no saowt
12-18-2002, 11:28 AM
بقلم: إيمان الحفناوي
عندما تقرأون هذه السطور اكون هناك... عصفور أخضر يرفرف بجناحيه في جنة عرضها السماوات والارض.... أراكم الآن تقرأون, وسوف أري دموعكم, وقد أسمع غليان الدماء في عروقكم... لكن هل ستنبت دموعكم جسدي مرة أخري في أرضكم؟ وهل سيدفئني غليان دمائكم... انظر إليكم وتأكلني الحسرة عليكم, علي سجونكم التي اخترتموها لأنفسكم, أما أنا فهناك حيث تحررت من ذلي وصمتكم, ارفرف في فضاء رحب وابكي حالكم... واتذكر عندما كنت صغيرة.
كان بيتنا صغيرا وجميلا كنت مشغولة بجمع حكايا أمي التي تتناثر حروفها... آه يا أمي... لماذا كنت تبعثرين تلك الحكايا؟ لماذا وعدتني أن نعود؟ وأن أعقد قراني في الاقصي وابتاع الزهور من بيت لحم وأبني عشي في نابلس؟... كنا اسرة هادئة شكلا لكنها متفجرة في حقيقة الأمر... كانت امي تحاول أن ترضعنا حب الوطن, لم تكن تعلم حجم المارد الجبار الذي أطلقته في حنايانا يكبر معنا, أو لعلها كانت تقصد ذلك,.... أحببت أبي الذي لم أره من قبل.
كثيرا ما كنت أغافل أمي وأصعد علي مقعد صغير, ألامس ملامحه المعلقة في صوره فوق جدار... دائما كان يلح السؤال... متي نعود يا أماه؟... عندما تكبرون قليلا... هكذا كان دائما ردها,, أريد أن أري أرضي, ألثم التراب الذي احتضن جسد الغالي وهو يدافع عنه... خالتي وأولادها كانوا يزوروننا كل عام, ويعودون ليتركوا نار الشوق للوطن تتأجج بداخلنا... إلحاحنا المتواصل وزيارات بيت خالتي المتكررة, كل ذلك أثر علي أمي فأطلقت سراح لهفتنا... سوف نذهب في اجازة قصيرة.. ليكن... المهم أن نذهب... آه ايتها البلدة القديمة... لم اكن أتصور أنك بهذا الجمال... عيني تقبل الجدران, قلبي يلثم ابواب الكنائس وأهلة المآذن, روحي ترفرف باحثة عن أبي... فتحت أمي شقتها القديمة, أزالت الاتربة لتدخل في حوار شجي مع ذكرياتها... وبدأنا نحضر لاحتفالات العام الجديد.. سنعود لموطن هجرتنا بعد اسبوع... ما الذي يحدث؟... أصوات تدوي... في ساعات قليلة تحول الهدوء الي صخب ورفض... كنت في السادسة من عمري, لم أكن أعي تماما معني كلمة انتفاضة التي كانوا يرددونها, أشقائي الاربعة أين ذهبوا؟ لا أحد منهم معي.... وأمي ذعر يملأ قلبها وحقد علي الظلم يحتضن ملامحها... أين ذهب الصغار؟... ويأتي ابن خالتي مع ثلاثة من اشقائي... وفهد؟ اين اخي الرابع فهد؟ لا... لم تبك امي, لكن نيران انتقام انطلقت من عينيها, راح فهد, راح حتي قبل أن أعطيه قطعة الحلوي التي وعدته أن ابقيها له... ركضت لغرفتي, أخرجت قطعة الحلوي احتضنتها وأخذت أبكي, مات فهد لكنني يوما سألاقيه وأعطيها له... قتلوه, قتلوه لأنه دافع عن نفسه بحجر.... وقررنا ألا نترك بلدتنا, اخوتي أصروا علي البقاء, لن يذهبوا مكانا آخر حتي يأخذوا بثأر أخيهم... من يومها وأنا حزينة, كان فهد صديق عمري, كان رائعا ويحب الحلوي كثيرا... من يومها وأنا أضع قطعة الحلوي في علبة وكأنها ماسة نادرة اطمئن عليها عندما سقط شقيقي الثاني...
