fakher
01-18-2006, 08:47 AM
قرأت اليوم مقال لـ "جهاد بزي" في جريدة السفير اللبنانية تحت عنوان "إنها شجرة أرز مشؤومة تحلم بعودة الحرب الأهلية" ...
لن أتحدث عن المقال أكثر ولكن أردت إهداءه إلى كل المغفلين الذين سيقوا إلى أقلام الاقتراع كـ"الغنم" ليقترعوا لمن كان بالأمس "جزارهم"، إلى هؤلاء وإلى المخدوعين بكذبة "الوطنية" أهدي هذا المقال مع الشكر الجزيل لكاتبه "جهاد بزي"
-----------------------------------
إنها شجرة أرز مشؤومة تحلم بعودة الحرب الأهلية
جهاد بزي
<<حتى ما يموت الشهيد>> الذي كتبه وأنتجه وأخرجه شربل خليل (مخرج بسمات وطن على الأل بي سي) <<ليس فيلماً وليس عرضاً وليس سينما. هو رأي لواحد مسيحي من الوطن لا يصدق شيئاً من الكذبة في هذا الوطن>>.
على هذا يبدأ الفيلم المصور الذي أنتج سنة 2004 ولم يعرض على شاشة صغيرة وكبيرة، ويجد نجاحاً شعبياً لبنانياً هذه الأيام، ويتناقله الناس على اقراص مدمجة. أما مناسبة العمل فهي مرور 25 سنة على غرس أول أرزة من أرزات الشهيد في طبريي سنة 1979. (معلومة لا تعني أحداً من الجمهور المتنوع لهذا العمل).
يتناقل اللبنانيون الفيلم القصير بصفته عرضاً مثيراً للدهشة. أين الدهشة في عمل شربل خليل؟
القصة بسيطة: شاب يتجول في غابة أرز. يسمع صوتاً يأتيه من مكان ما يطلب منه أن يسقيه. يتلفت حوله مستغرباً ليعلم أن إحدى الأرزات تخاطبه. وطوال 12 دقيقة تقريباً سنستمع إلى حوار يدور بين ممثل مجهول اسمه جوزف غانم وأرزة يؤدي دور صوتها الممثل اللبناني جوزف تابت.
الأرزة عطشانة، تريد أن تشرب. جوزف، الممثل الذي لا يجيد شيئاً من التمثيل، يفاجأ للحظات بالشجرة التي تحكي قبل ان يعتاد على هذا الواقع ويسقي الشجرة معتذراً من سخونة المياه التي يحملها. الأرزة تتنهد وتقول: <<معليش. الدم يللي شربته كانت حرارته أعلى. الأرز حتى يضل أخضر بدو دم. إنت مش لبناني يا إبني>>؟
<<بلى>>، يجيب الشاب، <<واسمي جوزف>>.
مثل هذا النوع من الأرز الناطق مصاص الدماء، له مبرر عند خليل. فهذه ليست غابة أرز عادية. هي غابة شهداء صاروا شجرات أرز. وجوزف، الرجل الذي يتدلى صليب من عنقه ويعيش في لبنان سنة 2004، <<يظن أن كل هؤلاء قتلهم شارون. أليسوا (شهداء الغابة) هم المقاومة ضد العدو الصهيوني، أي حزب الله وأمل والقومي والشيوعي؟>>.
جوزف يستمع إلى الإعلام ومنه يستقي أخباراً عن أن كل الشهداء في لبنان ماتوا وهم يقاتلون <<العدو الإسرائيلي>>.
تحزن الأرزة وتسأل جوزف: والشهداء يللي قاوموا الفلسطيني والسوري والإيراني؟ عن أي إيراني تحكي الأرزة. لا ندري. وجوزف لا يسأل. الشاب المطلق الجهل يظن أن الشهيد يموت فقط في سبيل القضاء على <<الامبريالة والاستكبار>>.
يتذكر جوزف أن والده <<ميلاد>> مات في تل الزعتر بينما كان يحارب ضد إسرائيل. تسأله الشجرة: ما اسم أمك، فيجيب: <<جانيت>>. فتقول الأرزة بحسرة: سمتك جوزف يا ابني.
