سعد بن معاذ
04-14-2006, 07:26 PM
مبارك.. والعتبات المقدسة
محمد الزواوي
مفكرة الإسلام، الثلاثاء 13ربيع الأول 1427هـ – 11 أبريل 2006م
قليلة هي تلك المرات التي تصدر عن الرئيس المصري حسني مبارك تصريحات قد تثير جدلاً ولغطًا بين الأوساط السياسية، سواء على المستوى العربي أو الدولي، وذلك للحرص الشديد للرئاسة والخارجية المصرية في العقدين الأخيرين على تبني خط مستقيم في العلاقات الخارجية والدولية، خط لا ينحني يمنة ولا يسرة، لا يعلو ولا يهبط، لذا سارت الدبلوماسية المصرية في سنوات حكم الرئيس مبارك في مسار معلوم المنبع والمصب الأخير، إلى درجة كان رجل الشارع العادي يعلم فيها مسبقًا رأي الحكومة في كافة المواضيع المتعلقة بالسياسة الخارجية، سواء القضايا القديمة أو المعاصرة أو حتى التي يستجد منها؛ اللهم إلا إذا استثنينا بعض اللحظات القليلة التي "ارتجل" فيها السيد عمرو موسى عندما كان وزيرًا للخارجية المصرية، واضطر إلى اتخاذ مواقف جريئة - شخصية ربما - دفاعًا عن القضايا العربية.
وكثيرة هي الحوارات التي أجريت مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك في العقدين الأخيرين عن الكثير من القضايا الشائكة والخطيرة، وكان المسار العام لردود الرئيس المصري هو التمسك بالمفاهيم الأخلاقية المجردة؛ مثل الشرعية الدولية والقانون والنظام الدولي والاتفاقات الموقّعة... إلى آخر تلك القائمة من المفاهيم العامة التي لا تحتمل التأويل. ولكن اللقاء الأخير مع قناة العربية كان مختلفًا، فقد تحدث الرئيس المصري لأول مرة عن القضية الشيعية في المنطقة، ربما بتعبيرات مقتضبة وجاءت عفوية, وكأنها مجرد تقرير واقع موجود عن نسبة الشيعة وولائهم، ولكنها أثارت لغطًا كبيرًا من الطائفة الشيعية في العراق وإيران وبعض دول الخليج العربي.
ويبدو من كلام الرئيس المصري أنه لم يكن يود الاسترسال أو الاستفاضة في قضية الشيعة في العراق بصورة خاصة، بالرغم من أهمية هذه القضية للأمن القومي العربي ككل، وجاءت تصريحاته وكأنها تقرير واقع معروف للجميع، تتناقله الشعوب والمسئولين حتى ولو بصورة غير رسمية، بالرغم من أن الشعوب العربية انتظرت طويلاً خروج تصريحات رسمية من الدول العربية الكبرى بشأن المد الشيعي في المنطقة ومحاولات عرقلته والوقوف أمامه, وسد تلك الثغرة الأساسية في الأمن القومي للمنطقة ككل. وقد خرجت تصريحات متفرقة من بعض الزعماء العرب، كان أولها تصريحات الملك الأردني عبد الله بن الحسين بشأن الطموحات الإيرانية بإنشاء هلال شيعي في المنطقة، من إيران إلى لبنان، وتصريحات أخرى من بعض المسئولين على المستويات الدبلوماسية المتوسطة، إلا أن الدول العربية لم تتخذ موقفًا موحدًا بعد بشأن اختراق إيران للأمن القومي العربي في أية مناسبة سابقة.
وقد حملت تصريحات الرئيس المصري حول شيعة العراق أبعادًا ثلاثة؛ البعد الأول وهو الولاء الشيعي عامة لإيران، والبعد الثاني هو نسبة الشيعة في العراق, والتي ذكرها أنها 65%، أما البعد الأخير فهو التأثير الإيراني في المنطقة. فقد صرح الرئيس المصري في رد على سؤال حول التأثير الإيراني قائلاً: "بالقطع يعني إيران لها ذراع في الشيعة مافيش كلام؛ لأن عندهم ناس كثيرة جدًا، والشيعة موجودة, فيه حوالي 65% من العراقيين شيعة، وفيه شيعة في كل الدول دي كلها نسب كبيرة جدًا، والشيعة دائمًا ولاءها لإيران، أغلبهم ولاؤهم لإيران مش ولاؤهم للدول".
