منال
10-25-2004, 05:31 AM
العمل بالعلم بين الواقع والواجب
الشيخ/ عبد الله بن صالح الفوزان
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة، وأساس النجاة للعبد في معاشه ومعاده، ومن رزقه الله علماً نافعاً ووفقه لعمل الصالح؛ فقد حاز الخير، وحظى بسعادة الدارين، قال - تعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[97]}[سورة النحل].
وإن الإسلام موقفاً رائعاً من العلم لا يدانيه في ذلك دين من الأديان السماوية التي نسخها الله به، وليس المهم في نظر الإسلام هو العلم والسعي في التحصيل، وإنما يراد من وراء ذلك ما هو أهم، وهو العمل بالعلم، وتحويله إلى سلوك واقعي يهيمن على تفكير المتعلم وتصرفاته، فالعلم يراد للعمل.
ولقد اهتم الإسلام بهذا الجانب العظيم من جوانب العلم، ورتب الأجر والنجاة على ذلك، كما ورد الذم والوعيد لمن لا يعمل بعلمه. والواقع أن هناك تقصيراً واضحاً في موضوع العمل بالعلم، يظهر ذلك على تصرفات الناس وهيئاتهم وأحوال معاشهم، فالذي يأكل الربا يعلم يقيناً أن الربا محرم، والذي يأكل أموال الناس بالباطل بواسطة الغش، أو الخداع يعلم أن ذلك لا يجوز. والذي يبيع ما لا يحل بيعه، أو يقتني ما يحرم اقتناؤه لو سألته عن ذلك ما قال إنه يجوز. وفي مجال اللباس مخالفات كثيرة لا يخفى على أحد في الغالب حكمها. هذه أمثلة لبعض الأفعال.
أما بالنسبة للأشخاص فإن أمارات الانحراف وأشياء من المخالفات تظهر على علماء، ومتعلمين، ودعاة، ومصلحين، وآمرين وناهين، وصاروا غير ملائمين بين علمهم وسلوكهم، فضلاً عن بقية الناس.
إن على هؤلاء واجباً عظيماً ومسؤولية كبرى؛ لأنهم قدوة لغيرهم، وأسوة لأتباعهم، ولن يكونوا كذلك حتى يكونوا عاملين بعلمهم، وإننا نأسى عندما نرى من هؤلاء من قد أخفق في تطبيق ما علمه على نفسه، وصار يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
ولا ريب أن المعلم إذا خالف فعله قوله؛ فليس بقدوة، إذ ليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالخير وينسى نفسه، والمريض لن يستطيع علاج مريض مثله. وهذا لا عذر له مع علمه، وذنبه أشد؛ لأنه تصدى لتعليم المسلمين الذين يعتقدون أنه الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى.
العمل بالعلم:
من المؤكد أن المنزلة السامية، والثواب العظيم لطالب العلم، لا يكون إلا لمن عمل بعلمه. ومن هنا وجب إتْبَاع العلم بالعمل. وظهور آثار العلم على مقتنيه، فالعلم إنما يطلب ليعمل به، كالمال يطلب لإنفاقه في طرق الخير، وإذا لم يتحول العلم إلى واقع ملموس يراه الناس؛ فهو وبال على صاحبه، والجاهل خير منه.
يقول ابن جماعة - رحمه الله -: ' واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم. لا من طلبه لسوء نية، أو خبث طوية، أو لأغراض دنيوية: من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب'[تذكرة السامع والمتكلم ص13].
ولما كان هذا الموضوع بمكان من الأهمية فسأذكر إن شاء الله النصوص الشرعية التي تؤكد على طالب العلم أن يكون عاملاً بعلمه، قائماً بحقوق الله وحقوق خلقه قدر استطاعته، وكذا النصوص التي تضمنت الوعيد الشديد للعالم الذي لم يستنر بعلمه، وأبدأ بالنصوص القرآنية، ثم من السنة النبوية، ثم أذكر شيئاً من منثور الكلام ومنظومه.
أولاً: من القرآن:
الآية الأولى: قال - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]}[سورة البقرة].
فذكر من صفات اليهود وطبائعهم وأخلاقهم كونهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه، لتحذير هذه الأمة من سلوك طريقهم، أو التشبه بشيء من أخلاقهم. قال ابن كثير: 'والفرض أن الله - تعالى - ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه. وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم'.
الآية الثانية: قال - تعالى - عن شعيب - عليه الصلاة والسلام -: {... وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود].