وكبرت اكثر وقاربت ضفيرتي منتصف ظهري ولن استطيع عقد قراني في الاقصي ولا أبتاع الزهور من بيت لحم... لماذا وعدتني يا أمي؟ سيحدث يوما أن تصبح الارض لنا, هكذا تقول الفضائيات,!! سيعم السلام... واتساءل كل يوم, كيف سيحدث هذا والعدل هنا لاجيء يبحث عن بيت ومدفأة؟ كيف يحدث, والعدل هنا سيد سييء السمعة مطارد دائما.. كيف سيحدث هذا والعصافير هنا ماتت من البرد والخوف, كيف وزهورنا باتت فوهات مدافع, وقطرات الندي أصبحت طلقات رصاص...
وانضم اخواي للمقاومة... في الثامنة عشرة من عمري... اي فتاة في عمري كانت ستعيش حياتها ترفل في حلل الأمل... أما أنا فلا, لقد صهرتني الاحداث من حولي, حملتني ملامحها فصرت ممهورة بحزن يظهر في عيني. في ذلك البلد الشقيق بدأت أخطو أولي خطواتي في تعليمي الجامعي, أصرت أمي أن اكمل تعليمي هناك لأ ركز في دراستي وابتعد عن التوترات قليلا.. احببت زميلاتي جدا, لكنني كنت أشعر انني لست مثلهن, كل واحدة منهن تملك حلما, تملك بيتا لا تخاف أن يهدم فوق رأسها أو يأخذوه منها, تملك بلدا يمكنها أن تحكم فيه فالحلم عندهن لا يخضع للتفتيش الجمركي ولا يركض اشعث مطاردا....
كل منهن تبتاع ثوبها وهي تعلم انه سيبلي بعد مده فتبتاع غيره, لا تتصور أبدا أن ثوبها هذا يمكن أن يصبح كفنا لها!!!
كنت أحب الاستماع لحديث زميلاتي فهي تداعب احلام فتاة مثلي في عمر الزهور.. ولأن قدري دائما يفاجئني, وجدته, نعم وجدته, كيف؟ في إحد مقاهي الانترنت, كنت وقتها احادث أخي... اي شيء حدث بيننا؟ لا أدري لكن بعد ايام قليلة من لقاءاتنا هناك شعرت أن هذا الانسان هو التلخيص المفيد لأحلامي... كل مافيه جميل, حتي انتقاده لشجني, أخيرا وجد العصفور الصغير ملجأه... مرت شهور الدراسة كأنها حلم قد ملأ حياتي لماذا أذكره الآن؟ ان قلبي يخفق بشده لمجرد أنني استحضرت صورته بذهني... لا.. سأبعده قليلا... لا أريد أن أضعف... احداث الوطن كانت مؤسفة, الانتفاضة مشتعلة وشباب يذهبون بلا وداع... امهات تنخلع قلوبهن واطفال يتجرعون اليتم... واعود بعد اجادتي لعام دراسي جديد, يتعمق حبه في قلبي,. ويأتي أخي الاكبر وتتم خطبتي.. لكنني حزينة, فلن يعقد القران في الأقصي, لكنني قد أبتاع الزهور من بيت لحم... أما نابلس فلن أقيم فيها, بنود الحلم اهتزت, لماذا لا تقصين شعرك سألني... لا.. لا.. لن يحدث هذا ابدا, فمنذ زمن انتظر ضفيرتي, وعدتني أمي أن تعود بلادنا عندما تصل الضفيرة نصف ظهري, يبتسم, لا يقتنع لكنه يحترم حلمي... في اجازة نصف العام اعود لمدينتي الجميلة الحزينة, أصحو علي أجراس المهد وأفتح عيني علي الأذان ينطلق من مسجد عمر... اعانق الجدران الحجرية البيضاء, غضونها تحمل في طياتها كل عبق السنين. وتشتد الاشتباكات, تتحجر الدموع في المآقي, ويسقط أخي الثالث جريحا... أخي الاكبر انقطعت أخباره... لن أعود لاستئناف دراستي.. لأبقي مع اسرة تواجه مصيرا عجيبا... بجوار أخي, اخفف عنه وأواظب علي علاجه...
محادثاتي اليومية مع من ملك عمري مستمرة, يستحثني علي العودة, قلبي يتآمر معه ضدي ثم يعود ويتشبث بالبقاء... لن اعود قبل ان اري شقيقي يملأ البيت علينا كما كان... وكعادتي اطمئن كل ليلة علي قطعة الحلوي في علبتها. قطعة الحلوي التي يوما سأعطيها لفهد...
