من هناك
05-20-2006, 05:06 PM
بعد مرور ستة أشهر علي الزواج ارتفعت الكلفة بين بهية وفوزي, ووجدت الجرأة علي أن ترفع عينيها إلي وجهه .. ثم وجدت الشجاعة علي أن تقول له وقلبها يكاد ينخلع من الخجل هات لنا تليفزيون.
وسكت فوزي لحظة قبل ان يجيب, وكاد قلب بهية المضطرب يقف, خشية ان تكون قد جاوزت بهذا الطلب حد الأدب,, فإن بهية كانت قادمة من الريف.. ولقد لقنت هناك في كفرعشمالله, قبل رحلتها الميمونة إلي القاهرة, أن الرجل هو السيد المطاع, وأن بنت الناس الطيبين لاتخاطب زوجها إلا إذا وجه إليها الحديث, ولا تقول له: أريد, لأنه وحده صاحب الحق في ان يريد أو يزهد.
وفي اللحظة التي استولي فيها علي فوزي الصمت توقعت بهية أن يصفعها رجلها أو ينتهرها علي الأقل.. فلما قال لها بصوت رقيق:ربنا يفرجها لم تصدق لأول وهلة أنها نجت.. ودوي في أذنيها وجيب قلبها.. وقاربت الإغماء من فرط فرحتها بالسلامة.
***
ولم يكن فوزي جافيا غليظ القلب كما أرادت زوجته ان تتخيله, وقد اسرفت علي نفسها في التوجس عندما حسبت ان كل الأزواج علي شاكلة أبيها, يغاضب أمها فتشارك عقيرته عصاه في الغضب.
وإذا لم يلق عليها يمين الطلاق واكتفي بزواج آخر, كان في منتهي الكرم!
وعندما فوجئ فوزي بهذا التوقير الذي جاءه طلائعا يجر أذياله لم يزهد فيه, واستمرأ المهابة, ولبس لبهية جلد الأسد.
وعندما رأي فوزي أنه أعجبها في الزي الجديد خرج به إلي الناس, ولكن أصحابه والذين عرفوه من قبل لم يصدقوه, ولم يأخذ أبصارهم منه إلا فرو الحمل.
وقد غفر فوزي للجميع, وهو مبتئس, ذلك الانتقاص من قدره, لكنه لم يستطع ان يغفره للاسطي محسن صاحب صالون الحلاقة الذي يعمل فيه.. باليومية.
علي الرغم من أن الأسطي محسن يعرف أنه تأهل فإنه لايزال في نظره صبيه.. حقا.
إن فوزي دخل الدكان وهو غلام في العاشرة, مهمته أن يمسك المنشة ويطارد بها الذباب الذي يحاول ان يحط علي وجه الزبون أثناء الحلاقة.. ولكن ذلك كان من زمان.. منذ أثني عشر عاما.. أما الآن فقد حذق الصنعة وصار من حملة المقصات.. وصار أيضا زوجا لبهية.. فكيف يرسله صاحب الدكان لشراء اللحم والخضار كما كان يفعل من قبل.. ولو اكتفي بهذا لهانت البلوي.. ولكنه يقول له أيضا أمام الزبائن ياواد.
***
وذات ليلة باح لبهية.. قال لها: لم أعد أطيق هذا الذل.. سافتح( صالونا) خاصا بي وخلعت بهية من معصمها الأساور الذهبية التي جاءت بها من بيت أبيها تأييدا منها للمشروع.. وقال فوزي لها وهو يقبلها: لاتحسبي أني
نسيت.. ربنا يفرجها واشتري لك التليفزيون.
وعاشت بهية مع الحلم الجميل. رأت بعين الأمل اقبال الزبائن علي صالون الانشراح, وقال لها التفاؤل ان انتظارها للتليفزيون لن يطول وتخيلت نفسها قابعة إلي جواره تدير الازرار, فيمتلئ البيت بالصور والانغام, وتمسك بيدها الأغاني التي تحبها, وتشاهد الأفلام وتتابع الحلقات.
