من هناك
04-10-2006, 07:53 PM
الموارنة والشيعة في مرآة التاريخ
الموارنة ولبنان الكبير
بعكس ما يدّعيه بعض مؤرخّي الموارنة الإيديولوجيين، فإن تطوّر التقنيات العلمية -إضافةً الى بروز وثائق تاريخية ودراسات موضوعية معمّقة- اثبت ان الجماعة المارونية التي اتخّذت من منطقة الجبّة وضواحيها ملاذاً آمناً لها، لم تكن ذات شأنِ يُذكر حتى اواسط القرن السابع عشر الميلادي ، فالموارنة قبل ذلك، فيما عدا الحقبة الصليبية، عانوا الأمرّين من سلطة حاكمة مستبدّة انهكت كاهلهم بالضرائب التي فرضها الاسلام على الذميين، ومن قساوة الطبيعة ووعورة صخورها ومنحدراتها التي حولّها الموارنة بعرق الجبين والمثابرة جنائن مثمرة ابهرت الرحّالة الغربيين الذين حلّوا في ربوع الموارنة ضيوفاً مكرّمين.
عوامل متسارعة طبعت بطابعها الخاص القرن السابع عشر، فأدخلت الموارنة الى حلبة السياسة اللبنانية جاعلةً منهم عنصراً مؤثراً في التوازنات الداخلية على الصعد كافة.
لعل ابرز هذه العوامل على الاطلاق التطورات الدراماتيكية التي اصابت الموحدين الدروز على امتداد القرن السادس عشر ما ادّى الى استنزافهم ديموغرافياً واقتصادياً مما سهل للموارنة التغلغل في ربوع الجبل الدرزي والتحكّم بكافة مفاصل اللعبة اللبنانية.
فما هي هذه التطورات؟
اوجد الدين الاسلامي الاطر الشرعية للتعامل مع الذميين ضمن شروط وقوانين محددة وفّرت للمسيحيين واليهود والصابئة التمتّع بالحد الأدنى من حرية ممارسة شعائرهم الدينية والعيش في كنف الدولة الاسلامية في مقابل بدلٍ يدفعه هؤلاء لتلك الدولة عُرف تاريخياً بـ "الجزية" .
صُنّف الموارنة في خانة الذميين وهذا ما سمح لهم العيش بسلام برغم الجور والاضطهاد الذي كان يطالهم بين الحين والآخر، اضف الى ان نظام "اهل الذمّة" سمح للذميين بالتملّص من الخدمة العسكرية في الجيوش الاسلامية وهذا ما جعلهم بمنأى عن خسارة اليد العاملة الفتية في الحروب والفتوحات التي غالباً ما كانت تخوضها الدول الاسلامية تحقيقاً لسياسة التوسّع التي دعا اليها الدين الحنيف.
استفاد الموارنة من "إيجابيات" نظام "اهل الذمّة" فانكبّوا على العمل بهدوء وعاشوا مسالمين مهادنين السلطات الاسلامية المتعاقبة.
هذه "الإيجابيات" لم تنسحب على الدروز ، ذلك ان الدولة الاسلامية و "شيوخ الاسلام" فيها لم يعاملوا الدروز معاملة الذميين، بل حاولوا بين الفينة والآخرى ترويضهم تمهيداً لإعادتهم الى الحظيرة الاسلامية، وهذا ما دفع الدروز لاستعمال الوسائل الدفاعية وتنظيم مجتمعهم في إطارٍ "عسكاريتاري" يسمح لهم بمقاومة الغزاة والذود عن مقدسّاتهم وخصوصياتهم في الجبل اللبناني.
شهد القرن السادس عشر حملات "تأديبية" متعددة شنتّها الجيوش العثمانية، ولاسيما الآنكشارية، باتجاه "شوف ابن معن" ، ولعّل اشدّها وطأة على الدروز كانت حملات الوالي العثماني ابراهيم باشا التي اسفرت في اواخر القرن السادس عشر عن تدمير عشرات القرى الدرزية ومقتل حوالي ستين الف شابٍ درزي بحسب بعض المصادر التاريخية ، ومما لا شكّ فيه ان الدروز قد ابدوا مقاومة شرسة سيّما وانهم شكّلوا احد اضلع مثلثّ دولي امتّد من النمسا وحتى اسبانيا مروراً ببعض المدن الايطالية منها البندقية، في مواجهة تحالف عثماني- فرنسي بزعامة سليمان القانوني وفرنسوا الأول...