وهذه التصريحات أقرت بوجود نفوذ إيراني كبير في المنطقة، وهو ما استغلته إيران إيجابيًا في وسائل الإعلام وسارعت بالتأكيد عليه [حتى لو كان شرفًا لا تدعيه]؛ حيث قامت إيران باغتنام تلك الفرصة وذلك الإقرار الثمين والدعاية المجانية من أكبر دولة عربية، وصرّحت على لسان حميد رضا آصفي - المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية - الذي قال: إن "بلاده تستخدم نفوذها لضمان استقرار المنطقة، وإن الجمهورية الإسلامية تسعى إلى ضمان الاستقرار والأمن في المنطقة"، وسارع مؤكدًا "لإيران تأثير كبير في العراق, لكننا لا نستخدم هذا التأثير مطلقًا للتدخل في الشئون الداخلية العراقية، تأثيرنا روحي واستخدمناه دائما لتعزيز التفاهم والتقارب بين المجموعات الدينية والإثنية".
كما ردّد الرئيس المصري حسني مبارك الأرقام الأمريكية بشأن عدد الشيعة في العراق، تلك الأرقام التي كانت موجهة بالأساس إلى المواطن الأمريكي لتبرير غزو العراق من أجل الإزاحة بصدام حسين, الذي كان يضطهد "الأغلبية" الشيعية هناك، في إطار التبريرات الأخرى الكاذبة التي ساقتها الإدارة الأمريكية مثل أسلحة الدمار الشامل العراقية والعلاقات ما بين صدّام والقاعدة، وغيرها من الأكاذيب الأخرى لتبرير غزو العراق، والواقع يشير إلى عدم صحة هذه الأرقام، وهناك إحصاءات عربية[1] كثيرة أكّدت أن تلك الأرقام الأمريكية منافية للواقع.
وقد طار مذيعو القنوات الشيعية بتأكيدات مبارك على أن الشيعة يمثلون 65% من العراق، وأبرزوه في صدر كل النشرات والتعليقات على تصريحات الرئيس المصري، والتي كانت بمثابة إقرار واقع ـ مرة ثانية ـ وطارت القنوات الشيعية بهذه التصريحات: "وقد أكّد الرئيس المصري على أن نسبة الشيعة هي الأغلبية في العراق بنسبة 65% وبالرغم من ذلك يشكك في ولائهم". إلى آخر هذه العبارات، وشنوا حملة على النظام المصري ورئيسه، وشهّروا بالمواقف المصرية مثل اتفاقية السلام مع "إسرائيل"، وبأن مصر هي التي أضاعت القضية الفلسطينية، وأن السفارة "الإسرائيلية" تقبع الآن في قلب القاهرة، وذلك في معظم القنوات الشيعية التي يصل عددها إلى أكثر من 15 قناة على القمر المصري "النايل سات"، والذي كان من أهم أهدافه للقطر المصري هو تحقيق الريادة المصرية في المجال الإعلامي، والمحافظة على مكانة مصر في الوطن العربي، وليس استغلاله كأداة للتشهير بأخطاء مصر التاريخية، إذا اعتبرتها الحكومة المصرية أنها أخطاء.
وقد قدّمت مصر لإيران دعاية مجانية بتلك التصريحات العفوية من الرئيس المصري، الذي كانت تنتظر منه الشعوب العربية عامة، والشعب المصري خاصة، مخاطبة مخاوف شعوب المنطقة من المد الفارسي الشيعي في شرق الوطن العربي، ومحاولة إيران استغلال الفراغ الاستراتيجي الناشئ من سقوط فكرة القومية العربية، وعدم وجود ما يمكن تسميته "الرباط الجامع" للوطن العربي ككل في الوقت الراهن، وقد استطاعت إيران التقدم أمتارًا كثيرة في طريق فرض نفوذها على المنطقة، والتي تكاد تخلو من دولة عربية تستطيع اليوم الوقوف أمام الولايات المتحدة وأطماعها في المنطقة، بموقف علني يبدو عليه الصمود والإباء أمام الضغوط الأمريكية.
