تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مفهوم التطرف في الإسلام



ismail
04-15-2004, 08:37 PM
من المؤسف أن يقترن إسم كل مسلم محافظ على مبادئ دينه بلقب المتطرف... لذا رأيت أنه من واجبي أن أنقل لكم مجموعة المقالات هذه و المؤلفة من 12 حلقة و التي تفسر بشكل واضح معنى التطرف في المنظور الإسلامي.

و إليكم الحلقة الأولى:

التطرف بين الحقيقة والاتهام :


يقول علماء المنطق : الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، إذ لا يمكن الحكم على المجهول ، كما لا يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته ، وتصوير حقيقته : أي شيء هي ؟

لهذا كان علينا بادئ الامر ذي بدء أن نكشف عن معنى " التطرف الديني " وحقيقته وأبرز علاماته .

والتطرف في اللغة معناه : الوقوف في الطرف ، بعيدا عن الوسط ، وأصله في الحسيات ، كالتطرف في الوقوف او الجلوس او المشي ، ثم انتقل الى المعنويات ، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السولك .

ومن لوازم التطرف : أنه أقرب إلى المهلكة والخطر ، وأبعد عن الحماية والأمان ، وفي هذا قال الشاعر :

كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث ، حتى أصبحت طرفا !

دعوة الإسلام الى الوسطية وتحذيره من التطرف ...

والإسلام منهج وسط في كل شيء : في التصور والاعتقاد ، والتعبد والتنسك ، والاخلاق والسلوك ، والمعاملة والتشريع .

وهذا المنهج هو الذي سماه الله " الصراط المستقيم " وهو منهج متميز عن طريق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من " المغضوب عليهم " ومن " الضالين " الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط .

و " الوسطية " إحدى الخصائص العامة للاسلام ، وهي احدى المعالم الاساسية التي ميز الله بها امته عن غيرها (( وكذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس )) " البقرة : 143 " ، فهي أمة العدل والاعتدال ، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يمينا او شمالا عن خط الوسط المستقيم .

النصوص الشرعية تعبر عن التطرف ب ـ " الغلو " ...

والنصوص الإسلامية تدعو الى الاعتدال ، وتحذر من التطرف ، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها : " الغلو " و " التنطع " و " التشدد " .

والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن الإسلام ينفر أشد النفور من هذا الغلو ، ويحذر منه أشد التحذير .

وحسبنا أن نقرأ هذه الأحاديث الكريمة ، لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو ، ويخوف من مغبته .

1. روى الامام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجة في سننهما ، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي (عليه الصلاة والسلام ) قال : " إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين "

(قال شاكر : إسناده صحيح ، ونقل المناوي في الفيض : 3 / 126 عن ابن تيمية قوله : هذا إسناد صحيح على شرط مسلم ) .

والمراد بمن قبلنا : أهل الاديان السابقة ، وخاصة أهل الكتاب ، وعلى الأخص : النصارى ، وقد خاطبهم القرآن بقوله : (( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77) )) " المائدة : 177" ، فنهانا أن نغلو كما غلوا ، والسعيد من اتعظ بغيره .

وسبب ورود الحديث ينبهنا على أمر مهم ، وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير ، ثم تتسع دائرته ، ويتطاير شرره ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين وصل إلى المزدلفة في حجة الوداع قال لابن عباس : ( هلم القط لي - أي حصيات ليرمي بها في منى - قال : فلقطت له حصيات من حصى الحذف - يعني حصى صغارا مما يحذف به - فلما وضعهن في يده ، قال : نعم بأمثال هؤلاء ، وغياكم والغلو في الدين ... الحديث ) يعني : لا يعني أن يتنطعوا فيقولوا : الرمي بكبار الحصى أبلغ من الصغار ، فيدخل عليهم الغلو شيئا فشيئا ، فلهذا حذرهم .

وقال الامام ابن تيمية : قوله " إياكم والغلو في الدين " عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والاعمال ، والغلو : مجاوزة الحد ... والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف ، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن ، بقوله تعالى : (( لا تغلوا في دينكم )) " النساء : 171 ) .

2. وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا . ( رواه مسلم ، ونسبه السيوطي اإلى أحمد و أبي داود أيضا ) .