تتصاعد الدراما بينما الكاميرا تدور كالمجنونة حول الشجرة، ويعلو صوت الموسيقى لمزيد من التأثير وتسقط نظارات جوزف الشمسية ومطرته من يده وتتدحرجان بعيداً. فقد اكتشف جوزف أن الشجرة هي والده الذي مات سنة 1979 قبل ولادته بعشرة أيام فقط. أبو جوزف ليس فوق الشجرة في هذه الحالة. الأب هو الشجرة نفسها.
يروح جوزف يردد بذهول وهو يتلمس أغصان والده: بابا. بابا.
يدور حوار بين جوزف وأبيه الشجرة بالعامية (يُنقل في هذا النص بالفصحى). يقول الاب: <<لا تصدق شيئاً مما تسمعه. أنا ورفاقي كنا نحارب السوري والفلسطيني والإيراني والخائن والجبان والكلب (...) أين صار رفاقنا في السجون السورية>>؟ فيجيب جوزف البريء: أنا لم اسمع إلا عن القنطار بإسرائيل.
تتنهد الشجرة الأب: يخبرونك عن هذا الواحد ويعتمون على قنطار من أولئك المعتقلين.
لن يمر اسم القنطار في عمل خليل ثانية. سمير القنطار مجرد <<واحد>> محظوظ لأن هناك من يحكي عنه، بينما المعتقلون في السجون السورية لا أحد يأتي على ذكرهم. وجوزف، ابن الخامسة والعشرين، كان حتى العام 2004 محاطاً بتعتيم إعلامي مهول وبديكتاتورية مرعبة تمنع عنه أي معلومات عن الحرب اللبنانية حتى من اقرب المصادر إليه، أي أمه مثلاً. لم يسمع قط إلا بالخطاب الآخر، أما خطابه وتاريخه كميسحي فمنفيان تماماً. وبهذا يكون كل المسيحيين الذين يختصرهم شربل خليل بجوزف يرددون كلمات مثل <<شارون والعدو الصهيوني والامبريالية والاستكبار>>، من دون أن يعلموا شيئاً عن الحقيقة. بهذا المعنى، لم يسمع شربل قط بسمير جعجع الذي كان في السجن مثلاً. جوزف مغسول الدماغ كلياً.
الشجرة ستعيد إلى جوزف دماغه. تشرح له: هي ورفاقها استشهدت <<حتى يضل الصليب معلق على صدرك. هناك من شال الصليب ووضع مكانه جنزيراً وسيق مثل الكلب>>. تتابع: <<لا تصدق يا جوزف ان الحرب كانت ضد الامبريالية والاستكبار. الحرب بدأت ضد صليبك، ضد يسوعك، ضد إيمانك. من يقُل لك وفاق وسلم قل له كذاب. ومن يقُل لك تعايُش قل له عاهر، ومن يقُل لك تحرير وصمود وعروبة وأخوة ووطنية قل له: انقبر. كل همهم أن ييبس الشهيد وتموت القضية ويصيروا في التاريخ هم الأبطال ونحن الخونة. أرز لبنان باركه الرب. لا تتركوهم يقتلعون الأرزات ويزرعون مكانها بلحاً>>.
خلال هذا الخطاب الساخن يكون جوزف الخفيف الذي يتأثر بسرعة، قد بدأ يحفر بخنجره صليباً على ذراعه ويرتسم الصليب بالدم.
يصاب المشاهد بالذهول. نحن إزاء فيلم يحمل، في مضمونه، المفاهيم نفسها التي كان يحملها إلينا اسامة بن لادن في شرائطه المصورة في الكهوف.
شربل خليل يعيدنا إلى أشد لحظات الحرب اللبنانية ضراوة، حيث استبيح كل شيء. يوم كان المسلمون والمسيحيون يذبحون بعضهم بعضاً بناء على افكار مثل هذه: الأرزة وشجرة البلح. الحرب ضد الصليب أو ضد دولة قومية مسيحية تكون امتداداً لإسرائيل. <<هم>> و<<نحن>>. هم <<الأبطال>> ونحن <<الخونة>> وبالعكس. القضية في مواجهة القضية. ينسف شربل خليل فجأة كل الآخر ويسفهه تماماً. ينسف أدنى موضوعية في تناول التاريخ السيئ للبنان. ويسفه حتى المصطلحات المتفق عليها مثل التعايش والأخوة والوطنية. الوطن الذي لجميع ابنائه. <<انقبر>>. هكذا يجب على جوزف ان يقول للآخر الذي يتخطى السوري والفلسطيني والإيراني، ليصل إلى المسلم اللبناني، كائناً من كان هذا المسلم. وبالطبع فإن من لا يقبل بمنطق شربل خليل من المسيحيين أنفسهم، هو مجرد خائن استبدل صليبه بجنزير وصار كلباً وجذوره أنبتت <<عليقا>>.
