تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أنا وقلمي



بشرى
05-17-2004, 07:50 PM
انتصب القلم قائما وكأنه جني، سألته: ما بك؟
كانت سحابة حزن تظله فلم يرد، سألته مرة أخرى: أتستعد لخوض معركة كما عودتنا؟
ما زال ملجما بلجام الصمت، سألته الثالثة: آثرت لغة الصمت؟
أجاب بلسان حاله: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.

أصر على الصمت الوجوم يغشى وجهه.. إذا وراء هذا الصمت الرهيب أمر غريب وكانت المفاجأة بعد صمت طويل وبعد أن أمسكت أصابعي بزمامه وأخذت تتراقص به على صفحات وريقاتي البيضاء ليختلط حبره ببياض الورق ليرسم لوحة فنية كعادته من خلال هذه الأحلام الجميلة بيني وبين قلمي، فجأة أحسست باهتزازه بعنف حتى كأنه يريد أن يطير من بين أصابعي، أحسست حينها بالاختناق بين ركام الأحزان..

ماذا أسمع إنها آلام أمتي أسمعها وكأن هاتفا ينادي من بعيد، ولكن كل من حولي لا يصغون له ولا يعيرونه اهتمامهم فكلهم مشغول أو متشاغل إلا من رحم ربي كأنهم أموات بنظر التاريخ الآلام يعصر قلبي ما عساي أن أقدم لك يا أمتي على ضعفي وقلة حيلتي.
حينما سمعت صوت المؤذن ينادي "الله اكبر الله اكبر.." عندها طرقت باب الأمل والرجاء.. أوصدت باب اليأس والقنوط عدت إلى قلمي الحزين لأعزيه وأضمد جراحه!! ولكن ماذا؟

رفض قلمي الكتابة مرة ثانية قلت في نفسي: عجبا!! سألته: ما بك أتعلن العصيان وترفض أن تخط الكلمات الساخنة والعبارات الموحية التي عودتني؟
أجاب قلمي الباكي قائلا: لقد أغمدت سلاحي يا صديقي كي لا أندم.. قالها بأنفاس مختنقة وروح أثقل اليأس وتسرب إليها القنوط.. يا صديقي ماذا تريدني أن أكتب؟ لقد مللت الكتابة بعد أن انكسرت الشوكة.. وتفرق الجمع وتشتت الجند.. ماذا أكتب بعد أن أفل نجم الوحدة فأصبحت الأمة جسدا بلا روح غثاء كغثاء السيل.. تلاشى حبل التعاون والتكاتف.. ماذا أسطر بعد أن ساد الفساد..

قاطعته قائلا: مهلا مهلا لا تقنط من روح الله، دع عنك لغة اليأس والقنوط. ونظر إلي متعجبا!! ثم قال: لا.. لا.. لست قانطا بل أحاول أن أطفئ ما يتأجج في نفسي من لوعة الأسى لا لن أستسلم ولن أترك اليأس يتسلل إلى قلبي وسأواصل رسالة القلم ولو جف مدادي واعوجت ريشتي.. وانطلق يكتب..

ويا لدهشتي!! إذ به يتوقف مرة ثالثة عن الكتابة ثم أطرق برأسه إلى الأرض، فتعجبت!! وقلت: مابك؟
فأجاب: لا شيء اتركني وشأني، عليك بالصمت..

كما يحلو لك خذ راحتك، رفع رأسه بعد لحظات يبدو على وجهه أمارات حزن عميق وقال: لا أخفي عليك يا رفيق العمر لقد عزمت على الرحيل.

- إلى أين إن شاء الله؟
- إلى الأرض الدامية.
- وأين تكون هذه الأرض الدامية؟
- في شتى بقاع المعمورة أينما وجد المسلمون.
- عفوا عفوا سؤال أخير هل تسمح لي؟
- قل ما بدا لك!!
- ما القصد من تلك الرحلة؟
- لأخط بدم الشهداء صفحات الجهاد ولن أغمد سلاحي حتى أبلغ الأسباب.
- إذا الصحبة يا صديقي؛
- قال: الصحبة.