فقد استطاعت إيران التقدم في عدة مجالات مهمة في عالم اليوم: عسكريًا تقوم بتصنيع أسلحتها الخاصة وصواريخها القادرة على حمل رءوس نووية بعيدة المدى، كما استطاعت مؤخرًا تطوير أسرع صاروخ بحري في العالم، وصواريخ ذكية قادرة على الإفلات من الرادارات. وفي المجال الإعلامي تخاطب المنطقة العربية بعدة قنوات موجهة بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ مثل قنوات العالم والكوثر، إضافة إلى المنار اللبنانية، وهناك القنوات الشيعية الأخرى الموالية لإيران أمثال الفرات والأنوار والبغدادية وغيرها، وبدأت تتعالى الأصوات الشعبية من بعض العرب الذين لا يعلمون المخططات الإيرانية الحقيقية باتخاذ إيران مثلاً للدولة "الإسلامية التي جمعت ما بين العلم والسلاح والإباء"، وهي منطقة أخرى من مناطق الأمن القومي العربي التي تم اختراقها وللأسف الشديد.
وما أثبت أن ما قاله الرئيس المصري ليس إلا زلة لسان، ولم يكن في إطار تحرك مصري من أجل مخاطبة القضية الشيعية ومواجهتها، هو ما خرج على لسان الناطق الرسمي باسم الرئاسة المصرية سليمان عواد في اليوم التالي، حيث صرح بأن "ما قصده السيد الرئيس هو التعاطف الشيعي مع إيران بالنظر لاستضافتها للعتبات المقدسة"، وتابع: إن "مصر تتعامل مع جميع فئات العراق وأطيافه دون تفرقة أو تمييز"، وقد حوّل التصريحات الرئاسية المصرية في اتجاه آخر تمامًا، عندما نقلها من خانة "الولاء" إلى خانة "التعاطف"، وأن ذلك ليس إلا لأسباب وجود "العتبات المقدسة" في إيران، ليعود الخط الدبلوماسي المصري إلى سابق عهده بعد هذه "الكبوة" فيما يتعلق بالقضية الشيعية، ويرجع إلى الخط "الهادئ" الذي لا يعدل بالسلامة شيئًا.
والذين يعلمون بحقيقة المخططات الفارسية في المنطقة، والذين طالما نادوا بضرورة مخاطبة قضية المد الإيراني وخطورته على الأمن القومي العربي, طالما انتظروا تصريحات عربية توقف إيران عند حدها بالطرق الدبلوماسية كخطوة أولى، فالمواجهة الدبلوماسية والثقافية والكلامية باتت حتمية لتفادي المواجهة العسكرية التي بدأت خيوطها الأولى تتشكل في العراق، وبإقرار مبارك ومن قبله وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بوجود حرب أهلية في العراق.
إن الشعوب العربية لا تريد المزيد من "الكبوات" الدبلوماسية والنكوص عن التصريحات فيما يتعلق بالقضية الإيرانية، ولكنها تريد تحركات إيجابية باتجاه حماية الأمن القومي العربي، ووضع خطوط حمراء من جديد أمام كل ما هو استراتيجي وتكتيكي في قضية الأمن القومي، بعد أن أصبحت كل الخطوط خضراء، بعد أن بات السلام هو الخيار الاستراتيجي للدول العربية، حتى في ظل وجود مخططات لتقسيم الدول العربية وتفكيكها، في ظل تشكّل حرب أهلية في العراق تهدده بالتقسيم، وفي ظل وجود دعوات لفصل جنوب السودان وتدخل دولي في قضية دارفور، وتجويع الشعب الفلسطيني وفرض حصار اقتصادي ودبلوماسي عليه.