تتابع الشجرة المتطرفة خطابها الوحشي: هذا رفيقي اسمه نقولا. فتش عن اولاده وأخبرهم الحقيقة، وقل لهم إن جذوره امتدت إلى الأشرفية وعين الرمانة وسوق الغرب وزحلة وشكا والدامور وجزين وكل ضيعة تصلّب يدها على وجهها.
لم يتركنا حتى نفكر في انتماءات القرى الطائفية. الشجرة تريد تجييش المسيحيين فقط، دون غيرهم من اللبنانيين. القرى التي لا تصلّب يدها على وجهها هي العدو إذاً. هذا ما يفهمه المشاهدان العاديان، المسلم والمسيحي.
وبما أن العمل ينبغي ان يصل إلى خلاصة، نرى جوزف يسقي والده الدم الذي خلّفه الخنجر على الصليب الجرح فوق الذراع ويذهب باحثاً عن الحقيقة. لكنه ينسى شيئاً مهماً فتناديه الشجرة المشؤومة: <<جوزف رجاع. نسيت بارودة الصيد. خدها. نحن هيك بلشنا>>.
الأرزة ترسم خطة عمل لجوزف. عليه ان يبدأ بالبارودة. الحرب الأهلية من جديد، هي الحل الوحيد في ختام هذا الفيلم المرعب. جوزف لا يتردد للحظة، بل انه يطلب من ابيه أن يحجز له مكاناً بالقرب منه، فقد صار الرجل الذي كان <<يا غافلاً لك الله>> قبل دقائق، مشروع <<استشهادي>> يذهب إلى حربه حاملا بندقيته على كتفه بينما صوت الشيطان ما زال يدوي في أذنيه مختاراً اسماء لبنانية بعينها: <<لا تنسَ ان تخبر أولاد نقولا والياس وحنا ومارون وشربل وطوني وطانيوس ومطانيوس وميشال>>...
ينتهي العمل بأسماء الذين عملوا عليه. يحار المشاهد العادي بماذا يفكر.
مثل هذا العمل الذي أنتج سنة 2004، أي قبل عام التحولات الهائلة، يمشي اليوم بين الناس في خضم أزمة تولّد شعوراً عاماً بأن الحرب صارت مسألة وقت.. قصير. هذا الفيروس الكريه الذي صار من المستحيل إيقافه الآن سيترك أثراً لدى كل من يشاهده، وإلى أي طائفة انتمى. مثل هذا الفعل الشنيع يفترض اعتذاراً علني إلى كل اللبنانيين من الأشخاص السبعة الذين عملوا فيه، وفي طليعتهم شربل خليل طبعاً. ويحتاج هذا العمل أيضاً إلى وضعه في مكانه الصحيح:
هو ليس فيلماً. هو مجرد رأي لشخص يعيش في كهف، وهو شخص شديد التطرف لا يمثل بالضرورة لبنانياً مسيحياً آخر غيره. هو ليس فيلماً. هو مجرد عمل شديد الابتذال، بنص تبسيطي سطحي يفتقر إلى الحد الأدنى من الإبداع، وبفكرة فجة ومباشرة تحاول أن تكون ذكية ولمّاحة وتعجز حتى عن إقناع من ربما يكون اكثر تطرفاً من خليل نفسه. هو ليس فيلماً. هو عمل مليء بأشكال الادعاء كافة، بدءاً من ادعاء القضية وصولاً إلى ادعاء عبقرية الذي كتب وأخرج وأنتج. هو مجرد حماقة فردية شديدة.
هو ليس فيلماً. هو في أسوأ حالاته شريط شبيه بمشاهد ذبح الرهائن الآتية من العراق، وفي أحسنها، مجرد شريط إباحي لم ينتجه أحد، بل تسلل من غرفة نوم ما، ولاقى شعبية هائلة، لأنه خارج عن المألوف، ولأنه مجرد فضيحة مخزية بحق من ارتكبها.