قال الامام النووي : أن المتعمقون المجاوزن الحدود في أقوالهم وأفعالهم .

ونلاحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعلا عاقبة " الغلو و التنطع " هي الهلاك ، وهو يشمل هلاك الدين والدنيا ، وأي خسارة أشد من الهلاك ، وكفى بهذا جزرا .

3. وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كان يقول : " لا تشددوا على انفسكم ، فيشدد عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم ، فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات : ( رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ( ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد ) .

ومن أجل ذلك قاوم النبي (صلى الله عليه وسلم ) كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين ، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف ، مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الاسلام ، ووازن به بين الروحية والمادية ، ووفق بفضله بين الديت والدنيا ، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة ، والتي خلق لها الإنسان .

فقد شرع الإسلام من العبادات ما يزكي نفس الفرد ، ويرقى به روحيا وماديا ، وما ينهض بالجماعة كلها ، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل ، دون أن يعطل مهمة الإنسان في عمارة الأرض ن فالصلاة والزكاة والصيام والحج ، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت ، فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع ، بل تزيده ارتباطا به ، شعوريا وعمليا ، ومن هنا لم يشرع الإسلام " الرهبانية " التي تفرض على الانسان العزلة عن الحياة وطيباتها ، والعمل لتنميتها وترقيتها ، بل يعتبر الأرض كلها محرابا كبيرا للمؤمن ، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهادا ، اذا صحت فيه النية ، والتزمت حدود الله تعالى .

ولا يقر ما دعت اليه الديانات والفلسفات والأخرى من إهمال الحياة المادية لأجل الحياة الروحية ، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى ، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل الآخرة ، فقد جاء بالتوازن في هذا كله (( ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) " البقرة : 201" ( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ) ( رواه مسلم في صحيحه ) " إن لبدنك عليك حقا " ( متفق عليه).

لقد أنكر القرآن ، بل شدد النكير ، على أصحاب هذه النزعة في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده ، فقال تعالى في القرآن المكي : (( يبنى ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبت من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الأيات لقوم يعلمون (31) )) (الأعراف : 31 - 32 ) .

وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله : (( يأيها الذين ءامنوا لا تحرما طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88) )) " المائدة : 87-88" .

وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة حقيقة منهج الإسلام في التمتع بالطيبات ، ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض الأديان ، فقد روي في سبب النزول أن رهطا من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسبح في الأرض كالرهبان ! . وروي ان رجالا أرادوا أن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ( ملابس الرهبان ) فنزلت ..

وجاء عن أبن عباس : أن رجلا أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء ، وإني حرمت علي اللحم . فنزلت (( يا أيها الذين آمنو لا تحرموا )) ( ذكر هذه الروايات ابن كثير في تفسيره) .

وفي الصحيحين عن عاشئة رضي الله عنها : أن ناسا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) سألو أزواج النبي ( عليه السلام ) عن عمله في السر ، فكأنهم تقالوها ( أي عدوها قليلة ) فقال بعضهم لا آكل اللحم .. وقال بعضهم : لا أتزوج النساء .. وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال " ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر ، وأنام و أقوم ، وآكل اللحم ، واتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

وسنته - عليه الصلاة والسلام - تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه وكيف يعامل ربه عز وجل ن ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله - معطيا كل ذي حق حقه ، في توازن واعتدال .

العيوب والآفات الملازمة للغلو في الدين :

وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إلا لأن فيه عيوبا وآفات أساسية تصاحبه وتلازمه . منها :

العيب الأول :

أنه منفر لا تحتمله طبيعة البشر العادية ، ولا تصبر عليه ، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم ، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة ، لا فئة ذات مستوى خاص ، ولهذا غضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على صاحبه الجليل " معاذ " حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال له : أفتان أنت يا معاذ ؟ ! وكررها ثلاثا ( رواه البخاري ) .

وفي واقعة مماثلة قال للإمام في غضب شديد لم يغضب مثله : " إن منكم منفرين ... من أم بالناس فليتجوز ، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة " ( رواه البخاري ) .

ولهذا لما بعض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) معاذا وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله " يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ..." (متفق عليه ) .

