيمنة السوريّة، فقام الجيش بهذا الأمر عنهم. ما عساه يطلب أكثر من ذلك؟"[16]
كان منتقدو عون يتّهمونه باستفزاز السلطات عمدًا لتصعيد درجة القمع، الّذي بلغ ذروته في آب2001 مع اعتقال المئات من ناشطي المعارضة. في هذا الوقت، كانت الطبقة السياسيّة المسيحيّة التقليديّة (الّتي اجتمعت في تنظيم هشّ بقيادة البطريرك صفير سُمّيَ "لقاء قرنة شهوان") أدركت أنّ تظاهرات التيّار الوطني الحرّ تخلق جوًّا لا يتناسب مع محادثاتهم مع لحّود والسوريّين، فراحت تدعو الشعب باستمرار إلى عدم المشاركة في هذه التظاهرات. لكنّ نداءاتهم لم تلاقِ آذانًا مصغية. وفي الواقع، حدّت هذه الاستراتيجيّة من قوّة تأثيرهم في دمشق، فإن كان الطقم السياسي المسيحي عاجزًا عن وضع حدًّ للتظاهرات المتكرّرة والمناوئة لسوريا، ماذا يُضطرّ السوريّون إلى دفع ثمنٍ باهظٍ في مقابل دعمه؟ وبينما كان عون في الخارج يُؤلّب بلا هوادة مراكز القرار لإصدار عقوباتٍ أميركيّة ضدّ سوريا، ويؤدي دورًا أساسيًّا في بناء دعمٍ لقانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي، عمد صفير وأعضاء قرنة شهوان إلى تقسيم الصفوف المسيحيّة بإدانة هذا القانون علنًا.
وفي العام 2003، كانت شعبيّة عون وقوّة "التيّار الوطنيّ الحرّ" التنظيميّة بلغتا حدًّا خطيرًا. وكان المسؤولون في التيّار واثقين من قدرة تنظيمهم على إلحاق الهزيمة بالمرشّحين الموالين لسوريا في الدوائر الإننتخابيّة ذات الأكثريّة المسيحيّة (إذا لم يتمّ التلاعب بالأصوات في شكلٍ فاضح)، فقرّروا التخلّي عن مقاطعتهم الطويلة للانتخابات التشريعيّة (التي تضاءلت فاعليّتها في العامين 1996 و2000). وهكذا بدأوا التحضير لحملةٍ انتخابيّة على المستوى الوطني.
وفي آب العام 2003، توفي بيار حلو، نائب بعبدا - عاليه متقدّمًا في السنّ، فسنحت الفرصة للتيّار الوطنيّ الحرّ لاختبار قوّته للمرّة الأولى. لكنّ الإنتخابات الفرعيّة في لبنان شكليّةٌ في العادة، فحين يتوفّى أحد النوّاب، يُتاح لخلَفه الفوز بالتزكية. وقرّرت قرنة شهوان عدم خوض الإنتخابات، وذلك لسببٍ وجيه، فالأصوات المسيحيّة في هذا القضاء أقلّ من الأصوات الدرزيّة والشيعيّة. زد على ذلك أنّ نجل بيار حلو، حصد الدعم المثاليّ من جنبلاط وخصمه الدّرزي طلال إرسلان، ومن الحزبين الشيعيّين الأساسيّين (حركة المقاومة الإسلاميّة "حزب الله" وحركة "أمل")، ومن الحريري ولحّود مجتمعَين.
إلا أنّ المحلّلين السياسيّين صُدموا عند ترشيح التيّار الوطني الحرّ لـ"حكمت ديب". وبما أنّ السياسيّين المسيحيّين التقليديّين توقّعوا لديب هزيمةً نكراء، لجأ بعضهم إلى دعم حلو فيما فضّل آخرون الحياد. إلاّ أنّ آلاف المتطوّعين من التيّار الوطني الحرّ جالوا في القضاء، محدّثين الأهالي عن برنامج التيّار وعن سجلّ ديب العريق كمدافع عن الحريّات العامّة. وعلى رغم أنّ ديب خسر الإنتخابات بفارقٍ ضئيل، (إذ نال 25,291 صوتًا في مقابل 28,597 لحلو)، فقد فاز بالأغلبيّة الساحقة من أصوات المسيحيّين، وبأقليّة لا يُستهان بها من أصوات الدروز والشيعة. وبذلك، ثبت أنّ قوّة التيّار الوطنيّ الحرّ الإنتخابيّة ليست قادرةً على اكتساح المناطق المسيحيّة وحسب، بل أيضًا على تهديد الطقم السياسي في المناطق المختلطة من الشوف إلى شمال لبنان، في انتخابات العام 2005.
لقد أقصى انتصار التيّار الوطنيّ الحرّ أي احتمالٍ جدّي في اتّفاقٍ بين الموارنة ودمشق. ولمّا شارفت ولاية لحّود الانتهاء، بذل السوريّون أقصى ما في وسعهم ليقنعوا قادة قرنة شهوان بالتمديد له ثلاث سنوات (ويُقال إنّهم لوّحوا بإمكان أن يختارصفير الرئيس المقبل في العام 2007)، لكنّهم لم يلقوا أيّ تجاوبٍ منهم، لأنّ ردّ الفعل الشعبيّ الّذي كان عون ليطلقه في إمكانها سحقهم.