ويبدأ شقيقي في استرداد عافيته... أما الاكبر فلا نعلم عنه شيئا, اشعر به يلوح لي من فوق سحب جهزت نفسها وسادة حانية له... آن الأوان أن اعود لاستأنف دراستي وأجهز بيتي... بعد شهور سيكون زفافي فلابد من السفر, واخي تحسنت حالته وامي استردت حيويتها بشفاء أخي.... وبينما كنت أعد نفسي انقلبت السماء وجثمت فوق جثة ارض ذبيحة, قطفوا رأس القمر بضربة واحدة, سقط القمر فوق حقول الزيتون فروعها اشواك تمزق الجثة الفضية... في ساعات قليلة تغير كل شيء.... رئيسنا محاصر... قتل وتشريد, حصار لم نر مثله... ظلم... ظلم... ظلم... أي جنون تمطي علي ارضنا؟ دبابات تكسر شموخ البيوت وتسحقنا وكأننا حشرات... دماء تسيل ولا تجد ما يوقف شلالها... البيوت أصبحت مقابر لاصحابها, جرافات تبتلع الجدران والبشر, ويصاب اخي مرة اخري.... لا... لا يمكنني نقله للمستشفي, الاصابة خطيرة, كيف اتركه ينزف؟ اسعافات البيت لا تكفي, أتصل بالطبيب, تعليمات عبر الهاتف, يمنعوننا من الوصول للمستشفيات... ياربي, أي كابوس هذا؟... وتجازف أمي, تجبرها تأوهات الحبيب الراقد علي عمل اي شيء, تخرج بدون علمنا, تريد انقاذ فلذتها
باحضار ما طلبه الطبيب عبر الهاتف... تعود لاهثة, وخلفها يركض جندي, تدق الباب بعنف, افتحه, لكن النذل يدخل خلفها, يحاول ابتلاع كرامتها وشرفها, اخي يصرخ, يعوي بكرامة رجل جريح تطارد امه أمامه, لا يملك أن يتحرك لنجدتها وانقاذ شرفه وشرفها... لست ادري كيف استطعت أن اخطف منفضة السجائر الزجاجية وأهوي بها علي رأس الجبان, وكيف أصابته هذه الضربة, وكيف ظللت انهال عليه بجنون... لست أدري كيف أرديته قتيلا لأجد أمي في حالة يرثي لها مقطعة الثياب مهلهلة الكرامة... وأخي... لم اشهده يبكي بهذه القوة ويبدو أن الانفعال ساهم في سوء الحالة بشكل كبير... ماذا أفعل؟... أخي ينزف بشده... أمي منهارة, وقتيل تتفجر دماؤه يحتاج إلي أن أخفيه... جررت الحقير, وضعته في الشرفة الصغيرة لحين النظر في اخراجه من البيت, فقد نتعرض للتفتيش في اية لحظة, وظللت احاول تطبيب جرح اخي والتخفيف عن حبيبة عمري... وجدت نفسي افعل اشياء عجيبة وافكر بمنطق جاد جدا... وجه هذا الجندي الجبان لابد من اخفاء معالمه حتي نتمكن من نقله علي انه من ابنائنا, اخفيت ملامحه... أنا؟ اصبح بهذه البشاعة؟... كنت مضطرة, ألبسته ملابس غير ملابسه حتي لا يتم التعرف عليه... انا أفعل هذا؟ فعلته... كل ذلك والحصار مستمر والوضع يزداد سوءا, والذين يساندوننا صارت احاديثهم كقصاصات مجلات قديمة, يحترفون الحرب علي الفضائيات ويجاهدون علي متون الطائرات وفي فنادق النجوم الخمس... غيرتني هذه الحادثة.... نعم غيرتني, جعلتني اشعر ان قلبي صار قطعة صلبة, قنبلة موقوتة, نبضاته دقات تلك القنبلة التي تنتظر لحظة الانفجار... وبدأ أخي يهذي, يموت ببطء ولا املك اسعافه وعلمت انه كان من المفروض أن يذهب بعد ثلاثة ايام للقاء ربه شهيدا بعد أن يلف نفسه بشحنة ناسفة ليلقي بنفسه بين احضان العدو... لن يذهب بعد ثلاثة ايام, تعجلت يا أخي الرحيل... ساءت حالته الصحية, حتي الغذاء نفد ولم يعد هناك ماء ابلل له به شفتيه, قطعوا الماء عنا... امي في حالة ذهول وأخي يهذي, سيحين الموعد ولا يذهب, ويأتي رفاقه رغم الحصار, رغم كل شيء....