فهذا هو موقف الداعية المصلح الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه، ويأخذها بالحزم، ويروضها على ما يريده الإسلام، وهذا هو الداعية الناجح الذي يقدم للناس أحكام الإسلام، وأخلاقه صوراً حية يرونها بأم أعينهم، لا أقوالاً رنانة، ثم يرون الانفصام بين القول والسلوك، وهذا مذموم في نظر العقلاء. قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو عليل
يقول سيد قطب: 'أن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة'[في ظلال القرآن [1/85]].
الآية الثالثة: قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ' كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون لوددنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن أحب الأعمال: إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به'. فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الآية.
ومع أنها نزلت في موضوع الجهاد وتمنيه، لكن يستدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في الوعد، أو العهد، أو الأمر، أو النهي.
ومن هنا فالآية درس للأمة الإسلامية، وتوجيهات ربانية، مبدوءة بلفظ محبب إلى النفوس، وثمنه التنفيذ والامتثال، بأن يكون كل فرد منا عند قوله، فلا يقول إلا حيثما يتبع القول بالعمل، وإلا فقد عرض نفسه لمقت الله الذي هو أشد البغض، قال الراغب: 'المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح'. يقول صاحب الظلال: 'إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة، وإلى حركة في عالم الواقع. ومنهج الإسلام الواضح يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل'[في ظلال القرآن [6/114]].
إن العمل بالعلم من أهم صفات الداعية بعد الإخلاص وحسن القصد، ولا يبعد أن يكون سبب إخفاق كثير من الدعاة فشلهم في تحويل علمهم إلى حركة في عالم الواقع يراها من يسمع كلامهم.
الآية الرابعة: قوله - تعالى -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[30]وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا[31]}[سورة الأحزاب]. قال النسفي: '{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح'[تفسير النسفي [3/301-302]].
ثانياً: العمل بالعلم في السنة النبوية:
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة مؤكدة إتْبَاع العلم بالعمل، وأن على المسلم أن يدعو الناس بسلوكه قبل أن يدعوهم بكلامه، وأن يحرص على الخير لنفسه كما يهديه لغيره، وهذه بعض الأحاديث:
الحديث الأول: عن سعد بن هشام قال: قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: ' أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ' قُلْتُ بَلَى قَالَتْ: ' فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ'رواه مسلم.
إجابة موجزة جامعة مفادها: أن القرآن بأحكامه وأخلاقه قد تحول إلى سلوك واقعي في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد صار القرآن سجية له، وخلقاً تطبعه، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.
ومن هنا جاءت أهمية دراسة هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، إذ أنها تطبيق عملي لما جاء عن الله، سواء ما كان منها متعلقاً بالعقيدة، أو الأحكام، أو الأخلاق؛ لأن هذه مبادئ الإسلام، وأحكامه التي لا ينفصل بعضها عن بعض.
الحديث الثاني: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: [يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ] رواه البخاري ومسلم.
وعيد عظيم، يثير الفزع في النفوس، بتصور هذا المنظر المخيف، منظر رجل يلقى في النار، فتنصب مصارينه من جوفه، ويدور فيها، فيجتمع أهل النار حوله يتعجبون من هيأته ويسألونه عن شأنه وحاله. إنه ليس وعيداً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مطلوب من كل أحد، ولكنه وعيد على ارتكابه المنكر عالماً به، ينصح الناس عنه ثم يخالفهم إليه ويفعله.
قال الحسن: ' لقد أدركت أقواماً كانوا آمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام آمر الناس بالمعروف وأبعدهم عنه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟ ']حلية الأولياء [2/155]].
الحديث الثالث: عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: [لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ]رواه الترمذي والدارمي، وانظر الصحيحة للألباني رقم 946.
الحديث الرابع: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كَانَ يَقُولُ: [... إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا] رواه مسلم.
وأخرجه ابن ماجة عن جابر بلفظ: [سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ] انظر صحيح ابن ماجة للألباني [2/327].
قال ابن القيم: 'العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم' [مدارج السالكين [3/302]].
الحديث الخامس: عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه كَمَثَلِ السِّرِاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ] رواه الطبراني في الكبير [2/165، 167]. قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر صحيح الترغيب [1/128].
الحديث السادس: عن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه مَثَلُ الفَتِيلَةِ تُضِيءُ عَلَى الَّناسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا] رواه البزار انظر صحيح الترغيب [1/128].
