فـاروق
04-10-2006, 11:42 AM
خالد الحروب
كأنما يُحظر على الألم الفلسطيني أن يتواجد على مسارح نيويورك, إذ ينقض أحد مسارحها عقداً بعرض مسرحية "اسمي راشيل كوري". تعود المسرحية إلى بريطانيا حيث أعدت وولدت ومثلت. إن مات الضمير في الفن فتلك نهاية النهايات. قد ينتهي في السياسة, وقد ينتهي في المال, وقد ينتهي كل مكان, وربما قد انتهى جله فيها جميعاً. لكن أن يموت ضمير الفنان, والشاعر, والروائي, فهو الكارثة الإنسانية الحقيقية... ولحسن الحظ لم تقع بالكامل حتى الآن!
عدل الصوت الذاوي لأنين الضعيف أعلى وأحد مضاءً من قعقعة سلاح القوي. لهذا يتوتر القوي في كل حال ومكان ينبس فيه الضعيف ببنت ألم.
آلان ريكمان المخرج والممثل البريطاني المسيس مخرج المسرحية، يقول: أردنا أن نعرف ما الذي دفع فتاة في عمرها لتتحدى نمط الحياة الاستهلاكية المحيط بها وبمثيلاتها في حياتها الهانئة في أميركا. ما الذي قادها لأن تتسيس وتبحث عن مناصرة العدل. غاص ريكمان في 184 صفحة من يوميات ورسائل راشيل كوري لذاتها ولوالديها ولأصدقائها, ورسم باقتدار سجله له كثيرون هنا خلاصة الشخصية التي تعرف عليها من خلال ممثلة مبدعة, ميغان دودس.
هذه مسرحية مسيسة والتحدي الذي خاضه ريكمان تجسد في نقل ما كانت تهجس وتفكر به راشيل كوري كما هو للمشاهد, عن طريق إطلاق نصها, وتركه يتحدث, من دون إدخال شخصيات أخرى على المسرحية تمثل شهود عيان رافقوا راشيل في حياتها أو قبيل استشهادها. انتزع المخرج والممثلة المبدعة والمسرح الذي أنتج العمل تحية العدل الإنساني والتضامن ضد الظلم كيفما وحيثما توحش.
كل نشاطها ضد الحرب وضد سياسة حكومتها لم يشبعها في مدينتها, حيث ولدت وعاشت, وبدأ تيقظها. التقتطت رسالة من صديق لها جاء إلى غزة وكتب لها يجب أن تأتي لتريْ ما رأيت: لن تصدقي. قررت للتو وطارت راشيل كوري إلى رفح لتعانق أطفالها بعد أن تعرفت على "حظر التجول" و"نقاط التفتيش" و"الدبابات". هناك طالت قامتها: قديسة تمارس تمردها وغضبها الإنساني الفوار في وجه دبابات التوحش وبلدوزرات الموت. ترزع جسدها اليافع في أرض رفح ما بين البيت المهدد بالتدمير والبلدوزر الذي يجرف الحياة ويرص الموت على أنقاض البيوت. اللحم الطري يحاول إيقاف البلدوزر المتقدم, وصوت راشيل في مكبر الصوت يصرخ توقف توقف توقف. عيون المجرم القابض على مقود البلدوزر تخترق عيون راشيل, هذا الملاك القادم من عمق جوهرنا ليعلن أنه لا تكافؤ بين لحم الأطفال وفولاذ الدبابات.
كان يغيظها دوماً وأبداً أن يوصف صراع الفلسطينيين مع أعدائهم وكأنه صراع أنداد. هتفت ضد الظلم الذي يتعرض له أطفال فلسطينيون بلا ذنب. في قلب لندن الباردة وطوال أسبوعين, عادت روح راشيل كوري إلى الحياة. في كل ليلة كانت روحها تهدهدنا على مدار ساعة ونصف ينبعث فيها ألق للحياة انفلت من قدر الموت المحتوم على ناصية بلدوزر بشع. ها نحن نتسلل إلى يومياتها فننبش في ضحكاتها وخططها وبدايات مشوارها في بيتها ومدرستها ورغبتها في أن تصبح كاتبة, وهوسها بتسجيل يومياتها وتفاصيل مشاعرها, ثم عادتها في أن تكتب قائمة بما تريد أن تعمل في اليوم والأسبوع والسنة والحياة. تسكن مع عائلة فلسطينية في رفح مقيمة في بيت مهدد بالتدمير.
غرفتان من البيت لا تستخدمان بسبب ما لحقهما من قصف. العائلة الكبيرة تنام في غرفة الوالدين. راشيل تنام على الأرض مع إحدى بنات العائلة الصغيرات. تكتب لأمها: أشعر بالضيق وبكوني عبئا على هؤلاء الناس. يدهشونني بصمودهم وأخجل من لطف تعاملهم معي واهتمامهم بي رغم أنهم محاصرون بالموت في كل لحظة. إن بقوا في بيوتهم قد تحصدهم البلدوزرات, وإن خرجوا منها تنتظرهم الدبابات. هذا قدر رفح الواقفة على الحدود, يسجنها السجان وراء جدار ارتفاعه اثني عشر مترا. كل ما آمله هو أن أستغل "بشرتي البيضاء" وكوني أجنبية فأحرج الدبابة والبلدوزر الإسرائيلي فلا يقوموا بقتل الناس وهدم بيوتهم. لكن أملها داسه البلدوزر.