جاءوا يحملون بعض الطعام وماء, لمن سأعطي هذه الاشياء؟ لقد ذهب... رحل... مات الحبيب علي يدي, دماؤه علي صدري اختلطت بشلال دموعي... لكن... لا... لا دموع بعد اليوم... لتصبح دموعي قذائف حارقة... مات الحبيب لكنني موجودة.. ولم لا؟... استطعت اقناعهم... تجرعت تعليماتهم بدقة, أتهيأ في حجرتي لعرسي, زغاريد اسمعها في السماء, كان من المفروض أن اصبح عروسا هذا الصيف, لاعجل بحفل زفافي...
أمام المرآة أنظر لوجهي, أودعه, وأري وجه حبيبي, كم كنت اتمني أن يظللنا بيت واحد, كنت اتمني أن أصبح أما, كنت... لا... لن استرسل في اشياء تمنيتها ذات يوم... لن أجعل شيئا يعطلني عن عرسي للسماء... ها أنا عروس الآن, ولكن بدلا من ثوب ابيض سأرتدي عبواتي الناسفة, وبدلا من طرحة ملائكية ستحوطني هالة الشهادة... لن يعقد قراني في الاقصي... ليكن فكلها ارض الله صوت يأتيني من الخارج اسرعي... أهم بفتح الباب, لكنني اعود لدرجي, لقد تذكرت قطعة الحلوي... سآخذها معي, سأعطيها لفهد, أخيرا سأقابله... في طريقي بين الأزقة مع الرفاق, أقبل الجدران, واترك بصمات قدمي فوق تجاعيد الشوارع, قلبي مفخخ بحبك ياوطني... ايامي, حياتي, خريطة عمري كلها تسبح بعينيك يا فلسطين الحبيبة, أرجوك... لا تغمضي عينيك حتي لا تضيع مني الخريطة.
عندما تقرأون هذه السطور اكون هناك... عصفور أخضر يرفرف بجناحيه في جنة عرضها السماوات والارض.... أراكم الآن تقرأون, وسوف أري دموعكم, وقد أسمع غليان الدماء في عروقكم... لكن هل ستنبت دموعكم جسدي مرة أخري في أرضكم؟ وهل سيدفئني غليان دمائكم... انظر إليكم وتأكلني الحسرة عليكم, علي سجونكم التي اخترتموها لأنفسكم, أما أنا فهناك حيث تحررت من ذلي وصمتكم, ارفرف في فضاء رحب وابكي حالكم... واتذكر عندما كنت صغيرة.
كان بيتنا صغيرا وجميلا كنت مشغولة بجمع حكايا أمي التي تتناثر حروفها... آه يا أمي... لماذا كنت تبعثرين تلك الحكايا؟ لماذا وعدتني أن نعود؟ وأن أعقد قراني في الاقصي وابتاع الزهور من بيت لحم وأبني عشي في نابلس؟... كنا اسرة هادئة شكلا لكنها متفجرة في حقيقة الأمر... كانت امي تحاول أن ترضعنا حب الوطن, لم تكن تعلم حجم المارد الجبار الذي أطلقته في حنايانا يكبر معنا, أو لعلها كانت تقصد ذلك,.... أحببت أبي الذي لم أره من قبل.