شبه الداعية ومعلم الناس الخير الذي لم يستفد من علمه، بالسراج يضيء للناس، فيستفيدون من نوره، ولكنه يحرق نفسه، ويصطلي بحرارة فتيلته، فأفاد غيره ولم يستفد بنفسه.. وهكذا من يعلم الناس وينسى نفسه، فهو يضيء لغيره طريق الخير ويدله عليه وهو لا يجني إلا التعب والعناء في الدنيا، والاصطلاء بالنار يوم القيامة، كما دلت على ذلك النصوص، ولو كان عاملاً بعلمه لكان مثاباً على جهده.
الحديث السابع: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: [مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ] رواه أحمد، وسنده حسن انظر صحيح الترغيب [1/125].
إن للخطابة شأناً كبيراً، وكلما كان الخطيب مرموقاً ينظر إليه، تضاعفت المسؤولية في حقه؛ لأنه مُتَّبَعٌ. ولما كان الخطيب بهذه المنـزلة، وله هذا التأثير في مجتمعه، ورد في حقه هذا الوعيد الخاص عدا الوعيد العام إذا صار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويركز في خطبته على أمراض المجتمع، ثم هو يخالف ما يقول، ويخفق في الملاءمة بين قوله وفعله، وناسب أن يكون عقابه على ذلك من جنس وظيفته.
فهذه النصوص وغيرها أدلة واضحة على عظم المسؤولية الملقاة على عاتق طالب العلم، وهي مسؤولية العمل به، وظهور آثاره وثمراته على صاحبه، وعدم العمل بالعلم حجة على العالم وفساد للعالم؛ لأن فساد العالم بفساد علمائه. كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: 'صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء' إعلام الموقعين لابن القيم [1/10].
ولهذا الوعيد الشديد في حديث أنس هذا، وحديث أسامة وغيرهما عدّ ابن حجر الهيثمي عدم العمل بالعلم من كبائر الذنوب، لصدق ضابط الكبيرة على ذلك والمعصية من العالم وإن كانت صغيرة أمرها عظيم بسبب ما أعطيه من العلم المقتضي لانزجاره عن المكروهات وفضلاً عن المحرمات[انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي [1/94]].
ولما عدّ ابن القيم الكبائر قال: 'ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال الله - تعالى -: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]' إعلام الموقعين [4/406].
يتبع والسلام عليكم
الشيخ/ عبد الله بن صالح الفوزان
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة، وأساس النجاة للعبد في معاشه ومعاده، ومن رزقه الله علماً نافعاً ووفقه لعمل الصالح؛ فقد حاز الخير، وحظى بسعادة الدارين، قال - تعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[97]}[سورة النحل].
وإن الإسلام موقفاً رائعاً من العلم لا يدانيه في ذلك دين من الأديان السماوية التي نسخها الله به، وليس المهم في نظر الإسلام هو العلم والسعي في التحصيل، وإنما يراد من وراء ذلك ما هو أهم، وهو العمل بالعلم، وتحويله إلى سلوك واقعي يهيمن على تفكير المتعلم وتصرفاته، فالعلم يراد للعمل.
ولقد اهتم الإسلام بهذا الجانب العظيم من جوانب العلم، ورتب الأجر والنجاة على ذلك، كما ورد الذم والوعيد لمن لا يعمل بعلمه. والواقع أن هناك تقصيراً واضحاً في موضوع العمل بالعلم، يظهر ذلك على تصرفات الناس وهيئاتهم وأحوال معاشهم، فالذي يأكل الربا يعلم يقيناً أن الربا محرم، والذي يأكل أموال الناس بالباطل بواسطة الغش، أو الخداع يعلم أن ذلك لا يجوز. والذي يبيع ما لا يحل بيعه، أو يقتني ما يحرم اقتناؤه لو سألته عن ذلك ما قال إنه يجوز. وفي مجال اللباس مخالفات كثيرة لا يخفى على أحد في الغالب حكمها. هذه أمثلة لبعض الأفعال.
أما بالنسبة للأشخاص فإن أمارات الانحراف وأشياء من المخالفات تظهر على علماء، ومتعلمين، ودعاة، ومصلحين، وآمرين وناهين، وصاروا غير ملائمين بين علمهم وسلوكهم، فضلاً عن بقية الناس.