يجب ألا يكون هناك "عتبات مقدسة" لا يمكن تخطيها وتجاوزها طالما تعلّق الأمر بقضية محورية من قضايا الأمن القومي العربي، بل إن الدعايات الشيعية على القمر المصري النايل سات تخطت الأمن القومي العربي إلى الأمن القومي المصري، ووجهت منصّات إطلاقها لمهاجمة السياسية المصرية، وبدأت في تشكيل منظومة إعلامية شيعية تقدم إغراقًا في الرسائل الإعلامية إلى المنطقة العربية عن طريق القمر المصري، بقنوات شيعية إيرانية وعراقية ولبنانية وكويتية، ولا شك أنها تستقطب أعدادًا كبيرة من المشاهدين العرب، الذين لا يسمح لهم تعليمهم أو ثقافتهم - وهي أبعاد أخرى للأمن القومي العربي - بأن يميزوا الغث من السمين فيما يعرض عليهم من دعايات إيرانية وشيعية.
لقد افتقدت الأمة العربية طعم السياسة الخارجية والدبلوماسية القوية منذ سنوات طويلة، ربما منذ حرب 73 إبان دبلوماسية النفط العربية، كما فقد المصريون طعم الفاكهة كما كانوا يعهدونها من قبل بعد التعاون المصري - "الإسرائيلي" في المجالات الزراعية، ولا تزال الحياة تسير، ولكن الشعوب إذا فقدت طعم العزة.. قطعًا تموت.
ـــــــــــــ
[1] يمكن الرجوع إلى عدة إحصاءات بخصوص أعداد الشيعة والسنة بالعراق، منها الآتي:
"الحقيقة" أول كتاب مخطوط عن تعداد السنة والشيعة بالعراق، على الرابط التالي:
http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news.asp?IDnews=56
ثلاث دراسات عن أعداد السنة والشيعة بالعراق، على الرابط التالي:
http://www.islamonline.net/Arabic/news/2004-01/28/article12.shtml
محمد الزواوي
مفكرة الإسلام، الثلاثاء 13ربيع الأول 1427هـ – 11 أبريل 2006م
قليلة هي تلك المرات التي تصدر عن الرئيس المصري حسني مبارك تصريحات قد تثير جدلاً ولغطًا بين الأوساط السياسية، سواء على المستوى العربي أو الدولي، وذلك للحرص الشديد للرئاسة والخارجية المصرية في العقدين الأخيرين على تبني خط مستقيم في العلاقات الخارجية والدولية، خط لا ينحني يمنة ولا يسرة، لا يعلو ولا يهبط، لذا سارت الدبلوماسية المصرية في سنوات حكم الرئيس مبارك في مسار معلوم المنبع والمصب الأخير، إلى درجة كان رجل الشارع العادي يعلم فيها مسبقًا رأي الحكومة في كافة المواضيع المتعلقة بالسياسة الخارجية، سواء القضايا القديمة أو المعاصرة أو حتى التي يستجد منها؛ اللهم إلا إذا استثنينا بعض اللحظات القليلة التي "ارتجل" فيها السيد عمرو موسى عندما كان وزيرًا للخارجية المصرية، واضطر إلى اتخاذ مواقف جريئة - شخصية ربما - دفاعًا عن القضايا العربية.
وكثيرة هي الحوارات التي أجريت مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك في العقدين الأخيرين عن الكثير من القضايا الشائكة والخطيرة، وكان المسار العام لردود الرئيس المصري هو التمسك بالمفاهيم الأخلاقية المجردة؛ مثل الشرعية الدولية والقانون والنظام الدولي والاتفاقات الموقّعة... إلى آخر تلك القائمة من المفاهيم العامة التي لا تحتمل التأويل. ولكن اللقاء الأخير مع قناة العربية كان مختلفًا، فقد تحدث الرئيس المصري لأول مرة عن القضية الشيعية في المنطقة، ربما بتعبيرات مقتضبة وجاءت عفوية, وكأنها مجرد تقرير واقع موجود عن نسبة الشيعة وولائهم، ولكنها أثارت لغطًا كبيرًا من الطائفة الشيعية في العراق وإيران وبعض دول الخليج العربي.
