تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الأول: دمعات



Saowt
04-29-2004, 08:39 PM
"دمعات في أحضان زوجتي"
كنت أول الخارجين من صالة الطعام.. اتجهت مباشرة إلى مقعدي في تلك الزاوية الهادئة من القاعة.. كان معظم الموجودين في الصالة من الأشبال الصغار.. لفت انتباهي شجار بين طفلين في الخارج.. كانا يتعاركان بشدة ومعظم الأطفال حولهما يشيدون بأعلى أصواتهم: ياسر.. ياسر.. ويبدو أن ياسر هذا كان هو المنتصر في العراك.. أبعدت الاطفال المتجمهرين وفصلت بين المتعاركين.. يبدو أن ياسر لم يبذل مجهودا كبيرا في العراك لفارق السن وضعف خصمه الذي يبدو أنه قد نال كما هائلا من الركل والضرب من ياسر ومن غيره من المتجمهرين.. كان أبيض اللون مشربا بحمرة وأثر العراك قد صبغت وجهه وأذناه خاصة باللون الأحمر والأحمر الداكن..

بينما أنا أفك العراك بينهما استعطفتني دمعتان رفضتا الخروج من عينيه حتى لا يقال له من أقرانه "صاح.. صاح.."؛ أخذت هذا الطفل معي واتجهت إلى مكاني في القاعة.. كان يبدو عليه الإرتباك والخوف فابتسمت في وجهه ليطمئن وقلت له بلطف: "وش اسمك يا بطل؟"
- "معاذ"
- "ما شاء الله معاذ بن جبل"..
ضحك ومال برأسه وعينيه لا تنظر إلي..
- ضحكت ومسحت على رأسه وقلت: "بأي صف تدرس؟"
- "ثاني"
- "ما شاء الله.. تعرف قصة معاذ بن جبل؟"
أومأ برأسه بالنفي وابتسامته ترتسم على وجهه الجميل..
بحثت عن شيء أشجع به هذا الطفل فلم أجد سوى قلمي الذي أهدته لي زوجتي قبل أيام..

أخرجته وهو أغلى عندي ولكن احتسبته عند الله في نفع هذا الطفل وتنشئته نشأة الأبطال.. فملبسه لا يوحي إلي بحرص أهله على تربيته التربية الصالحة.. عرضت له قلمي بطريقة مغرية.. قلت له: "إذا قرأت قصة معاذ بن جبل رح أعطيك أحلى من هذي الهدية".. رفع عيناه ونظر إلي وما زالت ابتسامة الجميلة تزيد وجهه المشرب بالحمرة نضرة وجمالا.. كانت عيناه تحدثاني بهمة تكسر الصخور وتثبت لي أنه سيفعلها وسيقرأ القصة بقلبه لا بلسانه فقط.. أخذ القلم مني وقلّبه بين يديه ثم رفع عيناه إلي وكأنه يقول: "سآخذه بحقه"..

رن هاتفي الجوال.. نظرت إلى المتصل "زوجتي الغالية رعاها الله".. قلت في نفسي "الطيب عند ذكره.. خفنا منها وها هي تتصل"..
- نعم
- السلام عليكم
- وعليكم السلام..
- أحمد.. تعشيت؟ تقدر تمر لعندنا الحين؟ ترى معانا ضيف الليلة
- كيف؟؟ من؟؟ طيب.. طيب..
ذهبت إلى زوجتي عند باب القاعة النسائية فخرجت ومعها فتاة تبدو في السابعة عشر أو الثامنة عشر من عمرها وعليها عباءة مخصرة.. ركبت زوجتي في المقعد الأمامي.. وركبت تلك الفتاة في المقعد الخلفي.. سلمت زوجتي وهي تضحك وقالت: "معنا اليوم ضيف بيروح معنا البيت وينام عندنا"..

قلت بصوت خافت "ياهلا ومرحبا" وآلاف علامات الإستفهامات تدور في رأسي عن هذا الضيف الغريب.. تحركنا باتجاه شقتنا الصغيرة وكانت زوجتي تسألني عن الزواج والحضور وأجيبها وأنا منشغل الفكر عنها بمن تكون هذه الضيفة!!.. اقتربنا من سوبر ماركت فقالت لي: "أحمد ياليت توقف الله يعافيك نبغي أغراض"..
أوقفت سيارتي فقالت لي: "اعطني قلم أكتب لك الأغراض".. تمنيت أن تطلب مني أي شيء سوى القلم وخاصة في مثل هذا الوقت فكيف أفهمها ومعنا هذه الضيفة.. فارتسمت على وجهي علامات البراءة وبدأت أنظر إلى جيبي.. نظرت زوجتي إلي جيبي بحدة واستغراب وقالت: "وين قلمك؟"..
آآآه الآن وقعت في ورطة كيف بإمكاني أن أبين لها..