كثيرا ما كنت أغافل أمي وأصعد علي مقعد صغير, ألامس ملامحه المعلقة في صوره فوق جدار... دائما كان يلح السؤال... متي نعود يا أماه؟... عندما تكبرون قليلا... هكذا كان دائما ردها,, أريد أن أري أرضي, ألثم التراب الذي احتضن جسد الغالي وهو يدافع عنه... خالتي وأولادها كانوا يزوروننا كل عام, ويعودون ليتركوا نار الشوق للوطن تتأجج بداخلنا... إلحاحنا المتواصل وزيارات بيت خالتي المتكررة, كل ذلك أثر علي أمي فأطلقت سراح لهفتنا... سوف نذهب في اجازة قصيرة.. ليكن... المهم أن نذهب... آه ايتها البلدة القديمة... لم اكن أتصور أنك بهذا الجمال... عيني تقبل الجدران, قلبي يلثم ابواب الكنائس وأهلة المآذن, روحي ترفرف باحثة عن أبي... فتحت أمي شقتها القديمة, أزالت الاتربة لتدخل في حوار شجي مع ذكرياتها... وبدأنا نحضر لاحتفالات العام الجديد.. سنعود لموطن هجرتنا بعد اسبوع... ما الذي يحدث؟... أصوات تدوي... في ساعات قليلة تحول الهدوء الي صخب ورفض... كنت في السادسة من عمري, لم أكن أعي تماما معني كلمة انتفاضة التي كانوا يرددونها, أشقائي الاربعة أين ذهبوا؟ لا أحد منهم معي.... وأمي ذعر يملأ قلبها وحقد علي الظلم يحتضن ملامحها... أين ذهب الصغار؟... ويأتي ابن خالتي مع ثلاثة من اشقائي... وفهد؟ اين اخي الرابع فهد؟ لا... لم تبك امي, لكن نيران انتقام انطلقت من عينيها, راح فهد, راح حتي قبل أن أعطيه قطعة الحلوي التي وعدته أن ابقيها له... ركضت لغرفتي, أخرجت قطعة الحلوي احتضنتها وأخذت أبكي, مات فهد لكنني يوما سألاقيه وأعطيها له... قتلوه, قتلوه لأنه دافع عن نفسه بحجر.... وقررنا ألا نترك بلدتنا, اخوتي أصروا علي البقاء, لن يذهبوا مكانا آخر حتي يأخذوا بثأر أخيهم... من يومها وأنا حزينة, كان فهد صديق عمري, كان رائعا ويحب الحلوي كثيرا... من يومها وأنا أضع قطعة الحلوي في علبة وكأنها ماسة نادرة اطمئن عليها عندما سقط شقيقي الثاني...
وكبرت اكثر وقاربت ضفيرتي منتصف ظهري ولن استطيع عقد قراني في الاقصي ولا أبتاع الزهور من بيت لحم... لماذا وعدتني يا أمي؟ سيحدث يوما أن تصبح الارض لنا, هكذا تقول الفضائيات,!! سيعم السلام... واتساءل كل يوم, كيف سيحدث هذا والعدل هنا لاجيء يبحث عن بيت ومدفأة؟ كيف يحدث, والعدل هنا سيد سييء السمعة مطارد دائما.. كيف سيحدث هذا والعصافير هنا ماتت من البرد والخوف, كيف وزهورنا باتت فوهات مدافع, وقطرات الندي أصبحت طلقات رصاص...
وانضم اخواي للمقاومة... في الثامنة عشرة من عمري... اي فتاة في عمري كانت ستعيش حياتها ترفل في حلل الأمل... أما أنا فلا, لقد صهرتني الاحداث من حولي, حملتني ملامحها فصرت ممهورة بحزن يظهر في عيني. في ذلك البلد الشقيق بدأت أخطو أولي خطواتي في تعليمي الجامعي, أصرت أمي أن اكمل تعليمي هناك لأ ركز في دراستي وابتعد عن التوترات قليلا.. احببت زميلاتي جدا, لكنني كنت أشعر انني لست مثلهن, كل واحدة منهن تملك حلما, تملك بيتا لا تخاف أن يهدم فوق رأسها أو يأخذوه منها, تملك بلدا يمكنها أن تحكم فيه فالحلم عندهن لا يخضع للتفتيش الجمركي ولا يركض اشعث مطاردا....
كل منهن تبتاع ثوبها وهي تعلم انه سيبلي بعد مده فتبتاع غيره, لا تتصور أبدا أن ثوبها هذا يمكن أن يصبح كفنا لها!!!