وقال عمر رضي الله عنه : لا تبغضوا الله إلى عباده ، فيكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض اليهم ما هم فيه .

والعيب الثاني :

أنه قصير العمر ، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، فالإنسان ملول ، وطاقته محدودة ، فإن صبر يوما على التشدد والتعسير ، فسرعان ما تكل دابته أو تحرن عليه مطيته في السير ..

وأعني بهما جهده البدني والنفسي ، فيسأم ويدع العمل حتى القليل منه . أو يأخذ طريقا آخر ، على عكس الطريق الذي كان عليه .. أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط ، ومن التشدد الى التسيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وكثيرا ما رأيت أناسا عرفوا بالتشدد والتطرف حينا ، ثم غبت عنهم او غابوا عني زمنا فسألت عنهم بعد ، فإما ساروا في خط آخر ، وانقلبوا على أعقابهم ، والعياذ بالله .. وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث " فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " ( رواه البزار عن جابر بإسناد ضعيف ) يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته .

ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا .. وإن أحب العمل إلى الله أدومها وإن قل " ( رواه الشيخان و أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ) .

وعن ابن عباس قال : كانت مولاة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له : إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال ( صلى الله عليه وسلم)

" إن لكل عمل شرة ( حدة ونشاطا ) ولكل شرة فترة ( استرخاء وفتور ) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل " (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) .

وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : ذكر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم)

رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصبا شديدا ، فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " تلك ضراوة الإسلام وشرته ، ولكل ضراوة شرة ، ولكل شرة فترة .. فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فلامّ ما هو .. ومن كانت فترته الى معاصي الله فذلك الهالك " ( قال شاكر : إسناد صحيح ) ، ومعنى " لأمّ ما هو" أي يرجع إلى أصل ثابت عظيم أشار إليه بكلمة " آم " من القصد .. أي قصد الطريق المستقيم .

( وفي رواية الطبراني لهذا الحديث : ... فمن كانت فترته إلى اقتصاد ، فنعم ما هو .. ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون ) .

وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين : الوصية بالقصد والاعتدال ، وأن لا يحاولوا أن يغالبوا الدين ، فيغلبهم ، وأن يقاوموه بشدة ، فيقهرهم ، فقال (صلى الله عليه وسلم ) : "إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ... " ( رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ).

وقال العلامة المناوي في شرحه : يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان ، إلا عجز ، فيغلب .. " فسددوا " أي : إن لم تستطيعو الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه " و أبشروا " أي : بالثواب على العمل الدائم وإن قل . أ هـ .

والعيب الثالث :

أنه لا يخلوا من جور على حقوق أخرى يجب أن ترعى ، وواجبات يجب أن تؤدى .. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء : ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حق يضيع .. وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه : ألم اخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟

قال عبد الله : فقلت لي يا رسول الله ... فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم .. فإن لجسدك عليك حقا .. و إن لعينيك عليك حقا .. و إن لزوجك عليك حقا .. وإن لزورك ( زوارك ) عليك حقا .. (رواه البخاري في كتاب الصوم ) .

يعني : فأعط كل ذي حق حقه ، ولا تغل في ناحية على حساب أخرى .

وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آخى بينهما ، فزادت بينهما الألفة ، وسقطت الكلفة ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فوجد أم الدرداء - زوجته - متبذلة (يعني : لابسة ثياب البذلة والمهنة لا ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المرأة المتزوجة ) فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان وقرب إليه طعاما فقال : كل ، فإني صائم ! فقال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل .. وفي رواية البزار : أقسمت عليك لتفطر .. قال فأكل .. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم .. فقال سلمان : نم .. فنام . ثم ذهب ليقوم ، فقال سلمان له : نم ، فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن .. فصليا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ... فأتى أبو الدرداء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذكر ذلك له ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صدق سلمان . (رواه البخاري والترمذي ) وفي رواية ابن سعد أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لقد أشبع سلمان علما ... "

ismail
04-16-2004, 08:48 PM
الحلقة الثانية : تحديد مفهوم التطرف الديني . وعلى أي أساس يقوم ؟


إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد به بعلم وبصيرة ، وهوالخطوة الأولى في طريق العلاج ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة .

ولا قيمة لأي بيان أو حكم هنا ما لم يكن مستندا الى المفاهيم الاسلامية الاصيلة ، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة ، لا إلى الآراء المجردة ، وقول فلان أو علان من الناس ، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله ، قال تعالى (( فإن تنزعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر)) (النساء : 59) ، وقد اتفقت الأمة ، سلفها وخلفها على ان الرد إلى الله تعالى يعني : الرد إلى كتابه والرد إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعني : الرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام .

وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشباب المتهم بالتطرف التفاتا الى فتوى هذا او مقال ذاك ، وسيضربون عرض الحائط بهذا الاتهام الذي ينكرونه ، ويتهمون موجهيه بالتزييق ، وتسمية الأشياء بغير اسمائها .

وقديما قيل : إن الامام محمد بن ادرييس الشافعي ، وهو من هو في أهل السنة ، نسبت إليه تهمة " الرفض " فضاق بهذا الاتهام الرخيص ، وقال متحديا :

إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

وحديثا قال أحد الدعاة : اللهم إن كان التمسك بالكتاب والسنة رجعيا ، فأحييني اللهم رجعيا ، وأمتني رجعيا ، واحشرني في زمرة الرجعيين !

والواقع ان تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة " الرجعية " " الجمود " " التطرف " " التعصب " ونحوها ، أمر في غاية الأهمية ، حتى لا تترك مادة هلامية رجراجة ، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء ..

وهنا نجد اننا لو تركنا تحديد مفهوم " التطرف الديني " لآراء الناس وأهوائها لتفرقت بنا السبل ، تبعا للأهواء التي لا تتناهى ((ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السموت والارض ومن فيهن )) (المؤمنون : 71 ) .

ملاحظتان مهمتان :

و أود أن انبه هنا إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام في موضوعنا :

الملاحظة الاولى :

أن مقدار تدين المرء ، وتدين المحيط الذي يعيش فيه ، من حيث القوة والضعف ، له أثر في الحكم على الآخرين ، بالتطرف او التوسط او التسيب .

فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية ، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين ، يكون مرهف الحس لأي مخالفة او تقصير يراه ، حتى انه ليعجب أن يوجد مسلم لا حظ له من قيام الليل ، أو صيام النهار ، وفي هذا ورد القول المأثور :

" حسنات الأبرار ، وسيئات المقربين " .

ويحضرني هنا ما قاله أن بن مالك لمعاصريه من التابعين : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات !

وكانت عائشة ري الله عنها تنشد بيت لبيد بن ربيعة :

ذهب الذين يعاش في أكفانهم وبقيت في خلف كجلد الأجراب !

وتقول: رحم الله لبيدا ، كيف لو عاش إلى زماننا هذا ؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير ، وقد عاش بعدها زمنا ، ينشد البيت ، ويقول : رحم الله لبيدا وعائشة ، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا ؟!

وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علما وعملا ، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه ، يعتبر التمسك بالحد الأدني من الدين ضربا من التعصب او التشدد .

وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين ، زاد استغرابه بل انكاره ، بل اتهامه من يستمسك بعروة الدين ، ويلجم نفسه بلجام التقوى ، ويسأل في كل شيء يعرض عليه أو يعرض عليه : حلال هو ام حرام ؟

وكثير من اولئك الذين يعيشون في اوطاننا بأسماء اسلامية ، وعقول غربية ، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفا دينيا !

وكثير ممن غزته الافكار والتقاليد الاجنبية يعتبر الذين يتمسكون بآداب الاسلام في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها ، غاية في التطرف والتعصب !

لقد راينا من يعد إطلاق اللحية من الفتى ، أو التزام الحجاب من الفتاة تطرفا في الدين !

ورأينا من يعتبر الدعوة الى تحكيم ريعة الله ، وإقامة دولة الاسلام في ارض الاسلام ، تطرفا في الدين !

ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته ، والأمر بالمعروف إذا ضيع ، والنهي عن المنكر إذا وقع ، تطرفا في الدين ، وتدخلا في الحرية الشخصية للآخرين !

وراينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفارا ، تعصب وتطرف ، مع أن أساس الإيمان الديني ان يعتقد المؤمن انه على حق ، وأن مخالفه على باطل ، ولا مجاملة في هذه الحقيقة .