عوّل الدروز المنكوبين على مساعدة اليد العاملة المارونية لإعادة إنعاش الجبل الدرزي واستصلاح الأراضي بعد افتقار الدروز للعناصر الفتية التي استُنزفت في حروب مقاومة الغزاة العثمانيين، وقد استبعد الدروز المجموعات الشيعية عن تلك المهمّة لما عُرف عن هؤلاء من سوء سلوك وسمعة وهذا ما حدا بالدروز لخوض مواجهات عدّة مع الشعية افضت الى طرد الأخيرين من جبل لبنان، على مراحل متفرّقة، وتمركزهم عند اطرافه بشكل شبيه الى حدًّ بعيد بطوق كمّاشة.
شهد القرن السادس عشر في اوروبا تطوّراً لافتاً تمثّل بإعلان الحركة البروتستانتية، وكان لهذا الأمر انعكاسات بالغة الخطورة على الجسم الكنسي بشكل عام وعلى الكنيسة الكاثوليكية في روما وحاميتها فرنسا على وجه التحديد ، فبدأت حركات الانشقاق في اوروبا تمتد كالنار في الهشيم، وشكّل ذلك إيذاناً لحقبةٍ جديدة عُرفت فيما بعد بـ "عصر النهضة".
سعت الكنيسة اللاتينية الى التمدد شرقاً بعد النكبات التي مُنيت بها غرباً ، فأرسلت الموفدين الى الموارنة تمهيداً لاستمالتهم الى صفوفها ومنعهم من الارتماء في احضان الحركة البروتستنتية الناشئة، وهنا لا بدّ من التذكير ان الكنيسة المارونية لم تعلن انضمامها الرسمي والنهائي لروما الاّ في اواسط القرن الثامن عشر، وهي كانت لقرون خلت كنيسة مستقلّة غير مستقّرة تنخرها "البدع " اليعقوبية تارةً وتستقيم فيها العقيدة الارثوذكسية الكاثوليكية طوراً اخر ...
وطّدت الكنسية اللاتينية وفرنسا اواصر الصداقة مع الموارنة ، فافتُتح في روما في اواسط القرن السادس عشر اكليريكية لاستقبال النشء الماروني عُرفت بـ "مدرسة روما المارونية" خرّجت اعلاماً للفكر والثقافة ، ونسجت علاقات سياسية واقتصادية ودينية متينة بالغرب اللاتيني ...كما لعب خريّجو مدرسة روما المارونية دوراً محورياً في تنشئة المجتمع الماروني وتثقيفه وتعريفه بالعقيدة الكاثوليكية "القويمة" .
شجّع هذا الدعم المادي والمعنوي الغير محدود، الموارنة على توسيع نشاطاتهم والتمدد في ارجاء لبنان كافةً، حيث شكّلوا قوّة سكّانية وانتاجية لا يستهان بها كما انشؤوا بمساعدة روما والمُرسلين الكاثوليك وبتشجيع بطريركيتهم صروحاً علمية ودينية ، ثم انكبّوا لكتابة تاريخ لبنان وإحياء حضاراته الخالدة وانتشالها من غياهب النسيان...
لم ينتصف القرن الثامن عشر حتى كان المجمع اللبناني الماروني المُنعقد في اللويزة يُشجّع الموارنة على الزواج المبكر ، عن عمر ستة عشر عاماً للشبان واربعة عشر للفتيات ... وبذلك جمع الموارنة في ايديهم قوى اربع: الديموغرافيا، القوة المالية والاقتصادية، الدعم الخارجي اللامحدود، العلم...
ومع مطلع القرن العشرين ، كان الموارنة قد انشؤوا دولة لبنان الكبير متحكّمين بالمقدّرات السياسية والعسكرية لهذه الدولة، لما كان لهم من تأثير على المستويات التي تطرقنا اليها آنفاً وعلى امتداد سنين مديدة...
