مقاوم
05-03-2006, 11:22 AM
لبنان على شفير الهاوية
أحمد عبد الجبار
قد يقرأ البعض في العنوان تشاؤماً، وقد يُعرض عنه آخرون لدقة وحساسية ما يجري في فلسطين من استهداف وإذلال ليس للفلسطينيين فحسب وإنما للأمة الإسلامية جمعاء. لكن ما دعاني لهذا العنوان هو خطورة ودقة الوضع السياسي والأمني في لبنان وتداعياته وانعكاساته محلياً، وإقليمياً، ودولياً. إضافة إلى المؤامرات التي قد تمرر والعالم منهمك بالقضية الفلسطينية (قضيتنا الأولى بلا منازع).
محلياً:
اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري كان الحدث الزلزال الذي ضرب لبنان وسوريا؛ والذي ما فتئت آثاره وأبعاده تتكشّف لنا يوماً بعد يوم.
الوضع السياسي الداخلي في لبنان يشهد احتقاناً لم يسبق له مثيل منذ انتهاء الحرب الأهلية. وما يسمى بالحوار الوطني يعكس تماماً خطورة الوضع، ويجسد العُقد التي أصبحت واحدتها معضلة؛ فما بالك مجتمعة !
ميثاق الطائف الذي أبرمته الفئات المتنازعة على أرض لبنان، والذي يفترض أنه نفَّس معظم التشنجات الطائفية، ووضع آليات تحول دون تفاقمها مستقبلاً؛ أصبح الآن شيئاً من التاريخ القديم لا مكان له إلا متاحف الوثائق والمخطوطات.
لبنان اليوم أكثر طائفية منه في أي عهد مضى. والقوى السياسية فيه (بما فيها من ينعتون أنفسهم بالعلمنة) متخندقة على خطوط تمايز طائفية بحتة. أقول: (متخندقة) وأعنيها حرفياً. فالشيعة بفرعيهم: حزب الله وحركة أمل؛ لهم مواقع محصّنة على الصعيدين السياسي والعسكري، والموارنة بدأوا يعدون لاسترجاع أمجاد القوات اللبنانية العسكرية في الوقت الذي يؤكد فيه قائدها نبذه للحلول العسكرية، وقناعته التامة بتحقيق ذلك من خلال السياسة والحوار. ولكن عندي من الأدلة المصوَّرة ما يثبت قيام "القوات" بتدريبات عسكرية تحت إشراف نديم بشير الجميل. وقد قاموا بإنتاج فيلم تحريضي قبل بضعة أشهر بعنوان: (حتى ما يموت الشهيد)؛ يخاطب الجيل الجديد من القوات ويحرضهم على كل ما هو إسلامي، أو عربي، أو فلسطيني.
الأضعف في هذه المعادلة هم السنَّة. لأنهم ولغاية هذه اللحظة لم يحددوا موقع خندقهم؛ ناهيك عن حفره. ومع أنهم يقودون ما يسمى بقوى 14 آذار، إلا أنهم لا يملكون زمام المبادرة ولا القرار. بل يجدون أنفسهم في مرمى سهام المخوِّنين من الأطراف الأخرى. ولعل استهداف الرئيس الحريري دون غيره من المعارضين لسوريا ذوات الأصوات العالية من أمثال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط كان بسبب ضعفه "العسكري"، وأنه لا يملك عصابة، أو ميليشيا، أو "مقاومة" لرد الصاع وزعزعة الأمن والاستقرار في البلد.
إقليمياً:
نحن أبناء اليوم وإن كانت سوريا فعلاً وراء الاغتيال. فقد خابت جميع مراهناتها على إزاحة الحريري من الوجود، وأثبتت التجربة أن الجريمة كانت ضرباً من الغباء السياسي والاستخباراتي لم تحسب عواقبه بالشكل الصحيح. وسوريا أول من يطالب العالم بالنظر إلى النتائج لتبرئة ساحتها حيث أنها كلها في غير مصلحتها. فقد أرغمت على الخروج من لبنان، وفقدت الشيء الكثير من هيمنتها السياسية، والعسكرية، والاستخباراتية، والاقتصادية عليه، وألقت به وقيادة الأغلبية السياسية فيه إلى أحضان الغول الأميركي مما يضع لبنان على شفير الهاوية لأن سوريا لن تتحمل أن يصبح لبنان لقمةً سائغةً للأمريكان، ولن تتقبل الواقع الذي يشهد بأنها كانت السبب في ذلك. وبالتالي ستفعل المستحيل للحيلولة دون تقديمه لهم على طبق من فضة. فإن كان لا بد من ذلك فستقدمه جمرة محترقة، أو رماداً كي لا تنعم به أميركا، ولا الصهاينة من ورائهم. يعزز هذا التصور ما نشرته بعض الصحف والمجلات عن سعي المخابرات السورية إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مما سيؤدي حتما إلى حمام دم ومجزرة طائفية رهيبة.
