تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : © العـفـــو وفوضـى الانتقــــام ©



ismail
05-22-2004, 08:57 AM
امتقـــع لونـه ، و نبضات قلبه لم تعــد منتظمة كما كانت ، وخفقان قلبه يزيده الغليان ، أتــدرون ماذا حصــل ؟
نعم صدقت …. هذا ما يسمونه بالغضب .
فإن استطـــاع أن يبطـش بمن أغضبــه استحــال الشعــور إلى ما يُســـمى بــ (( الانتقـــــام )) .

فإن عجــــز عن البطــش استحـــال الشعــور إلى (( الحقــد )) قد تتســع حدقــة عينــه مع الرغبة في الانتقــام ،
وربمــا يحــدق بعينيه كالـذي يفتش عن شيءٍ في البعيــــد، تصفه العرب بقولها:
(( كأنمـــا فُقيء في وجهـه حب الرمــان )) فتخيــّــل هذه الصورة البديعــة لمن تطاير الرذاذ إلى صفحة وجهه ماذا يصنــع بتقاسيم هذا الوجــه ؟

الانتقــام سجيـّــة البشــر ، وطبيعــة بني آدم ، وخــير من يصفهـم بقوله : (( . . . إنـّـه كان ظلــوماً جهــولا ))
فلـيس عيبـــاً شعورك به ، ولكـن العيب أن لا تفقــه فنــّـه وفلسفـــته وتبعــاته وما يســوء منه وما لا يحـــسُن بك أن تفعـــله
0

رغّـب الله في العــفو بعد أن راعى هذه الطبيعـــة فجعــل القصاص أو المجازاة بالسيئــة مقابــل السيئــة سائغــاً وحقــاً مشروعــاً
للآدميــين لأن نفــوس النــاس بالجمــلة لا تعشــق المعــالي والمراتب السنيــّــة فقد قال تعــالى : (( وجــزاء سيئــةٍ سيئــةٌ مثلــها … ))

ثم حبب الله – تعــالى - لعبــاده التحليــق بالروح بأجنحــة التســامح والعفــو عن المخطئـــين فقال :

(( … فمن عفا وأصلــح فأجــره على الله .. )) و ما ظنك بمن كان أجره على رب الأرباب ومن خزائنــه لا تنفـــد :

(( وإن من شيءٍ إلا عنـــدنا خزائنــه ، وما ننزله إلا بقــدرٍ معلـــوم )) .

هل وقعت عينــك ذات يـومٍ على هذا الكوكـب الذي يسمى بـ(( الأرض )) بالطبـــع نعـــم ، كوكــب أهلــه يستشــري بينهم الظلــم والانتقــام
بفوضىً تستحق الدهـشة ، وبصـــورة أحرجونـا بهـــا مع تســامح الحيوانـــات ، يتعلــم الصغــار شعــارات الانتقــام على مفــاهيم الكبــار لتكــون نواميس الحيــاة لهم في التعامــل (( رد الصـــاع صاعيــن)) و

(( اللي يرشنـــا بالمــاء نرشــه بالـــدم ، وليس قتلُ قابيل لأخيــه هابيل لأجل الفتــاة الأجمــل ،
أو مضــغ هنــد بن عتبــة لكبــد حمــزة إلا دليــل على قــدم هذه الطبيعــة :


ألا لا يجهــــلن أحــدٌ عليــنا **** فنجهـــل فوق جهـل الجاهـــلينا
وسلسلة لا تنتهي من حكايا القرون تبين تداعيات الفوضوية في انتقام أهلها
من بعضهــم وكل من وجــد فرصــة اهتبلهـــا ، وحــتى بعــدما سعــدنا بالحضــارة أجــدنا لم نسعــد بزوال النزعــة العــدوانية وحب الانتقــام
فخصــومة محتــدمة عنـد بوابة محكـــمة ، و سيــارة لا يبــدو أنها تسيـــر بشكــل طبيعــي لم يكــن صاحبــها مخمــوراً بل كــان منفعــلاً ينذر خصــمه بالانتقـــام
عبر سمــاعة الهـاتف التي كان يمسكــها بيــده ، طلقــة مســدس بإتقــان متوجهــةً صــوب خصم .

وفي الدول التي تتربع عــلى قمة الحضــارة نجد الانتقــام كما في الــدول المتخلــفة تحــت سراديب القاع
لم تـؤثــر الحضــارة في سلوكيــات أهلــها بصـورة تمحــو فوضويـة الانتقـــام.