ومرت الشهور.. كلما قرأ فوزي في عينيها أنها موشكة أن تسأله: متي نشتري التليفزيون بادر إلي لقاء السؤال في منتصف الطريق, وقال لها بابتسامة تنضج طيبة: ربنا يفرجها.
وكانت بهية تحمل في قلبها الابتسامة الطيبة, وتتلكأ أمام واجهات الحوانيت التي تعرض أجهزة التليفزيون كلما أذن لها زوجها بالخروج, وكانت تعود وفي قدميها ألم من السير الطويل, وفي قلبها نشوة, وصورة لآخر جهاز استقر عليه رأيها.
***
ولكن الشهور تحولت إلي سنين والحلم لايزال حلما.. في العام الأول كان صالون الانشراح لايزال يتأرجح بين الاخفاق والنجاح, وفي العام الثاني حدثها فوزي عن ضرورة اضافة كرسي آخر بالمحل بمايلزمه من مرايا وأدوات وأسطي باليومية استكمالا لمظاهر الصالون الكبير.. وفي العام الثالث علق فوزي لافتة مكتوب عليها: قسم خصوصي للسيدات, وأضاء اللافته بالنيون. وجاء بحسناء لكي تجلس علي الكيس!
***
وفي العام الرابع قال فوزي لزوجته وهو يتنهد بارتياح: نستطيع الآن ان نشتري التليفزيون, ولكن بهية لم تتحمس للفكرة.. كان حلما قد سقط إلي قاع حياتها الراكدة وصار آسنا.
إنها غير الفتاة التي كانت منذ ثلاث سنوات شغفها بالأغاني, أخلي الطريق لشغفها بصوت طفلتها فواكه.. والمسلسلات تصلها من راديو الجيران الذي يزعق بأعلي صوته في الليل والنهار.
وقالت بهية لزوجها ..: مانفعنا بالتليفزيون.. دوشة دماغ وقلة عقل. ولكنه جاد لها في ذلك ووجدت نفسها تقول: إذا كنت مصرا ان تشتري لي شيئا فاني أفضل ان استعيد الأساور اني أحس بحرج كلما زارنا أبي ونظر إلي يدي العاريتين.
وصمت فوزي لحظة انه يعتمد في شراء التليفزيون علي التقسيط, وهو نظام لم يتسرب بعد إلي الصاغة, وبعد الصمت القصير قال فوزي لزوجته وهو يضمها إلي صدره: ربنا يفرجها قالها وهو صادق العزم أن يحقق وعده في القريب.
***
ولكن العام التالي لم يكن عاما سعيدا فإن مأمور الضرائب جاء إلي المحل, ومن سوء حظ فوزي ان الكراسي كلها كانت مملوءة, وأن بعض الزبائن كانوا في الانتظار.. وظن السيد المأمور ان هذا يحدث طول النهار, وعندما تلقي فوزي خطابا مسجلا عليه ختم الحكومة تولاه الزهو, وسكنت أصابعه المرتعشة, وهو يفحصه, تكهنات سعيدة ثم مرت عينه علي السطور, وصرخ كأنه جلس فجأة علي خازوق: إنه إخطار ربط الضريبة.
وعاد إلي البيت والخازوق في ظهره, وقال لزوجته, وهوي يبكي: هذا المبلغ المطلوب مني أن أدفعه ضريبة لو كنت كسبت نصفه طول العام لاستعدت لك الاساور من زمان.
وقالت له بهية, وهي تهون عليه أمر الخازوق: أنت تذهب إلي عمك الأسطي محسن وتستشيره في الأمر, وأنا أذهب إلي السيدة زينب وأشكو لها مأمور الضرائب.
