تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : صناع موريتانيا اميون ولكنهم يبتكرون



no saowt
11-21-2004, 10:59 AM
الصناعة التقليدية في موريتانيا ظلت عنصرا مهما في كل جوانب الحياة، وحتى انبعاث الآلة الغربية الحديثة كان المجتمع الموريتاني يعتمد على الصناع التقليديين في صناعة كل آلاته وأدواته، من مدافع وسيوف ومعاول، ومناجل وأوان، وأسرّة وغيرها. ويشهد المجتمع لطبقة الصناع التقليديين الموريتانيين بالذكاء والعبقرية رغم أنهم يحتلون مكانة في أدنى السلم الاجتماعي. وهكذا ولد هذا الوضع رواسب اجتماعية لا تزال تضرب بجذورها عميقا في العقلية الاجتماعية. ويطلق في

موريتانيا لفظة “المعلم” على الصانع التقليدي (الحداد). وحسب الإحصائيات الرسمية فإن في موريتانيا 80 ألف أسرة تمتهن الصناعة التقليدية، توارثت هذه المهنة أبا عن جد منذ قرون، فكان لكل قبيلة صناعها التقليديون الذين يلبون حاجياتها من الآلات. أما اليوم فقد نزح معظم أصحاب هذه المهنة إلى المدن والتحق أبناؤها بالمدارس. ورغم ذلك فلا يزالون مهمشين على المستوى الوظيفي، وكان أول منصب مهم تتبوؤه شخصية من هذه الطبقة هو منصب رئيس الجمعية الوطنية سنة 1992.

أما على مستوى المهنة، فقد كان اتحاد الصناع التقليديين من أوائل الاتحادات المهنية التي نشأت في البلاد عقب استقلالها، وضم معظم الأسر التي تزاول مهنة الحدادة، إلا أن ذلك لم يضمن الدعم اللازم لهذه الصناعة.

موهبة
رغم ندرة الدعم والتشجيع، عمل الصانع التقليدي كل ما في وسعه لتنمية مواهبه وصقلها وإن تأخر عن أمثاله في المنطقة من الناحية المادية بسبب عدم توسيعه لدائرة معارفه، بل إن أغلب الذين يمارسون الحدادة هم في الواقع أميون لا يقرأون ولا يكتبون.

اهتمام الدولة بهذا القطاع وسعيها لتنظيم هذه المهنة، وإنشائها وزارة مكلفة بالصناعة التقليدية والسياحة، لم يمنع من أن يعاني الصناع التقليديون من التغييب وتفويت الفرص محليا ودوليا ومن قبل المشرفين على هذا المرفق. ففي محاولة لتشجيع الصناعة التقليدية وترويجها اختيرت حديقة الحيوانات “اليتيمة” في العاصمة نواكشوط لتكون مكانا لعرض منتوجات الصناع، ورغم أنهم يعرفون برهافة الحس وكرههم إلى كل ما يمت إلى العنف أو الموت بصلة قبلوا مجاورة خصمهم التقليدي “الأسد” الذي تروي الحكايات الشعبية قصصا ونوادر عن العلاقة بين الاثنين وقلما تكون حميمة. إلا أن المعرض تحول إلى ورشة للإنتاج أكثر مما هو مكان للعرض.

في معرض الصناعة التقليدية كان الجميع يتحين الفرص للحديث عن واقعه، وإذا فاتته الفرصة وجد لدى زميله متنفسا. أحمد ولد عبد الله لم يخف قلقه على مستقبل الصناعة التقليدية التي وصفها بأنها أعطت صورة ايجابية عن حياة الموريتانيين قديما وحديثا. ويضيف: يجب أولاً نقل مكان المعرض إلى مركز العاصمة، فنحن هنا خارج المدينة لا يزورنا زائر ولا يذكرنا ذاكر، نعمل بوسائل تقليدية تكاد لا تلبي رغبات الزوار الذين هم في الغالب من الأجانب، ذلك لأن سياسة ترقية الصناعة التقليدية وضعت لتستفيد منها أطراف أخرى، حتى المعارض الدولية لا نشارك فيها، لأن المعنيين بالصناعة يبيعون التأشيرات وينتدبون أقرباءهم، ويتكرر ذلك المشهد بشكل منظم خاصة أثناء معرض هانوفر في ألمانيا الذي أثار فيه الصناع التقليديون الموريتانيون إعجاب العالم، وأثبتوا أنهم يملكون عبقرية تستحق الاحترام، وذلك لتقديمهم قطعاً فنية غاية في الروعة، ما دفع منظمات غربية عديدة لفتح مكاتب في موريتانيا لدعم هذه المهنة مثل منظمة GTZ إلا أن فوضوية هذا القطاع وعدم مبالاة المسؤولين به جعل جهود تلك المنظمات ذات فائدة محدودة.