الموارنة ولبنان الكبير
بعكس ما يدّعيه بعض مؤرخّي الموارنة الإيديولوجيين، فإن تطوّر التقنيات العلمية -إضافةً الى بروز وثائق تاريخية ودراسات موضوعية معمّقة- اثبت ان الجماعة المارونية التي اتخّذت من منطقة الجبّة وضواحيها ملاذاً آمناً لها، لم تكن ذات شأنِ يُذكر حتى اواسط القرن السابع عشر الميلادي ، فالموارنة قبل ذلك، فيما عدا الحقبة الصليبية، عانوا الأمرّين من سلطة حاكمة مستبدّة انهكت كاهلهم بالضرائب التي فرضها الاسلام على الذميين، ومن قساوة الطبيعة ووعورة صخورها ومنحدراتها التي حولّها الموارنة بعرق الجبين والمثابرة جنائن مثمرة ابهرت الرحّالة الغربيين الذين حلّوا في ربوع الموارنة ضيوفاً مكرّمين.
عوامل متسارعة طبعت بطابعها الخاص القرن السابع عشر، فأدخلت الموارنة الى حلبة السياسة اللبنانية جاعلةً منهم عنصراً مؤثراً في التوازنات الداخلية على الصعد كافة.
لعل ابرز هذه العوامل على الاطلاق التطورات الدراماتيكية التي اصابت الموحدين الدروز على امتداد القرن السادس عشر ما ادّى الى استنزافهم ديموغرافياً واقتصادياً مما سهل للموارنة التغلغل في ربوع الجبل الدرزي والتحكّم بكافة مفاصل اللعبة اللبنانية.
فما هي هذه التطورات؟
اوجد الدين الاسلامي الاطر الشرعية للتعامل مع الذميين ضمن شروط وقوانين محددة وفّرت للمسيحيين واليهود والصابئة التمتّع بالحد الأدنى من حرية ممارسة شعائرهم الدينية والعيش في كنف الدولة الاسلامية في مقابل بدلٍ يدفعه هؤلاء لتلك الدولة عُرف تاريخياً بـ "الجزية" .
صُنّف الموارنة في خانة الذميين وهذا ما سمح لهم العيش بسلام برغم الجور والاضطهاد الذي كان يطالهم بين الحين والآخر، اضف الى ان نظام "اهل الذمّة" سمح للذميين بالتملّص من الخدمة العسكرية في الجيوش الاسلامية وهذا ما جعلهم بمنأى عن خسارة اليد العاملة الفتية في الحروب والفتوحات التي غالباً ما كانت تخوضها الدول الاسلامية تحقيقاً لسياسة التوسّع التي دعا اليها الدين الحنيف.
استفاد الموارنة من "إيجابيات" نظام "اهل الذمّة" فانكبّوا على العمل بهدوء وعاشوا مسالمين مهادنين السلطات الاسلامية المتعاقبة.
هذه "الإيجابيات" لم تنسحب على الدروز ، ذلك ان الدولة الاسلامية و "شيوخ الاسلام" فيها لم يعاملوا الدروز معاملة الذميين، بل حاولوا بين الفينة والآخرى ترويضهم تمهيداً لإعادتهم الى الحظيرة الاسلامية، وهذا ما دفع الدروز لاستعمال الوسائل الدفاعية وتنظيم مجتمعهم في إطارٍ "عسكاريتاري" يسمح لهم بمقاومة الغزاة والذود عن مقدسّاتهم وخصوصياتهم في الجبل اللبناني.
شهد القرن السادس عشر حملات "تأديبية" متعددة شنتّها الجيوش العثمانية، ولاسيما الآنكشارية، باتجاه "شوف ابن معن" ، ولعّل اشدّها وطأة على الدروز كانت حملات الوالي العثماني ابراهيم باشا التي اسفرت في اواخر القرن السادس عشر عن تدمير عشرات القرى الدرزية ومقتل حوالي ستين الف شابٍ درزي بحسب بعض المصادر التاريخية ، ومما لا شكّ فيه ان الدروز قد ابدوا مقاومة شرسة سيّما وانهم شكّلوا احد اضلع مثلثّ دولي امتّد من النمسا وحتى اسبانيا مروراً ببعض المدن الايطالية منها البندقية، في مواجهة تحالف عثماني- فرنسي بزعامة سليمان القانوني وفرنسوا الأول...