***
ونظر الأسطي محسن إلي صبيه القديم من فوق إلي تحت, وقال له وقد وجد أخيرا الفرصة للشماتة: تأتيني بعد خراب بصرة.. أنوار نيون.. وقسم خصوصي للسيدات, وفتاة علي الكيس, وتريد ان تعتقك الضرائب..وقال فوزي: هل تظن أني أترك القطن مطلا من المقاعد, والمرايا مكسورة, والفرش متآكله قصر ديل؟ إني أفعل ذلك لكي يراه المأمور فلايتجبر. وانتقل الأسطي محسن من التقريع إلي التدبير, وقال لفوزي بلهجة العالم ببواطن الأمور: ان المآمير يأكلون.. واطعم الفم تستحي العين!
***
وعمل فوزي بالنصيحة.. وكانت غالية جدا هذه النصيحة كلفته ثلاثة أعوام من عمره في السجن, بتهمة محاولة رشوة موظف عمومي.
ولكن الدكان ظل مفتوحا مدة غيابه, فإن بهية لفت نفسها في ملاءتها, وجلست علي الكيس, تراقب الأسطوات وتحاسب الزبائن, ونظراتها الحلوة صارمة ووجهها صائم عن الابتسام, وقلبها مملوء بصورة شاب تتقلص يداه, علي قضبان قفص الاتهام وهو يسمع الحكم.
***
وعند انتهاء مدة العقوبة استقبلت بهية بعلها علي باب السجن بالمزيكة وسقت الشربات, وكانت ليلة للأحباء ولم يستطع فوزي ان ينفرد بها ويضمها إلي صدره إلا والفجر يقترب.
وهمست بهية في أذنه وأهدابها تتعثر في الخفر القديم: سددت الضرائب, وأتعاب محامي الابتدائي ومحامي الاستئناف, ودكان الخردوات المجاور دفعت لصاحبه خلو رجل وضممته للمحل.. والاشياء رضا والحمد لله.
وقاطعها فوزي وهو يشتد في ضمها: والأساور؟ حذار ان تكوني قد استرددت الأساور.
ووجدت الجرأة لتطلق ضحكتها في صدره وهي تقول له: ماذا تذكر.. إني أنا نسيت, وتغير صوته من الحب إلي العقاب وهو يقول لها: كان يوقظني من نومي في السجن الندم لأني لم اشتر لك الاساور قالت له بصوت سعيد كنت أريدها لكي تراها أنت وتسمع رنينها في معصمي.. فلما ذهبت ماتت الرغبة.. كلها كام سنة وتحتاج فواكه أبنتنا لأساور وجهاز.. يجب ان نكون عقلاء.
ولكنه رفض العقل وتشجعت بهية وقالت: إذا كنت حقا تريد ان تحقق لي أمنية فاعلم أن امنيتي ان أحج إلي بيت الله.
وصمت فوزي قليلا, وأدار بعض الأرقام في رأسه..حقا إنه لايوجد الآن رصيد ولكن لايزال بينهما وبين موسم الحج بضعة أشهر, وخرج من صمته وقال بحنان: ربنا يفرجها.
وانتظرت بهية الفرج, ولكنه أبطأ ذلك العام فإن أحد زملاء فوزي في السجن زاره بمجرد الافراج عنه, وبدأ يحلق عنده ذقنه كل يوم, وكان رجلا حلو اللسان.. كان يقول له ورأسه تحت الماكينة الزيرو: هذه الطاسة يافوزي مملوءة بالمشاريع..ولكنك تعلم أن الإنسان يخرج من السجن خاوي الوفاض.
وآمن فوزي بالعبقري وتبني فكرة انشاء مصنع للعطور وباع المنزل الصغير الذي كان يأويه. واقترض مااستطاع ووضع المال في يد الاقتصادي الذي ملأ رأسه باحلام الثراء.
ولكن الاقتصادي اختفي في اليوم التالي, وترك الممول التعس فريسة لاصحاب الكمبيالات, وبعد أشهر قليلة بيع الصالون في المزاد, الذي تكون له زوجة مثل بهية يسقط لكنه ينهض من كبوته من جديد.. ولذلك لم يعمل فوزي أجيرا في صالونات اخري إلا سنين قليلة ثم أصبح صاحب صالون من جديد.