كنت أحب الاستماع لحديث زميلاتي فهي تداعب احلام فتاة مثلي في عمر الزهور.. ولأن قدري دائما يفاجئني, وجدته, نعم وجدته, كيف؟ في إحد مقاهي الانترنت, كنت وقتها احادث أخي... اي شيء حدث بيننا؟ لا أدري لكن بعد ايام قليلة من لقاءاتنا هناك شعرت أن هذا الانسان هو التلخيص المفيد لأحلامي... كل مافيه جميل, حتي انتقاده لشجني, أخيرا وجد العصفور الصغير ملجأه... مرت شهور الدراسة كأنها حلم قد ملأ حياتي لماذا أذكره الآن؟ ان قلبي يخفق بشده لمجرد أنني استحضرت صورته بذهني... لا.. سأبعده قليلا... لا أريد أن أضعف... احداث الوطن كانت مؤسفة, الانتفاضة مشتعلة وشباب يذهبون بلا وداع... امهات تنخلع قلوبهن واطفال يتجرعون اليتم... واعود بعد اجادتي لعام دراسي جديد, يتعمق حبه في قلبي,. ويأتي أخي الاكبر وتتم خطبتي.. لكنني حزينة, فلن يعقد القران في الأقصي, لكنني قد أبتاع الزهور من بيت لحم... أما نابلس فلن أقيم فيها, بنود الحلم اهتزت, لماذا لا تقصين شعرك سألني... لا.. لا.. لن يحدث هذا ابدا, فمنذ زمن انتظر ضفيرتي, وعدتني أمي أن تعود بلادنا عندما تصل الضفيرة نصف ظهري, يبتسم, لا يقتنع لكنه يحترم حلمي... في اجازة نصف العام اعود لمدينتي الجميلة الحزينة, أصحو علي أجراس المهد وأفتح عيني علي الأذان ينطلق من مسجد عمر... اعانق الجدران الحجرية البيضاء, غضونها تحمل في طياتها كل عبق السنين. وتشتد الاشتباكات, تتحجر الدموع في المآقي, ويسقط أخي الثالث جريحا... أخي الاكبر انقطعت أخباره... لن أعود لاستئناف دراستي.. لأبقي مع اسرة تواجه مصيرا عجيبا... بجوار أخي, اخفف عنه وأواظب علي علاجه...
محادثاتي اليومية مع من ملك عمري مستمرة, يستحثني علي العودة, قلبي يتآمر معه ضدي ثم يعود ويتشبث بالبقاء... لن اعود قبل ان اري شقيقي يملأ البيت علينا كما كان... وكعادتي اطمئن كل ليلة علي قطعة الحلوي في علبتها. قطعة الحلوي التي يوما سأعطيها لفهد...
ويبدأ شقيقي في استرداد عافيته... أما الاكبر فلا نعلم عنه شيئا, اشعر به يلوح لي من فوق سحب جهزت نفسها وسادة حانية له... آن الأوان أن اعود لاستأنف دراستي وأجهز بيتي... بعد شهور سيكون زفافي فلابد من السفر, واخي تحسنت حالته وامي استردت حيويتها بشفاء أخي.... وبينما كنت أعد نفسي انقلبت السماء وجثمت فوق جثة ارض ذبيحة, قطفوا رأس القمر بضربة واحدة, سقط القمر فوق حقول الزيتون فروعها اشواك تمزق الجثة الفضية... في ساعات قليلة تغير كل شيء.... رئيسنا محاصر... قتل وتشريد, حصار لم نر مثله... ظلم... ظلم... ظلم... أي جنون تمطي علي ارضنا؟ دبابات تكسر شموخ البيوت وتسحقنا وكأننا حشرات... دماء تسيل ولا تجد ما يوقف شلالها... البيوت أصبحت مقابر لاصحابها, جرافات تبتلع الجدران والبشر, ويصاب اخي مرة اخري.... لا... لا يمكنني نقله للمستشفي, الاصابة خطيرة, كيف اتركه ينزف؟ اسعافات البيت لا تكفي, أتصل بالطبيب, تعليمات عبر الهاتف, يمنعوننا من الوصول للمستشفيات... ياربي, أي كابوس هذا؟... وتجازف أمي, تجبرها تأوهات الحبيب الراقد علي عمل اي شيء, تخرج بدون علمنا, تريد انقاذ فلذتها