و الأم وهي نبــع الحنــان عندمــا يطغى انفعالها على حكمتهــا مع طفلهــا الذي أثــار حفيظتها وغضبها تستشيــط غيظا ،
وتلقي بقوانين التربية جانباً ، لكي تمارس نوعاً من التشفي والانتقــام في حالة غيــاب الحكمــة المؤقــت ،
وهنا ينتج لدى الابن نوعٌ من الترسب في عقله الباطــن أن الانتقـــام ضرورةٌ من ضـــرورات الحيــاة،
وأن التســـامح معنى يقبــع بين دفـــات الكتــب ،وقد قيــل :
(( إذا عومل الطفــل بتسامح فإنــّــه يتعلــم العفـــو )) وذلك الأب الذي غضــب على ابنه عنــدما أفســـد الموكيــت بإبرة كان يلهـــو بها ،
فرآه الأب فلــم يتمالك نفســه ، وأخــّذ يدخــل الإبرة في يــدي ولــده حتى أدى إلى قطعهـا بتقــرير الأطبـــاء ،
فكــان الابن بعــد انتهــاء العمليــّـة يفتــح عينــيه ليرى أبــــاه فيقــول : أبي أرجـع لي يــدي ولــن أفســد الموكيــــت .
(( وما انتقـــم أحـدٌ لنفســه إلا أعقبــه ذلك نــدماً )) كما يقول ابن القيـــم - رحمه الله -



ولكن هذا المفهــوم المطالب للتســامح ليس قاعـــدة مطلقــة لا استثنـــاء فيهــا فالرسول – عليه الصلاة و الســلام قد عفا عن الأسرى بعد بدر
فراجعه عمر- رضي الله عنه - وطلب منه قتلهم فنزل القرآن مؤيــداً لعمر ففي الأنفــال :
(( ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخــن في الأرض ... ))
و أوصى النبي - عليه الصلاة والســلام - محمـد بن مسلمــة وأربعة من الصحــابة بقتــل كعــب الأشــراف ، وأهدر كذلك دم عبد الله بن أبي السرح ،
وأهدر دم كعب بن زهــير – رضي الله عنه - وأمر بقتل الأعراب الذين سملوا عيني الراعي وأمر بالتمثيل بهم كما صنعوا بالراعي ،
و أمر بالقتــال على الكفــار منذ نزول آية السيــف ، ومكث شهــراً يدعــو على قاتــلي القــراء وهم عُضــل وقــارّة ،
وأمــر بقتــل ســلّام بن الحقــيق ، ودعا على عامر بن الطفيـل وإربد بن قيس عند اتفاقهمــا على قتلــه، وتبعه أبو بكر في قتاله لمانعي الزكاة والمرتدين ،
وهذا عمر بن الخطــاب - رضي الله عنه - يجــلد صبيغ بن عســل ويأمر بسجنـه حتى تبرأ جراحـه
ثم يأتي به مرة أخرى فيجلــده حتى يشرف على المـوت ثم يسجنــه حتى تبرأ جراحه ثم أمر به فجُــلد حتى شارف على المـوت ثم جيء به
فقال صبيغ : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتــلي فاقتــلني ولكن هذا حال لا يطاق والقصة مشهورة ،
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يحرق الذين غلوا فيه وقالوا : أنت ربنا فأحرقهم بالنــار
وهذا الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – بعــد فتنـة خلق القرآن يعفــو على كــل من أســاء إليه إلا صاحــب بدعــة .
و هذا خالد بن عبدالله القسري –رحمه الله – يقوم خطيبــاً في عيد الأضحى فيقول :
(( إيها الناس ضحّــوا ضحاياكم ، فإني مضـحٍ بالجعــد بن درهـم فإنه يقول : إن الله لم يتخــذ إبراهيم خليــلا ولم يكلّــم موسى تكليــماً ))
ونزل من المنبــر وذبحه ذبــح الشيــاه أمام الناس ، وكل هذه شواهد على الانتقــام لله ولدينه

جاء في النصــرانيـّة عن المسيــح :
(( من ضــربك على خــدك الأيمــن ، فأعطـه خـــدك الأيســر ))
ويأبى نصــارى التحــريف والتــزوير أن يتمســكوا بتعاليــم دينهــم الذي خطوا حروف أناجيله بــ(( حــبر الزيف والتحريف )) على المسيح - صلاة ربي عليه -
فهم وقــود الحروب العالميــة الثــلاث في القــرن المنصــرم .
وقـــد خيــّـبوا رجـــاء ابن الفلاح ( ألفرد نوبــل ) مخترع الديناميت الذي اختـــرعه لأجل الســلام
و تحقيق التفاهم الدولي فقــاموا باستغلال اختراعه ليكون فريسة لفوضى انتقامية بين الدول العظمى ،
وبعد أن جمع (( نوبــل )) ثروة طائلة من براعة اكتشافه عاد لينثرها كما جمعها على خمس جوائز عالمية
توزع كل عام في ذكرى وفاته ومن هذه الجوائز (( جائزة نوبل العالمية للسلام )) فوا حســرتاه على أملك يا نوبــل.