***
وذات مساء قال فوزي لزوجته وهو متهلل الوجه انها تستطيع ان تحج هذا العام, وصمتت بهية هذه المرة..صمتت لكي تسأل نفسها: هل تقول له ان الألم بدأ وهو في السجن ولكنها احتملته.. لم يكن لديها وقت كانت مضطرة ان تجلس علي الكيس طول النهار, وفي العام الذي حلم فيه فوزي بمصنع العطور لم يعد الألم محتملا.. وذهبت سرا إلي طبيب. وصارحها بأنها اورام خبيثة وأن العملية ضرورية. ولكنها لم تشأ أن تزعجه.. تكفيه هموم الحجوزات.
ولأمر ما سكت الألم.. سكت إلي حين وحسبت ان المرض ذهب, ولكنها الآن تدرك انه لم يذهب, ولكنه يئس من الشفاء.
وعندما طال صمتها قال لها فوزي: استعدي للحج.
ولكنها ابتسمت وقالت: لارغبة لي في الرحلة.. امنيتي ان نشتري حوش ان يكون لنا مكان في القرافة.. فظيع أن يموت الانسان, ويلقي في مقابر الصدقة وبعد نقاش اقتنع برأيها وقال لها: ربنا يفرجها.
***
وذات مساء بهيج هتف فوزي من بئر السلم وهو يصعد الدرجات وثبا: بهية.. هل تعلمين وجدت نفسي أمام المحتال وجها لوجه وأمسكت بتلابيبه. ولكنه قال لي إن احواله معدن. وانه يكره ان يعود إلي السجن وأعطاني المال ابشري يابهية.. سنشتري الحوش ونبني المقبرة.
ولم تجب بهية.. وهزها ولكنها لم تتحرك.. ونظر إلي وجهها.. كانت عليه ابتسامه صغيرة تتعثر في الخجل والحياء.
وقالت له الابتسامة: معذرة..انك تأخرت قليلا. حاولت ان انتظرك وعجزت ولكن عشاءك ومعد علي المائدة.
وسكت فوزي لحظة قبل ان يجيب, وكاد قلب بهية المضطرب يقف, خشية ان تكون قد جاوزت بهذا الطلب حد الأدب,, فإن بهية كانت قادمة من الريف.. ولقد لقنت هناك في كفرعشمالله, قبل رحلتها الميمونة إلي القاهرة, أن الرجل هو السيد المطاع, وأن بنت الناس الطيبين لاتخاطب زوجها إلا إذا وجه إليها الحديث, ولا تقول له: أريد, لأنه وحده صاحب الحق في ان يريد أو يزهد.
وفي اللحظة التي استولي فيها علي فوزي الصمت توقعت بهية أن يصفعها رجلها أو ينتهرها علي الأقل.. فلما قال لها بصوت رقيق:ربنا يفرجها لم تصدق لأول وهلة أنها نجت.. ودوي في أذنيها وجيب قلبها.. وقاربت الإغماء من فرط فرحتها بالسلامة.
***
ولم يكن فوزي جافيا غليظ القلب كما أرادت زوجته ان تتخيله, وقد اسرفت علي نفسها في التوجس عندما حسبت ان كل الأزواج علي شاكلة أبيها, يغاضب أمها فتشارك عقيرته عصاه في الغضب.
وإذا لم يلق عليها يمين الطلاق واكتفي بزواج آخر, كان في منتهي الكرم!
وعندما فوجئ فوزي بهذا التوقير الذي جاءه طلائعا يجر أذياله لم يزهد فيه, واستمرأ المهابة, ولبس لبهية جلد الأسد.
وعندما رأي فوزي أنه أعجبها في الزي الجديد خرج به إلي الناس, ولكن أصحابه والذين عرفوه من قبل لم يصدقوه, ولم يأخذ أبصارهم منه إلا فرو الحمل.