باحضار ما طلبه الطبيب عبر الهاتف... تعود لاهثة, وخلفها يركض جندي, تدق الباب بعنف, افتحه, لكن النذل يدخل خلفها, يحاول ابتلاع كرامتها وشرفها, اخي يصرخ, يعوي بكرامة رجل جريح تطارد امه أمامه, لا يملك أن يتحرك لنجدتها وانقاذ شرفه وشرفها... لست ادري كيف استطعت أن اخطف منفضة السجائر الزجاجية وأهوي بها علي رأس الجبان, وكيف أصابته هذه الضربة, وكيف ظللت انهال عليه بجنون... لست أدري كيف أرديته قتيلا لأجد أمي في حالة يرثي لها مقطعة الثياب مهلهلة الكرامة... وأخي... لم اشهده يبكي بهذه القوة ويبدو أن الانفعال ساهم في سوء الحالة بشكل كبير... ماذا أفعل؟... أخي ينزف بشده... أمي منهارة, وقتيل تتفجر دماؤه يحتاج إلي أن أخفيه... جررت الحقير, وضعته في الشرفة الصغيرة لحين النظر في اخراجه من البيت, فقد نتعرض للتفتيش في اية لحظة, وظللت احاول تطبيب جرح اخي والتخفيف عن حبيبة عمري... وجدت نفسي افعل اشياء عجيبة وافكر بمنطق جاد جدا... وجه هذا الجندي الجبان لابد من اخفاء معالمه حتي نتمكن من نقله علي انه من ابنائنا, اخفيت ملامحه... أنا؟ اصبح بهذه البشاعة؟... كنت مضطرة, ألبسته ملابس غير ملابسه حتي لا يتم التعرف عليه... انا أفعل هذا؟ فعلته... كل ذلك والحصار مستمر والوضع يزداد سوءا, والذين يساندوننا صارت احاديثهم كقصاصات مجلات قديمة, يحترفون الحرب علي الفضائيات ويجاهدون علي متون الطائرات وفي فنادق النجوم الخمس... غيرتني هذه الحادثة.... نعم غيرتني, جعلتني اشعر ان قلبي صار قطعة صلبة, قنبلة موقوتة, نبضاته دقات تلك القنبلة التي تنتظر لحظة الانفجار... وبدأ أخي يهذي, يموت ببطء ولا املك اسعافه وعلمت انه كان من المفروض أن يذهب بعد ثلاثة ايام للقاء ربه شهيدا بعد أن يلف نفسه بشحنة ناسفة ليلقي بنفسه بين احضان العدو... لن يذهب بعد ثلاثة ايام, تعجلت يا أخي الرحيل... ساءت حالته الصحية, حتي الغذاء نفد ولم يعد هناك ماء ابلل له به شفتيه, قطعوا الماء عنا... امي في حالة ذهول وأخي يهذي, سيحين الموعد ولا يذهب, ويأتي رفاقه رغم الحصار, رغم كل شيء....
جاءوا يحملون بعض الطعام وماء, لمن سأعطي هذه الاشياء؟ لقد ذهب... رحل... مات الحبيب علي يدي, دماؤه علي صدري اختلطت بشلال دموعي... لكن... لا... لا دموع بعد اليوم... لتصبح دموعي قذائف حارقة... مات الحبيب لكنني موجودة.. ولم لا؟... استطعت اقناعهم... تجرعت تعليماتهم بدقة, أتهيأ في حجرتي لعرسي, زغاريد اسمعها في السماء, كان من المفروض أن اصبح عروسا هذا الصيف, لاعجل بحفل زفافي...
أمام المرآة أنظر لوجهي, أودعه, وأري وجه حبيبي, كم كنت اتمني أن يظللنا بيت واحد, كنت اتمني أن أصبح أما, كنت... لا... لن استرسل في اشياء تمنيتها ذات يوم... لن أجعل شيئا يعطلني عن عرسي للسماء... ها أنا عروس الآن, ولكن بدلا من ثوب ابيض سأرتدي عبواتي الناسفة, وبدلا من طرحة ملائكية ستحوطني هالة الشهادة... لن يعقد قراني في الاقصي... ليكن فكلها ارض الله صوت يأتيني من الخارج اسرعي... أهم بفتح الباب, لكنني اعود لدرجي, لقد تذكرت قطعة الحلوي... سآخذها معي, سأعطيها لفهد, أخيرا سأقابله... في طريقي بين الأزقة مع الرفاق, أقبل الجدران, واترك بصمات قدمي فوق تجاعيد الشوارع, قلبي مفخخ بحبك ياوطني... ايامي, حياتي, خريطة عمري كلها تسبح بعينيك يا فلسطين الحبيبة, أرجوك... لا تغمضي عينيك حتي لا تضيع مني الخريطة.