والملاحظة الثانية :

أنه ليس من الانصاف أن نتهم إنسانا بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأيا من الآراء الفقهية المتشددة ، ما دام يعتقد انه الأصوب والأرجح ، ويرى أنه ملزم به شرعا ، ومحاسب عليه دينا ، و إن كان غيره يرى رأيه مرجوحا او ضعيفا ، لأنه ليس مسؤولا إلا عما يراه ويعتقده هو ، وإن شدد بذلك على نفسه ، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو الأفضل والأورع ، وإن لم يكن فرضا ولا واجبا ، اذ كانت همته لا تقف عند حد الفرائض ، وانما يتقرب الى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه .

ومن حقائق الحياة ، أن الناس يتفاوتون في هذه القضية ، فمنهم المتساهل الميسر ، ومنهم المتشدد المعسر ، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عباس ، والمتشدد كابن عمر رضي الله عنهم .

ويكفي المسلم في هذا المقام ان يستند رايه الذي تبناه الى مهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين ، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم ، فإذا كان هناك من ائمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب اعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها ، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب واخذ به ، وطبقه على نفسه ، لأنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء ، ولا سيما المعاصرين ؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرىء في ترجيح رأي على آخر ، وخاصة انه يتصل بحياته وسلوكه هو ، ولا بحياة غيره .

إن جما غفيرا من علماي السلف والخلف ، رأو أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى ((ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها )) ( النور : 31) ، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار .. ورجح ذلك كثيرون من علماء عصرنا ، وأنا منهم .

ولكن عددا آخر من العلماء المرموقين ، ذهبوا الى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها ، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث والآثار ، واخذ بقولهم كثيرون من علماء هذا العصر وخصوصا في باكستان والهند والسعودية واقطار الخليج ، وأرسلوا نداءاتهم الى كل فتاة تؤمن باله وباليوم الآخر ، أن تلبس النقاب ، ليستر وجهها ، والقفاز ليستر يديها .

فهل تدمغ بالتطرف فتاة او سيدة آمنت بهذا المذهب ، واعتبرته جزءا من دينها ؟ أو يدمغ به رجل دعا الى ذلك ابنته او زوجته فاستجابت ؟ وهل يحق لنا أن نجبر هذا او ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله ، ونلزمه ان يبيع الجنة ويشتري النار إرضاء لخاطرنا ، وفرارا من تهمة التطرف ؟

ومثل ذلك يقال فيمن يتبنى الآراء المتشددة في الغناء والموسيقى والرسم والتصوير وغيرها مما يخالف اجتهادي شخصيا في هذه الامور ، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين ، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين ، متقدمين ومتأخيرين ومعاصرين .

والواقع ان كثيرا مما ينكر على من نسميهم " المتطرفين " مما قد يعتبر من التشدد والتنطع ، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا ، تبناه بعض العلماء المعاصرين ، ودافعوا عنه ودعوا اليه ، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب ، رجاء في رحمة الله تعالى وخوفا من عذابه ، وذلك كلبس الثوب ( الجلباب ) بدل القميص والبنطلون ، وتقصيره الى ما فوق الكعبين والامتناع عن مصافحة النساء ، وغيرها .

ومن هنا لا نستطيع أن ننكر على مسلم ، أو نتهمه بالتطرف ، لمجرد أنه شدد على نفسه ، وأخذ من الآراء الفقهية بما يراه أرضى لربه ، وأسلم لدينه ، وأحوط لآخرته .

وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك بخالف معتقده . كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة ، ونحاوره بالحسنى ، ونقنعه بالدليل ، عسى ان يدخل فيما نراه أهدى سبيلا ، وأقوم قيلا .

مظاهر التطرف :

فما التطرف إذا ، وما دلائله ومظاهره ؟

التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر :

1. إن أولى دلائل التطرف : هي التعصب للرأي تعصبا لا يعترف معه للآخرين بوجود ، وجمود الشخص على فهمه جمودا لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق ، ولا مقاصد الشرع ولا ظروف العصر ، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين ، وموازنة ما عنده بما عندهم ، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصح برهانا ، وأرجح ميزانا .

