مقاوم
04-08-2006, 07:42 AM
لا تكن .. (كنتيا)!
حسين بن علي الزومي: مدير مؤسسة الفرقان الخيرية ـ اليمن
ذكرت لنا المرويات أن الإمام الصنعاني عبد الرزاق سأل يوماً معلمه معمر بن راشد الأزدي عن (الكنتي) فقال معمر: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ (كنتي) كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا *** وشر خصال المرء كنت وعاجن
عجن الرجل إذا قام معتمدا على الأرض من الكبر. وقال ابن الأعرابي(الكنتي) هو الذي يقول: كنت شابا وكنت شجاعا. و(الكاني) هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب.
نحن اليوم –مع بالغ تعجبي– في عصر (الاكتنات)، إذ ليس من الصعب أن تجد كناتيت الدعاة البائسين، والعاملين المحبطين هنا وهناك، فرادى ومثنى وثلاث، وربما مزيجاً من الدوائر الحلزونية التي شكلت أرخبيلاً متعثراً من المجموعات ..وجل هم أحدهم أن يفوح بالزفرات الحرى على ماض نهضوي (كان) وأزمنة دعوية (كانت)، لقد ماتت أحاسيس كثير من هؤلاء (الكنتيون) حتى لتمر عليهم فواجع الأمة اليوم فلا يحركون لها ساكناً، وهي أطم وأطغى من فواجع الأمس، التي طالما ارتفع فيها صراخهم وتحرقت لها أكبادهم، وصار بهم الحال، كما قال الأول :
إذا ما كنت ملتمساً لغوث *** فلا تصرخ (بكنتي) كبير!
فليس بمـدرك شيئاً بسعي *** ولا سمـع ولا نظـر بصير
وإذا طلبت من (الكنتي) المساهمة معك في ساحة (الدعوة) اليوم، نفض يده عنك مبرراً بما تجود به القريحة: (تركت لكم الميدان ..يكفيني ما قدمت.. قد كنت يوماً ما أنشط منك..وأفضل منك.. لا تتعب نفسك أنت تنفخ في قربة مفقوعة...إلخ)
إن ممارسات هؤلاء (الكنتيون) وتقوقعهم، ونظرة المجتمع لهم على أنهم قدوات (كانوا)..تعدى تأثيرها الذوات السلبية وتسببت في نشوء كثير من السلوكيات الخاطئة لدى الآخرين ممن حمل في قلبه لهم كل حب وتبجيل.. فمنهم من واصل الإقتداء بهم في مسار(الاكتنات) في الواقع الدعوي واكتفى بذلك..ومنهم من نبذ طريق الاستقامة كارها لطريقتهم. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من (الحور بعد الكون) في دعاء سفره، وقد فسره الإمام الترمذي بـ(إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر)، وقد سئل عاصم عن (الحور بعد الكون)، قال: يقولون حار بعدما كان، قال ابن الأثير: يعني: أعوذ بك من النقص بعد الوجود والثبات، قال أبو عمر بن عبد البر (يعني رجع عما كان عليه من الخير)، ومعناه أيضاً مثل ذلك أي رجع عن الاستقامة، وذلك مأخوذ عندهم من كور العمامة، وأكثر الرواة إنما يروونه بالنون، وقد سئل يحيى بن معين عن حديث (أعوذ بك من الحور بعد الكون)، فقال بعضهم: إنما هو الحور بعد الكور. فقال يحيى: ليس يقول هذا أحد إنما هو الحور بعد الكون، لا يقول مسلم خلاف هذا، قال النووي تعليقاً على الحديث في شرحه لصحيح الإمام مسلم: (هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم (بعد الكون) بالنون، بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون، وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم).
إن (الكنتي) مازال يعيش على أفياء الماضي (الصحوي)، ومازال يردد في المجالس بطريقة تنبئ عن إسقاط للواقع الدعوي الحالي .. كنت شعلة من النشاط .. كان الشباب قمة في الأخوة والإخلاص ..كان أحدنا يؤثر أخاه بكل شيء حتى ... كنت أشعر أنني أعيش بين الصحابة! ..كنت... وكنت ...إلى آخر الكناتيت .
حقيقة .. لا أمانع أن يتذكر الإنسان ماضيه الجميل بشكل متوازن، إذا كان ذلك الماضي سيدفعه للعمل الإيجابي الطموح. وفرق كبير بين من يعيش (الماضي) وبين من يستلهم (الماضي) ليعيش (الحاضر)، وقد يكون الرجل (الكنتي) صادقاً في تعبيره ومشاعره، كما أن ما ذكره أيضاً صحيح .. لكن يبقى أنه أغفل كثيراً من الجوانب الإيجابية في واقعنا (الدعوي) اليوم.