عوّل الدروز المنكوبين على مساعدة اليد العاملة المارونية لإعادة إنعاش الجبل الدرزي واستصلاح الأراضي بعد افتقار الدروز للعناصر الفتية التي استُنزفت في حروب مقاومة الغزاة العثمانيين، وقد استبعد الدروز المجموعات الشيعية عن تلك المهمّة لما عُرف عن هؤلاء من سوء سلوك وسمعة وهذا ما حدا بالدروز لخوض مواجهات عدّة مع الشعية افضت الى طرد الأخيرين من جبل لبنان، على مراحل متفرّقة، وتمركزهم عند اطرافه بشكل شبيه الى حدًّ بعيد بطوق كمّاشة.
شهد القرن السادس عشر في اوروبا تطوّراً لافتاً تمثّل بإعلان الحركة البروتستانتية، وكان لهذا الأمر انعكاسات بالغة الخطورة على الجسم الكنسي بشكل عام وعلى الكنيسة الكاثوليكية في روما وحاميتها فرنسا على وجه التحديد ، فبدأت حركات الانشقاق في اوروبا تمتد كالنار في الهشيم، وشكّل ذلك إيذاناً لحقبةٍ جديدة عُرفت فيما بعد بـ "عصر النهضة".
سعت الكنيسة اللاتينية الى التمدد شرقاً بعد النكبات التي مُنيت بها غرباً ، فأرسلت الموفدين الى الموارنة تمهيداً لاستمالتهم الى صفوفها ومنعهم من الارتماء في احضان الحركة البروتستنتية الناشئة، وهنا لا بدّ من التذكير ان الكنيسة المارونية لم تعلن انضمامها الرسمي والنهائي لروما الاّ في اواسط القرن الثامن عشر، وهي كانت لقرون خلت كنيسة مستقلّة غير مستقّرة تنخرها "البدع " اليعقوبية تارةً وتستقيم فيها العقيدة الارثوذكسية الكاثوليكية طوراً اخر ...
وطّدت الكنسية اللاتينية وفرنسا اواصر الصداقة مع الموارنة ، فافتُتح في روما في اواسط القرن السادس عشر اكليريكية لاستقبال النشء الماروني عُرفت بـ "مدرسة روما المارونية" خرّجت اعلاماً للفكر والثقافة ، ونسجت علاقات سياسية واقتصادية ودينية متينة بالغرب اللاتيني ...كما لعب خريّجو مدرسة روما المارونية دوراً محورياً في تنشئة المجتمع الماروني وتثقيفه وتعريفه بالعقيدة الكاثوليكية "القويمة" .
شجّع هذا الدعم المادي والمعنوي الغير محدود، الموارنة على توسيع نشاطاتهم والتمدد في ارجاء لبنان كافةً، حيث شكّلوا قوّة سكّانية وانتاجية لا يستهان بها كما انشؤوا بمساعدة روما والمُرسلين الكاثوليك وبتشجيع بطريركيتهم صروحاً علمية ودينية ، ثم انكبّوا لكتابة تاريخ لبنان وإحياء حضاراته الخالدة وانتشالها من غياهب النسيان...
لم ينتصف القرن الثامن عشر حتى كان المجمع اللبناني الماروني المُنعقد في اللويزة يُشجّع الموارنة على الزواج المبكر ، عن عمر ستة عشر عاماً للشبان واربعة عشر للفتيات ... وبذلك جمع الموارنة في ايديهم قوى اربع: الديموغرافيا، القوة المالية والاقتصادية، الدعم الخارجي اللامحدود، العلم...
ومع مطلع القرن العشرين ، كان الموارنة قد انشؤوا دولة لبنان الكبير متحكّمين بالمقدّرات السياسية والعسكرية لهذه الدولة، لما كان لهم من تأثير على المستويات التي تطرقنا اليها آنفاً وعلى امتداد سنين مديدة...