ثم شددنا الرحل إلى أقرب أرض دامية ما إن وصلنا وكان الوقت ليلا وأنخنا راحلتنا لنأخذ قسطا من الراحة بعد عناء ووعثاء السفر، عندما أفقت من نومي لم أجد قلمي بجواري قلت: لعله ذهب مكانا قريبا انتظرت الساعة والساعتين لم يعد، شغلت عليه أخذ الشك يساورني قلت: عله ذهب إلى مكان ما وتاه عند عودته لكونه غريب عن هذه الديار. خرجت أبحث عنه في كل مكان فلم أعثر عليه جلست مكتوف اليدين أمضغ الصبر ومرارة الحيرة.. وأتجرع علقم الوحدة..

وفي اليوم الثالث إذ بطارق لدى الباب قلت: من؟
أجابني بصوت ضعيف: افتح أنا القلم رفيقك.. فتحت الباب تعلّقت عيناي بعينيه اللتين تغوصان في الدموع التي احتبست وراء جفنيه حتى لا تنهمر على وجنتيه فتحرقها، وفور دخوله ارتمى على الأرض لم يحرك ساكنا أخذت أتلمسه أحركه.. لاحس ولا إحساس.. قلت في نفسي: لقد ودع.. ما هذه المصيبة التي حلت بي؟ تركته مغشيا عليه بعد أن سجيته..

أخذ القلق يساورني.. والخوف يطاردني.. بسلسلة من التساؤلات المتلاحقة؟؟ كيف الحل وما المخرج؟ ماذا أفعل؟ وبينما أنا في خضم هذه الاضطرابات النفسية.. فجأة أدركتني رحمة الله لتزيل عني القلق والحيرة.. فإذا بي أسمعه يقول: الحمد لله.. الحمد لله.. نظرت إليه باندهاش وقلت: ماذا بك؟ مالي أرى الجفاف على شفتيك؟ أظمآن أنت؟ هل آتي لك بشربة ماء؟؟

فنظر إلي نظرة عتاب وقال متى كنت تراني أشرب غير الحبر؟ على كل حال وفر عليك الماء لقد شربت ورويت.

- إذا الحمد لله على سلامتك، هل لي أن أسألك مرة ثانية؟
- تفضل ولو أني أشعر بالتعب!
- أين كانت غيبتك يا صديقي العزيز؟
- أعفني عن هذا السؤال، قلت له: أخبرني أما تعلم أني خزينة سرك؟
- بلى أعلم ذلك، يا صديقي ليلة وصولنا تظاهرت أمامك بأني نائم بعد أن استغرقت أنت في النوم؛ تسللت وخرجت صعدت ربوة بجوار المنزل فشاهدت من بعيد طلقات مدافع وصواريخ ودبابات وقنابل.. قلت في نفسي لقد وجدت ضالتي وفورا انطلقت إلى تلك المنطقة وحين اقتربت منها أخذتني الحيرة ولازمني الخوف.. ما هذه الأحداث التي أرى وأسمع ولكن عناية الله أسعفتني (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)

دخلت موقع الأحداث شاهدت من المآسي ما يدمي له القلب ويندى له الجبين.. شاهدت أناسا منهم يذرفون دموع الأسى والحزن.. من ويلات الظلم، يمزق الجوع أكبادهم..

وصورة أخرى هناك العراة يعانون صقيع البرد.. يفترشون الأرض ويلتحفون السماء..
وصورة أخرى لا أبالغ هناك من الجبال والسهول والمدن والقرى ما تخضبت بدماء الأبرار، وامتلأت بأشلاء الشهداء، ترملت النساء، تيتم الأطفال، اختفت بسمة الحياة عن شفاههم، وبدت نظرة الأسى في أعينهم، وتلاشت الفرحة من قلوبهم..
رأيت من المآسي: شكوى الشيوخ الركع.. بكاء الأطفال الرضع.. صيحات الأمهات.. صرخات الأخوات والبنات.. هناك من حصرتهم شظايا القنابل وطلقات المدافع.. يا صديقي هذا هو حال المسلمين في هذه الديار.. ومثلها باقي الديار..

هذه قضيتي، نظر إليّ، فإذا بي أجهش بالبكاء فأخذ يربّت على كتفي ويقول: لا يأس مع الأمل فلابد لليالي الظلم أن تنجلي ولابد لسلاسل القيد أن تنكسر ولابد لرسالة القلم أن تنطلق ويومئذ (يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).

نقلا عن مؤسسة المدينة