ويبدو من كلام الرئيس المصري أنه لم يكن يود الاسترسال أو الاستفاضة في قضية الشيعة في العراق بصورة خاصة، بالرغم من أهمية هذه القضية للأمن القومي العربي ككل، وجاءت تصريحاته وكأنها تقرير واقع معروف للجميع، تتناقله الشعوب والمسئولين حتى ولو بصورة غير رسمية، بالرغم من أن الشعوب العربية انتظرت طويلاً خروج تصريحات رسمية من الدول العربية الكبرى بشأن المد الشيعي في المنطقة ومحاولات عرقلته والوقوف أمامه, وسد تلك الثغرة الأساسية في الأمن القومي للمنطقة ككل. وقد خرجت تصريحات متفرقة من بعض الزعماء العرب، كان أولها تصريحات الملك الأردني عبد الله بن الحسين بشأن الطموحات الإيرانية بإنشاء هلال شيعي في المنطقة، من إيران إلى لبنان، وتصريحات أخرى من بعض المسئولين على المستويات الدبلوماسية المتوسطة، إلا أن الدول العربية لم تتخذ موقفًا موحدًا بعد بشأن اختراق إيران للأمن القومي العربي في أية مناسبة سابقة.
وقد حملت تصريحات الرئيس المصري حول شيعة العراق أبعادًا ثلاثة؛ البعد الأول وهو الولاء الشيعي عامة لإيران، والبعد الثاني هو نسبة الشيعة في العراق, والتي ذكرها أنها 65%، أما البعد الأخير فهو التأثير الإيراني في المنطقة. فقد صرح الرئيس المصري في رد على سؤال حول التأثير الإيراني قائلاً: "بالقطع يعني إيران لها ذراع في الشيعة مافيش كلام؛ لأن عندهم ناس كثيرة جدًا، والشيعة موجودة, فيه حوالي 65% من العراقيين شيعة، وفيه شيعة في كل الدول دي كلها نسب كبيرة جدًا، والشيعة دائمًا ولاءها لإيران، أغلبهم ولاؤهم لإيران مش ولاؤهم للدول".
وهذه التصريحات أقرت بوجود نفوذ إيراني كبير في المنطقة، وهو ما استغلته إيران إيجابيًا في وسائل الإعلام وسارعت بالتأكيد عليه [حتى لو كان شرفًا لا تدعيه]؛ حيث قامت إيران باغتنام تلك الفرصة وذلك الإقرار الثمين والدعاية المجانية من أكبر دولة عربية، وصرّحت على لسان حميد رضا آصفي - المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية - الذي قال: إن "بلاده تستخدم نفوذها لضمان استقرار المنطقة، وإن الجمهورية الإسلامية تسعى إلى ضمان الاستقرار والأمن في المنطقة"، وسارع مؤكدًا "لإيران تأثير كبير في العراق, لكننا لا نستخدم هذا التأثير مطلقًا للتدخل في الشئون الداخلية العراقية، تأثيرنا روحي واستخدمناه دائما لتعزيز التفاهم والتقارب بين المجموعات الدينية والإثنية".
كما ردّد الرئيس المصري حسني مبارك الأرقام الأمريكية بشأن عدد الشيعة في العراق، تلك الأرقام التي كانت موجهة بالأساس إلى المواطن الأمريكي لتبرير غزو العراق من أجل الإزاحة بصدام حسين, الذي كان يضطهد "الأغلبية" الشيعية هناك، في إطار التبريرات الأخرى الكاذبة التي ساقتها الإدارة الأمريكية مثل أسلحة الدمار الشامل العراقية والعلاقات ما بين صدّام والقاعدة، وغيرها من الأكاذيب الأخرى لتبرير غزو العراق، والواقع يشير إلى عدم صحة هذه الأرقام، وهناك إحصاءات عربية[1] كثيرة أكّدت أن تلك الأرقام الأمريكية منافية للواقع.