لقد كانت الصحوة في الماضي تعيش عزلة (شعورية) أدت بها حتماً للعزلة (الاجتماعية) عن الآخرين، وهذا ما نتج عنه الانتعاش من (الداخل) .. وبالمقابل كانت النظرة لبقية المسلمين خارج الصف (الصحوي) نظرة سوداوية يشوبها كثير من الكراهية. أما حركة الإسلام اليوم، فقد أصبحت أكبر وأضخم من أن تحويها منظمة أو تيار واحد.. بل أستطيع القول جازماً إن أثرها تعدى الحدود (الاجتماعية) إلى التأثير (سياسياً) و(اقتصاديا) و(عالميا) ولا حاجة لضرب الأمثلة على ذلك فهي أشهر من أن تذكر.
إن هذا (الانفتاح) الإيجابي له ضريبته (السلبية). فأنت مثلاً حينما تستخدم جالوناً من (الطلاء الأبيض) لتضرب به متراً مربعاً وحداً أسود، ستنسى ربما في المستقبل أن هذا المتر الواحد كان في يوم ما (أسودا). لكنك إن استخدمت الجالون ذاته لطلاء كيلومتر مربع واحد، فسيبدو لك الفرق واضحاً، وسترى اللون باهتاً أقرب ما يكون إلى (الرمادي) منه إلى (الأبيض)! وبالتالي ستتذكر دوماً أنه ليس بالشكل المناسب.
فأصبح التيار الصحوي ما بين (كنتي) يتأمل في الطلاء الجديد، ويتذكر الطلاء الأبيض القديم، ورجل آخر عقد همته وعزمه على حمل الجوالين (البيضاء) والمشاركة في صناعة المجتمع النقي .
إن ظاهرة (الاكتنات) -أي الخضوع– ظاهرة تستحق منا الوقوف طويلاً لعلاجها واجتثاثها من نفوس العاجزين الثقات ، والمتهالكين على طريق الدعوة .
قيل لصبيّة من العرب: ما بلغ الكبر من أبيك؟ قالت: قد عجن وخبز وثنى وثلث وألصق وأورص وكان وكَنَت! فكأني بك أخي القارئ قد أصبحت (كنتياً) وأنت لا تشعر، فلربما صرت (كنتياً) في سلوكك أو في دعوتك أو مع أسرتك أو .. حتى مع نفسك .
فلا (تكتنت) أخي .. ولا ترض بما أنت فيه، ولتكن محلقاً بحركتك على امتداد الأزمنة المتغايرة، وكن كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما دخل مسجداً وعامة أهله (الكنتيون)، قال الراوي سائلاً: وما الكنتيون؟ فقال: الشيوخ الذين يقولون كان كذا وكذا وكنت ...فقال عبد الله : دارت رحى الإسلام على خمسة وثلاثين، ولأن تموت أهل داري أحب إليّ من عدتهم من الذِّبّان والجعلان!
المصدر: مجلة العصر
حسين بن علي الزومي: مدير مؤسسة الفرقان الخيرية ـ اليمن
ذكرت لنا المرويات أن الإمام الصنعاني عبد الرزاق سأل يوماً معلمه معمر بن راشد الأزدي عن (الكنتي) فقال معمر: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ (كنتي) كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا *** وشر خصال المرء كنت وعاجن
عجن الرجل إذا قام معتمدا على الأرض من الكبر. وقال ابن الأعرابي(الكنتي) هو الذي يقول: كنت شابا وكنت شجاعا. و(الكاني) هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب.
نحن اليوم –مع بالغ تعجبي– في عصر (الاكتنات)، إذ ليس من الصعب أن تجد كناتيت الدعاة البائسين، والعاملين المحبطين هنا وهناك، فرادى ومثنى وثلاث، وربما مزيجاً من الدوائر الحلزونية التي شكلت أرخبيلاً متعثراً من المجموعات ..وجل هم أحدهم أن يفوح بالزفرات الحرى على ماض نهضوي (كان) وأزمنة دعوية (كانت)، لقد ماتت أحاسيس كثير من هؤلاء (الكنتيون) حتى لتمر عليهم فواجع الأمة اليوم فلا يحركون لها ساكناً، وهي أطم وأطغى من فواجع الأمس، التي طالما ارتفع فيها صراخهم وتحرقت لها أكبادهم، وصار بهم الحال، كما قال الأول :
إذا ما كنت ملتمساً لغوث *** فلا تصرخ (بكنتي) كبير!