وقد غفر فوزي للجميع, وهو مبتئس, ذلك الانتقاص من قدره, لكنه لم يستطع ان يغفره للاسطي محسن صاحب صالون الحلاقة الذي يعمل فيه.. باليومية.
علي الرغم من أن الأسطي محسن يعرف أنه تأهل فإنه لايزال في نظره صبيه.. حقا.
إن فوزي دخل الدكان وهو غلام في العاشرة, مهمته أن يمسك المنشة ويطارد بها الذباب الذي يحاول ان يحط علي وجه الزبون أثناء الحلاقة.. ولكن ذلك كان من زمان.. منذ أثني عشر عاما.. أما الآن فقد حذق الصنعة وصار من حملة المقصات.. وصار أيضا زوجا لبهية.. فكيف يرسله صاحب الدكان لشراء اللحم والخضار كما كان يفعل من قبل.. ولو اكتفي بهذا لهانت البلوي.. ولكنه يقول له أيضا أمام الزبائن ياواد.
***
وذات ليلة باح لبهية.. قال لها: لم أعد أطيق هذا الذل.. سافتح( صالونا) خاصا بي وخلعت بهية من معصمها الأساور الذهبية التي جاءت بها من بيت أبيها تأييدا منها للمشروع.. وقال فوزي لها وهو يقبلها: لاتحسبي أني
نسيت.. ربنا يفرجها واشتري لك التليفزيون.
وعاشت بهية مع الحلم الجميل. رأت بعين الأمل اقبال الزبائن علي صالون الانشراح, وقال لها التفاؤل ان انتظارها للتليفزيون لن يطول وتخيلت نفسها قابعة إلي جواره تدير الازرار, فيمتلئ البيت بالصور والانغام, وتمسك بيدها الأغاني التي تحبها, وتشاهد الأفلام وتتابع الحلقات.
ومرت الشهور.. كلما قرأ فوزي في عينيها أنها موشكة أن تسأله: متي نشتري التليفزيون بادر إلي لقاء السؤال في منتصف الطريق, وقال لها بابتسامة تنضج طيبة: ربنا يفرجها.
وكانت بهية تحمل في قلبها الابتسامة الطيبة, وتتلكأ أمام واجهات الحوانيت التي تعرض أجهزة التليفزيون كلما أذن لها زوجها بالخروج, وكانت تعود وفي قدميها ألم من السير الطويل, وفي قلبها نشوة, وصورة لآخر جهاز استقر عليه رأيها.
***
ولكن الشهور تحولت إلي سنين والحلم لايزال حلما.. في العام الأول كان صالون الانشراح لايزال يتأرجح بين الاخفاق والنجاح, وفي العام الثاني حدثها فوزي عن ضرورة اضافة كرسي آخر بالمحل بمايلزمه من مرايا وأدوات وأسطي باليومية استكمالا لمظاهر الصالون الكبير.. وفي العام الثالث علق فوزي لافتة مكتوب عليها: قسم خصوصي للسيدات, وأضاء اللافته بالنيون. وجاء بحسناء لكي تجلس علي الكيس!
***
وفي العام الرابع قال فوزي لزوجته وهو يتنهد بارتياح: نستطيع الآن ان نشتري التليفزيون, ولكن بهية لم تتحمس للفكرة.. كان حلما قد سقط إلي قاع حياتها الراكدة وصار آسنا.
إنها غير الفتاة التي كانت منذ ثلاث سنوات شغفها بالأغاني, أخلي الطريق لشغفها بصوت طفلتها فواكه.. والمسلسلات تصلها من راديو الجيران الذي يزعق بأعلي صوته في الليل والنهار.
وقالت بهية لزوجها ..: مانفعنا بالتليفزيون.. دوشة دماغ وقلة عقل. ولكنه جاد لها في ذلك ووجدت نفسها تقول: إذا كنت مصرا ان تشتري لي شيئا فاني أفضل ان استعيد الأساور اني أحس بحرج كلما زارنا أبي ونظر إلي يدي العاريتين.