وقد طار مذيعو القنوات الشيعية بتأكيدات مبارك على أن الشيعة يمثلون 65% من العراق، وأبرزوه في صدر كل النشرات والتعليقات على تصريحات الرئيس المصري، والتي كانت بمثابة إقرار واقع ـ مرة ثانية ـ وطارت القنوات الشيعية بهذه التصريحات: "وقد أكّد الرئيس المصري على أن نسبة الشيعة هي الأغلبية في العراق بنسبة 65% وبالرغم من ذلك يشكك في ولائهم". إلى آخر هذه العبارات، وشنوا حملة على النظام المصري ورئيسه، وشهّروا بالمواقف المصرية مثل اتفاقية السلام مع "إسرائيل"، وبأن مصر هي التي أضاعت القضية الفلسطينية، وأن السفارة "الإسرائيلية" تقبع الآن في قلب القاهرة، وذلك في معظم القنوات الشيعية التي يصل عددها إلى أكثر من 15 قناة على القمر المصري "النايل سات"، والذي كان من أهم أهدافه للقطر المصري هو تحقيق الريادة المصرية في المجال الإعلامي، والمحافظة على مكانة مصر في الوطن العربي، وليس استغلاله كأداة للتشهير بأخطاء مصر التاريخية، إذا اعتبرتها الحكومة المصرية أنها أخطاء.
وقد قدّمت مصر لإيران دعاية مجانية بتلك التصريحات العفوية من الرئيس المصري، الذي كانت تنتظر منه الشعوب العربية عامة، والشعب المصري خاصة، مخاطبة مخاوف شعوب المنطقة من المد الفارسي الشيعي في شرق الوطن العربي، ومحاولة إيران استغلال الفراغ الاستراتيجي الناشئ من سقوط فكرة القومية العربية، وعدم وجود ما يمكن تسميته "الرباط الجامع" للوطن العربي ككل في الوقت الراهن، وقد استطاعت إيران التقدم أمتارًا كثيرة في طريق فرض نفوذها على المنطقة، والتي تكاد تخلو من دولة عربية تستطيع اليوم الوقوف أمام الولايات المتحدة وأطماعها في المنطقة، بموقف علني يبدو عليه الصمود والإباء أمام الضغوط الأمريكية.
فقد استطاعت إيران التقدم في عدة مجالات مهمة في عالم اليوم: عسكريًا تقوم بتصنيع أسلحتها الخاصة وصواريخها القادرة على حمل رءوس نووية بعيدة المدى، كما استطاعت مؤخرًا تطوير أسرع صاروخ بحري في العالم، وصواريخ ذكية قادرة على الإفلات من الرادارات. وفي المجال الإعلامي تخاطب المنطقة العربية بعدة قنوات موجهة بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ مثل قنوات العالم والكوثر، إضافة إلى المنار اللبنانية، وهناك القنوات الشيعية الأخرى الموالية لإيران أمثال الفرات والأنوار والبغدادية وغيرها، وبدأت تتعالى الأصوات الشعبية من بعض العرب الذين لا يعلمون المخططات الإيرانية الحقيقية باتخاذ إيران مثلاً للدولة "الإسلامية التي جمعت ما بين العلم والسلاح والإباء"، وهي منطقة أخرى من مناطق الأمن القومي العربي التي تم اختراقها وللأسف الشديد.