فليس بمـدرك شيئاً بسعي *** ولا سمـع ولا نظـر بصير
وإذا طلبت من (الكنتي) المساهمة معك في ساحة (الدعوة) اليوم، نفض يده عنك مبرراً بما تجود به القريحة: (تركت لكم الميدان ..يكفيني ما قدمت.. قد كنت يوماً ما أنشط منك..وأفضل منك.. لا تتعب نفسك أنت تنفخ في قربة مفقوعة...إلخ)
إن ممارسات هؤلاء (الكنتيون) وتقوقعهم، ونظرة المجتمع لهم على أنهم قدوات (كانوا)..تعدى تأثيرها الذوات السلبية وتسببت في نشوء كثير من السلوكيات الخاطئة لدى الآخرين ممن حمل في قلبه لهم كل حب وتبجيل.. فمنهم من واصل الإقتداء بهم في مسار(الاكتنات) في الواقع الدعوي واكتفى بذلك..ومنهم من نبذ طريق الاستقامة كارها لطريقتهم. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من (الحور بعد الكون) في دعاء سفره، وقد فسره الإمام الترمذي بـ(إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر)، وقد سئل عاصم عن (الحور بعد الكون)، قال: يقولون حار بعدما كان، قال ابن الأثير: يعني: أعوذ بك من النقص بعد الوجود والثبات، قال أبو عمر بن عبد البر (يعني رجع عما كان عليه من الخير)، ومعناه أيضاً مثل ذلك أي رجع عن الاستقامة، وذلك مأخوذ عندهم من كور العمامة، وأكثر الرواة إنما يروونه بالنون، وقد سئل يحيى بن معين عن حديث (أعوذ بك من الحور بعد الكون)، فقال بعضهم: إنما هو الحور بعد الكور. فقال يحيى: ليس يقول هذا أحد إنما هو الحور بعد الكون، لا يقول مسلم خلاف هذا، قال النووي تعليقاً على الحديث في شرحه لصحيح الإمام مسلم: (هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم (بعد الكون) بالنون، بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون، وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم).
إن (الكنتي) مازال يعيش على أفياء الماضي (الصحوي)، ومازال يردد في المجالس بطريقة تنبئ عن إسقاط للواقع الدعوي الحالي .. كنت شعلة من النشاط .. كان الشباب قمة في الأخوة والإخلاص ..كان أحدنا يؤثر أخاه بكل شيء حتى ... كنت أشعر أنني أعيش بين الصحابة! ..كنت... وكنت ...إلى آخر الكناتيت .
حقيقة .. لا أمانع أن يتذكر الإنسان ماضيه الجميل بشكل متوازن، إذا كان ذلك الماضي سيدفعه للعمل الإيجابي الطموح. وفرق كبير بين من يعيش (الماضي) وبين من يستلهم (الماضي) ليعيش (الحاضر)، وقد يكون الرجل (الكنتي) صادقاً في تعبيره ومشاعره، كما أن ما ذكره أيضاً صحيح .. لكن يبقى أنه أغفل كثيراً من الجوانب الإيجابية في واقعنا (الدعوي) اليوم.
لقد كانت الصحوة في الماضي تعيش عزلة (شعورية) أدت بها حتماً للعزلة (الاجتماعية) عن الآخرين، وهذا ما نتج عنه الانتعاش من (الداخل) .. وبالمقابل كانت النظرة لبقية المسلمين خارج الصف (الصحوي) نظرة سوداوية يشوبها كثير من الكراهية. أما حركة الإسلام اليوم، فقد أصبحت أكبر وأضخم من أن تحويها منظمة أو تيار واحد.. بل أستطيع القول جازماً إن أثرها تعدى الحدود (الاجتماعية) إلى التأثير (سياسياً) و(اقتصاديا) و(عالميا) ولا حاجة لضرب الأمثلة على ذلك فهي أشهر من أن تذكر.
إن هذا (الانفتاح) الإيجابي له ضريبته (السلبية). فأنت مثلاً حينما تستخدم جالوناً من (الطلاء الأبيض) لتضرب به متراً مربعاً وحداً أسود، ستنسى ربما في المستقبل أن هذا المتر الواحد كان في يوم ما (أسودا). لكنك إن استخدمت الجالون ذاته لطلاء كيلومتر مربع واحد، فسيبدو لك الفرق واضحاً، وسترى اللون باهتاً أقرب ما يكون إلى (الرمادي) منه إلى (الأبيض)! وبالتالي ستتذكر دوماً أنه ليس بالشكل المناسب.
فأصبح التيار الصحوي ما بين (كنتي) يتأمل في الطلاء الجديد، ويتذكر الطلاء الأبيض القديم، ورجل آخر عقد همته وعزمه على حمل الجوالين (البيضاء) والمشاركة في صناعة المجتمع النقي .
إن ظاهرة (الاكتنات) -أي الخضوع– ظاهرة تستحق منا الوقوف طويلاً لعلاجها واجتثاثها من نفوس العاجزين الثقات ، والمتهالكين على طريق الدعوة .
قيل لصبيّة من العرب: ما بلغ الكبر من أبيك؟ قالت: قد عجن وخبز وثنى وثلث وألصق وأورص وكان وكَنَت! فكأني بك أخي القارئ قد أصبحت (كنتياً) وأنت لا تشعر، فلربما صرت (كنتياً) في سلوكك أو في دعوتك أو مع أسرتك أو .. حتى مع نفسك .
فلا (تكتنت) أخي .. ولا ترض بما أنت فيه، ولتكن محلقاً بحركتك على امتداد الأزمنة المتغايرة، وكن كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما دخل مسجداً وعامة أهله (الكنتيون)، قال الراوي سائلاً: وما الكنتيون؟ فقال: الشيوخ الذين يقولون كان كذا وكذا وكنت ...فقال عبد الله : دارت رحى الإسلام على خمسة وثلاثين، ولأن تموت أهل داري أحب إليّ من عدتهم من الذِّبّان والجعلان!
المصدر: مجلة العصر