ونحن هنا ننكر على صاحب هذا الاتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه ، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها .

أجل ، إنما ننكر عليه حقا ، إذا أنكر الآراء المخالفة ووجهات النظر الأخرى ، وزعم أنه وحده على الحق ، ومن عداه على الضلال ، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى ، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان ، كأنه جعل من نفسه نبيا معصوما ، ومن قوله وحيا يوحى ! مع أن سلف الأمة وخلفها قد اجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم .

والعجيب أن من هؤلاء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أغوص المسائل ، وأغمض القضايا ، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي ، وافق فيه أو خالف ، ولكنه لا يجيز لعلماء العصر المتخصصين ، منفردين أو مجتمعين ، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب اليه .

ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله ، هي غاية في العجب ، لا يبالي أن يشذ فيها عن السابقين و اللاحقين ، والمحدثين والمعاصرين ، لأن رأسه برأس أبي بكر ، و عمر ، وعلي ، وابن عباس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال ! وليته يعدي هذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه ، من لا يرى رأيه ، ولا يتبع نهجه من أهل العلم ، بيد انه لا يتعدى نفسه ، وكل الصيد في جوف الفرا !

فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه ، وينفي كل من عداه ، هو الذي نراه من دلائل التطرف حقا ، فالمتطرف كأنما يقول لك : من حقي ان أتكلم .. ومن واجبك ان تسمع .. ومن حقي أن أقود .. ومن واجبك أن تتبع .. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب .. وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبدا ، لأن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه ، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به ، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب ، لا تقترب من احدهما إلا بمقدار ما تبتعد من الآخر .

ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة ، والعصا الغليظة هنا قد لا تكون من حديد ولا خشب ، فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين ، أو بالكفر والمروق _ والعياذ بالله _ فهذا الإرهاب الفكري أشد تخويفا وتهديدا من الإرهاب الحسي .

إلزام جمهور الناس بما لم يلزم الله به :

2 - ومن مظاهر التطرف الديني : التزام التشديد دائما ، مع قيام موجبات التيسير ، وإلزام الآخرين به ، حيث لم يلزمهم الله به ، إذ لا مانع أن يأخذ المرء لنفسه بلأشد في بعض المسائل ، وبالأثقل في بعض الأحوار ، تورعا واحتياطا ، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائما وفي كل حال ، بحيث يحتاج الى التيسير فيأباه ، وتأتيه الرخصة فيرفضها ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا "

وقوله : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته "

وقوله تعالى (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) (البقرة : 185) ، و"ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، مالم يكن إثما " .

وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه ، ويعمل بالعزائم ، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين ، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس ، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم ، والعنت في دنياهم ، مع أن أبرز أوصاف الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في كتب الأقدمين ، أنه (( ويحل لهم الطيبت ويحرم عليهم الخبئث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )) (الأعراف : 156) .

ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه ، حتى انه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر او تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام ، ولكنه كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس ، مراعيا ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال ، وقال : " إذا صلى احدكم بالناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء " ( رواه البخاري ) .

وعن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ ثم قال :" يا أيها الناس إن منكم منفرين ، فمن أم بالناس فليتجوز ، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة " .

وقال لمعاذ لما أطال الصلاة بالقوم : " أفتان أنت يا معاذ ؟! وكررها ثلاثا " .

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي ، فأتجوز في صلاتي ، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه " ( رواه البخاري ) .

ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كانها فرائض ، وعلى المكروهات كأنها محرمات ، والمفروض ألا نلزم الناس إلا بما ألزمهم الله تعالى به جزما ، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه ، إن شاؤوا فعلوا ، وإن شاؤوا تركوا .

وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح ، في قصة ذلك الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما عليه من فرائض ، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ، و بصوم رمضان ، فقال : هل علي غيرها ؟ فقال لا ، إلا أن تطوع ، فلما أدبر الرجل قال : والله لا أزيد على هذا ولا انقص . فقال النبي صلى الله لعيه وسلم : " أفلح إن صدق ، أو دخل الجنة إن صدق " .