وما أثبت أن ما قاله الرئيس المصري ليس إلا زلة لسان، ولم يكن في إطار تحرك مصري من أجل مخاطبة القضية الشيعية ومواجهتها، هو ما خرج على لسان الناطق الرسمي باسم الرئاسة المصرية سليمان عواد في اليوم التالي، حيث صرح بأن "ما قصده السيد الرئيس هو التعاطف الشيعي مع إيران بالنظر لاستضافتها للعتبات المقدسة"، وتابع: إن "مصر تتعامل مع جميع فئات العراق وأطيافه دون تفرقة أو تمييز"، وقد حوّل التصريحات الرئاسية المصرية في اتجاه آخر تمامًا، عندما نقلها من خانة "الولاء" إلى خانة "التعاطف"، وأن ذلك ليس إلا لأسباب وجود "العتبات المقدسة" في إيران، ليعود الخط الدبلوماسي المصري إلى سابق عهده بعد هذه "الكبوة" فيما يتعلق بالقضية الشيعية، ويرجع إلى الخط "الهادئ" الذي لا يعدل بالسلامة شيئًا.
والذين يعلمون بحقيقة المخططات الفارسية في المنطقة، والذين طالما نادوا بضرورة مخاطبة قضية المد الإيراني وخطورته على الأمن القومي العربي, طالما انتظروا تصريحات عربية توقف إيران عند حدها بالطرق الدبلوماسية كخطوة أولى، فالمواجهة الدبلوماسية والثقافية والكلامية باتت حتمية لتفادي المواجهة العسكرية التي بدأت خيوطها الأولى تتشكل في العراق، وبإقرار مبارك ومن قبله وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بوجود حرب أهلية في العراق.
إن الشعوب العربية لا تريد المزيد من "الكبوات" الدبلوماسية والنكوص عن التصريحات فيما يتعلق بالقضية الإيرانية، ولكنها تريد تحركات إيجابية باتجاه حماية الأمن القومي العربي، ووضع خطوط حمراء من جديد أمام كل ما هو استراتيجي وتكتيكي في قضية الأمن القومي، بعد أن أصبحت كل الخطوط خضراء، بعد أن بات السلام هو الخيار الاستراتيجي للدول العربية، حتى في ظل وجود مخططات لتقسيم الدول العربية وتفكيكها، في ظل تشكّل حرب أهلية في العراق تهدده بالتقسيم، وفي ظل وجود دعوات لفصل جنوب السودان وتدخل دولي في قضية دارفور، وتجويع الشعب الفلسطيني وفرض حصار اقتصادي ودبلوماسي عليه.
يجب ألا يكون هناك "عتبات مقدسة" لا يمكن تخطيها وتجاوزها طالما تعلّق الأمر بقضية محورية من قضايا الأمن القومي العربي، بل إن الدعايات الشيعية على القمر المصري النايل سات تخطت الأمن القومي العربي إلى الأمن القومي المصري، ووجهت منصّات إطلاقها لمهاجمة السياسية المصرية، وبدأت في تشكيل منظومة إعلامية شيعية تقدم إغراقًا في الرسائل الإعلامية إلى المنطقة العربية عن طريق القمر المصري، بقنوات شيعية إيرانية وعراقية ولبنانية وكويتية، ولا شك أنها تستقطب أعدادًا كبيرة من المشاهدين العرب، الذين لا يسمح لهم تعليمهم أو ثقافتهم - وهي أبعاد أخرى للأمن القومي العربي - بأن يميزوا الغث من السمين فيما يعرض عليهم من دعايات إيرانية وشيعية.
لقد افتقدت الأمة العربية طعم السياسة الخارجية والدبلوماسية القوية منذ سنوات طويلة، ربما منذ حرب 73 إبان دبلوماسية النفط العربية، كما فقد المصريون طعم الفاكهة كما كانوا يعهدونها من قبل بعد التعاون المصري - "الإسرائيلي" في المجالات الزراعية، ولا تزال الحياة تسير، ولكن الشعوب إذا فقدت طعم العزة.. قطعًا تموت.
ـــــــــــــ
[1] يمكن الرجوع إلى عدة إحصاءات بخصوص أعداد الشيعة والسنة بالعراق، منها الآتي:
"الحقيقة" أول كتاب مخطوط عن تعداد السنة والشيعة بالعراق، على الرابط التالي:
http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news.asp?IDnews=56
ثلاث دراسات عن أعداد السنة والشيعة بالعراق، على الرابط التالي:
http://www.islamonline.net/Arabic/news/2004-01/28/article12.shtml