وصمت فوزي لحظة انه يعتمد في شراء التليفزيون علي التقسيط, وهو نظام لم يتسرب بعد إلي الصاغة, وبعد الصمت القصير قال فوزي لزوجته وهو يضمها إلي صدره: ربنا يفرجها قالها وهو صادق العزم أن يحقق وعده في القريب.
***
ولكن العام التالي لم يكن عاما سعيدا فإن مأمور الضرائب جاء إلي المحل, ومن سوء حظ فوزي ان الكراسي كلها كانت مملوءة, وأن بعض الزبائن كانوا في الانتظار.. وظن السيد المأمور ان هذا يحدث طول النهار, وعندما تلقي فوزي خطابا مسجلا عليه ختم الحكومة تولاه الزهو, وسكنت أصابعه المرتعشة, وهو يفحصه, تكهنات سعيدة ثم مرت عينه علي السطور, وصرخ كأنه جلس فجأة علي خازوق: إنه إخطار ربط الضريبة.
وعاد إلي البيت والخازوق في ظهره, وقال لزوجته, وهوي يبكي: هذا المبلغ المطلوب مني أن أدفعه ضريبة لو كنت كسبت نصفه طول العام لاستعدت لك الاساور من زمان.
وقالت له بهية, وهي تهون عليه أمر الخازوق: أنت تذهب إلي عمك الأسطي محسن وتستشيره في الأمر, وأنا أذهب إلي السيدة زينب وأشكو لها مأمور الضرائب.
***
ونظر الأسطي محسن إلي صبيه القديم من فوق إلي تحت, وقال له وقد وجد أخيرا الفرصة للشماتة: تأتيني بعد خراب بصرة.. أنوار نيون.. وقسم خصوصي للسيدات, وفتاة علي الكيس, وتريد ان تعتقك الضرائب..وقال فوزي: هل تظن أني أترك القطن مطلا من المقاعد, والمرايا مكسورة, والفرش متآكله قصر ديل؟ إني أفعل ذلك لكي يراه المأمور فلايتجبر. وانتقل الأسطي محسن من التقريع إلي التدبير, وقال لفوزي بلهجة العالم ببواطن الأمور: ان المآمير يأكلون.. واطعم الفم تستحي العين!
***
وعمل فوزي بالنصيحة.. وكانت غالية جدا هذه النصيحة كلفته ثلاثة أعوام من عمره في السجن, بتهمة محاولة رشوة موظف عمومي.
ولكن الدكان ظل مفتوحا مدة غيابه, فإن بهية لفت نفسها في ملاءتها, وجلست علي الكيس, تراقب الأسطوات وتحاسب الزبائن, ونظراتها الحلوة صارمة ووجهها صائم عن الابتسام, وقلبها مملوء بصورة شاب تتقلص يداه, علي قضبان قفص الاتهام وهو يسمع الحكم.
***
وعند انتهاء مدة العقوبة استقبلت بهية بعلها علي باب السجن بالمزيكة وسقت الشربات, وكانت ليلة للأحباء ولم يستطع فوزي ان ينفرد بها ويضمها إلي صدره إلا والفجر يقترب.
وهمست بهية في أذنه وأهدابها تتعثر في الخفر القديم: سددت الضرائب, وأتعاب محامي الابتدائي ومحامي الاستئناف, ودكان الخردوات المجاور دفعت لصاحبه خلو رجل وضممته للمحل.. والاشياء رضا والحمد لله.
وقاطعها فوزي وهو يشتد في ضمها: والأساور؟ حذار ان تكوني قد استرددت الأساور.