أما إن كان هناك متهمون آخرون في جريمة الاغتيال فلا بد للموساد الإسرائيلي أن يتصدر اللائحة. وقد كان كاتب هذه السطور أول من وجه أصابع الاتهام لهم يوم أن اهتزت بيروت بدوي الانفجار الذي أودى به. فمما لا شك فيه أنهم المستفيد الأول والأكبر من الحدث ويملكون الدوافع والإمكانات. ومما لا شك فيه كذلك أنهم كان يدركون أن العالم بأسره وعلى رأسهم المعارضة اللبنانية ستتهم سوريا (بغض النظر عما إذا كان المتهمون يعتقدون ذلك فعلا) التي كانت في وضع سياسي لا يحسد عليه. وقد تحقق إسرائيل جملة من المكاسب منها:
1. فصل المسار اللبناني عن المسار السوري في مسألة التطبيع والاستفراد بلبنان.
2. زعزعة الاقتصاد اللبناني الذي كانت جميع المؤشرات توحي بأنه قد تعافى، وذلك من خلال رؤوس الأموال الخارجية المستثمرة فيه، ومواسم السياحة التي يعتمد على حركتها أكثر من ثلثي الشعب. فقد فاق عدد السياح في صيف 2005 المليون سائح، ولا أطنه يخفى على أحد مصلحة إسرائيل في ضرب الجانبين.
3. الدفع بعجلة الطائفية السياسية إلى التوتر والانسداد، ومن ثم الزج بحزب الله وأعوانه في حرب طائفية ضروس تأكل الأخضر واليابس، وتؤمِّن حدودها الشمالية، وتقلب الموازين المحلية، والإقليمية، والدولية رأساً على عقب؛ مما قد يستدعي دخول قوات دولية لفض النزاع وحفظ الأمن، وبالتالي تحاصر سوريا بالقوات الدولية في العراق ولبنان، وتوضع أمام خيارين أحلاهما مر: إما التطبيع مع إسرائيل، وإما مواجهة العزلة الدولية والإقليمية، والعقوبات الاقتصادية الخانقة.
دولياً:
تُعتبر إيران الفريق الغائب الحاضر على المسرح اللبناني ويخطئ من يقلل من حجم الدور الذي تلعبه في صناعة المشهد السياسي بل وحتى الأمني. دورها هذا قد يتخذ شكلا وحجما مختلفا برسم ما ستؤول إليه المفاوضات مع وكالة الطاقة الدولية وما قد تنفذه أميركا من تهديدات أو لا تنفذه.
أما الأصابع الأمريكية العابثة فقد استباحت كل شيء في لبنان وأصبح البيت الأبيض ومن يستقبله أو لا يستقبله من الرموز اللبنانية محط آمال أو مرمى سهام فرقاء النزاع. والسفير الأميركي في لبنان كالبعوضة (مع الاعتذار للبعوض عن التشبيه) يطن جيئة وذهابا بحثا عن الدم!! حركة يومية دون كلل أو ملل.
لا يمكن بحال أن نغفل الدور الفرنسي في كل هذا. فرنسا المتوثبة أبدا لدور أكبر وحصة أدسم في السياسة الدولية عامة والشرق أوسطية خاصة تحاول أن تسد ثغرات السياسة الأمريكية في المنطقة وتقتات على الفتات الذي تخلفه لها أمريكا، فهي من ناحية تؤازر الضغط على سوريا بينما تحاول في الوقت ذاته أن تظهر بمظهر الموالي للشعب الفلسطيني. أعوانها في لبنان أكثر من أن يعدّون، من آل الحريري إلى آل الجميل مرورا بميشال عون وسمير جعجع.
ختاما:
مهما كانت المجريات فإن مستقبل لبنان يبدو قاتماً، لأن زعاماته قد اختارت تقديم المصالح الذاتية الآنية على المصالح الوطنية الدائمة، ووضعوا أيديهم بأيدي الغرباء الطامعين، وتنكروا لشعبهم وتطلعاته وآماله.
لبنان اليوم يقف على شفا جرف هار تهدده الزلازل الداخلية بالانهيار، وتعصف به أعاصير السياسات الدولية والأطماع الأمريكية لتهوي به إلى الوادي السحيق، لا نقول ذلك تشاؤما وإنما استقراءا لواقع مرير.