نزلت من السيارة حتى لا تفقد أعصابها أو تأخذها نزوات الغيرة فتنسى أن معنا هذه الضيفة.. اتجهت إلى نافذتها وأخذت منها الأغراض المطلوبة وعيناها ترمقني بكل حدة وعتاب.. حمدت الله كثيرا على أن هذه الضيفة معنا.. مع أنها ستحرمني من زوجتي هذه الليلة..

وصلنا إلى الشقة ونزلت زوجتي وضيفتها في مجلس النساء وأغلقتا عليهما الباب.. اتجهت إلى غرفتي وتجهزت للنوم وبقيت أنتظر زوجتي لأخذ الأخبار منها.. فاستفهامات كثيرة تدور في رأسي.. من هي الضيفة؟ ولماذا جاءت لتنام عندنا؟ وكيف تلبس العباءة المخصرة؟ وأشياء كثيرة.. بقيت جالسا في غرفتي أتحين خروج زوجتي من عند ضيفتها.. فكرت بأن أطرق الباب عليهما فتهيبت خروج زوجتي مغضبة وخاصة أنها غضبت لأنها لم ترى قلمها في جيبي..
جلست أفكر وأتأمل.. ما أجبننا نحن الرجال!! ندعي القوة ونطلب الإحترام من كل أحد ونبدو وكأننا ليث غاب.. فما أن يجن الليل علينا حتى نرتجف وجلا من زوجاتنا ونردد في كل حين اللهم سلم سلم.. ذئاب في النهار ودجاج في الليل..

Saowt
04-30-2004, 10:08 PM
الجزء الثاني: "ولادة مها"
أخيرا خرجت زوجتي من عند ضيفتها واسترقت النظر على غرفتي فوجدت النور ما زال مضيئا فأتت إلي تستطلع الأمر.. سلمت ودخلت وعلامات البشر والسرور تبدو على محياها ثم جلست بجانبي على السرير.. بدأنا نتجاذب أطراف الحديث وكنت أسألها عن ضيفتنا.. قالت: "والله يا أحمد هالبنت أديم قصتها قصة عجيبة.. يوم كنت بالقاعة رحت أغسل يدي ووقفت أطالع في المرآة.. دخلت أديم ووقفت بجانبي وبدأت تنظر لي في المرآة.. ابتسمت لها وكأني أعطيتها إشارة بالتقدم فقامت واحتضنتني وبدأت تبكي بكاء مرّا.. تفاجأت من بكائها وبدأت أهدؤها وأغسل وجهها بالماء إلى أن هدأت قليلا وارتاحت بعض الشيء..
خرجنا من المغاسل وكنت ممسكة بيدها ولم أكلمها.. فقط كنت أنظر إليها وأتبسم وأشد على يدها..

جلسنا على أحد الطاولات في آخر القاعة وبدأت أتحدث معها.. بصراحة كنت خائفة من أن أسألها عن سبب بكائها.. لكن قلت في نفسي إذا هي فتحت الموضوع وإلا لن أفتحه أنا.. يا أحمد هذي البنت تقدر تقول أنها قدوة قريناتها بالتحضر والتمدن وحركات المراهقات.. فأهلها ما يقولون لها (لا) أبدا.. والمال مغدق عليها ليل نهار.. ومفتوح لها المجال على كيفها"..

قاطعتها وقلت: "ايه أنا مستغرب كيف ناس يخلون بنتهم تنام في غير بيتها..
ما أتوقع أن فيه رب أسرة أو أم تسمح أن البنت تنام في غير بيت أهلها..
وغير كذا العباءة!!"..
أكملت دلال (زوجتي) حديثها وقالت: "اصبر تجيك القصة كاملة.. أقول لك مفتوح لها المجال على كيفها.. المهم البنت يوم جلسنا على الطاولة قالت لي:
"إني زهقت من نفسي وأحس بضيق وأنا ودي أتوب ودي أصير مثلك.. ودي أكون سعيدة ومرتاحة.. ودي أحس بطعم الإيمان بقلبي.. ذبحني الفراغ"..
وبدأت تخرج بعد ذلك كلماتها من قلبها بنبرة باكية..
"ذبحتني همومي.. ودي أتوب وما أقدر.. أحاول أتوب بعدين أرجع لذنوبي.. ما قدرت أستحمل.. أحس أن الله ما راح يتوب علي كل ما تبت رجعت.. والله زهقت من نفسي.." وانخرطت في موجة شديدة من البكاء.. هدأتها وأتيت لها بكأس ماء بارد ثم أصررت عليها بشربه فشربت ثم توقفت عن إكمال حديثها حتى ارتاحت بعض الشيء.. كنت أنظر إليها وأقول في نفسي الآن وقعت المسؤولية عليك يا دلال.. البنت تمد يديها إليك وتقول أنقذيني من ظلام المعاصي وأنا أتهرب.. لا والله.. سأحاسب على ذلك إن لم أساعدها.. فما بعد أن تنطرح بين يديك وترجوك أن تأخذها إلى طريق الهداية أي عذر.. عرضت عليها الذهاب معي إلى البيت حتى نعالج وضعها بترتيب ففرحت كثيرا.. فذهبت وإياها إلى أمها وكنت أتوقع منها الرفض.. فما إن عرضت عليها الأمر حتى قالت: "إذا أديم ودها بكيفها؟"..
صعقت بهذه الحرية المفتوحة.. فعلمت أن الخلل ليس بالفتاة بل ببيئتها وبيتها المتفلت.."