ووجدت الجرأة لتطلق ضحكتها في صدره وهي تقول له: ماذا تذكر.. إني أنا نسيت, وتغير صوته من الحب إلي العقاب وهو يقول لها: كان يوقظني من نومي في السجن الندم لأني لم اشتر لك الاساور قالت له بصوت سعيد كنت أريدها لكي تراها أنت وتسمع رنينها في معصمي.. فلما ذهبت ماتت الرغبة.. كلها كام سنة وتحتاج فواكه أبنتنا لأساور وجهاز.. يجب ان نكون عقلاء.
ولكنه رفض العقل وتشجعت بهية وقالت: إذا كنت حقا تريد ان تحقق لي أمنية فاعلم أن امنيتي ان أحج إلي بيت الله.
وصمت فوزي قليلا, وأدار بعض الأرقام في رأسه..حقا إنه لايوجد الآن رصيد ولكن لايزال بينهما وبين موسم الحج بضعة أشهر, وخرج من صمته وقال بحنان: ربنا يفرجها.
وانتظرت بهية الفرج, ولكنه أبطأ ذلك العام فإن أحد زملاء فوزي في السجن زاره بمجرد الافراج عنه, وبدأ يحلق عنده ذقنه كل يوم, وكان رجلا حلو اللسان.. كان يقول له ورأسه تحت الماكينة الزيرو: هذه الطاسة يافوزي مملوءة بالمشاريع..ولكنك تعلم أن الإنسان يخرج من السجن خاوي الوفاض.
وآمن فوزي بالعبقري وتبني فكرة انشاء مصنع للعطور وباع المنزل الصغير الذي كان يأويه. واقترض مااستطاع ووضع المال في يد الاقتصادي الذي ملأ رأسه باحلام الثراء.
ولكن الاقتصادي اختفي في اليوم التالي, وترك الممول التعس فريسة لاصحاب الكمبيالات, وبعد أشهر قليلة بيع الصالون في المزاد, الذي تكون له زوجة مثل بهية يسقط لكنه ينهض من كبوته من جديد.. ولذلك لم يعمل فوزي أجيرا في صالونات اخري إلا سنين قليلة ثم أصبح صاحب صالون من جديد.
***
وذات مساء قال فوزي لزوجته وهو متهلل الوجه انها تستطيع ان تحج هذا العام, وصمتت بهية هذه المرة..صمتت لكي تسأل نفسها: هل تقول له ان الألم بدأ وهو في السجن ولكنها احتملته.. لم يكن لديها وقت كانت مضطرة ان تجلس علي الكيس طول النهار, وفي العام الذي حلم فيه فوزي بمصنع العطور لم يعد الألم محتملا.. وذهبت سرا إلي طبيب. وصارحها بأنها اورام خبيثة وأن العملية ضرورية. ولكنها لم تشأ أن تزعجه.. تكفيه هموم الحجوزات.
ولأمر ما سكت الألم.. سكت إلي حين وحسبت ان المرض ذهب, ولكنها الآن تدرك انه لم يذهب, ولكنه يئس من الشفاء.
وعندما طال صمتها قال لها فوزي: استعدي للحج.
ولكنها ابتسمت وقالت: لارغبة لي في الرحلة.. امنيتي ان نشتري حوش ان يكون لنا مكان في القرافة.. فظيع أن يموت الانسان, ويلقي في مقابر الصدقة وبعد نقاش اقتنع برأيها وقال لها: ربنا يفرجها.
***
وذات مساء بهيج هتف فوزي من بئر السلم وهو يصعد الدرجات وثبا: بهية.. هل تعلمين وجدت نفسي أمام المحتال وجها لوجه وأمسكت بتلابيبه. ولكنه قال لي إن احواله معدن. وانه يكره ان يعود إلي السجن وأعطاني المال ابشري يابهية.. سنشتري الحوش ونبني المقبرة.
ولم تجب بهية.. وهزها ولكنها لم تتحرك.. ونظر إلي وجهها.. كانت عليه ابتسامه صغيرة تتعثر في الخجل والحياء.
وقالت له الابتسامة: معذرة..انك تأخرت قليلا. حاولت ان انتظرك وعجزت ولكن عشاءك ومعد علي المائدة.