أحمد عبد الجبار
قد يقرأ البعض في العنوان تشاؤماً، وقد يُعرض عنه آخرون لدقة وحساسية ما يجري في فلسطين من استهداف وإذلال ليس للفلسطينيين فحسب وإنما للأمة الإسلامية جمعاء. لكن ما دعاني لهذا العنوان هو خطورة ودقة الوضع السياسي والأمني في لبنان وتداعياته وانعكاساته محلياً، وإقليمياً، ودولياً. إضافة إلى المؤامرات التي قد تمرر والعالم منهمك بالقضية الفلسطينية (قضيتنا الأولى بلا منازع).
محلياً:
اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري كان الحدث الزلزال الذي ضرب لبنان وسوريا؛ والذي ما فتئت آثاره وأبعاده تتكشّف لنا يوماً بعد يوم.
الوضع السياسي الداخلي في لبنان يشهد احتقاناً لم يسبق له مثيل منذ انتهاء الحرب الأهلية. وما يسمى بالحوار الوطني يعكس تماماً خطورة الوضع، ويجسد العُقد التي أصبحت واحدتها معضلة؛ فما بالك مجتمعة !
ميثاق الطائف الذي أبرمته الفئات المتنازعة على أرض لبنان، والذي يفترض أنه نفَّس معظم التشنجات الطائفية، ووضع آليات تحول دون تفاقمها مستقبلاً؛ أصبح الآن شيئاً من التاريخ القديم لا مكان له إلا متاحف الوثائق والمخطوطات.
لبنان اليوم أكثر طائفية منه في أي عهد مضى. والقوى السياسية فيه (بما فيها من ينعتون أنفسهم بالعلمنة) متخندقة على خطوط تمايز طائفية بحتة. أقول: (متخندقة) وأعنيها حرفياً. فالشيعة بفرعيهم: حزب الله وحركة أمل؛ لهم مواقع محصّنة على الصعيدين السياسي والعسكري، والموارنة بدأوا يعدون لاسترجاع أمجاد القوات اللبنانية العسكرية في الوقت الذي يؤكد فيه قائدها نبذه للحلول العسكرية، وقناعته التامة بتحقيق ذلك من خلال السياسة والحوار. ولكن عندي من الأدلة المصوَّرة ما يثبت قيام "القوات" بتدريبات عسكرية تحت إشراف نديم بشير الجميل. وقد قاموا بإنتاج فيلم تحريضي قبل بضعة أشهر بعنوان: (حتى ما يموت الشهيد)؛ يخاطب الجيل الجديد من القوات ويحرضهم على كل ما هو إسلامي، أو عربي، أو فلسطيني.
الأضعف في هذه المعادلة هم السنَّة. لأنهم ولغاية هذه اللحظة لم يحددوا موقع خندقهم؛ ناهيك عن حفره. ومع أنهم يقودون ما يسمى بقوى 14 آذار، إلا أنهم لا يملكون زمام المبادرة ولا القرار. بل يجدون أنفسهم في مرمى سهام المخوِّنين من الأطراف الأخرى. ولعل استهداف الرئيس الحريري دون غيره من المعارضين لسوريا ذوات الأصوات العالية من أمثال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط كان بسبب ضعفه "العسكري"، وأنه لا يملك عصابة، أو ميليشيا، أو "مقاومة" لرد الصاع وزعزعة الأمن والاستقرار في البلد.
إقليمياً:
نحن أبناء اليوم وإن كانت سوريا فعلاً وراء الاغتيال. فقد خابت جميع مراهناتها على إزاحة الحريري من الوجود، وأثبتت التجربة أن الجريمة كانت ضرباً من الغباء السياسي والاستخباراتي لم تحسب عواقبه بالشكل الصحيح. وسوريا أول من يطالب العالم بالنظر إلى النتائج لتبرئة ساحتها حيث أنها كلها في غير مصلحتها. فقد أرغمت على الخروج من لبنان، وفقدت الشيء الكثير من هيمنتها السياسية، والعسكرية، والاستخباراتية، والاقتصادية عليه، وألقت به وقيادة الأغلبية السياسية فيه إلى أحضان الغول الأميركي مما يضع لبنان على شفير الهاوية لأن سوريا لن تتحمل أن يصبح لبنان لقمةً سائغةً للأمريكان، ولن تتقبل الواقع الذي يشهد بأنها كانت السبب في ذلك. وبالتالي ستفعل المستحيل للحيلولة دون تقديمه لهم على طبق من فضة. فإن كان لا بد من ذلك فستقدمه جمرة محترقة، أو رماداً كي لا تنعم به أميركا، ولا الصهاينة من ورائهم. يعزز هذا التصور ما نشرته بعض الصحف والمجلات عن سعي المخابرات السورية إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مما سيؤدي حتما إلى حمام دم ومجزرة طائفية رهيبة.