ويقول: “الصانع الموريتاني لا يصنع آلة فقط، إنه يصنع تحفة فنية نادرة. أنظر إلى النقوش، يمكنني نقش كل ما يخطر على بالك. يمكنني أيضا صناعة كل آلة مهما كانت دقتها. وكم صنعنا هنا من آلات لسيارات كانت قطع غيارها غير موجودة. أما في مجال الحلي والزخارف، زخرفة الآلات أيا كانت فأنت تعرف كيف أننا لا نبارى في هذا المجال”.

بجانب عبدالله ينصت ولد أسويدي باهتمام رغم أن يديه وإحدى رجليه مشغولة بآلات عديدة وهو يصنع قلادة من الخشب مطعمة بالفضة قد تجد طريقها يوما إلى جيد غادة غربية لا تشاركه القارة.

ورشة
المبرد، الكير، السندان، المطرقة، هذه هي الآلات الرئيسية الموجودة في هذه الورشة، وفي كل ورشة للصناعة التقليدية في موريتانيا. عندما تجلس في إحدى هذه الورش ستسمع أشياء كثيرة خلال دقائق، الصانع التقليدي سيصنع لك الشاي بجودة في الوقت الذي يعمل فيه، وسوف يلهيك بأحاديث طيبة في المجال الذي تحبذ.

أذكر أن الشاعر العربي الكبير أدونيس فوجئ عندما كنت أرافقه في زيارته لورش الصناع التقليديين في المعرض الوطني. إن هؤلاء الرجال السمر العاكفين على الكير والسندان وسط الدخان والغبار، يحفظون القصائد الجاهلية بفصاحة يحسدون عليها.

إن شئت أيضا حدثك هؤلاء رغم أمية أغلبهم في التفسير والإعراب، ومتون الفقه، ومشاكل عويصة في العلوم الشرعية.. عندما يكتشفون أنك من أهل المعرفة، تتغير لغتهم في الحديث حسب مستواك. فسوف تكون الرموز والإشارات في الحديث مقتبسة من أبطال المعارك الفكرية والفقهية في العهد الذهبي للدولة الإسلامية. إن لهؤلاء الرجال ذاكرة مشحونة بالمرويات الثقافية العربية الإسلامية التي تجعل غير العارف بهم يقتنع للوهلة الأولى أنهم علماء يتواضعون بممارسة هذه المهنة.



ولا يشغلك الحديث عن اليد التي تتحرك بمهارة وتبعث الحياة، بإذن الله، في قطع صدئة من الحديد والنحاس والألمنيوم والخشب، فتخرج آلة ناصعة الجمال، مزخرفة، براقة، كأنها خرجت للتو من أحدث المصانع.

رغم ندرة المتعلمين في وسط الذين يمارسون الحدادة فإن الكثير منهم توصل إلى ابتكارات مذهلة منها صناعة أسلحة ومولدات للطاقة الهوائية بل وطائرات صغيرة بدون طيار يتم التحكم فيها عن بعد، لكن أغلب الذين حلقت بهم أجنحة الخيال وحققوا هذه الإنجازات، حطت بهم داخل السجن!

يقول يوسف ولد بلال ولد أعمر حداد: الدولة تحارب الأفكار، لقد سجنت لأنني صنعت نسخة طبق الأصل من الطابع السري الذي تضعه شركة الكهرباء سعيا منها لضبط المتلاعبين بعداداتها.

لم يكن ولد أعمر يدرك أنه بذلك يخالف القانون لأنه لا يعلم أن المادة 17 من الدستور تقول بأنه “لا عذر لأحد في جهل القانون”. إنهم أميون لكنهم يصنعون أسلحة بمقاييس مضبوطة وطائرات بدون طيار ولا يعرفون القانون أو لا يعبأون له.

قلة الموارد
لا يشفع للصناع التقليديين في موريتانيا سوى الصناعات الخفيفة من أساور وقلادات وخواتم وصناديق لحفظ الحلي التي يبدعون فيها إبداعا منقطع النظير رغم انعدام المواد الأولية، فهم يستخدمون في جل صناعاتهم مواد مكررة، خاصة من الفضة والذهب التي تنعدم مصادرها محليا، ولقلة إمكانياتهم المادية يعجزون عن جلبها من الخارج، فقط تلك المصنوعة من الخشب الأسود تلقى رواجا وإن كان القانون - أيضا في هذه النقطة يقف ضدهم- يحرم قطع الأشجار التي تستخدم في تلك الصناعة بدعوى ندرتها. يقول ولد أسويدي:”الشاري لن يخسر لأنه يحصل على بضاعة نادرة. نسخة أصلية وحيدة لا تتكرر”.

إن مهنة الصناعة التقليدية في موريتانيا تزدهر رغم كل العقبات، وتتحدى الصعاب، بفضل الاصرار.