ولطالما قلت : إن بحسبنا من المسلم في هذا العصر أن يؤدي الفرائض ، ويتجنب الكبائر ، لنعتبره في صف الإسلام وأنصاره ، مادام ولاؤه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن ألم ببعض الصغائر من المحرمات ، فعنده من الحسنات مثل : الصلوات الخمس ، وصلاة الجمعة ، وصيام رمضان وغيرها ، ما يكفر عنه هذه الصغائر (( إن الحسنات يذهبن السيئات )) (هود : 114) ، (( إن تجنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما )) ( النساء : 31) .

فكيف نسقط اعتبار المسلم بمجرد الوقوع فيما اختلف فيه من الامور : أهو حرام أم حلال ؟ ولم يعلم تحريما يقينا من دين الله ؟ أو ترك ما اختلف فيه : أهو واجب أم سنة ؟ ولم نعلم فرضيته جزما في شرع الله ؟ ومن هنا انكرت على بعض المتدينين تبنيهم بصفة دائمة ومطلقة لخط التشدد والتزمت ، والتزام أشد الآراء تضييقا ، وأقربها إلى التعسير ، وأبعدها عن السعة والتيسير ، ولم يكفهم أن يلتزموا ذلك في أنفسهم ، وإن أعنتهم وأحرجهم ، بل أرادوا أن يلزموا بذلك سائر الناس ، وأي عالم خرج عن هذا الخط ، داعيا الى التيسير ، أو مفتيا بما هو أرفق لهم وبما يرفع الحرج عنهم ، في ضوء مقاصد الشريعة واحكامها ، وضع عندهم في نقص الاتهام !

التشديد في غير محله :

3 - ومما ينكر من التشديد أن يكون في غير مكانه وزمانه ، كأن يكون في غير دار الإسلام وبلاده الأصلية ، أو مع قوم حديثي عهد بإسلام ، أو حديثي عهد بتوبة .

فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية ، و الامور الخلافية ، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات ، والأصول قبل الفروع ، وتصحيح عقائدهم أولا ، فإذا اطمأن إليها دعاهم إلى أركان الإسلام ، ثم إلى شعب الإيمان ، ثم إلى مقامات الإحسان .

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له :

إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم ... ( الحديث متفق عليه ) .

فانظر كيف أمره أن يتدرج في دعوتهم ، فبدأ بالأساس ، وهو الشهادتان : الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، ثم إذا استجابوا دعاهم إلى الركن الثاني ، وهو الصلاة فإن أطاعة انتقل إلى الركن الثالث ، وهو الزكاة ... وهكذا .

ولقد راعني أن وجدت بعض الشباب المخلصين من بعض الجماعات الإسلامية في أميركا ، قد أثاروا جدلا عنيفا في أحد المراكز الإسلامية ، لأن المسلمين يجلسون على الكراسي في محاضرات السبت والأحد ، ولا يجلسون على الحصير أو السجاد كما يجلس أهل المساجد ، ولأنهم لا يتجهون في جلوسهم إلى القبلة ، كما هو أدب المسلم ، وأنهم يلبسون البنطلونات لا الجلابيب البيض ، ويأكلون على المناضد لا على الأرض ... الخ .

وقد غاظني هذا النوع من التفكير والسلوك في قلب أمريكا الشمالية ، وقلت لهم : أولى بكم في هذا المجتمع اللاهث وراء المادة ، أن تجعلوا أكبر همكم الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته ، والتذكير بالدار الآخر ، وبالقيم الدينية العليا ، وتحذروا من الموبقات التي غرقت فيها المجتمعات المتقدمة ماديا في عصرنا ، أما الآداب والمكملات التحسينية في الدين ، فمكانها وزمانها بعد تمكين الضروريات والأساسيات وتثبيتها .

وفي مركز إسلامي آخر ، وجدتهم أقاموا الدنيا وأقعدوها من اجل عرض فيلم تاريخي أو تعليمي في المسجد ، وقالوا : قد حولوا المسجد إلى سينما ! ونسي هؤلاء أن المسجد وضع لمصلحة المسلمين الدينية والدنيوية ، وقد كان في عهد النبوة دار الدعوة ومركز الدولة ، ومحور النشاط في المجتمع ، ولا يجهل احد ما رواه البخاري وغيره من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في قلب مسجده الشريف ، وسماحه لعائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم وهم يلعبون .