لن أتحدث عن المقال أكثر ولكن أردت إهداءه إلى كل المغفلين الذين سيقوا إلى أقلام الاقتراع كـ"الغنم" ليقترعوا لمن كان بالأمس "جزارهم"، إلى هؤلاء وإلى المخدوعين بكذبة "الوطنية" أهدي هذا المقال مع الشكر الجزيل لكاتبه "جهاد بزي"
-----------------------------------
إنها شجرة أرز مشؤومة تحلم بعودة الحرب الأهلية
جهاد بزي
<<حتى ما يموت الشهيد>> الذي كتبه وأنتجه وأخرجه شربل خليل (مخرج بسمات وطن على الأل بي سي) <<ليس فيلماً وليس عرضاً وليس سينما. هو رأي لواحد مسيحي من الوطن لا يصدق شيئاً من الكذبة في هذا الوطن>>.
على هذا يبدأ الفيلم المصور الذي أنتج سنة 2004 ولم يعرض على شاشة صغيرة وكبيرة، ويجد نجاحاً شعبياً لبنانياً هذه الأيام، ويتناقله الناس على اقراص مدمجة. أما مناسبة العمل فهي مرور 25 سنة على غرس أول أرزة من أرزات الشهيد في طبريي سنة 1979. (معلومة لا تعني أحداً من الجمهور المتنوع لهذا العمل).
يتناقل اللبنانيون الفيلم القصير بصفته عرضاً مثيراً للدهشة. أين الدهشة في عمل شربل خليل؟
القصة بسيطة: شاب يتجول في غابة أرز. يسمع صوتاً يأتيه من مكان ما يطلب منه أن يسقيه. يتلفت حوله مستغرباً ليعلم أن إحدى الأرزات تخاطبه. وطوال 12 دقيقة تقريباً سنستمع إلى حوار يدور بين ممثل مجهول اسمه جوزف غانم وأرزة يؤدي دور صوتها الممثل اللبناني جوزف تابت.
الأرزة عطشانة، تريد أن تشرب. جوزف، الممثل الذي لا يجيد شيئاً من التمثيل، يفاجأ للحظات بالشجرة التي تحكي قبل ان يعتاد على هذا الواقع ويسقي الشجرة معتذراً من سخونة المياه التي يحملها. الأرزة تتنهد وتقول: <<معليش. الدم يللي شربته كانت حرارته أعلى. الأرز حتى يضل أخضر بدو دم. إنت مش لبناني يا إبني>>؟
<<بلى>>، يجيب الشاب، <<واسمي جوزف>>.
مثل هذا النوع من الأرز الناطق مصاص الدماء، له مبرر عند خليل. فهذه ليست غابة أرز عادية. هي غابة شهداء صاروا شجرات أرز. وجوزف، الرجل الذي يتدلى صليب من عنقه ويعيش في لبنان سنة 2004، <<يظن أن كل هؤلاء قتلهم شارون. أليسوا (شهداء الغابة) هم المقاومة ضد العدو الصهيوني، أي حزب الله وأمل والقومي والشيوعي؟>>.
جوزف يستمع إلى الإعلام ومنه يستقي أخباراً عن أن كل الشهداء في لبنان ماتوا وهم يقاتلون <<العدو الإسرائيلي>>.
تحزن الأرزة وتسأل جوزف: والشهداء يللي قاوموا الفلسطيني والسوري والإيراني؟ عن أي إيراني تحكي الأرزة. لا ندري. وجوزف لا يسأل. الشاب المطلق الجهل يظن أن الشهيد يموت فقط في سبيل القضاء على <<الامبريالة والاستكبار>>.
يتذكر جوزف أن والده <<ميلاد>> مات في تل الزعتر بينما كان يحارب ضد إسرائيل. تسأله الشجرة: ما اسم أمك، فيجيب: <<جانيت>>. فتقول الأرزة بحسرة: سمتك جوزف يا ابني.