والنصــارى هم الموقــدون للحــروب الصليبــية انتقــاماً، ولعــل خــير شاهــد فيما مضى على بعــدهم عن نصائح دينهم
(( دواوين التفتيش )) وشــلالات الدم التي لــم تنضب خلال عشرات القرون

كلّمــا انقضـى سبـبٌ *** منــك عـادني سبــبُ

و (( حرب المائــة عام التي نشبــت بين فرنســا وبريطانيا )) 1337 م - 1453 م ولأسبــاب تحمل من التفـاهة شيئاً يثير الاشمئزاز ؛ مثـل (( تتويج طفــل رضيـع ليكون ملكاً ))
أو زواج أحـــد الملـوك بملكــة من دولة أخرى فينتـج عن هـذا مشكــلة الاختــلاف على ولايــة العهـــد فليتهم راعــوا دينــاً قـد حرفــوه واكتفــوا بإحـدى المصيبــتين .

وهــاأنا أرى (( المهاتمــا غانــدي )) عاريـــاً كعـــادته يغمـــز بعينــيه ويــده اليســرى تهتــزّ لي حتى أذكــره في مقـــالي ،
وكيــف أنســاه وهـو صاحب المظــاهرات والمقــاومة السلميـّــة للاستعمــار البريطـــاني حينمــا ملأ الكــون ضجيجاً في وقتــه وهو ينــادي :
(( إذا قابلــت الإســاءة بإســاءة فمتى تنتهـي الإســاءة )).


الملوك من أشــد الناس انتقاماً وتشفيـــاً وإســـرافاً في القتــل :
(( إن الملــوك إذا دخــلوا قريــة أفســدوها وجعلــوا أعزة أهـــلها أذلة ، وكـذلك يفعــلون ))
أوروبــا بتــاريخــها الدموي المــديد كأنهــا قـارب في شــلال الدمـــاء ،
وبنو أميــّـة وطــدوا حكمهم بالسيــف ،و بنــو العبــاس أدروا الدائـرة عليهم واستبــاحوا الدمــاء
والتاريخ في عمومــه يصرخ بآلاف الشواهــد الدامية لتصفية الحسابات وللتمادي في الانتقــام
وعلى جثث القديم يعلو عرش الملك الجــديد ،ودولٌ تجثـم على صدر دولٍ ، ثم لا تلـبث أن ينكسر ظهر الدولة الجاثمة
بسبب ثالثة علتها وهكـذا دواليك ، في حمى انتقامية رحماك يا رباه ما أحـــلم الله .

ولعــل المبــدعين في فـن التهــرب من المواجهــة وعلى رأسهم (( الجبنـــاء )) والذين ينتجــون فلسفتهــم من
(( مزيــج من اليــأس والهــروب من مواجهة الواقع )) هم من الذين يعشقــون المهاتمــا وشعارات الســلم

وخير العفــو ما كان عند الاقتــدار على الخصــوم واسألوا إن شئتــم أبا الطيب المتنــبي
فهــو حكيـم العربية حيـث يبين الفرق بين اللئيــم والكريــم:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتــهُ 00 و إن أنت أكرمت اللئيــم تمــردا

وكم قتــل الصفــح نفــوس الكرمــاء ، وما أطيبه من قتــل وهل كــذب
الحكمـــاء حــين قالـوا :
(( أشـــرف الثــــــــــأر العفــــو ))
أظنـك لا تتفـــوه بمثل هذا القــول ؛ بل قف بجانــبي ودعنـــا نشــــدو بقــول المتنبي :
وما قتــــل الأحــرار كالعفـو عنهـمُ * ومن لك بالحــر الذي يحفـظ اليدا


فتعــالوا نكتــب في قواعــدنا المستقــاة من روائع الشعــر العــربي الحــديث أبيــات الشــاعر الكبــير إبراهــيم ناجي
في ختــــام قصيــدته الأطـــلال
أيهــا الشــاعر تغفـــــو *** تذكر العهــد وتصحـو
وإذا ما التـأم جــــــرحٌ *** جــدّ بالتذكــــار جرحُ
فتعلّــم كيف تــــنسى *** وتعلـــّم كيف تعفـــــو

فالرجال الكرماء إن عفوت عنهم أكرمتهم وإن أكرمتهم ملكتهم
أما الأوباش والمستضعفــين في نسبــة تركــيز الرجولة بداخلــهم
فقد تحترمهم ويتمردون وربما ظنوا – من جهلهم –أن عفــوك كان من ضــعفٍ ، وأن هــدوءك دلالة خوفــك منهم … فتعجّـب !!!
وما هدوءك إلا كما قال البوصيري: (( من حـيثُ لم يـدرِ أن الســمَّ في الدســمِ ))

وهــذا قمر الخمــس عشــرة لا يســتر لهم عــورة التــزييف ، ولا يستــر عــورة الخــداع الصحــفي
ويأبى الضــوء إلا أن يجعلك تعجــب من سخــرية القــدر بهــؤلاء البشــر.


م ن ق و و و و ل....