* نقلا عن جريدة "الاتحاد" الاماراتية
كأنما يُحظر على الألم الفلسطيني أن يتواجد على مسارح نيويورك, إذ ينقض أحد مسارحها عقداً بعرض مسرحية "اسمي راشيل كوري". تعود المسرحية إلى بريطانيا حيث أعدت وولدت ومثلت. إن مات الضمير في الفن فتلك نهاية النهايات. قد ينتهي في السياسة, وقد ينتهي في المال, وقد ينتهي كل مكان, وربما قد انتهى جله فيها جميعاً. لكن أن يموت ضمير الفنان, والشاعر, والروائي, فهو الكارثة الإنسانية الحقيقية... ولحسن الحظ لم تقع بالكامل حتى الآن!
عدل الصوت الذاوي لأنين الضعيف أعلى وأحد مضاءً من قعقعة سلاح القوي. لهذا يتوتر القوي في كل حال ومكان ينبس فيه الضعيف ببنت ألم.
آلان ريكمان المخرج والممثل البريطاني المسيس مخرج المسرحية، يقول: أردنا أن نعرف ما الذي دفع فتاة في عمرها لتتحدى نمط الحياة الاستهلاكية المحيط بها وبمثيلاتها في حياتها الهانئة في أميركا. ما الذي قادها لأن تتسيس وتبحث عن مناصرة العدل. غاص ريكمان في 184 صفحة من يوميات ورسائل راشيل كوري لذاتها ولوالديها ولأصدقائها, ورسم باقتدار سجله له كثيرون هنا خلاصة الشخصية التي تعرف عليها من خلال ممثلة مبدعة, ميغان دودس.
هذه مسرحية مسيسة والتحدي الذي خاضه ريكمان تجسد في نقل ما كانت تهجس وتفكر به راشيل كوري كما هو للمشاهد, عن طريق إطلاق نصها, وتركه يتحدث, من دون إدخال شخصيات أخرى على المسرحية تمثل شهود عيان رافقوا راشيل في حياتها أو قبيل استشهادها. انتزع المخرج والممثلة المبدعة والمسرح الذي أنتج العمل تحية العدل الإنساني والتضامن ضد الظلم كيفما وحيثما توحش.
كل نشاطها ضد الحرب وضد سياسة حكومتها لم يشبعها في مدينتها, حيث ولدت وعاشت, وبدأ تيقظها. التقتطت رسالة من صديق لها جاء إلى غزة وكتب لها يجب أن تأتي لتريْ ما رأيت: لن تصدقي. قررت للتو وطارت راشيل كوري إلى رفح لتعانق أطفالها بعد أن تعرفت على "حظر التجول" و"نقاط التفتيش" و"الدبابات". هناك طالت قامتها: قديسة تمارس تمردها وغضبها الإنساني الفوار في وجه دبابات التوحش وبلدوزرات الموت. ترزع جسدها اليافع في أرض رفح ما بين البيت المهدد بالتدمير والبلدوزر الذي يجرف الحياة ويرص الموت على أنقاض البيوت. اللحم الطري يحاول إيقاف البلدوزر المتقدم, وصوت راشيل في مكبر الصوت يصرخ توقف توقف توقف. عيون المجرم القابض على مقود البلدوزر تخترق عيون راشيل, هذا الملاك القادم من عمق جوهرنا ليعلن أنه لا تكافؤ بين لحم الأطفال وفولاذ الدبابات.
كان يغيظها دوماً وأبداً أن يوصف صراع الفلسطينيين مع أعدائهم وكأنه صراع أنداد. هتفت ضد الظلم الذي يتعرض له أطفال فلسطينيون بلا ذنب. في قلب لندن الباردة وطوال أسبوعين, عادت روح راشيل كوري إلى الحياة. في كل ليلة كانت روحها تهدهدنا على مدار ساعة ونصف ينبعث فيها ألق للحياة انفلت من قدر الموت المحتوم على ناصية بلدوزر بشع. ها نحن نتسلل إلى يومياتها فننبش في ضحكاتها وخططها وبدايات مشوارها في بيتها ومدرستها ورغبتها في أن تصبح كاتبة, وهوسها بتسجيل يومياتها وتفاصيل مشاعرها, ثم عادتها في أن تكتب قائمة بما تريد أن تعمل في اليوم والأسبوع والسنة والحياة. تسكن مع عائلة فلسطينية في رفح مقيمة في بيت مهدد بالتدمير.
غرفتان من البيت لا تستخدمان بسبب ما لحقهما من قصف. العائلة الكبيرة تنام في غرفة الوالدين. راشيل تنام على الأرض مع إحدى بنات العائلة الصغيرات. تكتب لأمها: أشعر بالضيق وبكوني عبئا على هؤلاء الناس. يدهشونني بصمودهم وأخجل من لطف تعاملهم معي واهتمامهم بي رغم أنهم محاصرون بالموت في كل لحظة. إن بقوا في بيوتهم قد تحصدهم البلدوزرات, وإن خرجوا منها تنتظرهم الدبابات. هذا قدر رفح الواقفة على الحدود, يسجنها السجان وراء جدار ارتفاعه اثني عشر مترا. كل ما آمله هو أن أستغل "بشرتي البيضاء" وكوني أجنبية فأحرج الدبابة والبلدوزر الإسرائيلي فلا يقوموا بقتل الناس وهدم بيوتهم. لكن أملها داسه البلدوزر.
* نقلا عن جريدة "الاتحاد" الاماراتية