تتصاعد الدراما بينما الكاميرا تدور كالمجنونة حول الشجرة، ويعلو صوت الموسيقى لمزيد من التأثير وتسقط نظارات جوزف الشمسية ومطرته من يده وتتدحرجان بعيداً. فقد اكتشف جوزف أن الشجرة هي والده الذي مات سنة 1979 قبل ولادته بعشرة أيام فقط. أبو جوزف ليس فوق الشجرة في هذه الحالة. الأب هو الشجرة نفسها.
يروح جوزف يردد بذهول وهو يتلمس أغصان والده: بابا. بابا.
يدور حوار بين جوزف وأبيه الشجرة بالعامية (يُنقل في هذا النص بالفصحى). يقول الاب: <<لا تصدق شيئاً مما تسمعه. أنا ورفاقي كنا نحارب السوري والفلسطيني والإيراني والخائن والجبان والكلب (...) أين صار رفاقنا في السجون السورية>>؟ فيجيب جوزف البريء: أنا لم اسمع إلا عن القنطار بإسرائيل.
تتنهد الشجرة الأب: يخبرونك عن هذا الواحد ويعتمون على قنطار من أولئك المعتقلين.
لن يمر اسم القنطار في عمل خليل ثانية. سمير القنطار مجرد <<واحد>> محظوظ لأن هناك من يحكي عنه، بينما المعتقلون في السجون السورية لا أحد يأتي على ذكرهم. وجوزف، ابن الخامسة والعشرين، كان حتى العام 2004 محاطاً بتعتيم إعلامي مهول وبديكتاتورية مرعبة تمنع عنه أي معلومات عن الحرب اللبنانية حتى من اقرب المصادر إليه، أي أمه مثلاً. لم يسمع قط إلا بالخطاب الآخر، أما خطابه وتاريخه كميسحي فمنفيان تماماً. وبهذا يكون كل المسيحيين الذين يختصرهم شربل خليل بجوزف يرددون كلمات مثل <<شارون والعدو الصهيوني والامبريالية والاستكبار>>، من دون أن يعلموا شيئاً عن الحقيقة. بهذا المعنى، لم يسمع شربل قط بسمير جعجع الذي كان في السجن مثلاً. جوزف مغسول الدماغ كلياً.
الشجرة ستعيد إلى جوزف دماغه. تشرح له: هي ورفاقها استشهدت <<حتى يضل الصليب معلق على صدرك. هناك من شال الصليب ووضع مكانه جنزيراً وسيق مثل الكلب>>. تتابع: <<لا تصدق يا جوزف ان الحرب كانت ضد الامبريالية والاستكبار. الحرب بدأت ضد صليبك، ضد يسوعك، ضد إيمانك. من يقُل لك وفاق وسلم قل له كذاب. ومن يقُل لك تعايُش قل له عاهر، ومن يقُل لك تحرير وصمود وعروبة وأخوة ووطنية قل له: انقبر. كل همهم أن ييبس الشهيد وتموت القضية ويصيروا في التاريخ هم الأبطال ونحن الخونة. أرز لبنان باركه الرب. لا تتركوهم يقتلعون الأرزات ويزرعون مكانها بلحاً>>.
خلال هذا الخطاب الساخن يكون جوزف الخفيف الذي يتأثر بسرعة، قد بدأ يحفر بخنجره صليباً على ذراعه ويرتسم الصليب بالدم.
يصاب المشاهد بالذهول. نحن إزاء فيلم يحمل، في مضمونه، المفاهيم نفسها التي كان يحملها إلينا اسامة بن لادن في شرائطه المصورة في الكهوف.
شربل خليل يعيدنا إلى أشد لحظات الحرب اللبنانية ضراوة، حيث استبيح كل شيء. يوم كان المسلمون والمسيحيون يذبحون بعضهم بعضاً بناء على افكار مثل هذه: الأرزة وشجرة البلح. الحرب ضد الصليب أو ضد دولة قومية مسيحية تكون امتداداً لإسرائيل. <<هم>> و<<نحن>>. هم <<الأبطال>> ونحن <<الخونة>> وبالعكس. القضية في مواجهة القضية. ينسف شربل خليل فجأة كل الآخر ويسفهه تماماً. ينسف أدنى موضوعية في تناول التاريخ السيئ للبنان. ويسفه حتى المصطلحات المتفق عليها مثل التعايش والأخوة والوطنية. الوطن الذي لجميع ابنائه. <<انقبر>>. هكذا يجب على جوزف ان يقول للآخر الذي يتخطى السوري والفلسطيني والإيراني، ليصل إلى المسلم اللبناني، كائناً من كان هذا المسلم. وبالطبع فإن من لا يقبل بمنطق شربل خليل من المسيحيين أنفسهم، هو مجرد خائن استبدل صليبه بجنزير وصار كلباً وجذوره أنبتت <<عليقا>>.