أما إن كان هناك متهمون آخرون في جريمة الاغتيال فلا بد للموساد الإسرائيلي أن يتصدر اللائحة. وقد كان كاتب هذه السطور أول من وجه أصابع الاتهام لهم يوم أن اهتزت بيروت بدوي الانفجار الذي أودى به. فمما لا شك فيه أنهم المستفيد الأول والأكبر من الحدث ويملكون الدوافع والإمكانات. ومما لا شك فيه كذلك أنهم كان يدركون أن العالم بأسره وعلى رأسهم المعارضة اللبنانية ستتهم سوريا (بغض النظر عما إذا كان المتهمون يعتقدون ذلك فعلا) التي كانت في وضع سياسي لا يحسد عليه. وقد تحقق إسرائيل جملة من المكاسب منها:
1. فصل المسار اللبناني عن المسار السوري في مسألة التطبيع والاستفراد بلبنان.
2. زعزعة الاقتصاد اللبناني الذي كانت جميع المؤشرات توحي بأنه قد تعافى، وذلك من خلال رؤوس الأموال الخارجية المستثمرة فيه، ومواسم السياحة التي يعتمد على حركتها أكثر من ثلثي الشعب. فقد فاق عدد السياح في صيف 2005 المليون سائح، ولا أطنه يخفى على أحد مصلحة إسرائيل في ضرب الجانبين.
3. الدفع بعجلة الطائفية السياسية إلى التوتر والانسداد، ومن ثم الزج بحزب الله وأعوانه في حرب طائفية ضروس تأكل الأخضر واليابس، وتؤمِّن حدودها الشمالية، وتقلب الموازين المحلية، والإقليمية، والدولية رأساً على عقب؛ مما قد يستدعي دخول قوات دولية لفض النزاع وحفظ الأمن، وبالتالي تحاصر سوريا بالقوات الدولية في العراق ولبنان، وتوضع أمام خيارين أحلاهما مر: إما التطبيع مع إسرائيل، وإما مواجهة العزلة الدولية والإقليمية، والعقوبات الاقتصادية الخانقة.
دولياً:
تُعتبر إيران الفريق الغائب الحاضر على المسرح اللبناني ويخطئ من يقلل من حجم الدور الذي تلعبه في صناعة المشهد السياسي بل وحتى الأمني. دورها هذا قد يتخذ شكلا وحجما مختلفا برسم ما ستؤول إليه المفاوضات مع وكالة الطاقة الدولية وما قد تنفذه أميركا من تهديدات أو لا تنفذه.
أما الأصابع الأمريكية العابثة فقد استباحت كل شيء في لبنان وأصبح البيت الأبيض ومن يستقبله أو لا يستقبله من الرموز اللبنانية محط آمال أو مرمى سهام فرقاء النزاع. والسفير الأميركي في لبنان كالبعوضة (مع الاعتذار للبعوض عن التشبيه) يطن جيئة وذهابا بحثا عن الدم!! حركة يومية دون كلل أو ملل.
لا يمكن بحال أن نغفل الدور الفرنسي في كل هذا. فرنسا المتوثبة أبدا لدور أكبر وحصة أدسم في السياسة الدولية عامة والشرق أوسطية خاصة تحاول أن تسد ثغرات السياسة الأمريكية في المنطقة وتقتات على الفتات الذي تخلفه لها أمريكا، فهي من ناحية تؤازر الضغط على سوريا بينما تحاول في الوقت ذاته أن تظهر بمظهر الموالي للشعب الفلسطيني. أعوانها في لبنان أكثر من أن يعدّون، من آل الحريري إلى آل الجميل مرورا بميشال عون وسمير جعجع.
ختاما:
مهما كانت المجريات فإن مستقبل لبنان يبدو قاتماً، لأن زعاماته قد اختارت تقديم المصالح الذاتية الآنية على المصالح الوطنية الدائمة، ووضعوا أيديهم بأيدي الغرباء الطامعين، وتنكروا لشعبهم وتطلعاته وآماله.
لبنان اليوم يقف على شفا جرف هار تهدده الزلازل الداخلية بالانهيار، وتعصف به أعاصير السياسات الدولية والأطماع الأمريكية لتهوي به إلى الوادي السحيق، لا نقول ذلك تشاؤما وإنما استقراءا لواقع مرير.