إن على هؤلاء واجباً عظيماً ومسؤولية كبرى؛ لأنهم قدوة لغيرهم، وأسوة لأتباعهم، ولن يكونوا كذلك حتى يكونوا عاملين بعلمهم، وإننا نأسى عندما نرى من هؤلاء من قد أخفق في تطبيق ما علمه على نفسه، وصار يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
ولا ريب أن المعلم إذا خالف فعله قوله؛ فليس بقدوة، إذ ليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالخير وينسى نفسه، والمريض لن يستطيع علاج مريض مثله. وهذا لا عذر له مع علمه، وذنبه أشد؛ لأنه تصدى لتعليم المسلمين الذين يعتقدون أنه الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى.
العمل بالعلم:
من المؤكد أن المنزلة السامية، والثواب العظيم لطالب العلم، لا يكون إلا لمن عمل بعلمه. ومن هنا وجب إتْبَاع العلم بالعمل. وظهور آثار العلم على مقتنيه، فالعلم إنما يطلب ليعمل به، كالمال يطلب لإنفاقه في طرق الخير، وإذا لم يتحول العلم إلى واقع ملموس يراه الناس؛ فهو وبال على صاحبه، والجاهل خير منه.
يقول ابن جماعة - رحمه الله -: ' واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم. لا من طلبه لسوء نية، أو خبث طوية، أو لأغراض دنيوية: من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب'[تذكرة السامع والمتكلم ص13].
ولما كان هذا الموضوع بمكان من الأهمية فسأذكر إن شاء الله النصوص الشرعية التي تؤكد على طالب العلم أن يكون عاملاً بعلمه، قائماً بحقوق الله وحقوق خلقه قدر استطاعته، وكذا النصوص التي تضمنت الوعيد الشديد للعالم الذي لم يستنر بعلمه، وأبدأ بالنصوص القرآنية، ثم من السنة النبوية، ثم أذكر شيئاً من منثور الكلام ومنظومه.
أولاً: من القرآن:
الآية الأولى: قال - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]}[سورة البقرة].
فذكر من صفات اليهود وطبائعهم وأخلاقهم كونهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه، لتحذير هذه الأمة من سلوك طريقهم، أو التشبه بشيء من أخلاقهم. قال ابن كثير: 'والفرض أن الله - تعالى - ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه. وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم'.
الآية الثانية: قال - تعالى - عن شعيب - عليه الصلاة والسلام -: {... وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود].
فهذا هو موقف الداعية المصلح الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه، ويأخذها بالحزم، ويروضها على ما يريده الإسلام، وهذا هو الداعية الناجح الذي يقدم للناس أحكام الإسلام، وأخلاقه صوراً حية يرونها بأم أعينهم، لا أقوالاً رنانة، ثم يرون الانفصام بين القول والسلوك، وهذا مذموم في نظر العقلاء. قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو عليل
يقول سيد قطب: 'أن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة'[في ظلال القرآن [1/85]].
الآية الثالثة: قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ' كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون لوددنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن أحب الأعمال: إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به'. فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الآية.
ومع أنها نزلت في موضوع الجهاد وتمنيه، لكن يستدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في الوعد، أو العهد، أو الأمر، أو النهي.
ومن هنا فالآية درس للأمة الإسلامية، وتوجيهات ربانية، مبدوءة بلفظ محبب إلى النفوس، وثمنه التنفيذ والامتثال، بأن يكون كل فرد منا عند قوله، فلا يقول إلا حيثما يتبع القول بالعمل، وإلا فقد عرض نفسه لمقت الله الذي هو أشد البغض، قال الراغب: 'المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح'. يقول صاحب الظلال: 'إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة، وإلى حركة في عالم الواقع. ومنهج الإسلام الواضح يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل'[في ظلال القرآن [6/114]].
إن العمل بالعلم من أهم صفات الداعية بعد الإخلاص وحسن القصد، ولا يبعد أن يكون سبب إخفاق كثير من الدعاة فشلهم في تحويل علمهم إلى حركة في عالم الواقع يراها من يسمع كلامهم.
الآية الرابعة: قوله - تعالى -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[30]وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا[31]}[سورة الأحزاب]. قال النسفي: '{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح'[تفسير النسفي [3/301-302]].
ثانياً: العمل بالعلم في السنة النبوية:
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة مؤكدة إتْبَاع العلم بالعمل، وأن على المسلم أن يدعو الناس بسلوكه قبل أن يدعوهم بكلامه، وأن يحرص على الخير لنفسه كما يهديه لغيره، وهذه بعض الأحاديث:
الحديث الأول: عن سعد بن هشام قال: قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: ' أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ' قُلْتُ بَلَى قَالَتْ: ' فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ'رواه مسلم.