قامت دلال بعد أن اعتذرت مني بالمبيت مع ضيفتها أديم هذه الليلة وأنا ما زلت أسبح في بحر أفكاري.. وقبل أن تهم بالخروج التفت عليّ وقالت: "أحمد وين قلمك؟؟".. ضحكت لأنها لم تنس موضوع القلم وأخبرتها بقصتي كاملة مع معاذ.. أومأت برأسها وهي تبتسم وكأنها تقول: "ماشي.. بس محسوبة!!"..
ذهبت دلال إلى ضيفتها وكانتا قد اتفقتا على خطة يسيرون عليها.. واتفقتا على أنه لابد لكل شيء من أساس.. ولابد من إرادة قوية وعزيمة صادقة.. وهذه الإرادة والعزيمة لا بد أيضا من أن تتربى حتى تكبر وتقوى فتثبت أمام تيارات الهوى والشهوات.. فالذي يريد أن يخوض معركة لابد له من أن يتجهز لها بالتدريب والسلاح والعدة.. كما أن التدريب يكون على شكل مراحل ومستويات حتى ينمو الجسم ويُبنى بناء صحيحا وقويا.. ثم أكملوا برنامجهم ليلتهم تلك ونمت أنا وحيدا في غرفتي..

مرت سنتان على هذه الحادثة ورزقنا الله بعدها بمولودة كالقمر أسميناها مها.. كانت أديم من أول المهنئين لنا في المستشفى.. سبحان مغير الأحوال..
أصبحت هذه الفتاة إحدى الداعيات إلى الله في بيتها وعائلتها وفي أي مجلس تجلس فيه.. أصبحت تبذل من الأموال لدور الخير أضعاف ما كانت تبذله في سبل الهوى.. عندما علمت من دلال أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته أبت إلا أن تكون منهم.. وعندما علمت أن خيرنا من تعلم القرآن وعلمه بذلت كل ما تستطيع لتتعلم القرآن وتعلمه بمالها ونفسها.. من رأى تلك الفتاة يرى أثر نور الإيمان في وجهها.. قالت أديم ذات يوم لدلال بعد أن عتبت عليها خوفا عليها من الإرهاق: "يا دلال.. كل ما بذلت للخير.. كل ما ارتحت وحسيت بسعادة في حياتي لم أذقها من قبل.. كل لحظة ضيعتها في معصية الله الآن أتندم عليها.. لأني وجدت الراحة والطمأنينة والأنس في طاعة ربي والبذل لدينه"..

خرجت دلال من المستشفى بعد أن أمضت فيها عشرين يوما لمرض أصابها مع ولادة مها وبدأت صحتها تتحسن يوما بعد يوم والحمد لله.. كانت مها ريحانة قلبي ونبض فؤادي.. يبتهج البيت بصوتها وشقاوتها.. وكانت دلال تربيها على الأدب من أشهرها الأولى فأتعجب لصنيعها.. طفلة رضيعة فكيف تتأدب!!..
وكانت أيضا دائما ما تقرأ القرآن وهي تحملها.. وتعلمها كلمات القرآن قبل أن تنطق.. حتى أني ذات يوم دخلت البيت فسمعت دلال تقرأ القرآن بصوت مرتفع.. فدخلت الغرفة أستطلع الأمر فوجدت دلال قد أجلست مها أمامها وكانت مها للتو قد تعلمت الجلوس وأسندتها على أحد الوسائد حتى لا تسقط على ورائها.. ثم جلست دلال أمامها وكانت تقرأ القرآن بصوت مرتفع وكأنهما تلميذ وأستاذه في حلقة تحفيظ..

استغربت من صنيع دلال بمها فقلت: "ما شاء الله عليكم فاتحين دار تحفيظ"..
فقالت لي دلال وهمة الأم المؤمنة تملأ عينيها: "أبغى مها تلبسنا تاج الوقار يوم القيامة بحفظها لكتاب الله".. فأكبرت هذه الهمة العظيمة في هذه المرأة الصالحة.. وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"..