تتابع الشجرة المتطرفة خطابها الوحشي: هذا رفيقي اسمه نقولا. فتش عن اولاده وأخبرهم الحقيقة، وقل لهم إن جذوره امتدت إلى الأشرفية وعين الرمانة وسوق الغرب وزحلة وشكا والدامور وجزين وكل ضيعة تصلّب يدها على وجهها.
لم يتركنا حتى نفكر في انتماءات القرى الطائفية. الشجرة تريد تجييش المسيحيين فقط، دون غيرهم من اللبنانيين. القرى التي لا تصلّب يدها على وجهها هي العدو إذاً. هذا ما يفهمه المشاهدان العاديان، المسلم والمسيحي.
وبما أن العمل ينبغي ان يصل إلى خلاصة، نرى جوزف يسقي والده الدم الذي خلّفه الخنجر على الصليب الجرح فوق الذراع ويذهب باحثاً عن الحقيقة. لكنه ينسى شيئاً مهماً فتناديه الشجرة المشؤومة: <<جوزف رجاع. نسيت بارودة الصيد. خدها. نحن هيك بلشنا>>.
الأرزة ترسم خطة عمل لجوزف. عليه ان يبدأ بالبارودة. الحرب الأهلية من جديد، هي الحل الوحيد في ختام هذا الفيلم المرعب. جوزف لا يتردد للحظة، بل انه يطلب من ابيه أن يحجز له مكاناً بالقرب منه، فقد صار الرجل الذي كان <<يا غافلاً لك الله>> قبل دقائق، مشروع <<استشهادي>> يذهب إلى حربه حاملا بندقيته على كتفه بينما صوت الشيطان ما زال يدوي في أذنيه مختاراً اسماء لبنانية بعينها: <<لا تنسَ ان تخبر أولاد نقولا والياس وحنا ومارون وشربل وطوني وطانيوس ومطانيوس وميشال>>...
ينتهي العمل بأسماء الذين عملوا عليه. يحار المشاهد العادي بماذا يفكر.
مثل هذا العمل الذي أنتج سنة 2004، أي قبل عام التحولات الهائلة، يمشي اليوم بين الناس في خضم أزمة تولّد شعوراً عاماً بأن الحرب صارت مسألة وقت.. قصير. هذا الفيروس الكريه الذي صار من المستحيل إيقافه الآن سيترك أثراً لدى كل من يشاهده، وإلى أي طائفة انتمى. مثل هذا الفعل الشنيع يفترض اعتذاراً علني إلى كل اللبنانيين من الأشخاص السبعة الذين عملوا فيه، وفي طليعتهم شربل خليل طبعاً. ويحتاج هذا العمل أيضاً إلى وضعه في مكانه الصحيح:
هو ليس فيلماً. هو مجرد رأي لشخص يعيش في كهف، وهو شخص شديد التطرف لا يمثل بالضرورة لبنانياً مسيحياً آخر غيره. هو ليس فيلماً. هو مجرد عمل شديد الابتذال، بنص تبسيطي سطحي يفتقر إلى الحد الأدنى من الإبداع، وبفكرة فجة ومباشرة تحاول أن تكون ذكية ولمّاحة وتعجز حتى عن إقناع من ربما يكون اكثر تطرفاً من خليل نفسه. هو ليس فيلماً. هو عمل مليء بأشكال الادعاء كافة، بدءاً من ادعاء القضية وصولاً إلى ادعاء عبقرية الذي كتب وأخرج وأنتج. هو مجرد حماقة فردية شديدة.
هو ليس فيلماً. هو في أسوأ حالاته شريط شبيه بمشاهد ذبح الرهائن الآتية من العراق، وفي أحسنها، مجرد شريط إباحي لم ينتجه أحد، بل تسلل من غرفة نوم ما، ولاقى شعبية هائلة، لأنه خارج عن المألوف، ولأنه مجرد فضيحة مخزية بحق من ارتكبها.