إجابة موجزة جامعة مفادها: أن القرآن بأحكامه وأخلاقه قد تحول إلى سلوك واقعي في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد صار القرآن سجية له، وخلقاً تطبعه، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.
ومن هنا جاءت أهمية دراسة هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، إذ أنها تطبيق عملي لما جاء عن الله، سواء ما كان منها متعلقاً بالعقيدة، أو الأحكام، أو الأخلاق؛ لأن هذه مبادئ الإسلام، وأحكامه التي لا ينفصل بعضها عن بعض.
الحديث الثاني: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: [يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ] رواه البخاري ومسلم.
وعيد عظيم، يثير الفزع في النفوس، بتصور هذا المنظر المخيف، منظر رجل يلقى في النار، فتنصب مصارينه من جوفه، ويدور فيها، فيجتمع أهل النار حوله يتعجبون من هيأته ويسألونه عن شأنه وحاله. إنه ليس وعيداً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مطلوب من كل أحد، ولكنه وعيد على ارتكابه المنكر عالماً به، ينصح الناس عنه ثم يخالفهم إليه ويفعله.
قال الحسن: ' لقد أدركت أقواماً كانوا آمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام آمر الناس بالمعروف وأبعدهم عنه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟ ']حلية الأولياء [2/155]].
الحديث الثالث: عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: [لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ]رواه الترمذي والدارمي، وانظر الصحيحة للألباني رقم 946.
الحديث الرابع: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كَانَ يَقُولُ: [... إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا] رواه مسلم.
وأخرجه ابن ماجة عن جابر بلفظ: [سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ] انظر صحيح ابن ماجة للألباني [2/327].
قال ابن القيم: 'العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم' [مدارج السالكين [3/302]].
الحديث الخامس: عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه كَمَثَلِ السِّرِاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ] رواه الطبراني في الكبير [2/165، 167]. قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر صحيح الترغيب [1/128].
الحديث السادس: عن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه مَثَلُ الفَتِيلَةِ تُضِيءُ عَلَى الَّناسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا] رواه البزار انظر صحيح الترغيب [1/128].
شبه الداعية ومعلم الناس الخير الذي لم يستفد من علمه، بالسراج يضيء للناس، فيستفيدون من نوره، ولكنه يحرق نفسه، ويصطلي بحرارة فتيلته، فأفاد غيره ولم يستفد بنفسه.. وهكذا من يعلم الناس وينسى نفسه، فهو يضيء لغيره طريق الخير ويدله عليه وهو لا يجني إلا التعب والعناء في الدنيا، والاصطلاء بالنار يوم القيامة، كما دلت على ذلك النصوص، ولو كان عاملاً بعلمه لكان مثاباً على جهده.
الحديث السابع: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: [مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ] رواه أحمد، وسنده حسن انظر صحيح الترغيب [1/125].
إن للخطابة شأناً كبيراً، وكلما كان الخطيب مرموقاً ينظر إليه، تضاعفت المسؤولية في حقه؛ لأنه مُتَّبَعٌ. ولما كان الخطيب بهذه المنـزلة، وله هذا التأثير في مجتمعه، ورد في حقه هذا الوعيد الخاص عدا الوعيد العام إذا صار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويركز في خطبته على أمراض المجتمع، ثم هو يخالف ما يقول، ويخفق في الملاءمة بين قوله وفعله، وناسب أن يكون عقابه على ذلك من جنس وظيفته.
فهذه النصوص وغيرها أدلة واضحة على عظم المسؤولية الملقاة على عاتق طالب العلم، وهي مسؤولية العمل به، وظهور آثاره وثمراته على صاحبه، وعدم العمل بالعلم حجة على العالم وفساد للعالم؛ لأن فساد العالم بفساد علمائه. كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: 'صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء' إعلام الموقعين لابن القيم [1/10].
ولهذا الوعيد الشديد في حديث أنس هذا، وحديث أسامة وغيرهما عدّ ابن حجر الهيثمي عدم العمل بالعلم من كبائر الذنوب، لصدق ضابط الكبيرة على ذلك والمعصية من العالم وإن كانت صغيرة أمرها عظيم بسبب ما أعطيه من العلم المقتضي لانزجاره عن المكروهات وفضلاً عن المحرمات[انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي [1/94]].
ولما عدّ ابن القيم الكبائر قال: 'ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال الله - تعالى -: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]' إعلام الموقعين [4/406].
يتبع والسلام عليكم